مشكلة الإرهاب
تعتبر محاولة اغتيال ملك مُتوَّج أو رئيس دولة مسألة مروعة نوعًا ما، لكنها لم تعد كما كانت من قبل. فقد دخلت محاولات الاغتيال نطاق التفكير العام لوجود جميع رؤساء الدول … لنأخذ مثلًا فكرة الهجوم على كنيسة. بينما سيعتبر الهجوم مريعًا بشدة للوهلة الأولى قطعًا، فلن يكون الهجوم على درجة من الفعالية كما قد يظن الشخص العادي. ومهما كان قدر ثورية وفوضوية الهجوم عند تنفيذه، فسيوجد ما يكفي من الحمقى الذين سيسبغون على هذا الهجوم صبغة دينية؛ وهو ما قد يقلل من شأن الأهمية التحذيرية التي نرغب في أن نضفيها على هذا الفعل … لا يمكن الاعتماد على مشاعر الشفقة أو الخوف طويلًا. ولكي يكون لأي هجوم بالقنابل تأثير من أي نوع على الرأي العام، يجب أن يتخطى نية الانتقام أو الإرهاب إلى نية تدميرية بحتة.
يقض الإرهاب مضاجع الناس، ويفعل ذلك عمدًا؛ فهذا هو الهدف منه، ولهذا السبب شغل جانبًا كبيرًا من اهتمامنا في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. فبينما يتخذ الشعور بعدم الأمان صورًا كثيرة، فلا شيء آخر يتلاعب بشعورنا بالخطر أكثر من الإرهاب. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وجدنا أنفسنا في حالة طوارئ تبدو لانهائية ودائمة، «حرب ضد الإرهاب»، تتساوي تداعياتها في صعوبة تفسيرها مع الإرهاب نفسه. فليس من السهل مطلقًا فهم الإرهاب، لا سيما في أعقاب هجوم إرهابي. عندما يشعر المجتمع بالتهديد، عادة ما تُقاوَم محاولات التحليل العقلاني علانية باعتبارها تساعد العدو وتواسيه، بل وتتعاطف معه. غير أنه بدون هذا التحليل، تبدو مقاومة الإرهاب نضالًا محيرًا ضد خطر غير محدد. وعلى الرغم من أن الإرهاب قد يبدو عقلانيًّا في بعض الأحيان، فإنه كثيرًا ما يبدو وكأنه ينحرف عن جادة «التفكير المنطقي» بحيث يصبح ليس فقط غير مبرر، بل وعدوانيًّا، أو جنونيًّا، أو «بلا عقل».
ثمة شيء ما في الإرهاب يضخِّم من خطره — مثل الجن — بدرجة أكبر بكثير من حجمه الحقيقي. فصور الإرهاب — في الرسوم الكرتونية في الصحف أو على أغلفة سيل الكتب التي تتناول هذا الموضوع والتي نُشرت على مدار الجيل الأخير — عادة توجه أسلحة ضخمة ضد أهداف متضائلة. قبل الحادي عشر من سبتمبر على الأقل، أقر معظم الكتاب الذين يكتبون حول الإرهاب أن التهديد المادي الذي شكله الإرهاب تضاءل أمام غيره من الكثير من المخاطر اليومية الشائعة. لكن حتى آنذاك، أبدى عامة الشعب أو ممثلوهم السياسيون، ميلًا محدودًا تجاه التقليل من خطر الإرهاب أو التعاطي معه على نحو موضوعي. وهرع السياسيون — مدفوعين في كثير من الأحيان بوسائل إعلام تضخم الخطر العام — للاستجابة إلى المطالبات الضمنية أو الصريحة باتخاذ إجراءات وقائية. ولكن، عادة ما كانت هذه الإجراءات غير متسقة وعرضية. أما هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فقد استدعت أكثر من ذلك.
قفز الإرهاب إلى قمة أولويات الأجندة السياسية، ومذاك فصاعدًا كان من الصعب الدفع بأن الضرر الذي قد يتسبب فيه ضئيل نسبي، أو حتى بأن تأثيره النفسي مبالغ فيه بصورة لا تتناسب مع تأثيره المادي، وهو نقاش مألوف أيضًا. لقد شهدت مدينة نيويورك ضررًا بدا كما لو كان جراء غارة جوية أثناء الحرب. ورغم أن قائمة الخسائر البشرية انخفضت بصورة رحيمة مما يقدر بنحو ٥٠ ألف شخص إلى أقل من ٤ آلاف شخص، فإن مشاهد الدمار الشامل — التي كانت فيما سبق مقصورة على نوع من الأسلحة التي لا تمتلكها سوى حفنة من القوى الكبرى فقط — كانت واضحة. وقد كان ذلك الهجوم أكثر فتكًا — من حيث عدد الوفيات في يوم واحد — من أكثر المعارك دموية أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. لكن بخلاف الوضع في الحرب، كان الدمار — مع كونه هائلًا — وحيدًا؛ فلم تظهر أي جيوش غازية. فإن كانت تلك حرب، فإنها إذن حرب أبعد ما تكون عن الأعراف المألوفة — والمطمئنة غالبًا — للحرب التقليدية. فمع سكون الغبار — حرفيًّا ومجازيًّا — في موقع الحدث، ظلت معظم الأسئلة التي شكلت دومًا لغز الإرهاب باقية. بل إن المدى غير المحدود «للحرب ضد الإرهاب» التي شنها الرئيس بوش، أكدت بشدة أكثر من أي وقت مضى على الحاجة إلى تعريف ما — أو تقسيم ما — لهذا المصطلح المراوغ.
