القومية والترويع
يجب أن يوقَظ الرجال، ويُدفعوا للحراك، ويصدموا بثمار حريتهم، كما يجب أن تسطع الحقيقة أمام أعينهم، ويُسلَّط الضوء في دفعات قوية.
يعكس مستوى الاهتمام الذي انصب على إرهاب الجماعات الصغيرة حجم الصدمة التي تلقتها المؤسسات الغربية من إرهاب هذه الجماعات. وقد شكَّل فيض التحليلات التي أُجريت بحلول ثمانينيات القرن العشرين منظورًا مشوهًا إلى حد بعيد. فكان استمرار نموذج الإرهابي الفرد، باعتباره شابًّا غربيًّا مغتربًا، جديرًا بالملاحظة؛ إذ طمس الأثر الاختزالي لهذا النموذج الدوافع الأكثر عمقًا وتنوعًا وراء العمل الإرهابي، الذي — مثلما أكد المؤرخ الثقافي كاتشج تولوليان — لا يمكن فهمه إلا من خلال عملية تفسير ثقافي. إننا نحتاج إلى فهم «الطريقة التي تحافظ من خلالها المجتمعات المختلفة على رؤيتها لذواتها الجماعية، ومن ثم إنتاج أشكال مختلفة من الإرهاب وأشكال مختلفة من الإرهابيين.» بعبارة أخرى، يعتبر إطار تصور العمل الإرهابي في العصر الحديث في جانب كبير منه عرقيًّا أو قوميًّا، وكل قومية تعد فريدة على المستوى الثقافي. وبالفعل فإن من نفَّذ العمل الإرهابي الرمزي والأكثر شهرة في أوائل القرن العشرين — ألا وهو اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند وريث عرش الإمبراطورية النمساوية-المجرية، في سراييفو في يونيو ١٩١٤ — شخص قومي صربي. كما كان القسط الأعظم من الأعمال الإرهابية اللاحقة (سواء وفق المعايير الحكومية أو وفق المعايير الانتقائية المطبقة هنا) من صنع يد قوميين.
أظهرت الحركات القومية مرونة أكبر — ناهيك عن قدرة تدميرية أكبر — من الجماعات الثورية اليسارية الصغيرة المتشرذمة. تميل هذه الحركات لأن تكون أكبر حجمًا وإلى اجتذاب أعداد أكبر من الأعضاء الجدد، وعلى الرغم من أن «قضية» هذه الجماعات — تحرير أو توحيد الأمة — ليست بالضرورة أكثر قابلية للتطبيق من الحلم الثوري للتحول الاجتماعي الشامل، فقد هيمنت القومية على السياسة الحديثة تحديدًا؛ نظرًا لأنها تتصل بقوة طبيعية دفينة. (في الواقع، يعتبر مبدأ حق تقرير المصير — وهي الفكرة القائلة بضرورة امتلاك الأمم سيادة سياسية من أجل تحقيق تفردها الثقافي — صنيعة فكرية من صنائع القرن التاسع عشر.) وهكذا، لا يجب أن تستسلم قط أي أمة يبدو أن كفاحها محكوم عليه بالفشل من الناحية الموضوعية (مثل الشيشان، أو الأيرلنديين مثلما تعرِّفهم الحركة الجمهورية). في الوقت نفسه، بلغت جماعات عرقية مثل جماعة نمور التاميل (نمور تحرير تاميل إيلام) مستويات سامقة من الإبادة؛ إذ قُتل أكثر من ١٠٠ ألف شخص خلال فترة نشاطهم التي امتدت ٣٣ عامًا.
يقدِّم مثال تولوليان — الأرمن — نموذجًا قويًّا؛ «أحد التجسيدات الفتاكة والمهمة للإرهاب الدولي». يرجع الإرهاب الأرمني الحديث إلى عام ١٨٩٠ (وهي حقبة مهمة في تاريخ الإحياء القومي عبر أوروبا بأسرها)، عندما نظَّم «الطاشناق» («الاتحاد الثوري الأرمني») أنفسهم على غرار الشعبويين. لكن مسار أعمالهم — على غرار كثير من الجماعات الأرمنية اللاحقة؛ لعل أشهرها محاولة الاستيلاء على السفارة التركية في لشبونة من قبل الجيش الثوري الأرمني في عام ١٩٨٣ — شكلته ذاكرة تاريخية طويلة، تعود إلى الصراع الأسطوري بين القائد الأرمني فارتان ضد الفرس حوالي عام ٤٥٠ ميلادية. فقد كان ذلك دفاعًا دينيًّا أكثر منه «قوميًّا»، لكنه اندمج — جنبًا إلى جنب مع الصراعات اللاحقة، خاصة مذابح تسعينيات القرن التاسع عشر و«الإبادة الجماعية» في عام ١٩١٦ — فيما أطلق تولوليان عليه «سردية تصنيفية-تصورية مستقبلية»؛ أي قصة شعب تُحذف منها التغيرات التاريخية للسياق؛ فيصير الماضي والمستقبل كيانًا واحدًا. فعندما تكون الأمة بلا دولة، تعتبر مهمة الحفاظ على الهوية الثقافية أكثر إلحاحًا من أي وقت آخر، كما تصبح الحاجة إلى العمل أكثر بروزًا. «إننا نعلم ما يجب عمله.»
وفق الرؤية القومية للعالم، تتساوى حقوق جميع الأمم، مهما كان حجمها أو موقعها أو قدرتها العملية على البقاء والنجاح. يتمثَّل مناط الأمر في مسألة الوعي؛ ما إذا كان أفراد الأمة نفسها مقتنعون بهويتهم الجمعية مثلما يتصورها القوميون. (خذ مثلًا القلق القومي الأرمني حيال مسألة الاندماج، التي يطلقون عليها تعبير «المذبحة البيضاء»، أو رد الفعل القومي الأيرلندي ضد «الأنجلة».) يُنظَر إلى غياب الوعي القومي باعتباره مؤشرًا على الخطر الثقافي الذي يجب محاربته. ربما يلعب الإرهاب دورًا رائدًا في محاولة الحفاظ على الروح القومية أو «صحوتها»، وفي الصراع المتلازم (وربما الناتج) أيضًا ضد أي حكومة أجنبية أو استعمارية. لكن هناك مشكلة أخرى قد تكون أكثر صعوبة؛ ألا وهي: لا يقتصر ما يعوق حركات التحرير القومية في كثير من الأحيان على الحكومات الأجنبية، بل يشمل أيضًا وجود جماعات عرقية أخرى تعيش في إطار الأراضي الوطنية المفترضة. (يبدو أن العلاقة بين الوحدة المصطنعة اجتماعيًّا — الثقافة — واحتلال الأرض هي التي تقنع الأشخاص بأن الأمة وحدة طبيعية أو حتى مقدسة. لكن نادرًا ما تكون هذه الوحدة كتلة واحدة متناغمة.) ربما تقاوم هذه الجماعات الأخرى دمجها في إطار الأمة المتمردة. في هذه الحالة، ربما يبرز بُعد آخر للإرهاب؛ ألا وهو عملية الذبح الجماعي التي صار يُشار إليها بالتعبير (القومي) المخفف «التطهير العرقي». حتى في حال عدم مقاومة هذه الجماعات، ربما تكون النتيجة واحدة. لا يتسامح القوميون مع التنوع أو التعددية؛ فعلى حد تعبير ناقد شرس: «يحرِّك القومية إرادة غير فعَّالة تسعى إلى تبسيط الأشياء.»
