المقاتلون المتدينون والمتآمرون
قالت أليس بهدوء وثقة: «إنك لا تفهمين يا أمي، سنقوم بتدمير كل شيء، كل شيء، تلك القذارة التي نعيش فيها. سينتهي كل شيء، وبعد ذلك سترين.»
الإرهابي الطيب
في مرحلة ما من مناقشة الإرهاب، نلتقي بالشخصية الغامضة «الإرهابي الطيب»؛ العنوان الساخر في محاولة دوريس لسينج لسبر أغوار حياة أحد «التنظيمات السياسية الصغيرة»، التي تفشت في أوروبا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين (وهي التنظيمات التي سنناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الرابع). الإرهابيون الطيبون هم أولئك الإرهابيون الذين يُبرر أفعالهم قمع النظام الذي يعارضونه. وثمة نبرة إعجاب — حتى وإن كان على مضض — تميز الروايات المتحفظة عن روَّاد الإرهاب في العصر الحديث؛ ألا وهم الشعبويون الروس في القرن التاسع عشر: ويتمثل هذا في إدراك أن هؤلاء الإرهابيين — على عكس الإرهابيين اليمينيين — «كانوا يؤمنون حقًّا بمجتمع حر لا يسوده العنف.» كان ذلك هو أساس معتقداتهم، وهو ما يمكن أن ينسحب منطقيًّا على جميع الإرهابيين تقريبًا؛ بأن أي تغيير سيكون إلى الأفضل.
نادرًا ما يُنظَر إلى الإرهابيين في العصر الحديث وفق هذه الرؤية. فعلى غرار كثير من التحيزات الدائمة، تغلبت فكرة قولبة الإرهابي باعتباره وحشًا سيكوباتيًّا على كثير من الجهود الأكاديمية لتعديل هذه الصورة أو محوها. تشير معظم الدراسات الأكاديمية إلى الرؤية القائلة إن الإرهابيين يتميزون بصورة عامة بطبيعتهم العادية تمامًا. أما الصفات المفترض توفرها في الإرهابي لتنفيذ أعمال إرهابية — مثل غياب الشعور بالشفقة على أحسن تقدير أو رغبة خبيثة في إلحاق الأذى على أسوأ تقدير — إما لا حاجة إليها، أو إذا كانت هناك حاجة إليها فهي شائعة للأسف بين كثيرين. كان هناك جدل قائم بأن عددًا كبيرًا من الإرهابيين مر بفترة طفولة عصيبة — مثل شخصية أليس في رواية دوريس لسينج — لكن لا يمكن ترتيب هذه الرؤية منهجيًّا (حتى الآن على الأقل). فقد أُهدر الجانب الأكبر من الجهود الضخمة التي تكرست للكتابة عن «شخصية الإرهابي».
أثقل السلاح كاهل الجندي … فلم يستطع قط اللحاق بالشاعر الذي حلَّق في الهواء، يؤازره في تحليقه رؤى عوالم أسمى. في نهاية المطاف، سيصل الجندي إلى آخر نقطة وقف فيها الشاعر، ويسمع أصداء أغنية الشاعر، ومن هذه الأصداء، يضيء الجندي شعلة هائلة.
لا يزن ببساطة المخاطر في مقابل احتمالات النجاح — مثلما هو الحال عادة — بل يضيف إلى المعادلة القيمة المجردة للقضية التي يحارب من أجلها. لهذا السبب تعتبر أساليب الردع التقليدية غير فعَّالة إزاء التعامل مع مثل هؤلاء.
إذا كانت جميع الدول تُحكم في جميع الأوقات بصورة لائقة، فسيُعتبر كل من يحاول أن يطيح بالحكومة القائمة باستخدام العنف «عدوًّا للإنسانية». لكن عندما تكون الحكومة نفسها حكومة إرهابية، فأعتقد أن الشخص الذي يسعى للإطاحة بها باستخدام الوسيلة الوحيدة المتاحة لا يعتبر بالضرورة عدوًّا للإنسانية.