مشكلة التعريف
كانت الجهود السياسية والأكاديمية الساعية إلى التعامل مع الإرهاب تُعرقَل على نحو متكرر بسبب قضية التعريف؛ تمييز الإرهاب عن العنف الإجرامي أو العمل العسكري. لا يجد معظم الكتاب غضاضة في وضع قائمة بالتعريفات القانونية وغيرها تصل إلى العشرات ثم يضيفون تعريفاتهم إليها. بينما يستهل أحد استطلاعات الرأي المعروفة موضوع التعريف بفصل كامل عنها، يدرج استطلاع آخر ما يربو على مائة تعريف للإرهاب، قبل أن يستخلص في نهاية الاستطلاع إلى أن البحث عن تعريف «ملائم» للإرهاب لا يزال جاريًا. لماذا هذه الصعوبة؟ باختصار، لأنه توصيف؛ نظرًا لأن لفظة «إرهابي» هي وصف لم يتبناه فرد أو جماعة على الإطلاق طوعًا؛ وإنما يصفهم به الآخرون، وبالدرجة الأولى من قبل حكومات الدول التي يهاجمها هؤلاء. لم تتوانَ الدول على الإطلاق في وسم خصومها الذين يمارسون أعمال عنف بهذا اللقب، بما ينطوي عليه من معانٍ ضمنية من غياب الإنسانية والإجرام، وربما الأكثر أهمية من ذلك هو غياب الدعم السياسي الحقيقي. بالمثل، ترى الدول أنه من السهولة بمكان وضع تعريفات للإرهاب. على سبيل المثال، تعرِّف الولايات المتحدة الإرهاب باعتباره «الاستخدام المتعمد للعنف أو التهديد المتعمد بالعنف لبث مشاعر الخوف؛ بهدف إجبار أو ترويع الحكومات أو المجتمعات.» في المقابل، تعرِّف المملكة المتحدة الإرهاب باعتباره «الاستخدام أو التهديد باستخدام العنف المفرط ضد أي شخص أو ضد الممتلكات، بهدف الدفع قدمًا بتوجه سياسي أو ديني أو أيديولوجي.»
ومع ذلك، وحتى بعد وضع التعريفات، تجد الحكومات صعوبة في تحديد السلوك الذي يشار إليه؛ فلا يوجد عمل «إرهابي» محدد لا يعتبر جريمة وفق القانون العادي. في المقابل، تسم الحكومات بعض المنظمات بأنها «إرهابية» وتجرِّم العضوية فيها، كما تضع قوائم بجرائم محظورة بموجب القانون مثل امتلاك مواد متفجرة أو احتجاز رهائن. وقد ابتكرت بريطانيا جُرمًا أطلقت عليه اسم «الإعداد لعمل إرهابي»، وهو ما يبدو يردد صدى قوانين التآمر سيئة السمعة في العصور السابقة. في نهاية المطاف، يبدو أن الإرهاب يمكن تعريفه من خلال الدافع لا السلوك.
لا تكمن المشكلة هنا في أن تعريفات الدول تفترض أن استخدام العنف من قبل «جماعات دون قومية» (مثلما يشير إليها تعريف وزارة الخارجية الأمريكية) يعتبر غير قانوني تلقائيًّا. من وجهة نظر الدولة، تمتلك الدولة وحدها حق استخدام القوة؛ أي إنها — كما يقول الأكاديميون — تحتكر الاستخدام الشرعي للعنف. لكن قد يتساءل غير المتخصصين عما إذا كانت جميع أشكال استخدام العنف من قبل أفراد أو جماعات غير رسمية غير مبررة أيضًا، حتى وإن كانت غير قانونية من الناحية الرسمية. اعتقد أول إرهابيين ثوريين بالمعنى الحديث للكلمة — مثلما سنرى في الفصل الرابع — أن من حقهم المعارضة العنيفة لنظام قمعي لا يسمح بحرية التعبير أو التنظيم السياسي. ومن الأهمية بمكان أن العديد من منتقدي روسيا القيصرية من الأجانب — بما في ذلك الحكومات — اتفقوا مع هؤلاء. (وقد استمر هذا، مثلما حدث عندما رفضت سوريا، علانية وفي صورة محرجة، الموافقة على الإصرار البريطاني والأمريكي على اعتبار المقاومة المسلحة العربية ضد إسرائيل جزءًا من ظاهرة عالمية واحدة للإرهاب.) أدت هذه الاختلافات في المنظور إلى بروز المقولة سيئة السمعة القائلة إن «من يراه البعض إرهابيًّا، يراه آخرون مقاتلًا من أجل الحرية». وتعتبر هذه النسبية محورًا أساسيًّا في استحالة إيجاد تعريف غير خلافي للإرهاب.
أشار بعض الكتاب إلى أنه بدلًا من السعي وراء سراب تعريف دقيق للإرهاب (أطلق أحد المتخصصين على الإرهاب «صندوقًا ذا قعر زائف»)، سيكون من الأكثر منطقية بناء نمط من أنواع الأعمال التي تُعَد أعمالًا «إرهابية». من المؤكد أن كثيرًا من الأعمال التي تلجأ الجماعات الإرهابية إلى استخدامها مرارًا — مثل عمليات الاغتيال والاختطاف واختطاف الطائرات — لا تُستخدم إلا نادرًا — هذا إن كانت تستخدم من الأساس — في سياق الصراعات العسكرية التقليدية، فهي تبدو وكأنها تشير إلى نوع خاص من العنف. لكن لن تلبث قائمة من هذا النوع أن تختفي؛ نظرًا لأن الكثير من الأعمال الإرهابية تحاكي الأعمال العسكرية أو الإجرامية. على أي حال، في نهاية الأمر لا تعتبر الأعمال في حد ذاتها هي السمة المميزة للإرهاب، وإنما هو الغرض السياسي من ورائها. فكما يقول عالم السياسة سونيل كلناني: «تعتبر إثارة الفزع تكتيكًا، وسيلة عنف عشوائية … يتساوى احتمال استخدمها من قبل فرد مختل مع احتمال استخدامها من قبل دولة ما. لكن «الإرهاب» صورة مميزة للتعبير السياسي الحديث، تستهدف تهديد قدرة الدولة على ضمان أمن مواطنيها»، ومن ثم زعمها شرعيتها. ولكي نقترب أكثر من تعريف الإرهاب، يجب أولًا تحليل منطقه السياسي؛ وذلك نظرًا لأن جوهر جميع تعريفات الإرهاب تقريبًا — أي استخدام العنف لتحقيق مآرب سياسية — يتشابه كثيرًا مع تعريف الحرب لدرجة تحول دون استخدامه كثيرًا.