وبمجرد أن تغرس «القضايا» القومية جذورها، نادرًا ما يجري التخلي عنها؛ وفي العصر الحديث — على الرغم من التوقعات بأن العالم يتحرك إلى عصر ما بعد القومية — فإنها تبدو فعليًّا لا يمكن تدميرها. وقد استمر عدد من المجموعات القومية في شن حملات إرهابية مدة جيل أو يزيد؛ ولفهم الأسباب التي تقف وراء ذلك، علينا — ربما إلى حدٍ أبعد مما في الترويع الثوري — أن نحيط بتاريخها.
الجمهورياتية الأيرلندية
لعل أطول هذه الحركات عمرًا حتى الآن هي الحركة الجمهورية الأيرلندية، التي استمرت أحدث حملاتها المسلحة ثلاثين عامًا حتى وقت كتابة هذه السطور، والتي يمكن تتبع جذورها بثقة عبر نصف قرن آخر مضى. على الرغم من اختلاف التكتيكات بمرور الوقت، لا يزال الجيش الجمهوري الأيرلندي — سواء أكان رسميًّا أم مؤقتًا أم مستمرًّا أم حقيقيًّا — يتبع المنطق العملياتي الذي وضعته جماعة الأخوية الثورية الأيرلندية في خمسينيات القرن التاسع عشر. ومن حيث التنظيم والأساليب، يمكن الاعتقاد أن الاستمرارية ربما تضرب بجذورها أكثر في الإرهاب في المناطق الريفية «للمدافعين» الكاثوليكيين في القرن الثامن عشر. (ولا تزال مسألة ما إذا كان هؤلاء يمثلون الشعب الأيرلندي مسألة تتسم بالحساسية السياسية.) من الجدير بالتأمل النظر في أسباب هذا الالتزام الذي لا يحيد باستخدام العنف السياسي.
بدأت جماعة «القوة المادية» الأصلية، الأخوية الثورية الأيرلندية (المعروفة بالعامية باسم الفينيان، وباسم «المنظمة» بين أعضائها)، نشاطَها في حوالي عام ١٨٥٨، باعتبارها جماعة تمردية كلاسيكية، تؤمن في قدرة طليعة مسلحة صغيرة بتحفيز وقيادة الشعب في تمرد عام. واجهت الحركة صعوبتين أساسيتين؛ أولًا: تنظيم صفوفها سرًّا لتفادي المراقبة الشرطية. وثانيًا: اختيار اللحظة المناسبة لرفع راية التمرد. دفعت ضرورات الأمن المنظمة إلى اتباع النمط التنظيمي للماسونيين بالقارة الأوروبية، بوضع تسلسل يتألف من مستويات للالتحاق بالمنظمة يجري السيطرة عليها بعناية. وقد جعلهم هذا — للمفارقة — أشبه بالجماعات الريفية السرية، التي يلتزم أعضاؤها بقسم ولاء مثل جماعة «كابتن مونلايت» التي ناضلت من أجل السيطرة على الأرض في أيرلندا، نضالًا رفضه الفينيان أنفسهم باعتباره يحط من قدر قضية الاستقلال الوطني. أدت السرية القائمة على قسم الولاء إلى الصراع مع الكنيسة الكاثوليكية، التي أدانتهم باعتبارهم تخريبيين متحررين. ومع ذلك، كانت أكبر مشكلات الأخوية هي أن المنظمات السرية ليس بوسعها عمل الكثير لإعداد الشعب للحظة التمرد الفاصلة؛ فكان على الأخوية تعليق آمالها على أنَّ (ما اعتقدوا أنه) الرغبة الشعبية الفطرية لتحقيق الاستقلال الوطني ستكفي لنشر شرارة العمل المسلح، مما يجعل الجماهير تقف في وجه سلاح الحكومة. لكن ذلك لم يتحقق، لا في أيرلندا، ولا في إيطاليا، ولا في أي مكان آخر نظمت فيه الحركات التمردية نفسها في صبر وانتظرت.
كان التحول الجمهوري إلى الإرهاب، الذي ربما كان يُعتقد في حتميته من منظور القرن العشرين، يتسم بالتردد والخلافية بصورة مدهشة. تَبِع فشلَ العمل «العسكري» للفينيان — الفكرة الواعدة ظاهريًّا بإمكانية اختراق بعض الفصائل الأيرلندية من الجيش البريطاني لتأليب جنودها العاديين ضد بريطانيا — بين عامي ١٨٦٤ و١٨٦٦ عملٌ «مذهل»؛ ألا وهو تفجير كليركنويل في عام ١٨٦٧، الذي يمكن اعتباره أول عملية تفجير في منطقة حضرية في العالم، لكنه كان حادثًا عَرَضيًّا ولم يتكرر. ظلت قيادة الفينيان في أيرلندا ملتزمة بمفهوم «الحرب الشريفة» ومعادية للإرهاب، الذي كانوا يربطون بينه وبين الأنشطة المريبة للمنظمات السرية في المناطق الريفية. لكن كان لتفجير كليركنويل أثر أكبر كثيرًا على السياسة البريطانية من أي من الجهود العسكرية «الشريفة» للأخوية الثورية الأيرلندية. ويرجع الفضل لا شك إلى هذا العمل في إجراء عمليتي إصلاح كبيرتين، أطلقهما جلادستون في عام ١٨٦٨ تحت شعار «تهدئة أيرلندا». لم يتأثر المجلس الأعلى للأخوية الثورية الأيرلندية بهذه الإنجازات، التي نظر إليها باعتبارها غير ذات صلة، بل وحتى ضارة بالكفاح من أجل التحرر القومي.
