لا يسلم الشرف
قالت له جارته أم جميل، وهو عائد إلى بيته: سعيد! كنت سهران؟
هاجته لهجتها. تذكر الخزية التي أخذ فيها زوجته مساء أمس، وخال أن أم جميل تعرض به. وإلا فما معنى قولها: كنت سهران! ومن لا يسهر؟ ما هذي أول مرة أسهر فيها. أم جميل عارفة إذن بخيانة زوجتي، إن شرفي الصريع يصيح بي: خذ بثأري. انتقم لي.
– لعينيك أيها الشرف الرفيع، لا أكون سعيد المهيار إن لم يرق على جوانبك الدم، قال هذا وهو يلج باب بيته، ثم هرع إلى حيث ترقد زوجته، ويده على مسدسه.
•••
سعيد في العقد الرابع من عمره. رخو، عظيم البطن، تخال أنه حامل. وجهه منتفخ كالرغيف السخن، وفي وسطه أنف كالفستقة عششت حواليه طفيليات مزرقة تكاد تطر: مربوع القامة، زاره الشيب زيارة ضيف محتشم، ثم هاجمه بطبل وزمر، لسنة خلت، فحط رحاله في صدغيه وحاصر هناك. إذا تطلعت إلى عينيه رأيت البؤبؤ الأسود يرقص رقصًا موقعًا في تلك اللجة الحمراء فتخال أنك أمام حبة زعرور مسوسة.
كثيرًا ما كان يتغنى سعيد بحلاوة فمه ويشبهه بالخاتم، ولكنه يقطع الحديث بغتة حين يتذكر حاجبيه العريضين المتصافحين بحرارة عند سفح جبهته الضيقة. أما فكه الأعلى فنافر يقفز بغنج إلى الأمام متنكرًا بعض الشيء تحت شاربين هزيلين.
لبس القنباز في فجر حياته، ثم بدل به الحلة الفرنجية فتناسى ماضيه السعيد وأصبح يأنف من التحدث عن زرعه وضرعه. وتعالى على لداته، فصار لا يطيق الجلوس معهم لأنهم متأخرون، لا يعرفون رجال السياسة معرفته لهم. إنه يحب السياسة حبًّا بريئًا، ويحدثك عن كبار رجالها بلا كلفة، ولا ينسى أن يخص اللامعين منهم بكلمة ثناء باردة. وإذا ما انفرجت شفتاك هزءًا ظنك معجبًا بحديثه، فيتنحنح ويبصق، ويومئ قائلًا: اسقونا. حتى إذا شرب تلفت يمينًا وشمالًا، وقال: هناكم الله. واستأنف حديثه بصوت كأنه مواء الهرة.
ويظل سعيد على هذه الحال يتحدث بحدة ويعيد كلمة: فقط، وإنما، وفهمت. ثم يقوم ويقعد، ويفرك رأسه حتى يصوصي الكرسي تحته، ويستشهد في سبيل القيام بالواجب، وإذا ظن أنك تصغي إليه انتفخ كالطاووس، وطفق يقص عليك ما اكتسبه من اختبارات في طوافه وتجواله. وإذا لم تعره الاهتمام العنيف، تبرم بك وبالناس.
يستولي سعيد على المبادرة أين وجد، ولا يفلت خيط الحديث عن نفسه وعن آبائه وأجداده. فأبوه حاتم، وجده جعفر، وخاله صمصامة العرب، فهو منسوب العم والخال ورث النبل والمروءة من طرفيهما. أما العلم فلا يحسد أحدًا عليه. وما العلم؟ لقد علمه الدهر ما لا تعلمه عشرات المدارس في عشرات السنين، العلم اختبار وتجاريب. ثم تتسع حدقتاه ويقول لك: اسأل إذا كنت لا تصدقني.
وسعيد، عدا هذه المميزات الحلوة، واثق بشجاعته رغم أنف من لا يصدق. ولا ينعته بالجبان إلا من يحسده على مركزه الأدبي وتطوره الغريب في مراحل الحياة.
تزوج سعيد في الثلاثين من عمره، وعاش سنوات عيشة هانئة هادئة. فزوجته، كما يخبر، تخاف بطشه وجبروته، وتحبه حبًّا لا تشوبه شائبة. ألم تمرض قبل زواجها بعام عندما هددها بالترك فأشرفت على الموت؟
قال البعض: إنه سل، وقال آخرون: إنه داء لا شفاء منه، أما سعيد فهو وحده يعرف السبب. ثم كان الزواج وكانت حياة كلها نعيم. كم كانت تنصحه بمحبة وعطف: الصحة كنز يا حبيبي، لا تنهك قواك، أشفق على نفسك.
كل هذا يتذكره سعيد وما زال وقعه العذب في مسمعه. ولكنه عندما يتذكر ليلة أمس ينتفض كالمقرور وتتشنج أعصابه، ويقضقض عصلا في أسرتها الردى، وتطغى عليه رغبة ملحة تدفعه إلى الانتقام، فيسمع هاتفًا يصيح به: سعيد؟ حان لك أن تثأر لكرامتك وشرف آبائك وأجدادك، أين العزة والناموس؟
الساعة المعلقة على الحائط تدق الواحدة بعد نصف الليل، وكل ما في الطبيعة يمهد لك الطريق: سماء ترغي وتزبد، عواصف يجن جنونها، ورعود تقهقه. الفرصة سانحة فاغتنمها. استرح من هذه الفاجرة. اقتلها. لا تسامحها هذه المرة مهما بكت، ومهما توسلت. إنها تكذب، وتكذب بجرأة ووقاحة. كن صخري الفؤاد فلا تؤثر بك دموعها وتوسلاتها. إذن أقدمْ ولا تخف.