الإرهاب والحرب
لا شك في أن الحرب والإرهاب مرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ فمن الصعب تصور حرب لا تسفر عن مشاعر خوف جامحة لدى الكثير من الناس، وفي بعض الأحيان، تعتبر مشاعر الخوف هذه أكثر من مجرد أثر ثانوي لاستخدام العنف؛ إذ يصبح الخوف الهدف الرئيسي من الحرب. تاريخيًّا، كان الهدف من نهب المدن التي تسقط في يد الجيوش هو قطعًا إرهاب سكان المدن الأخرى المحصنة (سواء أكانوا محاربين أم غير ذلك). حديثًا، كان ابتكار القصف الجوي الاستراتيجي — على الرغم مما ينطوي عليه ذلك من منطق عسكري؛ ألا وهو تجنب حالة اللاحراك المكلفة لحرب الخنادق مثلما كان الحال في الحرب العالمية الأولى — يعتمد في الأساس على نظرية نفسية تتمثل في الاعتقاد أن عملية القصف الجوي ستؤدي إلى تدمير الروح المعنوية للأعداء من المدنيين. على حد تعبير أحد الآباء المؤسسين لهذه النظرية وهو اللورد ترنكارد، في مبارزة القصف الجوي «سيصرخ العدو مستغيثًا قبل أن نقصف.» وقد اتضح أن هذا الاعتقاد مبالغ فيه قطعًا، إن لم يكن خاطئًا، بحيث صار نطاق الدمار اللازم لتنفيذه بعد عام ١٩٤٠ أكبر بكثير مما كان متخيلًا (أو ممكنًا) في الماضي.
عندما وقعت الغارات الجوية الكبرى على هامبورج ودرسدن، لم يكن وصف عمليات القوات الجوية الملكية بأنها عمليات قصف إرهابية مجرد لغة رنانة من جانب وزارة جوبلز للدعاية السياسية: فقد كانت هذه الغارات بلا شك هجومًا متعمدًا على المدنيين. مع ذلك، لم تتحقق أحلام المؤيدين المتحمسين للقصف الجوي — الكوابيس الويلزية للمدنيين — على أرض الواقع. لم يجر الانتصار في الحرب العالمية الثانية عن طريق القصف الجوي. بينما ثبتت صعوبة تحديد الدور الذي لعبته على وجه الدقة — سواء أكان دورًا «حاسمًا» أم لا — كانت هذه العمليات تعتبر عمليات مساعدة للعمل العسكري التقليدي الذي يمقته الطيارون الحربيون. بالإضافة إلى ذلك، لم يتحقق النصر في أي حرب تالية من خلال القصف الجوي وحده. ففي الحرب، قد يكون الخوف سلاحًا قويًّا، لكنه ليس السلاح الأكثر قوة وفتكًا.
يتمثل أحد الطرق في التمييز بين الحرب والإرهاب في القول إن الحرب تتمثل فيما تقوم به الدولة، بينما يعتبر الإرهاب الوسيلة التي يلجأ إليها من هم أضعف من مواجهة الدول مباشرة. لكن هذا المفهوم لا يأخذ في الاعتبار أن الطرف الضعيف قد يتبنى استراتيجية مقاومة لا تتطلب اللجوء إلى الإرهاب. تعمل حروب العصابات — مهما كانت «غير تقليدية» وفق المعايير العسكرية المعتادة — وفق منطق عسكري معتاد. فمقاتلو حرب العصابات يشتركون في نزاع مع القوات المسلحة للدولة — على أي نطاق مهما صغر حجمه، ومهما كان أمده الزمني طويلًا أو متقطعًا — ومن ثم يحققون اشتراط كارل فون كلاوزفيتز القائل إن الحرب «تعتبر صدامًا بين قوتين حيتين»، وليست «عملًا لقوة حية تجاه كتلة غير حية.» بعبارة أخرى، تعتبر العملية المميزة للحرب هي القتال.
في المقابل، يتمثل جوهر الإرهاب قطعًا في عدم القتال؛ إذ تجري مهاجمة الأهداف التي يستهدفها الإرهابيون بطريقة تعرقل (أو بصورة أدق تمنع) الدفاع عن النفس. أما ما يميز الإرهاب — بالطبع في العقل الجمعي — فهو الاستعداد لمهاجمة أهداف عشوائية وليس فقط أهداف منتقاة. ففي التفجير العشوائي لأحد الأسواق العامة، أو متجر، أو حانة، نشهد انتهاكًا عمديًّا للقانون الدولي للحرب، ورفضًا للالتزام بالتفرقة الأخلاقية السائدة بين الأطراف المحاربة والأطراف المحايدة، وبين المحاربين وغير المحاربين، وبين الأهداف المشروعة وغير المشروعة. ومن ثم، فإن الجزء الأساسي في التعريف الأمريكي للإرهاب إذن هو «الأهداف غير المحاربة» التي «تُرتكب» ضدها أعمال عنف (ولا نقول تجري؛ إذ تحمل المصطلحات دلالة الإدانة الرسمية).