مقاتلون من أجل الحرية؟
لا شك أنه من الشائع في عصرنا أن يكون من يعتبره البعض إرهابيًّا يعتبره البعض الآخر مقاتلًا من أجل الحرية، أو الإرهاب الذي يرتكبه أحدهم هو في عين الآخرين بطولة. هذا حقيقة بديهية؛ لكن هل هذا صحيح؟ هل يمكن أن يساعدنا هذا على فهم طبيعة الإرهاب؟ يستبعد كثير من الكتاب المتخصصين في شئون الإرهاب هذه الحقيقة تمامًا، لكن ربما نستطيع أن ننظر إلى الأسباب التي جعلت من هذه النسبية مسألة لافتة للنظر بهذا الشكل، وإلى طرق لاختبار ما إذا كان الإرهاب يمثِّل حقًّا استراتيجية للتحرير.
ثمة أسباب واضحة لهذه النسبية. حاز الإرهاب — كمفهوم سياسي متميز — على اسمه (بل وجزء كبير من سمعته السيئة) من أعمال القابضين على زمام الحكم في الدولة، ربما أول نظام في العصر الحديث، الميثاق الفرنسي للسنة الثانية من الثورة الفرنسية (١٧٩٣-١٧٩٤). منذ ذلك الحين، كانت الحكومات — وفق أي مقياس كمي — تعتبر أكثر مستخدمي العنف الإرهابي (انظر الفصل الثالث). لكن لا توجد أي إشارة على ذلك في الخطاب الرسمي السائد، سواء على مستوى القانون المحلي أو الدولي. في إطار ذلك الخطاب، يستخدم الإرهاب من قبل المتطرفين — أي المتمردين — ضد النظام القائم؛ أي الدولة.
لم يكن من الصعب على الإطلاق كشف النفاق أو ازدواجية المعايير في هذا السياق، وذلك ليس فقط بالنسبة للاسلطويين الذين يصرون على أن عنف مظاهراتهم يعتبر ضئيلًا مقارنة «بالعنف المتأصل في النظام». ومع مرور سنوات القرن العشرين، لم يفت على المراقبين ملاحظة أن الدول التي تتهددها حركات قومية أقل تطرفًا بكثير، كانت تَصِمُ أساليب المقاومة التي تتبعها هذه الحركات بأنها إرهاب، وكانت تستبعد منفذيها خارج عالم السياسة باعتبارهم خارجين على القانون الأخلاقي. لكن في بعض الأحيان، كانت الدول تتوصل بالفعل إلى اتفاقيات وتفاهمات سياسية مع هؤلاء «السفاحين» و«القتلة»، الذين يُزعم أنهم يستمدون سلطتهم من ممارسة الترويع العنيف ضد الغالبية الملتزمة بالقانون. لعل أول وأبرز الأمثلة على الخارجين على القانون ممن استُوعبوا في العملية السياسية مايكل كولينز من الجيش الجمهوري الأيرلندي في عام ١٩٢١، وقد تبعه كثيرون.
انتقل بعض المراقبين بسرعة من الإشارة إلى نفاق استخدام الدولة لمسمى «إرهابي» إلى الإصرار على ضلوع الدولة المتساوي — أو الأكبر — في استخدام العنف الإرهابي. وقد رسم نقاد بارزون، مثل نعوم تشومسكي وريتشارد فولك، صورة للعنف الطائش الذي يرتكبه المتمردون والحكومات على حد سواء. لكن لم يكن من الضروري الذهاب بعيدًا على هذا النحو لاستنتاج أن الاستخدام المشوش والمختلط لمسمى إرهابي، فرَّغ المسمى من أي دقة أو قيمة تحليلية بحلول سبعينيات القرن العشرين. وقد كان من السهولة بمكان أيضًا بالنسبة «للإرهابيين» أن يطلقوا المسمى نفسه كذلك على متهميهم. وهكذا، أدانت الحركات «السرية» اليهودية «الإرهاب البريطاني»، وأعلنت أن الإدارة والجيش والشرطة البريطانية في فلسطين ما هي إلا «منظمات إرهابية»؛ وفي عام ٢٠٠٢، أعلنت كتائب الأقصى عن «فخرها» بوسمها بأنها منظمة إرهابية من قبل الإرهابي الأكبر في العالم؛ حكومة الولايات المتحدة. ربما تمثل الحقيقة البديهية لثنائية «الإرهاب-البطولة» ليس فقط الشك في تشويه الحقائق، بل أيضًا القبول بأن الحقيقة أكثر تعقيدًا بكثير من أن تتماشى مع هذه التصنيفات الضيقة.