كان هناك جمهوريون أيرلنديون آخرون أقل تطلبًا. تبنت فرق المناوشات التي أسسها أودونوفان روسا وجماعة كلان نا جيل الأيرلندية-الأمريكية أساليب إرهابية صريحة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكانت الأخيرة متأثرة بشدة بالعمل اللاسلطوي والشعبوي. بدا روسَّا (الذي لم يتخل عن استخدام السلاح) متقبلًا لفكرة أنه لو لم يستطع عمل أكثر من «الإضرار بإنجلترا» فسيكون ذلك كافيًا؛ أما جماعة كلان نا جيل فكانت تفضل استخدام القوة القصوى للديناميت. ولكن تفجيراتها في لندن — مع أنها كانت أكبر من تلك التفجيرات في عام ١٨٦٧ — ثبت أثرها الضئيل، خاصة في مثال مبكر على نمط كلاسيكي؛ إذ إنها أسفرت عن تآكل الحريات الإنجليزية التقليدية، وأبرز مثال على ذلك إنشاء أول جهاز للشرطة السياسية في بريطانيا؛ المعروف باسم «الفرع الأيرلندي الخاص». سيرى الاستراتيجيون الإرهابيون الثوريون اللاحقون هذه العملية باعتبارها جزءًا من عملية جعل الصراع يتخذ صورًا أكثر تطرفًا، لكن بالنسبة للجمهوريين الأيرلنديين فقد أخفق البريطانيون في اتخاذ رد فعل مفرط بما فيه الكفاية. ومثَّل عدم القدرة على التنبؤ برد الفعل هنا موطن ضعف أساسي في عملية الترويع.
تعتمد هذه الاستراتيجية على فكرة أن الشعب البريطاني لا يدعم رعاية الحكومة البريطانية لعمليات القتل في أيرلندا، وأن الشعب البريطاني يريد انسحاب القوات البريطانية من أيرلندا، مثلما تُبين استطلاعات الرأي ذلك، وأن الشعب البريطاني لديه القدرة على إجبار الحكومة البريطانية في نهاية المطاف على الانسحاب من أيرلندا؛ نظرًا لارتفاع تكلفة الحرب أو معدل الاستنزاف، أو بسبب ما تخلفه الحرب من انهيار الروح المعنوية وأعراض الإنهاك من الحرب.
مقارنة باستخدام مجموعة كلان لتكنولوجيا المواد شديدة التفجير الجديدة، تم تنفيذ أكثر الأعمال «الإرهابية» الأيرلندية تأثيرًا في ذلك الوقت — عمليات الاغتيال في فينيكس بارك في عام ١٨٨٢ لاثنين من أعضاء الحكومة الأيرلندية البارزين — باستخدام المشارط الجراحية. (وهو ما ساعد — من بين أشياء أخرى — في ضمان ألا يسير الوزراء في المستقبل دون حراسة.) في المقابل أيضًا، كان من الصعوبة بمكان فك شفرة الرسالة السياسية لهذا العمل؛ نظرًا لأن جماعة «الأيرلنديين القوميين الذين لا يقهرون» لم تنفذ أي عملية أخرى أو تصدر بيانًا سياسيًّا من أي نوع. إذا كان قتل صهر جلادستون دفعه في اتجاه حركة «الحكم الذاتي»، فهل كان ذلك ما أرادته جماعة الأيرلنديين القوميين الذين لا يقهرون؟
أدى فشل حملة جماعة كلان التي كانت تشنها باستخدام الديناميت إلى توقف العمل العنيف المباشر للحركة الأيرلندية-الأمريكية في بريطانيا بصورة كاملة، مقارنة بالمرونة الفائقة التي تمتعت بها حركة «القوة المادية» في أيرلندا نفسها. (كانت الحركة تستخدم شعار «شعلة العنقاء» القوي، وهي الشعلة التي تعود إلى جذوتها مرة أخرى من بين الرماد.) تزامن انهيار الحركة في مطلع القرن تقريبًا — وهو الانهيار الذي كان جليًّا إلى درجة أن الجميع تقريبًا أسقطها من حساباته — مع عملية إعادة بث الحياة والتوجيه الكبرى للهوية الثقافية الأيرلندية في صورة إحياء الثقافة الجَيلية (اللغة والثقافة الأيرلندية). مثَّل التمرد الكبير في دبلن في عام ١٩١٦ مزيجًا بين التنظيم القديم والأهداف العرقية الصريحة، التي صاغها باتريك بيرس «إن أيرلندا ليست حرة فحسب، بل جَيلية أيضًا.» في كتابات بيرس، يبرز بشدة «النداء المتردد الذي يخلط بين التاريخ والسياق والفروقات الطفيفة»، الذي يشير إليه تولوليان باعتباره جوهر الأيديولوجية القومية. كانت دعوة بيرس إلى استخدام العنف أيضًا مشربة بمثال «اختيار الموت عن وعي»، وهي فكرة جوهرية في قصة فارتان الأرمني، مثلما كانت شهادة السجناء الجمهوريين المضربين عن الطعام بعد فشل انتفاضتهم، ومن أشهرهم توماس آشي في عام ١٩١٧ وتيرنس مكسويني في عام ١٩٢٠.
على الرغم من أن التزام الحركة الجمهورياتية الأيرلندية بالقوة المادية كان متسقًا، كان تناقضها حيال الأساليب الإرهابية يرجع جزئيًّا إلى عدم الدقة في تفكيرها حول جدوى العنف في حد ذاته. هل كان الهدف من العمل العنيف «إلحاق الضرر بإنجلترا»، على أمل أن تمل بريطانيا في نهاية المطاف وترحل عن أيرلندا، أم أن أعمال العنف بإمكانها طرد العدو مباشرة خارج البلاد؟ ونظرًا للتفاوت الهائل في القوة المتاحة لدى الطرفين، كانت الفكرة الثانية انتحارية بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن يبدو أن ذلك كان ما يدفع معظم «من يقومون بأعمال القوة المادية». على سبيل المثال، لم تظهر الأبحاث حول حملات الجيش الجمهوري الأيرلندي في الأرض الأم سوى القليل من الشواهد فيما يتعلق بالتفكير في آثار القيام «بعمليات خارجية»، اللهم إلا الحاجة إلى «القيام بإجراء ما» والرغبة في «إذاقتها الكأس نفسها التي تذيقها لأيرلندا»، مثلما قال أحد مشعلي النيران أثناء العمليات الإرهابية في مانشستر في أبريل ١٩٢١. وكان كاثال بروجا يضع المخططات الإرهابية الوحشية، بينما كان مايكل كولينز — الذي كان يستخدم اختبارًا أكثر واقعية لجدوى هذه المخططات — يتدخل باستمرار للحيلولة دون تنفيذها.
