مذكرات شباط
شباط شهر ناقص لا تفعل فعله ملوك الشهور. حقًّا، إن كل ذي عاهة جبار. كانت أمي تخاف شباط وتخوفني منه. فلا تنتشر غيمة في الجو حتى تغرزني حد الموقد كالوتد، ولو قدرت أن تكتِّفني وتربطني بخناق، لفعلت.
كان حديث الشتاء حديث شباط متى جاء. فكلما مات شيخ أو عجوز كنت أسمعهم يقولون: أخذه أو أخذها شباط. وكانت أمي تردد، دائمًا، هذه اللازمة: ومَن يعصي عليه. وأخيرًا فارقت هي فيه.
ودخلنا المدرسة فأنستنا الشيطنة حديث شباط، إلى أن كانت سنة قارسة البرد فقلنا: راح شباط وراح معه الشتاء، فقال معلمنا وكان يفخم اللفظ ويؤثر الغريب من الكلام: رويدكم يا أولادي، راح الصن ونحن اليوم في الصنبر. فقلنا كالمستهزئين: وما الصنبر؟ فأجاب: هو ثاني أيام العجوز. فضحكنا ورددنا: أيام العجوز؟ فصاح: هيهيء. أي نعم أيام العجوز، المستقرضات في لغة العوام، أربعة أيام من شباط وثلاثة اقترضها شباط من إذار ليتشفى من عجوز شمتت به.
فقلت: وماذا عمل بها؟ فأجاب: سد بوزك. لا تضيع الوقت.
وفي الثامنة عشرة من عمري انتشرت الحمى في المدرسة فكانت لنا فرصة مرفع في شباط، والتلميذ يرحب بالطاعون إذا كان يعطي فرصة. وفي طريقي إلى البيت نزلت على صاحب لوالدي وبت عنده فكان حديث السهرة عن عنترة الشهور وكم جادت يداه بعاجل طعنة. فقال صاحب البيت: شباط قاشوش. فابتسمت، فقال لي: إن شاء الله تكبر وتخبرنا فيما بعد. فأوحت إليَّ كلمته أن أكتب مذكرات شباطية. ولما عدت إلى المدرسة شاورت (مرشدي) في الأمر فقال: اكتب، ولكن توق الفلسفة، فالتفت إليه مستفهمًا فأومأ بيده إيماءة من لا يريد البحث، وقال: ليس، اكتب. فشرعت في عملي بعد سنوات وهذا بعض ما كتبت: في الثانية والعشرين كنا ندرس كتاب الذمة — كانوا يسمون علم اللاهوت هكذا، يوم كانت شئون الذمة وشجونها تشغل البال — فرفعت أصبعي في أحد أيام شباط وقلت: مسألة.
فأجاب المعلم: هاتها. فقلت: هذي العلامات التي نراها على الأبواب في شباط، ألا تظن أنها مأخوذة عن العبرانيين عندما أمرهم الرب أن يعلموا بيوتهم بعلامة لئلا يدخلها غلطًا ويقتل أبكارهم خطأ؟ فقال مغيظًا: هذي من مذكرات شباط؟ اقعد يا ابني. بس.
في الخامسة والثلاثين بدأت أحس بوجود شهر اسمه شباط. أما في السنين التي مرت قبلها فكنت أفرح بقدومه ويعجبني ثلجه وهواه وشمسه وشتاه، وأتهلل حين أرى اللوزة تتخطر بثوب الزهر. وأذكر لما كنت صبيًّا، أنني رأيت جملًا يرغي ويزبد دالقًا جرابه الأحمر، فقلت لعشير أكبر مني وأخبر: أتقول قلبه يوجعه؟ فأجابني ضاحكًا من سذاجتي: عجل، هات له الطست!
ولما بلغت الأربعين تهيبت شباط ولبست لاستقباله طاقًا فوق طاق، فقالت الشباب: صرت تخاف شباط! فأجبت: درهم وقاية خير من قنطار علاج، فقال أحدهم: وكيف يكون قنطار العلاج إذا لم يكن هذي الثياب التي عليك.
وبين الخمسين والستين صرت كلما انقضى شباط أقول في قلبي: دعسنا رقبته. وفي الستين أحسست برقة جلد ووهن عظم، ولكنني كنت أتجاهى بقوتي عند من جاوزوا حد الأربعين، لتطمئن قلوبهم. يظهر أن الإنسان متى كبر يظهر من الضعف قوة.
في الثانية والستين غطى الثلج البلاد حتى المراكب في المينا، ومع ذلك انقضى شباط ولم يمت إلا طفلة بنت ستة شهور.
في السابعة والستين، غريب شباط، المرفع فيه، والأعراس فيه، وأكثر الأمراض والوفيات فيه، جمال تهدر. وسنانير تتنادى من كل فج — لكل خطاب يا بسين جواب — وفي زوايا البيوت شيوخ وعجائز تغص بسعالها وتشرق بريقها، متضايقين من ضجيج الحياة حولهم، فيصرخون ولعابهم يسيل: الله يقطع جنسكم، ما أفضى بالكم! وما يكون الجواب غير مواء موسيقي منغم.
