الإرهاب الديني
دفع ضرر العدو عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه.
بنهاية القرن العشرين، واجه العالم عملية إحياء للأصولية الدينية، وهو تطور محيِّر للكثيرين ممن افترضوا أن عملية العلمنة — مهما كانت غير متساوية — كانت عملية لا رجعة فيها. فجأة، أصبح الافتراض الليبرالي الراسخ، القائل إن صعود المجتمع الحديث وأفول نجم الدين كانا وجهين لعملة واحدة، محلًّا للشك. ظهرت آثار الصدمة جراء ذلك في الكتابة حول الإرهاب؛ حيث دُفع الدين في ثقة إلى هامش دوافع الإرهاب. أما الدراسات الرائدة المبكرة — مثل دراسات والتر لاكور في عام ١٩٧٧ أو دراسة جرانت واردلو بعدها بعقد — فكانت سياسية حتى النخاع. (فقد اختار واردلو «الإرهاب السياسي» عنوانًا لكتابه عن عمد. ومن المثير للاهتمام أنه لم يأت على ذكر الدوافع الدينية للإرهاب حتى بغرض استبعادها — مثلما فعل مع الإرهاب لتحقيق «غايات إجرامية أو شخصية» — من نطاق دراسته.)
في ثمانينيات القرن العشرين، كان الإرهاب لا يزال عمل حفنة من الثوريين المتطرفين وبعض القوميين المألوفين للغاية. لكن شهدت السنوات العشر التالية تحولًا مهمًّا. أشار أحد استطلاعات الرأي الرائدة في نهاية تسعينيات القرن العشرين إلى أن «الدافع الديني للإرهاب يعتبر أهم سمة مميزة للإرهاب اليوم»، في حين وضعت مؤلفة أحد الكتب الدراسية الجامعية الأمريكية حول الإرهاب «التعصبَ الديني» على قمة قائمة الدوافع الإرهابية. كما تعكس عمليات التقييم الرسمية ذلك أيضًا. على سبيل المثال، نص التقرير العام لسنة ٢٠٠٠ لخدمة الاستخبارات الأمنية الكندية على أن «أحد الدوافع الأساسية للإرهاب المعاصر هو التطرف الديني الإسلامي.» بعد عشر سنوات، فإن تهديد «التطرف الإسلامي» ظل «مصدر قلق له أولوية». وبينما لا تزال وزارة الخارجية الأمريكية ثابتة في توجهها الإقليمي-السياسي، ولا تزال لا تعزل الدين باعتباره فئة منفصلة في تحليلاتها الإحصائية — على الرغم من أنه يندرج بثبات تحت الإرهاب الدولي «الذي ترعاه الدولة» — أشار تقرير «أنماط الإرهاب العالمي» إلى «الانتقال من الإرهاب الذي تحركه بصورة أساسية الدوافع السياسية إلى الإرهاب الذي تحركه الدوافع الدينية أو الأيديولوجية»، باعتباره أحد التوجهات الرئيسية. وقد كانت أكثر مصادر القلق الملحة للوكالات الأمنية — من نوعية الهجوم الانتحاري الذي اتخذ طابع هجوم القوات الخاصة من قبل جماعة «لَشكر طيبة» في مومباي في نوفمبر ٢٠٠٨ — هي بصورة أساسية أعمال الجماعات الدينية.
بل ويكرِّس بروس هوفمان الفصل الأطول في كتابه «داخل الإرهاب» — وهو دراسة حديثة موثَّقة أجراها هوفمان الذي يعمل رئيس وحدة أبحاث الإرهاب في مؤسسة راند — للدين. ونظرًا لأن أيًّا من الجماعات الإرهابية الإحدى عشرة المعروفة التي كانت نشطة في عام ١٩٦٨ لا يمكن تصنيفها باعتبارها جماعة دينية، يشير هوفمان إلى أن الجماعات الإرهابية الدينية «الحديثة» الأولى لم تظهر إلى الوجود حتى حوالي عام ١٩٨٠. (يستخدم هوفمان كلمة «حديثة» هنا بالمعنى الزمني المحض للكلمة.) على أي حال، بحلول عام ١٩٩٤، «كان من الممكن تصنيف» ثلث الجماعات الإرهابية المعروفة (أي ١٦ من أصل ٤٩) «باعتبارها جماعات دينية في طبيعتها و/أو دوافعها»، وهي النسبة التي قفزت مجددًا العام التالي لتصل إلى النصف تقريبًا (٢٦ من بين ٥٦).