في المقابل، كانت فعالية الإرهاب ضد «الجواسيس والمرشدين» عاملًا محوريًّا في استمرار حملات حرب عصابات الجمهوريين في الريف الأيرلندي؛ حيث استُوعبت قواعد الترهيب في المناطق الريفية في إطار المنطق الجديد للقومية. ولعل الأمر الأكثر أهمية، أن عنف الجيش الجمهوري الأيرلندي استفز البريطانيين ودفعهم للقيام بترويع مضاد، أسفر بدوره عن القضاء على ما تبقى من شرعية الحكومة. فصارت قوة «بلاك آند تانز» — وهي قوة شبه عسكرية مؤقتة جُنِّدت في بريطانيا — أمثولة على كيف يجب ألا تحارب جماعة تمرد حديثة. فعلى الرغم من نجاحهم في إقناع الجمهور الأيرلندي بأن ينأى بنفسه عن أنشطة الجيش الجمهوري الأيرلندي، أثارت أساليبهم عاصفة من النقد العام. بحلول عام ١٩٢١، كان يمكن للجيش الجمهوري الأيرلندي أن يزعم أنه استطاع الصمود أمام أسوأ ما يمكن أن تضره به الإمبراطورية البريطانية؛ فأصبح صموده منارة أمل لحركات المقاومة القومية في جميع أنحاء العالم. لكن — وفقًا لمعاييره — فإن الجمهورياتية قد فشلت. وبعد الانفصال والحرب الأهلية بين عامي ١٩٢٢ و١٩٢٣، ترك الجيش الجمهوري الأيرلندي السياسة، وشن حملتين إرهابيتين بوضوح: حملة تفجير «الأرض الأم» بين عامي ١٩٣٨ و١٩٣٩، والحملة الحدودية بين عامي ١٩٥٦ و١٩٦٢. انقضت كلتا الحملتين دون أن تسفرا عن قلاقل كبرى. بحلول منتصف ستينيات القرن العشرين، صارت فكرة «القوة المادية» أكثر تهميشًا من أي وقت مضى في تاريخها. وكان من المستحيل التنبؤ بإحياء العمل الإرهابي في سبعينيات القرن العشرين. وقعت الأحداث الإرهابية إثر الانهيار الفوضوي لجماعة الاتحاديين المهيمنة في أيرلندا الشمالية في مواجهة المطالبات بالإصلاح. ظهر الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت باعتباره قوة دفاعية جماعية في عام ١٩٧٠، ويمكن النظر إليه باعتباره جبهة تحرير قومية مع وجود جانب إرهابي في بعض أعمالها، أكثر من اعتباره منظمة إرهابية. صاحب عددًا من «الأعمال الإرهابية الكبرى» سلسلة من عمليات الاغتيال في الشوارع، التي كانت في جوهرها طائفية وتمثل أعمالًا انتقامية متبادلة بين الجمهوريين والجماعات الموالية للعرش البريطاني شبه المسلحة، أكثر من كونها محاولة جادة للتأثير على الرأي العام.
ظلت المرونة التنظيمية للجيش الجمهوري الأيرلندي لافتة، ويرجع ذلك لأسباب متنوعة: ربما كان أهم هذه الأسباب أن عدد المتطوعين اللازم لتنفيذ العمليات في أي وقت هو بضع مئات، ولم تكن عملية تجنيد المتطوعين صعبة على الإطلاق؛ نظرًا لسمعة المنظمة الراسخة في المجتمع القومي. لقد تجاوزت قوة صورتها الذاتية باعتبارها جيش الشعب (بالمعنى القومي لا بالمعنى الذي كان يقصده ماو، على الرغم من إغراء دمج المعنيين في بعض الأحيان) عملية إحلالها ببنية عسكرية تقليدية من خلال تنظيم ذاتها في صورة خلايا منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين فصاعدًا. (مثلما يشير «الكتاب الأخضر» لمجلس الجيش الجمهوري الأيرلندي، «يتمثل الولاء للجيش في الإيمان التام بالجيش … وأن الجيش هو الممثل المباشر لبرلمان عام ١٩١٨».) يزكي هذا الإيمان الذاتي الأسطورة التاريخية القوية، ويرسخه النجاحات المعاصرة، وهو ما يولِّد إيمانًا قويًّا بالقضية: العدالة المجردة للقضية وجدواها العملية (على الرغم من وجود أدلة طويلة المدى على العكس)، يدعم ذلك اعتقاد أن الوحدة والأخوية الضرورية للشعب الأيرلندي (بما في ذلك الكثيرين ممن ينكرون هذا الولاء) لا يفت في عضدها سوى التدخل البريطاني المتعمد. وكما خلُص أحد المحققين: «يقدِّم عدد قليل نسبيًّا من الأفراد تبريرات سياسية معقدة للعنف، لكن يدلل الجميع على قوة ما لا يمكن وصفه إلا بأنه إيمان بصحة أفعالهم.»
تعتبر عملية إعادة هذه المنظمة إلى دائرة العمل السياسي مرة أخرى مسألة معقدة. على الرغم من أن الحكومة البريطانية أعلنت عن هذا صراحة باعتباره هدفها (حث الجمهوريين على نبذ العنف)، كان لسياستها أثر مضاد؛ فقد بذلت الحكومة البريطانية جهودًا مضنية في إلصاق صفة «الإرهابي» بالجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، من خلال سياسة «التجريم» في أواخر سبعينيات القرن العشرين، بدءًا بسحب الوضع السياسي الممنوح للمعتقلين الجمهوريين. (في حقيقة الأمر، كان مفهوم «الوضع السياسي» مشكوكًا فيه في القانون البريطاني — وهي مسألة شددت عليها السيدة تاتشر مرارًا من خلال شعارها «الجريمة هي الجريمة» — لكن جاء قرار تحويل هذا الأمر إلى قضية كبيرة في غاية الأهمية.) وقد جاء رد فعل الجيش الجمهوري الأيرلندي — متمثلًا في حملة الإضراب عن الطعام — ليعلن أيضًا عزمه على التأكيد على مكانته كمقاتل. وعلى الرغم من إعداد بعض التحليلات، التي من شأنها تصنيف الإضراب عن الطعام باعتباره عملًا إرهابيًّا، كانت نظرة العامة إلى التضحية الذاتية أكثر التباسًا (ربما هي مشاعر الرهبة مشوبة بالإعجاب، أكثر من الخوف)، وكان من ثمار الصراع الهزيمة الأخلاقية للحكومة التي مهدت الطريق أمام العودة الحذرة للقيادة التي تؤمن باستخدام القوة المادية في مجال السياسة، وهي المسألة التي لا تزال عواقبها غير مأمونة.