يحتاج المقاتلون من أجل الحرية إلى طريقة ما للتخلص من الطغيان أو القمع أو الاستعمار. هل يعتبر الإرهاب وسيلة ممكنة لتنفيذ ذلك؟ انطلق الإرهاب في العصر الحديث فعلًا إلى آفاق جديدة من خلال ثورة تكنولوجية جعلت كل شيء تقريبًا ممكنًا؛ ألا وهو اختراع الديناميت. فقد بدا أن هذه المادة الشديدة التفجير توفر إمكانية لعكس خلل ميزان القوة التاريخي المدمر بين القامعين والمقموعين. وكان اللاسلطويون في مقدمة من اختبروا كفاءة الديناميت. ففي عام ١٨٨٦ مثلًا، أدى إلقاء قنبلة على الشرطة خلال مظاهرة للعمال كان يقودها لاسلطويون في شيكاغو — وهو ما أسفر عن مقتل ضابط شرطة وعن أعمال شغب قُتل خلالها آخرون — إلى ضجة هائلة. وقد كان أثر الواقعة على العامة كبيرًا. لكن علام كانت تدل هذه الواقعة؟ لم يعترف أحد بمسئوليته عن الحادث، بل ولم يزعم أحد ذلك. لكن عندما اتُّهم الناشط اللاسلطوي ألبرت بارسونز بالتآمر بغرض القتل، أنكر بارسونز ضلوعه في الواقعة، لكنه قال بجرأة في المحكمة إن الديناميت «جعل جميع البشر متساوين ومن ثم أحرارًا.» كانت تلك رسالة قوية. استخدام فرانك هاريس فرضية حول تفجير هايماركت كأساس لروايته الشهيرة «القنبلة»، وهي الرواية التي قدَّمت صانع القنابل لويس لينج — الشخصية البطولية التي تتمتع بكاريزما — الشخصية المحورية في الرواية. من اللافت للانتباه أن هاريس قد بالغ في وصف القدرة التدميرية المركزة للمواد المتفجرة الجديدة؛ بحيث كان في مقدور لينج صناعة قنابل صغيرة بما يكفي لإخفائها في فمه.
حتى الآن، لا يزال الإيمان بالقدرة التدميرية التي أتاحتها التكنولوجيا في أيدي جماعات صغيرة، أو حتى أفراد، غير راسخ. لكن ربما ستغير القفزة الكمية الممكنة في المستقبل — من خلال أسلحة الدمار الشامل — من هذا. سأحاول أن أقيِّم هذا الموضوع لاحقًا في هذا الفصل. لكن حتى الآن، لم تفلح القنابل أو أي من المعجزات التكنولوجية في جعل البشر أحرارًا. على الرغم من أن القرن العشرين شهد اندلاع العديد من «حروب التحرير القومية» الناجحة — التي غالبًا ما كان لها بُعد إرهابي كبير — لم تستطع أي من هذه الحروب تحقيق النصر من خلال الإرهاب وحده. وقد كانت الأمثلة الأبرز على الفشل هي تلك التي تتبنى أساليب إرهابية محضة — مثل حروب عصابات المدن في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، والجيش الأحمر الألماني، والألوية الحمراء الإيطالية، وغيرها — والتي كانت نتائج أنشطتها المعتادة ليس الإطاحة بالدول، وإنما تكثيف الإجراءات الأمنية العامة والحكومية، وتدهور عام في مستوى الحريات.
هل يستطيع الإرهاب التحرير، أم أن عملية الترويع قد تؤدي إلى «تداعيات مُفسِدة يتردد صداها لعقود»؟ لا شك في أن العديد من الأحلام المتعلقة بنهاية العالم التي حركت الكثير من الجماعات الإرهابية لم تتحقق على الإطلاق. ومن هذا المنطلق، يصير أولئك الذين يرون أن الإرهاب دائمًا ما يفشل — على غرار المؤرخ المتميز والتر لاكور — على صواب. فالصدمة والرعب لهما حدود يقفان عندها. وكما هي الحال في الحرب، ربما قد تؤدي تجربة الصراع العنيف إلى تحول في مدى التسامح الاجتماعي. فتتلاشى الصدمة تدريجيًّا، أو على الأقل يُتخفف من بعض آثارها؛ فيحل محلَّ الفكرة المبدئية بأن هذا الموقف لا يحتمل وبأن شيئًا ما يجب أن يحدث (وهو رد فعل مبدئي منتشر في مجتمعات مستقرة ومنظمة)؛ إدراكُ أن ذلك لن يكون الحال بالضرورة. وينتبه الأشخاص العاديون إلى ذلك قبل الإرهابيين بوقت طويل. في بريطانيا في سبعينيات القرن العشرين، كان هناك مثال بارز على ذلك من خلال الفكرة نصف المقبولة، نصف المُدانة — لكنها الأولى من نوعها على الإطلاق في الخطاب العام — القائلة بوجود «مستوى مقبول من العنف» من قبل الجيش الجمهوري الأيرلندي.