من الصعوبة بمكان تحديد إلى أي مدى يعكس هذا تغييرًا في الإدراك وكذلك في الواقع؛ لعل من المغري الإشارة إلى أن ظاهرة — أو خرافة — «الإرهاب الدولي» — الذي كان يبدو واهيًا حتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي — وجدت «إمبراطورية الشر» بديلة على القدر نفسه من الترويع، بل وربما تنطبق عليها صفة دولية بصورة مقنعة أكثر من الإمبراطورية الأصلية. لا شك في أن الإسلام على وجه الخصوص أكثر من الدين بصورة عامة هو الذي يجذب انتباه الغرب: فقد ركَّز بنيامين نتنياهو الشرس — في كتاباته في منتصف ثمانينيات القرن العشرين (أي قبل أن يصبح رئيس وزراء شرسًا لإسرائيل بعشر سنوات) — على «الإسلام والإرهاب»: «في السنوات الأخيرة، لم يحقق سوى عدد قليل من الإرهابيين من المكانة الدولية ما حققه أولئك الذين يدعمهم أنصار الأصولية الإسلامية الأكثر تشددًا …» بعد عقد، وتحت تأثير سلسلة من الهجمات يشنها حزب الله، وحماس، وجماعة الجهاد الإسلامي، وجماعات أخرى — لم يكن الكثير منها سوى رد فعل على برنامج الاستيطان اليهودي الذي يدعمه نتنياهو نفسه — وصلت إلى أوجها في تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام ١٩٩٤، صار بروز هذا النوع من الإرهاب طاغيًا. ولا شك في أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر في عام ٢٠٠١، حجبت جميع الأنشطة الإرهابية الأخرى؛ فصارت ملاحقة أسامة بن لادن والقاعدة هي «الحرب على الإرهاب».
الدين والعنف
تثير المصطلحات التي يستخدمها هوفمان بعض الأسئلة الحيوية، أبرزها معنى كلمة «ديني». لكن تعريف هوفمان لكلمة ديني باعتبارها «امتلاك أهداف ودوافع تعكس الطبيعة أو التأثير الديني السائد»؛ يبدو أشبه تعريف موضوع وفقًا لمعيار قاعدة بيانات مؤسسة راند؛ إذ يتركنا نتساءل عن كيفية قياس البعد الديني للدوافع. يقترب هوفمان من هذا عندما يمضي في طرح السمات الجوهرية للإرهاب الديني؛ أولًا: يمتلك الإرهاب الديني وظيفة سامية أكثر من كونها وظيفة سياسية؛ إذ «يُنفَّذ في استجابة مباشرة لإملاء أو طلب لاهوتي.» ثانيًا: على عكس الإرهابيين العلمانيين، يسعى الإرهابيون الدينيون عادة إلى «القضاء على فئات من الأعداء لها تعريفات واسعة»، ولا يردعهم احتمال الأثر العكسي السياسي لعمليات القتل العشوائي. أخيرًا: ومن السمات الأكثر أهمية، لا يسعى الإرهابيون الدينيون لأن ينالوا إعجاب أي قاعدة شعبية سوى أنفسهم.