عنف أم سياسة: إيتا
ميزت العلاقة الملتبسة مع السياسة أيضًا موقف أكثر المنظمات الإرهابية العرقية الأخرى تصميمًا في أوروبا عبر الجيل الماضي، منظمة إقليم الباسك الانفصالية (منظمة الأرض والحرية المعروفة اختصارًا باسم «إيتا»). عرَّفت إيتا — التي تأسست في عام ١٩٥٩، لكنها على غرار الجيش الجمهوري الأيرلندي تقوم على إرث حركة مقاومة ثقافية بعيدة الجذور (بالإضافة إلى معتقد كاثوليكي قوي) — نفسها باعتبارها حركة تحرير قومي وليست حزبًا سياسيًّا. وقد انخرطت منظمة إيتا بصورة أكثر مباشرة مع مسألة الهوية القومية لإقليم الباسك، أكثر مما ركَّز الجيش الجمهوري الأيرلندي جهوده على «الهوية الأيرلندية» (وهو أمر لم يبدِ الجيش الجمهوري رغبة قوية في التركيز عليه). تدفق المهاجرون (من إسبانيا) إلى إقليم الباسك — مثلما هو الحال في أيرلندا، وإن كان لأسباب مختلفة — منجذبين في ذلك بالتطور الاقتصادي السريع في القرن التاسع عشر. تخلَّت إيتا عن النظريات العرقية القديمة، كما عارضت أي بُعد ديني في صراعها من خلال تبني موقف علماني صارم؛ فقد كان الهدف هو استيعاب أي شخص مستعد لاستخدام لغة إقليم الباسك. (وقد تبنت هذا الاتجاه في أيرلندا حركة اللغة الجَيلية بنهاية القرن التاسع عشر، لكن في ذلك الوقت كان الأيرلنديون أنفسهم قد هجروا اللغة ولم يُقنَعوا باستخدامها مرة أخرى.)
تعتبر منظمة إيتا — بلاغيًّا على الأقل — حركة ثورية اشتراكية قدر ما هي حركة قومية، لكن على الرغم من أنها كانت تفرض «ضرائب ثورية» تحت تهديد السلاح، كانت هجماتها الموجهة إلى ممثلي الدولة الإسبانية أكثر من الموجهة إلى رجال الصناعة الرأسماليين الذين كانوا يتعرضون للانتقاد في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من أن إيتا لم تكن مستعدة أكثر من أي منظمة معاصرة أخرى لقبول وصف إرهابية، فإن عملية التحكم في عناية في إيقاع حملاتها والطبيعة الرمزية لأهدافها المنتقاة، جعلها بعيدة عن ممارسات الجيش الجمهوري الأيرلندي، الذي شارفت ممارسته على الاقتراب من شكل تمرد حرب العصابات. في الفترة من بداية الحملة العسكرية في يونيو ١٩٦٨ إلى نهاية عام ١٩٨٠ (وهي الفترة التي يخضعها روبرت كلارك للتحليل في عام ١٩٨٤)، قتلت الحركة ٢٨٧ شخصًا وأصابت حوالي ٤٠٠ آخرين. من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن عددًا محدودًا من هذه الخسائر البشرية جرت تحت حكم الجنرال فرانكو: إذ تسارعت معدلات عمليات إيتا بعد انتخاب أول برلمان ديمقراطي في عام ١٩٧٧، ووصلت عملياتها إلى ذروتها مع منح إقليم الباسك الحكم الذاتي وانتخاب أعضاء برلمان إقليم الباسك في عام ١٩٨٠، وهو العام الذي قتلت الحركة فيه حوالي ١٠٠ شخص. وقد ظل لجوء الحركة للهجمات العشوائية مسألة محدودة (بالرغم من مقدار الصدمة التي سببتها هذه الهجمات، مثلما حدث في تفجيرات مطار مدريد ومحطات السكك الحديدية في يوليو ١٩٧٩). إجمالًا، كانت عمليات استهداف منظمة إيتا تركِّز بصورة أساسية على وكالة «جوارديا سيفيل» (الحرس المدني) والشرطة. أظهرت الحركة تفضيلًا لافتًا لاستخدام الأسلحة الدقيقة نسبيًّا — مثل الأسلحة الصغيرة عوضًا عن المواد المتفجرة — وعزمًا متكررًا على مهاجمة المسئولين وكبار الضباط، الذين كان أعلاهم رتبة الأدميرال كاريرو بلانكو في عام ١٩٧٣ وغيره، بما في ذلك الحكام العسكريون لمدريد وإقليم جيبوثكوا في عام ١٩٧٩. لكنها أحدثت صدمة كبيرة من خلال اختطاف أحد الأعضاء المحليين المغمورين لحزب بارتيدو بوبيلار الحاكم في يوليو ١٩٩٧، وقتْله عندما رفضت الحكومة طلبها نقل سجناء الحركة إلى دولة الباسك.
ماذا حققت الحركة؟ ربما أدى مقتل كاريرو بلانكو — أحد أكثر عمليات الاغتيال إثارة على الإطلاق، إذ فُجِّرت سيارة رئيس الوزراء بِلَغم هائل حتى إنها ارتفعت ٧٠ قدمًا في الهواء — إلى القضاء على نظام الجنرال فرانكو. لكن لم تُبدِ منظمة إيتا تعاطفًا مع النظام الديمقراطي الإسباني الذي تبع ذلك، بل تميزت هجماتها بِسِمات الإرهاب «الكلاسيكي»؛ إذ كانت تنفذ عملياتها على حدود العمل السياسي على افتراض أنها يمكنها التواصل مع حقائق أعمق. رفضت منظمة إيتا تنازلات تجاوزت كثيرًا الإصلاحات التي أبدى الشعبويون استعدادًا لقبولها، والتي كان الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت سيقبلها. (أو على الأقل هذا هو ما فعله الجناح العسكري للحركة، أما الجناح «العسكري السياسي»، فقد قبل مبدأ الدستورية إلى حد بعيد، كما تجاوب العديد من أعضائه مع دعوات العفو العام الرسمية، التي تتضمن السماح لأعضاء الحركة «بالعودة» إلى صفوف المجتمع شريطة نبذ العنف.) ومثلما هو الحال في أيرلندا، هناك فجوة عميقة بين القوميين الذين يمكن أن يقبلوا بنوع من الاستقلال الذاتي، وأولئك الذين يتمسكون بمبدأ الانفصال المحض. فعلى حد تعبير إحدى القياديات النسائية لمنظمة إيتا «إذا لم نناضل، فسينتهي شعب الباسك.» لا تزال القوة الجذابة لمبدأ الانفصال تتمتع بزخم كبير، لا سيما بالنسبة لشباب إقليم الباسك.
في بعض الأحيان تقر إيتا بأخطائها، مثلما حدث عندما قدمت اعتذارها بعد تفجير أحد المتاجر في مدريد في عام ١٩٨٧. لكن وحشيتها كانت مروعة بنفس درجة تنظيمها الداخلي. على غرار الجيش الجمهوري الأيرلندي، أعلنت الحركة عن عدد من الهُدَن ووقف العمليات المسلحة خلال حملتها العنيفة التي امتدت خمسين عامًا، لكن لم تؤخذ أي من هذه المبادرات على محمل الجدية بما يكفي للسماح بإحراز تقدم في المفاوضات السياسية، وكان يُنظر إلى الحركة باعتبارها حركة عسكرية غير قابلة لتغيير عقيدتها. ظهر عداء الدولة الإسبانية العميق لحركة الانفصال المسلح عندما حاولت الحكومة — دون وجود أي دليل على الإطلاق — إلصاق تهمة تفجيرات قطار مدريد في عام ٢٠٠٤ بمنظمة إيتا. في مارس ٢٠٠٦، ومرة أخرى في سبتمبر ٢٠١٠، أعلنت الحركة عن عدة مبادرات لوقف العمل المسلح، كان آخرها في يناير ٢٠١١ عندما أعلنت الحركة عن عملية وقف إطلاق نار «دائمة». (زعم حزب شين فين تحت قيادة جيري آدامز أنه ساهم في إقناع الحركة بالعودة إلى العملية السياسية.)