قد لا يكون هؤلاء هم «الأبرياء» بالضرورة؛ إذ فشلت محاولة نقل فكرة «المدنيين الأبرياء» من القانون الدولي للحرب إلى دراسة الإرهاب؛ بسبب إدراك أن سمة البراءة هي أيضًا صفة نسبية غير ثابتة. على سبيل المثال، كان من قبيل المستحيل أن يقبل من كانوا يحاربون ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية بأن معظم الألمان من المدنيين (باستثناء معارضي النظام الذين كانوا في معسكرات التعذيب) لا يتحملون أي مسئولية على الإطلاق حيال وجود النظام النازي وأفعاله. كان المدنيون من الألمان يعتبرون بمنزلة أهداف مشروعة للحصار العشوائي المفروض على ألمانيا (مثلما كان الحال مع المواطنين الأقل تمتعًا بالحقوق الديمقراطية في ظل حكم نظام الرايخ الثاني الأقل إجرامًا خلال الحرب العالمية الأولى). هل كانوا يستحقون الحماية من الهجوم المباشر التي يضمنها لهم القانون الدولي، ناهيك عن الحماية من الإصابة غير المباشرة («العارضة»)؟ (هذا إذا لم تكن من متبعي منطق تشرشل القائل إنهم «بذروا الرياح، فلا يجنون سوى الزوابع».)
لكن لا شك أن الألمان أنفسهم شعروا بأنهم أبرياء بصورة كبيرة (وبصورة متزايدة)، إن لم يكن بصورة كاملة؛ وقد ضخَّم هذا الشعور إحساسهم بالظلم عندما جرى استهدافهم عمدًا من قبل القاذفات البريطانية. وفي مجال السياسة — بعيدًا عن مجال القانون — يحتل الاعتقاد والشعور الشخصي المرتبة العليا. يشكِّل الشعور بالبراءة — بالإضافة إلى الشعور بالضعف — عناصر مهمة فيما قد يطلق عليه «عملية الترويع»، وهي العملية التي يسفر العنف من خلالها عن آثار سياسية، وهو ما يمثِّل مفتاحًا أساسيًّا لما سأطلق عليه الإرهاب «الصرف». قد لا تكون أهداف العمليات الإرهابية بريئة بالمعنى الموضوعي، لكنها يجب أن تكون ضعيفة («لينة») على المستوى العملي. يتمثل جوهر الإرهاب في استخدام العنف من قبل الطرف المسلح ضد طرف غير مسلح. فكيف يحدث ذلك؟
عملية الترويع
يمكن التمييز بين ثلاثة عناصر في عملية الترويع:
(١) الاستحواذ على الانتباه: الصدمة أو الرعب أو الخوف أو النفور
تعتبر هذه المرحلة أكثر المراحل مباشرة. تدفع حاجة الناس إلى النظام والأمن المجتمعات إلى وضع الأعراف والحدود لتنظيم عملية الإجبار العنيف. عندما تجري مخالفة الأعراف والحدود، تنشأ الصدمة. بالإضافة إلى ذلك، تضخِّم الطبيعة الخاصة للأعمال الإرهابية — الهجوم على الضعفاء — من حجم القلق بشأن الأمن الذي لا يبعد على الإطلاق عن الأولويات العظمى للمجتمع. يقول بعض الكتاب إن الخوف كشعور في حد ذاته لا يعتبر عاملًا حاسمًا — إذ قد تسفر الإثارة أو الإعجاب بأحد أعمال العنف عن الأثر الكافي المطلوب — وقد يكون هذا صحيحًا. لكن لا شك أنه في ظل غياب شعور ما بالاضطراب، شعور بالاستغراب إن لم يكن شعورًا بفداحة الحدث، لن يُستحوَذ على الانتباه.
(٢) تبليغ الرسالة؛ ماذا يريد الإرهابيون؟
يعتبر هذا العنصر الأكثر تعقيدًا والأقل توقعًا بين عناصر عملية الترويع. لا يهرع جميع الإرهابيين بأي حال من الأحوال إلى إعلان مسئوليتهم عن أعمالهم، وإذا قاموا بذلك، فلا يعبرون عن أسباب أو مطالب مفهومة. عندما «يغيب توقيع الإرهابيين» (المفترضين) عن الأعمال الإرهابية — مثلما هو الحال في حادث طائرة شركة بان أمريكان رحلة ١٠٣ أو هجمات الحادي عشر من سبتمبر — يعود الأمر إلى المراقبين لتخمين المسئولين عن الأعمال الإرهابية؛ فيمكن أن تتباين النتائج. لا يزال الجدل قائمًا حول مسئولية تدمير طائرة بان أمريكان رحلة ١٠٣ فوق لوكربي في اسكتلندا في ديسمبر ١٩٨٨؛ ففي عام ٢٠٠٥، زعم ضابط شرطة اسكتلندي كبير أن الأدلة التي أدين بها الليبي عبد الباسط المقرحي كانت أدلة ملفقة. (وقد أثار إطلاق الحكومة الاسكتلندية سراح المقرحي لأسباب صحية في عام ٢٠٠٩ جدلًا دوليًّا واسعًا.) أكَّد جورج دبليو بوش لمواطنيه أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت «تستهدف إصابة أمتنا بالذعر ودفعهم إلى الفوضى والانسحاب.» لكن انسحاب من ماذا، وإلى أين؟ أظهر المراقبون الأمريكيون — الرسميون وغير الرسميين — مقاومة ملحوظة في قبول وجهة النظر الراسخة القائلة إن السبب الرئيسي لدى بن لادن لإعلان الحرب على الولايات المتحدة تمثَّل في تدنيس أراضي المملكة العربية السعودية بسبب وجود القوات الأمريكية بها. عوضًا عن ذلك، فضلوا تفسيرات أكثر تجريدًا للهجوم ترجع إلى الحسد أو العداء تجاه الازدهار والديمقراطية الأمريكية. وقد فسرت كارين هيوز — إحدى مستشاري الرئيس — ذلك بأنهم «يكرهوننا لأننا ننتخب قادتنا.» على الرغم من أن أسامة بن لادن كان قد أعلن الحرب على الولايات المتحدة في عام ١٩٩٦، لم تؤخذ التهم التي وجهها للولايات المتحدة (مثل تدنيس أراضي المسلمين من خلال وجود القوات الأمريكية عليها) بعين الاعتبار. بل وجرى تجاهل إعلان بن لادن مدة عقد كامل، وكان ذلك يرجع جزئيًّا إلى أن إعلان بن لادن عُبِّر عنه في لغة «لم تكن مفهومة إلى حد بعيد بالنسبة لغير المسلمين»، مثلما أشارت ماري هابيك. وحاولت الحكومة الإسبانية أن تلصق مسئولية تفجير قطار مدريد في مارس ٢٠٠٤ بمنظمة إيتا؛ لكن (على غير العادة) لقيت الحكومة الإسبانية هزيمة انتخابية جراء خداعها.