على الأرجح لم يكن مقصودًا من ذلك الإشارة إلى التنفيس عن احتكار الدولة اليقظ للعنف، قدر ما هو الدفع باستحالة التعامل مع الإرهابيين. إذا تساءلنا عن كيفية التعامل مع العنف السياسي «عادة» في الكيانات الليبرالية-الديمقراطية، فإن ذلك يكون من خلال مزيج تقليدي من القمع المدروس ومنح الامتيازات المحدودة. لكن الإرهابيين — على أي حال — لا يقبلون على الأرجح فكرة الامتيازات المحدودة. فيختار الإرهابيون الخروج عن إطار العملية السياسية من خلال وضع مطالب مطلقة غير قابلة للتفاوض، وكذلك باستخدام العنف. وإلى أن يستطيع الإرهابيون والدولة معًا تبادل بعض العبارات المتعثرة باستخدام اللغة السياسية نفسها، سيكون رد الفعل الوحيد هو الاحتواء والتعايش بدلًا من المواجهة. فإذا لم يكن من الممكن التخلص من الإرهاب، يجب حتمًا السماح به عند مستوى ما، وهو ما يمكن القيام به.
إذن، هل هناك فرق بين الإرهابيين والمقاتلين من أجل الحرية؟ تاريخيًّا، لم يكن مَن تبنوا استراتيجيات إرهابية محضة محررين ناجحين. في المقابل، لم يكن المحررون — بمن فيهم كولينز — إرهابيين خالصين أو مطلقين. تشير الفروقات الجوهرية بين الإرهاب والحرب إلى الكفاءة المحدودة للإرهاب في السعي لتحقيق أهداف جذرية. قد يؤدي الأثر الذي يفت في عضد المجتمع، وربما المُفسِد للروابط الاجتماعية، إلى تغيير عملية الحرية نفسها. بينما يجب أن نُعير انتباهنا إلى إصرار فرانتز فانون على القيمة التحررية لممارسة العنف بالنسبة للمقموعين — «فهو يحرر المواطن المحلي من عقدة النقص، ومن يأسه، وقلة حيلته؛ فهو يجعله غير خائف ويستعيد احترامه لذاته» — تتمثل المشكلة الأساسية في أن العنف الإرهابي لا يحقق وعد فانون بالديمقراطية؛ «لقد كان التحرير شأن كل فرد والجميع.» في نهاية المطاف، كانت إنجازات الإرهاب سلبية؛ كما تأسَّف ريجيس دوبريه على «الإرهابيين الطيبين» الذين مثلوا رمزًا في سبعينيات القرن العشرين؛ حركة توباماروس (انظر الفصل الخامس)، إذ صار هؤلاء بمنزلة «حفاري قبور الحرية في أوروجواي».
الإرهاب الدولي
في ثمانينيات القرن العشرين، ظهر شبح جديد ليطارد العالم الغربي؛ ألا وهو «الإرهاب الدولي». تجلى هذا الظهور بقوة في السيرة المهنية العجيبة «لكارلوس»، وهو إرهابي لا يعمل بمهنة منتظمة، تحوَّل بفضل بعض الصحفيين المغامرين وأصحاب الخيال في منتصف سبعينيات القرن العشرين إلى ظاهرة عالمية. وقد رُسمت صورة الإرهاب الدولي في المقام الأول من خلال كتاب واحد، وهو كتاب كلير ستيرلنج «شبكة الإرهاب» الذي نُشر في عام ١٩٨١، والذي تتبع منظمة عالمية موحدة هائلة لا تستمد إلهامها من الاتحاد السوفييتي فحسب، بل يسيطر عليها كذلك. تناغم هذا التصور الرائع مع الخطاب السياسي إبان فترة تاتشر-ريجان: الصراع ضد «إمبراطورية الشر». في عام ١٩٨١، اتهم وزير الخارجية ألكسندر هيج الاتحاد السوفييتي «بتدريب وتمويل وتسليح الإرهابيين الدوليين». على الرغم من عدم بلوغ هيج في إدانته مبلغ ما طرحته ستيرلنج في كتابها، كان مفهوم الإرهاب الدولي قد ترسخ بقوة. على الرغم من عدم الاحتمالية الواضحة للفكرة — ناهيك عن أنها منافية للمنطق — لم تواجه فكرة شبكة الإرهاب إلا قليلًا من النقد بصورة مفاجئة، حتى أفرغتها نهاية الحرب الباردة من معناها.