كانت منظمة إيتا حركة غير تقليدية بين الحركات القومية في حرصها الدءوب على تجنب استهداف الجماعات العرقية الأخرى، وهو شيء فشل الجيش الجمهوري الأيرلندي في تحقيقه (فيما يعترض الجيش الجمهوري الأيرلندي ويؤكد حرصه على ذلك؛ إذ يبرر الاعتداء على البروتستانتيين ليس باعتبارهم بروتستانتيين أو أجانب، وإنما باعتبارهم أعضاء قوات أمنية أو متعاونين؛ وهو أمر يصعب تصديقه في تفجيرات مدينتي أنيسكلين أو أوماه). يعتبر الجيش الجمهوري الأيرلندي مثالًا أكثر تقليدية على ذلك. يتطلب منطق التحرير القومي، مهما كان خطابه ليبراليًّا، وجود مجتمع قومي متماسك يُعرَّف بالضرورة في مقابل الجماعات الأخرى. وتعتبر عملية حماية هذه الحصرية هي جوهر مفهوم القومية. (على الرغم من وجود ثوريين اشتراكيين — مثل كونولي — آمنوا بأن التحرير القومي يمثِّل الخطوة الأولى في اتجاه تحقيق الأخوة الدولية، لكن أُصيب هؤلاء جميعًا بخيبة الأمل.) ومن ثم، تصبح إمكانية تحول العنف، ليس فقط ضد الدول التي تمارس القمع بل ضد الجماعات العرقية الأخرى، أيضًا مسألة مطروحة.
لم يظهر الترويع العرقي دلائل قوية على الاختفاء في القرن العشرين، إن لم يكن العكس. في بلفاست — على سبيل المثال — ظل العنف الجماعي الذي بدأ في يوليو عام ١٩٢٠ يظهر ويختفي مدة عامين، وأدى إلى مقتل عدد من الأشخاص أكثر ممن قُتلوا في جميع أعمال الشغب خلال القرن التاسع عشر جميعًا. طُردت الآلاف من العائلات الكاثوليكية — «القومية» — من منازلها من خلال أعمال الحرق والاعتداءات، مع قيام الأغلبية البروتستانتية بتطهير حدود أحيائها. تكرر الأمر نفسه على مدى زمني أطول بعد عام ١٩٦٨؛ وحتى عندما بدا أن «عملية السلام» بدأت في الوقوف على أرض صلبة مع دخول الألفية الجديدة تقريبًا، تفجَّر صراع إقليمي شرس حول التحاق أطفال كاثوليكيين بمدرسة ابتدائية في أردوين. هل كان ذلك إرهابًا أم — مثلما قد يقول البعض — مجرد ترويع عام؟ يعتبر العنف غير مباشر وترهيبيًّا بقدر ما هو قسري، بالطبع، على الرغم من أن النية هنا لا تتمثل في تغيير العقيدة، وإنما في طرد أولئك الذين يتعاطفون مع الضحايا. لكن لا توجد دلائل قوية على التخطيط أو التنظيم المتعمَّد. ربما تبلغ اللغة هنا حدودها المفيدة؛ عندما يترسَّخ الخوف والشك، لا توجد حاجة أو حتى إمكانية للتفكير الاستراتيجي؛ إذ يصير الفعل انعكاسيًّا وغريزيًّا. (وهو ما يتفق تقريبًا مع توجيه بسمارك المميت: «أيها الألمان! فكروا بدمائكم!»)
الصهيونية ومشكلة الأرض
تبرز إمكانية أن يتولَّد عن القومية إرهاب ذو حدين بجلاء في تاريخ الصهيونية في فلسطين. تضمنت الفكرة الصهيونية — القائلة «بعودة» الشتات اليهودي إلى أرض إسرائيل — كلًّا من الأهداف المركزية للقومية الحديثة: الإدراك الذاتي الروحي للأمة «الثقافية»، وتحقيق الأمن المادي ضد عناصر التهديد الخارجية. (كان الأمن بصورة خاصة، بالنسبة لليهود في أوروبا الشرقية، يقع تحت التهديد دائمًا.) وعندما تعهدت بريطانيا من خلال إعلان بلفور في عام ١٩١٧ «بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي على أرض فلسطين»، لم تدرك بريطانيا التداعيات الكاملة لهذه الأهداف، أو صعوبة تحقيقها في مواجهة المقاومة العربية. كان يمكن تحقيق الأمن اليهودي من خلال طريقين: من خلال كسب صداقة السكان العرب، أو من خلال تحييدهم، إن لم يكن التخلص منهم. اتبعت أقلية صهيونية (أبرزهم جماعة بريت شالوم الصغيرة) المسار الأول، فيما أصرت أقلية أخرى (حركة «الصهيونية التصحيحية» تحت قيادة فلاديمير جابوتنسكي) على ضرورة استعداد اليهود للكفاح من أجل إنشاء دولة لليهود. أما الأغلبية فكانت تأمل في أن تسير الأمور على نحو أفضل وحسب.
كانت المنظمة الصهيونية الدولية والغالبية العظمى من اليشوف (المجتمع اليهودي الذي كان يعيش في فلسطين في ذلك الوقت) ملتزمين بالاعتماد على بريطانيا، لكن سرعان ما سارع هؤلاء إلى إنشاء قوة دفاع شبه مفتوحة (الهاجاناة) كرد فعل على الهجمات العربية الأولى على المستعمرات اليهودية في عام ١٩٢٠. شكَّل تكرار تلك الهجمات في عام ١٩٢١، ثم بصورة أكثر عنفًا في عام ١٩٢٩، أزمة هائلة للصهاينة المعتدلين؛ إذ واجهت الحركة خيار التخلي عن المشروع بأكمله المتمثل في بناء «وطن قومي» في فلسطين، أو القبول بأنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا عن طريق القوة. اضطرت الغالبية العظمى في نهاية المطاف إلى قبول هذا؛ بسبب سياسة بريطانيا غير النبيلة خلال محرقة الهولوكوست، لكن كانت حركة الصهيونية التصحيحية مستعدة للمواجهة الحاسمة قبل وقت طويل من بلوغ تعداد سكان المجتمع اليهودي في فلسطين ثلث تعداد السكان. بالطبع كانت ستُشن حملة إرهابية يهودية كبيرة خلال التمرد العربي بين عامي ١٩٣٦–١٩٣٩، لولا أن العنف العربي كان موجهًا بصورة أساسية نحو السلطات البريطانية؛ فكان الإرهاب الذي ظهر آنذاك من قبل مقاتلي حرب العصابات العرب — «المجاهدين» — نحو منافسيهم على قيادة الشعب الفلسطيني العربي، وهو ترويع لدعم الوجود الداخلي.