ثمة فرق واضح بين معقولية الأعمال الإرهابية التي تهدف إلى تحقيق أهداف محدودة — مثل إطلاق سراح بعض أعضاء منظمة ما، أو الحصول على بعض الامتيازات السياسية — وبين تلك الأعمال الإرهابية التي تعتبر أهدافها ثورية، سواء كان ذلك في المجال الاجتماعي أو الروحي أو العرقي (الميلاد الجديد، الاستقلال وما إلى ذلك). بينما قد يجري إبلاغ هذه الرسائل المتنوعة عن طريق العمل العنيف نفسه («الدعاية بالفعل»)، هناك احتمال قوي لسوء الفهم إلا إذا جرى إبلاغ الرسالة ببيان واضح.
(٣) قتال أم هروب؟ رد الفعل
نظرًا لأن عملية تقييم الدوافع قد تتسم بالغموض، قد تكون الاستجابات غير متوقعة أو متعارضة. وإذا كانت المطالب مفهومة وقابلة للتحقيق، فقد يدفع الخوف الناس إلى الإذعان. قد يستطيع الأشخاص العاديون تنفيذ المطالب الصغيرة — مثل البقاء صامتين وعدم التعاون مع الشرطة — لكن المطالب السياسية الكبرى لا يمكن تحقيقها من خلالهم. إن أكثر الناس تعرضًا للإرهاب أو الذعر هم أولئك الذين يقعون خارج دائرة صنع القرار في معظم الهياكل السياسية. (يتمتع الأشخاص داخل دوائر صنع القرار — مثل رجال الشرطة أو القادة العسكريين والوزراء — بالحماية الكافية، فضلًا عن أنهم مطالبون بحكم مهنهم بعدم إظهار الذعر.) هل يمكن أن يغير خوف العامة من السياسات المتبعة؟ لا يبدو الإرهابيون أنفسهم واضحين حيال هذه المسألة الأساسية في العملية.
ميَّز منظِّرو الإرهاب بين «الأهداف» و«الكتلة المستجيبة» التي من المفترض أنها تشكِّل قوة تولد نوعًا من الضغط السياسي الذي قد يجبر الحكومات على الانصياع. (لذا، يجب تركيز الخوف — أو الانبهار — تركيزًا محكمًا بما يكفي لضمان وجود صلة؛ فإذا كانت الآثار منتشرة أكثر مما ينبغي فلن تستجيب الكتلة الاستجابة الملائمة.) ستختلف درجة وكثافة تركيز الضغط اللازم وفق «حدة» الطلب. وبينما قد يكون هناك تحليل تكلفة/منفعة بسيط — مثلما هو الحال مع الفكرة التي يقدسها الجيش الجمهوري الأيرلندي، أنه في ظل وجود عمليات هجوم متواصلة سيقرر البريطانيون عدم جدوى وجود قوات بريطانية في أيرلندا — قد تكون العملية مباشرة من الناحية النظرية. عمليًّا، قد يكون رد الفعل العام معاكسًا. على سبيل المثال، لم يكن رد فعل العامة إزاء تفجيرات حانة برمنجهام في عام ١٩٧٤ على يد الجيش الجمهوري الأيرلندي هو الدعوة إلى انسحاب القوات البريطانية من أيرلندا، بل الإصرار على رفض الاستسلام للعنف. وهكذا، هناك سيناريو مرحلة ثالثة بديل، يثير الإرهاب فيه رد فعل عنيفًا من قبل الدولة — بدلًا من ضمان انصياعها للمطالب — وهو ما قد يؤدي إلى تدمير المنظمة الإرهابية أو تدمير شرعية الدولة من خلال «كشف النقاب» عن نزعة العنف المتأصلة في النظام.