حققت ستيرلنج الآثار المرجوة من كتابها من خلال خدعة صغيرة لا تخفى على أحد؛ فمن خلال عدم وضع تعريف للإرهاب، استطاعت ستيرلنج ذكر طيف واسع من الجماعات والحوادث الإرهابية في نسيج كتابها. ومن خلال اتباعها أسلوبًا أرست مبادئه وكالة الاستخبارات المركزية (التي تمتلك على الأقل تعريفًا واضحًا لأحداث الإرهاب الدولي)، ضخَّمت ستيرلنج من بيانات الإحصاءات من خلال ذكر جميع الأعمال من أي نوع لأي جماعة توسم بالإرهابية. فلم يكن معيارها للإثبات يتطلب الكثير. لعل الأكثر جدية في طرحها هو ذكرها ذكرًا عابرًا للسياق التاريخي والسياسي للجماعات الإرهابية، وللاختلافات المذهبية التي غالبًا ما تكون حادة بينها. وفقًا لتفسير ستيرلنج، كانت العدالة المتأصلة في المجتمعات الغربية تعني أن التفسير الممكن الوحيد للعمل الإرهابي يتمثل في وجود تدخل خارجي؛ إذ لا يمكن أن يوجد إرهابيون محليون.
بالطبع لا يمكن إنكار أن الإرهاب اتخذ بعدًا دوليًّا مميزًا في سبعينيات القرن العشرين. فقد أدى ترسيخ صورة عملية اختطاف الطائرات باعتبارها أكثر الأعمال الإرهابية الجديرة بالتغطية تلقائيًّا إلى تدويل الموضوع، وصار رواده — منظمة التحرير الفلسطينية — منظمة دولية تلقائيًّا؛ نظرًا لأن أفرادها منفيين من الأراضي التي يزعمون انتماءهم إليها؛ فكما تشير وزارة الخارجية الأمريكية: «يُعتبر الفلسطينيون شعبًا بلا دولة.» وبالفعل تدرَّب هؤلاء الأعضاء في الاتحاد السوفييتي الذي أمدهم بالفعل بالأجهزة والمعدات اللازمة عن طريق الدول التابعة له. لعل أكثر الأسلحة الإرهابية خطرًا في ذلك الوقت كان سمتكس («الرخام السحري»)، وهو عبارة عن متفجرات «بلاستيكية» قوية، اخترعها ستانسلاف بربرا في مدينة سمتن التشيكية في عام ١٩٦٦. وكانت متفجرات سمتكس — التي تتميز بسهولة قطعها وتشكيلها، واستخدامها في نطاق كبير من الظروف، وعدم قدرة كلاب الشم على اكتشافها، وتوفرها بألوان مختلفة — بمنزلة هدية للإرهابيين (بالمعنى الحرفي تقريبًا). كانت أهمية متفجرات سمتكس في أواخر القرن العشرين بمنزلة المكافئ لمادة الديناميت في أواخر القرن التاسع عشر (بخلاف أن مخترعها — على عكس ألفريد نوبل — لم يحقق ثروة من ورائها). خلال سبعينيات القرن العشرين، صُدِّر ما يقرب من ٦٩٠ طنًّا من متفجرات سمتكس من تشيكوسلوفاكيا إلى ليبيا وحدها، وهو ما يكفي لصناعة أكثر من مليون قنبلة على القدر نفسه من قوة القنبلة التي استُخدمت لتفجير طائرة بان أمريكان رحلة رقم ١٠٣ فوق لوكربي في عام ١٩٨٨؛ ما يكفي «لدعم الإرهاب في العالم أجمع لمدة ١٥٠ عامًا»، كما قال الرئيس فاتسلاف هافيل بأسف فيما بعد. وانطلاقًا من ليبيا، التي كان يُنظر إليها آنذاك باعتبارها الوكيل الرئيسي للاتحاد السوفييتي في العالم الثالث، وُزِّعت متفجرات سمتكس بالتأكيد على العديد من الجماعات الإرهابية، بما في ذلك منظمة إيتا الانفصالية والجيش الجمهوري الأيرلندي. لقد كانت هذه المساعدة بمنزلة دعم هائل لهذه المنظمات، لكن لا يوجد دليل على أنها كانت عاملًا فاصلًا في الإبقاء عليها نشطة، ناهيك عن تكوينها.