إذا كان السؤال هو: هل من الممكن تحقيق التحرير من خلال الترويع؟ فإن الإجابة هي: لا! أما إذا كان السؤال هو: هل تسهم هذه الأعمال في جعل التحرير أقرب منالًا؟ فإن الإجابة هي: نعم!
لا تستهدف الحركة الأشخاص بل ممثلي السلطات، ومن ثم تتسم أعمال الحركة بالفعالية. وإذا أسهمت الحركة أيضًا في زعزعة أواصر إذعان العامة، فسيكون الأمر أفضل كثيرًا.
في حقيقة الأمر، أثبتت الحركة قدرتها على عمل ما هو أكثر من التقديرات الحذرة. فحقيقة أن اللورد موين نفسه — وهو مندوب استعماري سابق كان يشرف على سياسة بريطانيا في إبعاد اللاجئين اليهود عن فلسطين (ومن ثم كان يُنظر إليه باعتباره هدفًا مشروعًا) — كان صديقًا لونستون تشرشل — الذي كان على الأرجح السياسي الكبير البريطاني البارز الوحيد المتبقي المؤيد للصهيونية — ضخَّمت من أثر عملية اغتياله. فيما تخلى تشرشل عن خطط تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية، مطلِقًا تحذيرات تعِد بالويل والثبور بإنهاء الحلم الصهيوني «في غمار أدخنة بنادق القتلة»، كانت حركة الصهيونية التصحيحية قد أسقطت من حساباتها الصداقة البريطانية منذ وقت طويل باعتبارها غير مفيدة. وقد لعبت أعمال العنف التي مارستها الجماعة دورًا بارزًا في التفاف معظم أعضاء اليشوف حول رؤيتهم. وهنا تأكد الجدل الإرهابي الكلاسيكي القائل إن القمع الحكومي سيدفع بالناس إلى اتخاذ جانب الإرهابيين (مثلما حدث أيضًا في أيرلندا بين عامي ١٩٢٠ و١٩٢١.) فقد أثبت البريطانيون عدمَ كفاءةٍ وغيابَ حزمٍ غير متوقعين من جهة قمعية، فضلًا عن انخفاض روحهم المعنوية بسرعة بسبب حيوية وضراوة الحملات اليهودية. وعندما رحل البريطانيون عن فلسطين في عام ١٩٤٨، كان ذلك بطريقة خلَّفت أقصى قدر ممكن من الفوضى، وهو موقف كان الإرهابيون في وضع مثالي لاستغلاله.
تبرز صعوبة الكتابة بموضوعية حول الإرهاب بصورة واضحة، في حقيقة أن تلك الدراسات التي تقدِّم وصفًا واضحًا ونقديًّا للحملات الإرهابية اليهودية، لا تلبث أن تصل إلى طريق مسدود عند بلوغها مسألة القرار البريطاني بالانسحاب من فلسطين. (لا تأتي الأعمال المتحيزة مثل تلك التي نشرها نتنياهو — التي تبرز بشدة في الأدبيات المنشورة — على أي ذكر للإرهاب اليهودي؛ فبالنسبة لهم الإرهاب في فلسطين ما هو إلا إرهاب عربي بصورة حصرية.) لكن تعد الحملات التالية التي شنتها منظمة التحرير الفلسطينية غير مفهومة على الإطلاق بالمعنى الحرفي للكلمة دون فهم الفترة التالية المروعة، التي زادت فيها الدولة اليهودية كثيرًا من نصيبها (وهو النصيب الذي حصلت عليه من خلال لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة) من الأراضي الفلسطينية وانهيار الدولة الفلسطينية العربية. يصنِّف معظم الكتاب هذا الصراع باعتباره حربًا، حربًا دولية أكثر من كونها حربًا أهلية، وهو ما يعكس خرافة تأسيس الدولة الإسرائيلية التي تشير إلى أنها هوجمت من قبل عدد كبير من الدول العربية. في صراع الموت والحياة هذا، صار السكان العرب في فلسطين أهدافًا مشروعة. وبينما كان هناك سبب عسكري بالفعل لاحتلال قرى مثل دير ياسين، لم تكن هناك أي أسباب للمذبحة التي وقعت لساكنيها (الذين كان من المعروف أنهم مسالمون)، باستثناء الاعتقاد أن كل شخص عربي يمثل تهديدًا. فإذا كانت هذه حربًا بالفعل، فإن ما حدث يعد جرائم حرب. لكن الأمر كان أكثر من ذلك، لقد كان ذلك نهجًا نظاميًّا. فقد نُفذ هجوم دير ياسين على يد أعضاء منظمتي إرجون وليهي، وهما منظمتان لا يعترف بهما القادة الصهاينة الرسميون؛ لكن بعد دمج الإرهابيين السابقين («المنشقين» باستخدام اللغة الرسمية) وكذلك منظمتي الهاجاناة وبالماح في الجيش الإسرائيلي الجديد، استمرت حملات التطهير العنيفة ضد المجتمعات العربية. (كان أحد المطرودين المسيحي جورج حبش من مدينة اللد، الذي صار لاحقًا قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.) وقد أسفر بث الترويع عن موجة متزايدة من اللاجئين الذين أصبحوا الضحايا الدائمين «للنكبة».
هل يحرر الإرهاب الأمم؟
أثبت الإرهاب اليهودي أنه أقوى من خصميه الرئيسيين، لكن كانت هذه النتيجة نادرة حقًّا. على النقيض، كانت حملات منظمة التحرير الفلسطينية ونظيرتها الأكثر تطرفًا، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أطول عمرًا من حملات منظمتي إرجون وليهي، لكنهما كانتا أقل نجاحًا بكثير. بل ويمكن القول إنها جاءت بنتائج عكسية؛ إذ صار الوضع العام لعرب فلسطين أسوأ كثيرًا مما كان عليه عند بداية الحملة الإرهابية «الدولية» في عام ١٩٦٩. [في مقابل ذلك، كان هناك مكسب رمزي، ألا وهو تأسيس الإدارة التي تسيطر عليها منظمة التحرير الفلسطينية في غزة وأريحا.] لا شك أن استخدام الإرهاب الذي أحدث صدى هائلًا في سبعينيات القرن العشرين، جذب أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية بصورة لم ينجح في تحقيقها عقدان من المعاناة في صمت.