في السبعين ارتخت ركبتاي فدعمتهما بالعصا. أغلقت الباب طول الشهر، صارت أخف نسمة هوا تفزعني. وإذا تجولت في يوم دافئ تحسبني فراشًا يمشي على الأرض.
في الثالثة والسبعين زارني أبو الركب فهد حيلي، الله يهد عظامه، ولكن رحمة الله كانت واسعة. تخلصنا منه.
هذي السنة هي الخامسة والسبعون، الصحة مثل الحديد، لا رشح ولا من يحزنون. أكثر الناس ناموا جمعة وجمعتين، ما خلا بيت من فراش وفراشين. أنا كنت مثل السبع. نشكر الله!
في السابعة والسبعين راح شباط وفي ظهره مخباط. كل شباط ونحن بخير.
شباط الثامنة والسبعين كان هينًا علينا كأنه شهر تموز. ما مرض أحد. صح فيه قول المثل: لو شبط ولو لبط ريحة الصيف فيه. الله يبعد الجراد. شمس شباط تخوف.
في التاسعة والسبعين. شباط هذه السنة متقلب مثل أكثر الناس. الحق مع من قال: شباط ما عليه رباط.
اليوم دعست في الثمانين — العمر كله إن شاء الله — ولكني تفكرت كثيرًا في شباط هذه السنة الملعونة. الموت كثير، إذا قلنا من شدة البرد، فشهر كانون فحل الشتاء. ما عرفت لماذا ينتظر الناس شباط حتى يموتوا!
أنا اليوم في الثانية والثمانين. الصحة ممتازة. الأبواب كلها مسدودة. ومن أين يخش المقصوف العمر! ولكن قضية شباط ترافقني إلى القبر. لا نحل مشكلة حتى تجيئنا الثانية. قال لي أمس الشدياق جرجس، وهذا ملفان من تلاميذ رومية: إن أغلب العلماء والرجال الكبار ولدوا في شباط. استحيت أن أقول له: إني أنا من مواليد شباط. ولكني قلت في قلبي: إذن أنا عظيم وما عرفت حالي. طلبت دفتر العماد من الخوري وما فتحت أول وجه حتى عرفت أن الخوري من مواليده فقلت: النظرية صحيحة! ولما قلبت الدفتر كله رأيت أغلب بهاليل الضيعة ولدوا فيه، ما ترقينا شيئًا!
في الرابعة والثمانين كان شباط قاسيًا جدًّا. مات جمهور كبير. مشيت خلفهم كلهم. الهمة قويَّة وهذا أجر عظيم. وفي الخامسة والثمانين مات نحو عشرين نسمة في آذار ونيسان، وما مات أحد في شباط. سألت من هم أكبر مني فضحكوا وقالوا: لعل عزرايل خرف. قلت: يا ليت. ربما ينسانا.
شباط السابعة والثمانين أقسى شباط مر علينا. صواعق متلاحقة، أكتب والرعود تهز البيت هزًّا. قدوس قدوس قدوس. صاعقة قريبة جدًّا. نشكر الله.
في التسعين صح الصحيح وطينت الباب الشمالي والشبابيك كلها. تذكرت ما كنت أراه على الأبواب فقلت لابن ابن ابني: ارسم على الباب شكل صليب، فضحك الصبي واستفهم، فتذكرت مسألتي لمعلم اللاهوت من سبعين سنة، وقلت بصوت ربما يكون سمعه الصبي: آه، كم كنت جاهلًا ومتمردًا.
في الواحدة والتسعين زارني واحد من جيلي. دخل عليَّ وهو يضحك ويقول: صارت تنفع اليوم صلبان شباط!
فقلت له: صرنا في الواحدة والتسعين.
في الثانية والتسعين: ظاهرة غريبة، أتخيَّل الموتى من رفاقي وأقاربي قاعدين حولي. ما هذي التصورات الغريبة!
في الثالثة والتسعين راح شباط وجاء آذار. عيدت مع المعيدين. أكلت خمس بيضات مسلوقة ولو أعطوا أكثر أكلت.
اليوم في الخامس من شباط بلغت الرابعة والتسعين. طينت الباب وأرخيت البلاس على الشباك الذي عند رأسي، صرت كأني محبوس في قنينة.
السنة كبيس واليوم آخر شباط. انتهى والحمد لله. حاولت أن أكتب فما طاوعتني أصابعي. فندهت فجاء ابن ابني، فقلت له: اكتب عني.
وهنا تغير الخط وكتب الحفيد: قعدت لأكتب ولكن جدي نتش الورقة من يدي وقال: غدًا أكتب أنا بخطي. هذا طرف فالج، عارض ويزول. وكنت أرى حنكه يرتخي وأسمعه يقول: جدك يقنطر إن شاء الله — يعني أنه يبلغ المائة. وبعد قليل انعقد لسانه، ومات من ساعته وهو ينظر إليَّ بعينين يكسرهما الموت، فعرفت أن في وجهه كلامًا لم يقله في الأربع والتسعين سنة.