كانت بعض المنظمات الإرهابية تتميز بنظرة دولية، لكن هكذا كان بالطبع حال سابقاتها قبل قرن. لعل اغتيال الرئيس الفرنسي سادي كارنو، من قبل لاسلطوي إيطالي في عام ١٨٩٤، يعتبر موازيًا لأعمال منظمتي الجيش الأحمر وبي تو جيه الألمانيتين في سبعينيات القرن العشرين، وهما منظمتان كانتا تستهدفان الرأسمالية الدولية والإمبريالية الأمريكية (انظر الفصل الرابع). بالمثل، كانت أحداث مثل اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند على يد رجل صربي في سراييفو في عام ١٩١٤، أو الملك ألكسندر في مرسيليا في عام ١٩٣٤، تعتبر بالمثل أحداثًا دولية، بالمعنى القانوني للأعمال «التي تفسد العلاقات الدولية، والتي يعتبرها المجتمع الدولي مخالفة لقواعد السلوك المنشودة.» لكن في هذه الحالات، بالكاد يعبِّر وصف «دولية» عن طبيعة الجماعات المتورطة، التي كانت جماعات قومية إلى حد بعيد.
ثمة فرق بين الأعمال التي تعتبر «دولية» والأعمال التي تقع — فيما يبدو عَرَضًا — وراء الحدود القومية. بالنسبة إلى الأحداث من النوع الأخير — وهي الأكثر شيوعًا — استخدم كثير من الكتاب تعبير «عبر قومية» للإشارة إليها. لكن على الرغم من وجود كثير من الكتابات حول هذا الموضوع، هناك خلط في كثير من الأحيان بين هذه المصطلحات الرئيسية، وبين المصطلحات الأخرى مثل «عالمية»، وهو ما يشير إلى أن معظم الكتاب لا يزالون يمزجون بين هذه المصطلحات في ظاهرة واحدة. وقد أكدت أكثر الدراسات المنهجية دقة حول هذا الموضوع على صعوبة أي شيء آخر، أكثر من تأكيدها على وجود تعاون متقطع بين جماعات إرهابية متباينة، بل خلصت إحدى الدراسات إلى تأكيد أنه «لا يوجد «إرهابي دولي».»
قامت دول شيوعية — خاصَّة الاتحاد السوفييتي ووكلاء هذه الدول، فضلًا عن عدد من الأنظمة الشمولية العسكرية الأخرى مثل إيران وليبيا وسوريا — بتصدير الإرهابيين والأساليب الإرهابية إلى الدول الأخرى … يعتبر نشاط هذه الدول تعبيرًا عن الإرهاب العابر للحدود الذي ترعاه الدولة. تسعى هذه الدول إلى تلقين وتمويل وتدريب وتسليح جماعات دون قومية متنوعة الأصول للعمل كأدوات لها، من خلال استخدام أساليب الحرب النفسية والدعاية، لخلق حالة من الصراع النفسي-الاجتماعي أو السياسي في الحياة المعاصرة.
ربما يود المرء أن يتساءل عن كيفية وقوع مثل هذه النتائج الوخيمة جراء هذه الأفعال الانتهازية؛ وقد أشار الكتَّاب الأكثر تَعَقلًا إلى أن التركيز على دور رعاية الدولة للإرهاب قد يكون أمرًا مضللًا للغاية. شُبهت فكرة رعاية الدولة الكاملة، بالنظريات الزائفة التي طرحها الجيش الفرنسي خلال الحرب الجزائرية، والتي رسمت الصراع العربي باعتباره صراعًا تتلاعب به قوى خارجية، نافيةً صدق الدوافع القومية الوطنية. وعلى أي حال، فقد استطاع إصرار الولايات المتحدة على الدور المحوري لرعاية الدولة للإرهاب الصمود أمام هذه النصيحة الاحترازية؛ فأُعيد تعريف العديد من «الدول المارقة» القديمة من قبل جورج دبليو بوش باعتبارها جزءًا من «محور الشر».