وبينما هو غارق في نجواه، في تلك الليلة الصاخبة، تمثل له شرفه كالوطواط الجريح ففرت دمعة من بين هدبيه فصاح: جبان، أي والله جبان.
– جبان، جبان. ها ها. وضحك ضحكة بلهاء عندما تذكر هذا اللقب الذي يثير حقده فتقلصت شفتاه وجمدت عيناه. وقرصه البرد فاندس في فراشه وهو يقول: أنا جبان؟! لا لا لا. ما بقي من عمر هذه الشقية غير دقائق معدودات. ورصاصات مسدسي، هذه الرصاصات الجهنمية ستطفي هاتين العينين. عفوت عنك مرتين وثلاثًا. يكفي! يكفي! لا رحمة بعد الآن.
أريد أن أطهر فراشي، أريد أن يسلم شرفي الرفيع من الأذى. بعد دقيقة أمزقك أيتها الحية الرقطاء. أتظنين أني صدقت كلامك أمس: لا والله أبدًا، سأنتقم منك أفظع انتقام، هذا عار لا يطاق، هذا عرين أسد فكيف تدخله الكلاب.
وكأنه خال زوجته الغافية تبتسم فاهتاج وصاح: ما بالك تبتسمين! أمهلي يا زانية. قريبًا يلف هذا الجسد في خرق قذرة كسيرتك، وترقدين في المزبلة إلى الأبد. المزبلة أطهر منك يا لعينة.
وبينما كانت تلك الأفكار تتنازعه قبض على المسدس وهم بإطلاقه، ولكنه عدل عما صمم عليه. أراد أن يكون ختام المأساة التي مثلتها زوجته الخائنة أكثر عنفًا وهولًا. مرت في خاطره فكرة عابرة لم يلبث أن ابتسم لها ابتسامة رضى. فالخطة التي كاد أن ينفذها لا ترضي أنفته وإباءه. إذن يذبحها ذبحًا ويتركها تتخبط في دمها طوال الليل. ستصرخ وتبكي وتولول طالبة النجدة ولكن من يسمع في هذه الليلة الصاخبة. إن المشهد المخيف الذي تصور وقوعه هو وحده يشبع نهم نفسه المتعطشة إلى الثأر لشرفه المهشم.
ونهض من فراشه يستطلع أحوال خنجره فوجده في أحسن حال، فابتسم له ابتسامة حامضة وقال: لهذا الخنجر ماضٍ أبيض في أيام أجدادي السود. سأطبق أصابعي على قبضته كالكماشة وأحز عنقها، وكلما ازدادت صراخًا زدتها حزًّا. لا شفقة ولا رحمة هذه المرة. الشرف فوق الرحمة.
سوف أقطع رأسها ولا يسلم عضو من أعضائها من شر هذا الخنجر المجيد التاريخ.
ثم استضحك وقال: انتقام حلو. سيقول الناس عني أني رجل بربري. فليقولوا ما شاءوا. لا تهمني أقاويلهم متى كان انتقامي شريفًا. إن جريمة القتل شنيعة لا تليق بي. ولكن هذه الجريمة التي أواجه بها ربي بعد عمر طويل ستغفر لي: الزانية ترجم. وأي فرق بين الذبح والرجم! ثم صاح مخاطبًا نفسه: اقتلها إذن لتبرهن للناس أنك غير جبان.
وفكر بالعاقبة فقال: سأخفي آثار الجريمة، لا جمل ولا جمال. حياة كالمعتاد. وإذا افتضحت أرفع جبيني عاليًا وأصيح: انتقمت لعرضي. مرحبًا بالقيود وأهلًا بالسجن. سوف أمثل أمام القضاء مرتفع الرأس. سأخبر القضاة عن الأسباب، وعن ماضي وماضي عائلتي الشريف النظيف، وكيف هدمت هذه العاهرة ذلك البناء المشمخر، ولوثت سيرة طيبة كالمسك. سأقول لهم: إني لا أخاف عقابًا في سبيل الدفاع عن كرامتي الموروثة، وأقرع الحجة بالحجة وأريهم أنني أهيج كالبركان إذا مست كرامتي. المحاكمة تخيف الأنذال الجبناء وحدهم. سأكون هادئ الأعصاب حتى انتهاء المحاكمة، ومهما كانت الأحكام قاسية فما هي إلا سفاسف بالنظر لشرفي. سوف يتناقل الناس ولا شك، جيلًا بعد جيل خبر انتقامي، ويحوكون حوله الروايات والأقاصيص المفزعة مثنين على المغامرة الجريئة. أما الجرائد، وهذا ما يكفيني فخرًا، فستنقل إلى قرائها بحروف بارزة ضخمة، حكاية انتقامي لشرفي، وتضع في الصفحة الأولى صورة بطلها سعيد المهيار.
تيك، تاك، تيك.
وبينما كانت هذه الوساوس تزدحم فتتصادم في ذهن سعيد دقت الساعة دقاتها الخمس بعد نصف الليل وصاح الديك. استيقظت زوجة سعيد، وبعد أن تمطت في فراشها هنيهة قامت إلى القهوة تعدها.
– سعيد، سعيد، القهوة حد راسك.
ففرك عينيه، وزفر زفرة عميقة، وأجاب: نعم. نعم.
ثم قال في نفسه: آه ما أطيب قلبها! حقيقة إني كنت فظًّا غليظ القلب …