في حقيقة الأمر، بدأ العمل الإرهابي عن طريق اللاجئين الفلسطينيين منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين، لكن تمثلت النتيجة الرئيسية لذلك في استفزاز إجراءات عسكرية إسرائيلية كبرى؛ وهو ما أدى في النهاية إلى نشوب حربي ١٩٥٦ و١٩٦٧. وكما أشار جورج حبش قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تَجاهَل العالم هاتين الحربين. أما اختطاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لإحدى طائرات شركة العال في ٢٢ يوليو ١٩٦٨، فكان أمرًا مختلفًا اختلافًا جذريًّا، وكما تفاخر حبش قائلًا في عام ١٩٧٠: «عندما نختطف طائرة، يكون للأمر أثر أكبر مما لو قتلنا مائة شخص إسرائيلي في معركة. فالعالم بأسره يتحدث عنا الآن.» لكن صار حديث العالم هذا يصم الآذان بعد وقوع حادثة يمكن اعتبارها العمل الإرهابي الأكثر رمزية في أواخر القرن العشرين؛ ألا وهو احتجاز الرياضيين الإسرائيليين في دورة الألعاب الأوليمبية في ميونخ عام ١٩٧٢. كان رد الفعل الدولي أكبر كثيرًا: فمن جانب، اعتُرِف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها نوعًا من الحكومة في المنفى، وعلى الجانب الآخر اتسع نطاق تطبيق الإجراءات الأمنية المكلفة والمرهقة، التي قد تكون خطرة أيضًا (انظر الفصل السابع). أما أثر هذه العمليات على السياسة الإسرائيلية — التي استجابت (في اتساق مع طريقة تفكير حركة الصهيونية التصحيحية) من خلال «رد انتقامي» متقارب وغير متكافئ، فضلًا عن استمرار استعمار الأراضي التي احتُلَّت في عام ١٩٦٧ — فكان أقل وضوحًا.
ومن ثم، فإن النجاح القاطع للإرهاب الصهيوني في إقامة دولة يهودية حُدِّد على المدى الطويل بأنه إرث من العنف، خلَّفته (مثلما هو الحال في أيرلندا) عملية التقسيم. كان التقسيم نفسه أيضًا نتاج الحملة شبه الناجحة للمنظمة الوطنية للنضال في قبرص (إيوكا) في خمسينيات القرن العشرين. كان اسم المنظمة، بالإضافة إلى أنها تجمع بين ما هو عرقي وما هو قومي، تشير إلى افتقارها لتعاطف السكان الأتراك في قبرص. على الرغم من الفعالية الفائقة لحملات المنظمة الإرهابية التي اتخذت صورة حرب عصابات في تقويض السلطة البريطانية، فشلت المنظمة في تحقيق هدفها السياسي المعلن «الاتحاد مع اليونان» أو هدفها الأساسي — غير المعلن — المتمثل في تحرير الجزيرة بالكامل.
بدأت فعالية الإرهاب في تحقيق التحرير القومي أيضًا في الظهور في حرب الاستقلال الجزائرية. رفعت جبهة التحرير الوطني راية التمرد في عام ١٩٥٤، لكنها كانت تحرز تقدمًا بطيئًا حتى تبنت في عام ١٩٦٦ المنطق الإرهابي الذي كان يدعو إليه ويدعمه رمضان عبان. كان عبان يرى أن تنفيذ عملية قتل واحدة في الجزائر العاصمة — حيث ستغطيه الصحافة الأمريكية — أكثر فعالية من عشر عمليات تنفَّذ في المناطق الريفية النائية، كما أصر عبان على أن أخلاقية الإرهاب توازي قمع الحكومة، فكان يقول: «لا أرى فارقًا كبيرًا بين فتاة تزرع قنبلة في مقهى ميلك-بار، وطيَّار يلقي قنبلة على قرية أو يلقي بالنابلم على «منطقة محظورة».»
خلصت عملية التقييم الأكثر حرصًا ويقظة لإرهاب جبهة التحرير الوطني إلى أن الإرهاب «كان جزءًا لا يتجزأ من الثورة». «حقق الإرهاب أهدافًا سياسية كبيرة»، وهو ما حافظ على المصداقية الشعبية والتماسك الداخلي لجبهة التحرير الوطني، وساعد على تقويض النظام الاستعماري، ورسخ «صورة القوة والإرادة» لجبهة التحرير الوطني «في الخارج». لكن رغم ما حققه إرهاب جبهة التحرير الوطني من أثر، فقد كان جزءًا من حملة أوسع، بما في ذلك حرب العصابات في المناطق الريفية، والأساليب غير العنيفة، وإقامة حكومة مضادة «كانت أكثر كفاءة من الإدارة الفرنسية». (وهو ما يعتبر تشابهًا مهمًّا مع حملة الجيش الجمهوري الأيرلندي بين عامي ١٩١٩ و١٩٢١.) وقد كان الإرهاب فعَّالًا بصورة خاصة في إطلاق حملات التمرد، لكن جرى الاستمرار في استخدامه عندما لم يكن ذلك ضروريًّا أو ذا جدوى. يبدو أن ذلك يشير إلى خطر تأصُّل العادة الإرهابية لدى المنظمات، لما يتميز به الإرهاب من انخفاض التكلفة وإنتاج آثار واسعة النطاق. وفي حالة حدوث ذلك، ربما يكون ثمن الحرية أكبر كثيرًا مما يبدو للوهلة الأولى: ربما يؤدي العمل الإرهابي — مثلما أشار المحلَّف ريتشارد فولك — إلى «تداعيات فساد يتردد صداها لعقود.» وبنهاية القرن العشرين، كانت الحكومة الجزائرية تواجه العام الثامن من الحملة «الإرهابية» التي تشنها الجماعة الإسلامية المسلحة والجماعة السلفية للدعوة والجهاد. ووفقًا للأرقام الرسمية، أسفرت حملات هاتين الجماعتين عن مقتل ما لا يقل عن ١٠٠ ألف شخص.
مع اقتراب الظهيرة، قمت بجولة سريعة في المدينة. بدا الناس متوترين، مستعدين للتعامل مع أي جنون، أي غضب، أي حماقة. وسط الزحام، تولَّد لدي انطباع بالرعب، كما لو كنت أعيش في كابوس. تخيِّم علينا لعنة غير محددة … عند كل عملية إعدام لأحد الخونة — أو ما يزعم أنها كذلك — كان ألم عظيم يعتصر الناجين. لم يكن أحد على يقين بأي شيء، كان رعبًا حقيقيًّا؛ رعبًا من الجنود، ورعبًا من الخارجين على القانون؛ فكل واحد منا مذنب لانتمائه إلى هذه الفئة، هذا العرق، هذا الشعب. دائمًا ما يسيطر عليك إحساس بالخوف من أنهم سيجعلونك تدفع حياتك ثمنًا لمكانك في العالم أو للون بشرتك … تتساءل لم لا تفعل شيئًا، حتى لو كان ذلك مجرد الحداد بإخلاص على الضحايا، الحداد عليهم في ظل ذلك السر وذلك الحبور الدفين الذي يتملَّك الناجين.