الشخص الإرهابي شخص نبيل ومروع ومثير للإعجاب بدرجة لا تقاوم؛ إذ إنه يجمع في طيات نفسه سمتين من سمات السمو الإنساني: الشهادة والبطولة. فمنذ اليوم الذي يقسم فيه من أعماق قلبه بتحرير الشعب والبلاد، يعلم أنه وهب نفسه للموت. فيمضي قدمًا لملاقاة الموت بلا خوف، وربما يموت دون أن تطرف له عين، لا مثل مسيحي مؤمن في العصور الغابرة، بل كمحارب اعتاد على مواجهة الموت.
فيقارن الإرهابي — وهو يشعر بفخر كالذي شعر به إبليس عندما تمرد على الرب — إرادته بإرادة ذلك الرجل الذي وحده — بين شعب من العبيد — زعم حقه في أن تكون له إرادة … الإرهابي خالد. قد تخذله أطرافه، لكنها تستعيد حيويتها كما لو كان في الأمر سحر، ويقف الإرهابي منتصبًا، متأهبًا لمعركة تلو الأخرى حتى يقضي على عدوه ويحرر البلاد. ويرى الإرهابي بالفعل العدو تخور قواه، وقد صار مشوشًا، متعلقًا في يأس بأكثر الوسائل جموحًا، وهو ما قد يعجِّل من نهايته فحسب.
الترويع الأعظم؟
هل يمكن أن تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ من ذلك؟ صار جليًّا خلال العقد الأخير أننا بحاجة إلى النظر إلى المستقبل لتقييم احتمالية امتلاك واستخدام الإرهابيين لما يُعرف باسم «أسلحة الدمار الشامل»، كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية. على الرغم من عدم وجود أسلحة دمار شامل في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإن الحجم غير المسبوق لهذه الهجمات يبدو وكأنه يجعل هذا التوسع الهائل لحجم التدمير أقرب كثيرًا من ذي قبل. كان الإنذار قد انطلق في وقت مبكر حول ذلك؛ ففي عام ١٩٩٨، أعلن وزير الدفاع أن «المسألة لم تعد ما إذا كان هذا سيقع أم لا، بل متى سيقع.» في عام ١٩٩٧، أوصت لجنة الدفاع الوطني بأن الجيش يجب أن يعيد توجيه تركيزه على التعامل مع الحالات الطارئة المحلية الكبرى، والاستعانة بقوات الاحتياط، والحرس الوطني؛ لتدريب السلطات المحلية على التعامل مع تلويث الأسلحة الكيميائية والبيولوجية واكتشافها، وللمساعدة في معالجة ضحايا الهجمات، وعمليات الإخلاء، والحجر الصحي، وفي استعادة البنية التحتية والخدمات العامة بعد وقوع كارثة. وقد خصصت موازنة إدارة الرئيس كلينتون لعام ١٩٩٩ مئات الملايين من الدولارات لصالح برامج الاستجابة هذه؛ مثل إنشاء وحدات للتخلص من المواد الملوثة، وتخزين الأمصال والمضادات الحيوية، وتحسين أساليب البحث عن مواد كيميائية وبيولوجية، وتوفير التدريب للقوات الخاصة. وكما يشير أحد المعلقين: «قد تصل تكلفة هذه الاستعدادات إلى عشرات المليارات من الدولارات في العقود المقبلة.»