استراتيجيات الترويع
يشير التفكير في عملية الترويع إلى أن ثمة اختلافات وظيفية كبيرة بين ما أطلق عليه بعض الكتاب «أنواع» الترويع. في ستينيات القرن العشرين، طرح العمل الرائد لتي بي ثورنتون نوعين أساسيين من الترويع: «دعم الوجود» و«الإثارة». وتعتبر وظيفة ترويع دعم الوجود محدودة، وهي تهدف إلى الحفاظ على أمن المنظمة المتمردة من خلال ردع العامة عن تزويد القوات الأمنية بأي معلومات. تحتاج المنظمة المتمردة لكي تنجح في ذلك إلى نظام مراقبة شامل لإقناع الناس بأن مساعدة السلطات ستُكتشف. لكن في حقيقة الأمر، معظم الجماعات الإرهابية أصغر بكثير من أن تتمكن من القيام بذلك. (من ناحية أخرى، من الأسهل بكثير الحفاظ على أمن الجماعات السرية الصغيرة من خلال عنصر السرية وحده؛ فقط عندما تحاول المنظمة مواجهة العامة تضاعف المخاطر التي تتعرض لها بشكل هائل.) وهكذا، فإن الترويع بهدف دعم الوجود عادة ما يكون نتاجًا ثانويًّا لحملات حرب العصابات — مثلما كان الحال في كل من أيرلندا بين عامي ١٩٢٠ و١٩٢١، وفيتنام بين عامي ١٩٤٥ و١٩٥٠، والجزائر في خمسينيات القرن العشرين، وفلسطين بين عامي ١٩٣٦ و١٩٣٩ — حيث يكون من السهولة بمكان للناس فهم متطلبات الإرهابيين والالتزام الجزئي بها على الأقل.
يتمثل أعظم شيء في الانتقام اللاسلطوي في الإعلان بصوت عال وفي وضوح إلى الجميع: أن هذا الرجل أو ذاك يجب أن يموت لهذا السبب أو ذاك؛ وأنه في أول فرصة تسنح لتحقيق هذا التهديد، فإن هذا الوغد المعني سيتم إرساله حقًّا وصدقًا إلى العالم الآخر.
وهذا هو بالفعل ما حدث مع ألكسندر رومانوف، ومع مسينزوف، ومع سوديكين، ومع بلوخ وهلوبك، ومع رامبف، وغيرهم. فبمجرد تنفيذ هذا العمل، يتمثل الأمر الأهم في أن العالم أجمع يعلم بهذا الأمر عن طريق الثوريين، بحيث يعرف الجميع طبيعة الوضع.
أما ترويع الإثارة فيسعى على الأرجح إلى أهداف واسعة النطاق وطويلة المدى: مثل «ثورة» من نوع ما أو عملية «تحرير قومية». بعض هذه الأهداف يمكن تحقيقها أكثر من غيرها. في السياق الاستعماري، قد يميل تحليل التكلفة/المنفعة في اتجاه تنفيذ استراتيجية إرهابية، حيث قد يكون الحكام المستعمرون مستعدين للحد من خسائرهم واتخاذ قرار بالرحيل. أما في إطار السياسة الداخلية، فتعتبر المخاطر أكبر بكثير؛ بقاء النخبة السياسية وبنية الهيمنة المصاحبة لها («الملكية الخاصة»، «المؤسسات الرأسمالية»). بالنسبة لهذه النخبة، لا توجد منفعة توازن في قيمتها تكاليف تقديم تنازلات ومن ثم يتصاعد الصراع غالبًا. وبينما قد يتحقق «الانصياع» من خلال مستويات منخفضة من العنف الذي يتوخى الحذر في اختيار أهدافه، تشتد وطأة ترويع الإثارة وقد تصبح عملية الاستهداف عشوائية بغرض تعظيم أثر الصدمة. وهنا تعتمد النتائج على ما إذا كان يُنظر إلى الإرهابيين بصورة عامة كأعداء أو كخارجين على القانون؛ أي «أعداء للإنسانية» من غير المقبول بأي حال من الأحوال التواصل معهم.
لا يزال التقسيم الأساسي الذي وضعه ثورنتون مقنعًا، لكن أضاف بعض الكتاب اللاحقين تعديلات أخرى إليه. في دراسة حالة واضحة ومفهومة بصورة استثنائية للإرهاب الثوري ركَّزت على جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، أشارت مارثا كرينشو إلى أن وظيفة بناء الدعم للإرهاب تشمل هدفين مختلفين؛ أولًا: ضمان الطاعة أو الإذعان (ما أطلق عليه ثورنتون «دعم الوجود»)، وثانيًا: المراهنة على التعاطف والدعم الأيديولوجي أو الأخلاقي. في الأغلب تُتجاهل خاصية «الإلهام» هذه، لا سيما من قبل الكتاب المحافظين الذين يصبون جل اهتمامهم على إنكار سمة الشرعية على العمل الإرهابي في سعيه إلى تحقيق أهداف ثورية أو مقاصد تهدف إلى الإثارة.
قد لا يكون حشد الدعم هو هدف الترويع الثوري وحده، وإنما أيضًا هدف الثورة المضادة أو الترويع اليميني أو الرجعي الذي يكرس جهوده لصالح منع حدوث أي تغيير أو استعادة نظام سياسي سابق. عادة ما يظهر هذا «الإرهاب الأبيض» بسبب الخوف من التغيير الثوري أو التهديد به؛ ويتسم هذا النوع من الإرهاب بموالاته للدولة — مثل جماعات ألستر الموالية المسلحة غير النظامية — لكن إذا كانت الدولة واقعة تحت الهيمنة الأجنبية، يمكن حث هذه الجماعات على مهاجمة الدولة التي تزعم أنها تدافع عنها. يتمثل أحد أبرز الأمثلة على هذا العَرَض وأكثرها إثارة للقلق في السنوات الأخيرة في «المليشيات» الليبرتارية أو تلك المؤمنة بتفوق الجنس الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تؤمن بأن الحكومة الفيدرالية والوكالات التابعة لها — مثل مكتب التحقيقات الفيدرالية — تقع تحت سيطرة «حكومة عالمية صهيونية» (أو سحالي، مثلما يرى مؤيدو ديفيد آيك الكثيرون) تكرس جهودها للقضاء على الحرية الأمريكية. ولا بد أن رد فعل تيموثي ماكفي الانتقامي ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما في عام ١٩٩٥ — وهو أكثر عمل إرهابي أمريكي فتكًا — يُنظر إليه على أنه صيحة تدعو إلى عودة الأمريكيين إلى رشدهم، وإلى جعلهم يرون كيف تبدو الأمور في حقيقتها. يعتبر ذلك — كما سنرى لاحقًا — جزءًا من تقليد طويل للدعاية بالفعل.