قد يتضمن هذا بالطبع تداعيات مروعة: «القبول بالعنف الذي ليس له حدود تقريبًا ضد مجموعة لانهائية من الأهداف.» لكن هل من المنطقي تسمية هذا النوع من العنف إرهابًا؟ إذا نظرنا إلى العنف في أحد أوجهه باعتباره أداة وظيفية، فسيكون من الصعب الربط بينه وبين هذه الدوافع. فكما يوضح هوفمان، فإن هدفه التدمير لا الإقناع (وإن كان بطريقة غير مباشرة). فلا يمكن تحقيق التبعات المقصودة لمثل هذه الأفعال عن طريق أي شخص حي حاليًّا، بل إن الهدف، بالأحرى، نوع من الثورة الكونية.
بالإضافة إلى هذا، حقيقة أن عددًا من الكتاب — الذين ينتقدون «الحكمة التقليدية» القائلة إن الإرهاب ظاهرة حديثة — تحدثوا عن التاريخ الطويل للعنف الديني تجعلنا نتوقف قليلًا. جُنِّدت طائفة الحشاشين المسلمة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وجماعة «زيلوت» اليهودية في القرن الأول الميلادي، لهذا السبب المتعلق بالأنساب. لكن الإشارة إلى التشابه بين العنف الديني والإرهاب في العصر الحديث يوضح بقوة عددًا من الموضوعات المهمة. في حين قد تكون عمليات الإرهاب في العصر الحديث غامضة غالبًا، فإن جوهرها الرئيسي هو الافتراض الحديث أن المجتمع يمكن تغييره من خلال العامل الإنساني. لا يبدو أن ممارسي العنف الديني يعملون وفقًا لهذا الافتراض. على سبيل المثال، على الرغم من تركيز الحشاشين على التغيير الاجتماعي — تخلي المجتمع عن اتباع المقاييس المبكرة للالتزام الديني — فإنهم لم يهتموا بتغيير عقيدة الناس من خلال العمل المباشر. بدلًا من ذلك، كان هؤلاء يشهدون أمام الله، وهي علاقة ثنائية تخرج عن دائرتها أي شيء آخر في العالم.
يشير تحليل مقارن عميق بين ثلاث جماعات دينية: الزيلوت، والحشاشين، والثاكي، أجراه ديفيد رابابورت، إلى وجود أوجه اختلافات قدر وجود أوجه تشابه بينها، لا سيما في مسألة القصد. ربما كانت تهدف جماعة زيلوت إلى إثارة انتفاضة يهودية عامة ضد الحكم الروماني، ومن ثم مزجت بين (باستخدام عبارة لاكور) «الأمل في الخلاص والإرهاب السياسي.» تعتبر مسألة التوصل إلى الدوافع صعبة في هذا السياق، مثلما هو الحال في كثير من الأحيان؛ نظرًا لأن الشروح المتوفرة — في هذه الحالة شروح يوسيفوس — كانت تتسم بالعدوانية أو الريبة، لكن يشير وجود عنصر بارز من عقيدة الخلاص والاعتناق السعيد لفكرة الشهادة فيما تبقى من روايات إلى علاقة شديدة السطحية مع السياسة. (بينما قد تعتبر التضحية بالنفس سلاحًا قويًّا في التواصل مع مجتمع أخلاقي، فإنها لا تتصل بالضرورة بأي نتائج مادية في الحياة.) بالمثل، تبنت جماعة الحشاشين — الذين وصفهم أحد الإسلاميين البارزين بأنهم أول جماعة تستخدم «الإرهاب السياسي» «بصورة منهجية مخططة» — أسلوبًا فدائيًّا وانتحاريًّا في قتل الحكَّام، والخلفاء — وملك صليبي — بالطعن علنًا في الأيام الدينية الهامة. تشير إحدى الدراسات حول الاغتيال السياسي إلى أنهم «ساهموا في تشكيل المواقف والسلوكيات التي لم تعد تمتُّ بصلة إلى العادات القديمة»، لكنها كانت حريصة بشأن طبيعة هذه المواقف والسلوكيات. تبدو جماعة الثاكي — وهي جماعة من الخناقين التي استطاعت السلطات البريطانية في الهند في القرن التاسع عشر قمعها في نهاية المطاف — أكثر بعدًا عن العمل السياسي، في أن اختيارها لضحاياها كان يعتبر مسألة غامضة بالنسبة لأي غريب عن الجماعة (وربما لأعضاء الجماعة أيضًا). لا تقدِّم الهندوسية أي مؤشر على الاعتقاد بإمكانية تغيير المجتمع، ومن ثم اتخاذ خطوات سياسية؛ أي إنه على أقصى تقدير يمكن اعتبار أن جماعة الثاكي — في تصورهم لأنفسهم بأنهم مُلزَمون بالحفاظ على توازن العالم — مدافعون عن النظام القائم.