لكن لعل السؤال الذي نحتاج إلى إثارته هو سؤال نفسي قدر ما هو سؤال تكنولوجي؛ ألا وهو: هل الإرهابيون متحمسون حقًّا لاستخدام مثل هذه الأسلحة؟ وهل هذا الاحتمال — مثلما صرح أحد القضاة الأمريكيين قديمًا في عام ١٩٨١ — يستتبع «خطرًا واضحًا وقائمًا يهدد وجود الحضارة نفسها»؟ أم أن هذا مجرد مثال آخر على ما يراه النقاد مبالغة متعمدة في الحصول على الدعم العام من أجل تطبيق سياسة خارجية عدائية؟ هناك بالطبع أسباب تدفعنا لتوخي الحذر. أشار تقييم متشكك حديث حول التهديد إلى ثلاثة أسباب تبرر المبالغة؛ ألا وهي التفكير غير المتأني، والمصالح الشخصية، والافتتان المرضي. يفشل الكثيرون في التمييز بين الأنواع المختلفة للإرهاب، ومن ثم يجعل «متنبئو الهلاك» — الذين يراكمون جميع أشكال الإرهاب في صورة تهديد عالمي واحد — الأمر يبدو أكبر من حجمه وأكثر تماسكًا مما هو عليه في حقيقة الأمر. فالقضية الحقيقية هنا ليست في القدرة بل في الدوافع: ما هي الجماعات الإرهابية التي قد تستفيد من استخدام أسلحة الدمار الشامل؟ «لا يوجد سوى عقلية متطرفة نادرة تخلو تمامًا من أي اعتبارات سياسية أو أخلاقية ستفكر في تنفيذ هجوم من هذا النوع.» بالطبع سيسارع العديدون — بما في ذلك أصحاب المصالح من ذوي النفوذ؛ مثل الشركات التي توفر منتجات وخدمات الدفاع مثل شركة دايكور، المتخصصة في تصنيع أجهزة مراقبة المواد المُلوِثة، ومؤسسة مكافحة الإرهاب الرسمية التي تتطور بسرعة كبيرة — للإشارة إلى أن الكثير إن لم يكن معظم الإرهابيين تنطبق عليهم هذه المعايير. إلا أن ثلاثين عامًا من الدراسات أوضحت أن الإرهاب يتضمن عادة سلوكًا متوقعًا وليس سلوكًا جامحًا، وأن الغالبية العظمى من المنظمات الإرهابية يمكن تحديدها مبدئيًّا من خلال نظم استخباراتية متواضعة المستوى.
يقدِّم أحدث أعمال أحد رواد الدراسة الحديثة للإرهاب، وهو والتر لاكور، طيفًا أوسع من المستخدمين المحتملين لأسلحة الدمار الشامل. بعد مضي ربع قرن من صدور أول أعماله حول هذا الموضوع، الذي كان يتميز بنبرته المتشككة المعارضة للتهويل، فإن لاكور أكثر تشاؤمًا حيال المخاطر التي يشكلها الإرهاب، أو ربما ليس حيال الإرهاب «التقليدي» قدر ما هو تجاه «الأخ غير الشقيق» في عصر ما بعد الحداثة؛ أي حيال استخدام أساليب الدمار الشامل عن طريق أفراد أو جماعات صغيرة دون وجود أي أجندة سياسية واضحة. لا شك في أن أسلحة الدمار الشامل قد غيرت ميزان قوة هؤلاء الأفراد أو الجماعات؛ ربما لم تعد شخصيات كشخصية «البروفيسور» نصف المجنون في رواية جوزيف كونراد «العميل السري» وخليفته في الحياة الواقعية «يونابومر» (أو تيد كازينسكي)؛ شخصياتٍ هامشية في الوقت الحالي. لكن يبدو أن الغرابة المطلقة — إن لم تكن العدمية التامة — التي يتسم بها هؤلاء «الإرهابيون» تقوِّض إمكانية اتخاذ أي رد فعل متسق.
وهكذا، على الرغم من أننا قد نشك في أن القضاة أو السياسيين، الذين يشيرون إلى «خطر واضح وقائم يهدد وجود الحضارة نفسها»، يشوهون الإجراءات الوقائية التقليدية ضد إساءة استخدام السلطة التنفيذية؛ فليس من السهل على الإطلاق تقدير أنواع التكلفة المالية والاجتماعية التي يجب تحملها بصورة مقبولة بغرض تحقيق الإحساس بالأمن. لا شك في أن التكاليف المالية صارت هائلة؛ ليس فقط من خلال الميزانيات التي رُصدَت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لجهات مثل وزارة الأمن الداخلي الأمريكية — والتي تخطت ميزانيتها ٥٦ مليار دولار أمريكي في عام ٢٠١١ — بل أيضًا في التكاليف الاقتصادية التي لا تحصى لتحقيق الأمن في رحلات الطيران الجوي. إلا أن التكاليف الاجتماعية قد تكون أكثر. فبعد ستة أشهر من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حذَّر المحلَّف الأمريكي رونالد دوركين من أن الضرر الأكبر الناتج عن إجراءات مكافحة الإرهاب لحق بالضمانات القانونية الأمريكية للحريات الفردية التي طالما كانت مثارًا للفخر والتقدير. على الرغم من أنه لا أحد يجرؤ أن يشير علنًا إلى أن مثل هذا الضرر أكبر من عملية القتل الجماعي في برجي مركز التجارة العالمي، فقد يكون لهذا الأمر آثار خبيثة طويلة المدى على جودة حياتنا.