- (١)
عنف هائل يستحوذ على الاهتمام العام.
- (٢)
من يتعرضون للعنف يمكن أن ينتبهوا إلى الموضوعات السياسية.
- (٣)
العنف وسيلة تمكينية بصورة متأصلة، كما يعد «قوة تطهير» (مثلما يشير إلى ذلك الكاتب اللاحق المناهض للاستعمار فرانتز فانون).
- (٤)
قد يؤدي العنف الممنهج إلى تهديد الدولة ويدفعها إلى ردود أفعال تقوض شرعيتها.
- (٥)
قد يودي العنف بالاستقرار الاجتماعي ويهدد بانهيار المجتمع («دوامة الترويع» والترويع المضاد).
- (٦)
في نهاية المطاف، سيرفض الناس الحكومة ويتعاطفون مع «الإرهابيين».
وهكذا، فإن الإرهاب — الذي يستحق هذا الاسم — ليس فقط استخدام العنف لتحقيق مآرب سياسية، وليس العنف الهائل، وليس العنف من جانب طرف مسلح تجاه طرف غير مسلح؛ بل يمكن النظر إليه باعتباره استراتيجية سياسية حاسمة وفاصلة وقائمة بذاتها.
الترويع والسياسة
يؤدي التفكير في عملية الترويع إلى استنتاج أن التفرقة الأساسية بين الحرب والإرهاب تكمن في المنطق الوظيفي لكل منهما؛ فالحرب تهدف إلى الإجبار، أما الإرهاب فيسعى إلى الإقناع. تعتبر الحرب في جوهرها مادية، بينما يعتبر الإرهاب عقليًّا. (لا يعني ذلك أن الحرب تعتبر مسألة قوة مادية فقط. حتى كلاوزفيتز — الذي كان يكتب في وقت كانت الحرب فيه نظامية إلى حد بعيد — أشار إلى أن في الحرب تساوي نسبة الجانب المعنوي إلى الجانب المادي أربعة إلى واحد. لكن إذا جاز لنا أن نخاطر بتطبيق نسبة مكافئة بالنسبة للإرهاب، فقد تكون النسبة أربعة آلاف أو ربما أربعة ملايين.) تتمثل القضية الرئيسية هنا في أن القوة المادية للإرهاب قد تكون من ناحية المبدأ ضئيلة للغاية. حتى في حال وجود هدف كبير لهجوم إرهابي مثل إسرائيل، لا يكاد عدد الوفيات والمصابين من المواطنين الإسرائيليين جراء الهجمات الإرهابية منذ عام ١٩٦٧ يستحق سطرًا منفصلًا في إحصاءات الوفيات القومية ونسبة انتشار الأمراض، إذا كانت أهمية هذه الإحصاءات أهمية كمية صرفة.
وهكذا، يعمل الإرهاب من خلال ممارسة ضغط نفسي ذاتي. ويعتبر العامل الأكبر الميسر له هو التهويل، وهو ظاهرة مؤسفة معتادة راسخة في البيت الأبيض، فضلًا عن ضواحي الطبقة المتوسطة والقرى في العالم أجمع. وكان الحدث السابق «للرعب العظيم» في الثورة الفرنسية هو «الخوف العظيم» الذي انتشر عبر فرنسا في صيف عام ١٧٨٩. لم يكن هذا الذعر اللاعقلاني علامة على المجتمع ما قبل الحديث فقط، مثلما يوضح وجود حالات عديدة على «الرهاب من الجواسيس» في القرن العشرين. تظل الشائعات واحدة من أكثر العمليات الاجتماعية تدميرًا.
يحل الإرهاب الصرف مشكلة التناقض بين القوة التدميرية الفعلية والأثر السياسي المرغوب من خلال الاعتقاد شبه الغامض في القدرة التحويلية للعنف. عرَّف بعض الكتاب ذلك باعتباره «تقديسًا للعنف»، لكن بدون الغموض، يمكننا أن نرى أن المنطق الإرهابي يعتمد بصورة واضحة على تصور رمزي لعلاقات السلطة الاجتماعية-السياسية. في هذا السياق، يمكن «تجاوز» — وربما يجوز لنا أن نقول «استبدال» — تعقيدات وتأخير وأخطاء العملية السياسية المعتادة من خلال العنف، الذي يكشف عن الحقيقة الأعمق للولاء الجماعي.
قد تفسر هذه الرؤية المبسطة للسياسة أيضًا مشكلة طرحها العديد من الكتاب المتخصصين في شئون الإرهاب: كيف يستطيع الإرهابيون (الذين بعيدًا عن كونهم «مجرمين أو مقاتلين متدينين أو معتوهين» بل يظهرون في معظم الدراسات العملية أنهم «أشخاص عاديون بصورة مزعجة») المضي قدمًا وقتل الأبرياء بدم بارد؟ يتمثل النموذج المثالي على ذلك في التأكيد على أن الإرهابيين يجب أن «يفتقروا إلى مشاعر الشفقة أو الندم الإنسانية». تنشأ هذه الإشارة إلى التشوه الأخلاقي من التعارض المغلوط بين «الدم البارد» و«حرارة المعركة»، والأخيرة هذه هي التي من المفترض أن تجعل البشر العاديين قادرين على القتل في الحرب. كلا المفهومين مراوغان إلى أقصى حد. في العالم الحديث، تمثَّلت الآلية الأخلاقية التي يستطيع الأشخاص العاديون من خلالها تنحية مشاعر الشفقة والندم جانبًا من أجل قتل الأشخاص العاديين الآخرين في التعميم الرمزي، عبر طمس الصفات البشرية الفردية للضحايا من خلال الهوية الجماعية (سواء أكانت دينية أم طبقية أم عنصرية أم عرقية). بعيدًا كل البعد عن الشذوذ (بمعنى أنه غير معتاد)، كان هذا النوع من القولبة هو المحرك لمعظم الحروب — إن لم يكن جميعها — والإبادات الجماعية والصراعات الثورية العنيفة في القرن العشرين، ولا يزال العملة الرائجة للخطاب القومي ومحرك التطهير العرقي. إذا كان الإرهابيون هم «متعصبي البساطة»، فهكذا أيضًا كثير من المواطنين الصالحين. فمعظم الإرهابيين — مثلهم مثل كثير ممن شاركوا في عمليات قتل جماعي — أشخاص عاديون تمامًا.
النساء والإرهاب
يتمثل أحد الفروق البارزة الأخرى بين الإرهاب والحرب في الظهور اللافت للنساء في عمليات إرهابية. بدءًا من فيرا زاسوليتش — التي قامت بأول هجوم مسلح لحركة نارودنك عندما أطلقت الرصاص على حاكم سانت بطرسبرج في عام ١٨٧٨ — إلى وفاء إدريس — أول عربية «انتحارية» في إسرائيل في يناير ٢٠٠٢ — أصبحت النساء في مقدمة الصفوف، وبناءً عليه أصبحن رائدات في إعادة رسم دور المرأة. بل وقد كان ما يقرب من ربع عدد الإرهابيين الروسيين في القرن التاسع عشر من النساء، وهي نسبة ربما لم يفقها سوى الإرهابيين الألمان والأمريكيين في سبعينيات القرن العشرين. كان ثلث (٣٣٪) الشيوعيين المنظمين لتحرير الطبقة العاملة في إيطاليا من النساء، و٣١٪ من منظمة الألوية الحمراء في إيطاليا أيضًا من النساء. هل يرجع هذا إلى أن الأعمال الإرهابية — من حيث إنها صغيرة النطاق ولا تسعى إلى «القتال» العسكري التقليدي — تتميز بأنها ليس لها متطلبات كثيرة على المستوى البدني؟ أم إلى أن الجماعات الإرهابية (مع بعض الاستثناءات البارزة) كانت تميل إلى أن تكون تقدمية؟ أم فقط لأنها أصغر حجمًا من أن تنفذ عمليات عسكرية يغلب عليها الطابع الذكوري الذي يميز الجيوش النظامية المعتادة؟ من الصعب تحديد الأسباب: فقد ركزت الدراسات الجادة القليلة التي أجريت حتى الآن على دوافع النساء للقيام بأعمال إرهابية أكثر من التركيز على آليات عمل المنظمات الإرهابية.
وقد لوحظ بروز النساء من وقت لآخر (وإن كان يجب الإشارة إلى أنه على الرغم من بروزهن، لا يزلن أقلية)، وهو ما يستدعي تقديم تفسيرات. قدَّم أحد أهم خبراء الإرهاب البارزين وهو والتر لاكور مؤخرًا تأكيدًا لا يخلو من التعالي، يفيد أن «الإرهابيات أكثر تعصبًا ولديهن قدرة أكبر على المعاناة. ودوافعهن عاطفية في المقام الأول ولا يمكن تغييرها من خلالها الجدل الفكري.» تدعو هذه الافتراضات، التي يبدو أنها تدور حول قوالب تقليدية، إلى إثارة عدد من الأسئلة: ماذا — على سبيل المثال — يمكن أن نفهم من الصفة «متعصب»؟ ربما يمكن تفسير دور العديد من النساء في «العمليات الاستشهادية» (أكثر من ثلث الانتحاريين الشيشان بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠١٠ كانوا من النساء، وكان يطلق عليهن «الأرامل السوداء») بصورة أقل مبالغة كنوع من الانتقام لتعذيب وقتل أشقائهن وأزواجهن.
كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها الأحرف الاثنين والعشرين للأبجدية العبرية وقد انتظمت في صفحة خصوصًا من أجلي. شعرت وكأنني أكتب تلك الكلمات لا أقرأها.
متى كنت أصحب أيًّا من الرجال وهم في تنفيذ عمل ما، كنت ألاحظ دومًا تلك النظرة المتلهفة اللامعة في عيونهم ونفس النظرة التوَّاقة المتوترة على وجوههم، إنها نظرة ترقب لهدف منشود للتضحية، وكنت أعرف أن هنا كانت تكمن شرارة النار البدائية التي تولد فيها الحقيقة … ذلك النوع من التوتر الذي ينطلق منه الفنان ولا شك.
بالنسبة لكوهين، أملت قواعد البيولوجيا أن النساء لا يولدن أبدًا ليصبحن فنانات أو مقاتلات: فأداء الرجال أفضل من النساء على أرض المعركة؛ ليس فقط لأنهم الأقوى، بل:
لأن أرواحهم تتعطش أكثر من تعطِّش روحك لهزيمة الموت الذي ستهزمينه يومًا ما داخل جسدك.