تدمير أم إقناع؟
أدرك رابابورت أن «جميع التصورات الحديثة للإرهاب تفترض أن مرتكبي الأعمال الإرهابية لا يقصدون إلا إلحاق الضرر بضحاياهم عَرَضًا.» يعتبر هذا التصور للعمل القسري غير المباشر في غاية الأهمية في أي تناول للإرهاب، باعتباره عملية وظيفية مفهومة على المستوى العقلاني، لكن العنف الديني — مثلما يشير رابابورت — يفتقر إلى هذا البعد الخاص؛ إذ إنه يترك مهمة تغيير الأشياء إلى الإله. على الرغم من كل ذلك، يظل رابابورت مهتمًّا بالحفاظ على أوجه الشبه بين الإرهاب في العصر ما قبل الحديث والإرهاب في العصر الحديث، لكن كي ينجح في ذلك كان عليه وصف الإرهاب بطريقة بسيطة جدًّا. في حقيقة الأمر، يكتب رابابورت عن «الترويع» و«جماعات الترويع» وليس عن الإرهاب، ويتمثل المعيار الأساسي لديه في «الخروج عن المألوف»: أي ارتكاب «الفظائع، والأعمال التي تتجاوز المعايير المقبولة والقيود التي تنظِّم العنف»؛ «العنف الخارج عن المألوف أو الخارج عن النطاق الأخلاقي»، أو — كما هو شائع حديثًا — «العنف الذي يتجاوز القيود الأخلاقية المقبولة.»
مثلما يشير رابابورت، فإن هذا التأكيد على الخروج عن المألوف قد ترسخ (بقوة) باعتباره عنصرًا مهمًّا في وظيفة الترويع من قبل محللي الإرهاب الأوائل، وهو التشديد الذي اختزله أو تجاهله الكتاب اللاحقون. قد نقبل بالطبع أن العنف الديني يعتبر مجاوزًا بصورة استثنائية للأعراف الاجتماعية — خاصة التوقعات الحديثة بأن العنف سيكون له أساس عقلاني مفهوم. وهكذا، يمكن توصيف العنف الديني باعتباره «ترويعًا»، لكن في هذا السياق سيكون من الأهمية بمكان الإشارة إلى الفارق بين الترويع والإرهاب. مهما كان العنف الديني مزعجًا، فقد تقع الأهداف الدينية — مثلما يفسرها هوفمان وآخرون — خارج النطاق الاستراتيجي للمفهوم؛ وذلك نظرًا لأن هذه الأهداف تقع خارج نطاق العمل البشري. حتى في حال الإشارة إلى التقديرات الاقتصادية — مثلما في إشارة أسامة بن لادن إلى أن «خسائر قيمتها تتعدى المليار دولار أمريكي تحققت جراء هجمات الحادي عشر من سبتمبر المباركة»، و«أننا مستمرون في مواصلة سياسة استنزاف أمريكا حتى الإفلاس» — لابد أن يجاوز حجم العمل الإرهابي أي توقعات معقولة. (لكن بالطبع «لا يستعصي شيء على الله».)
هل تعتبر إشارة نتنياهو إلى أن «الإرهاب منتشر بصورة حصرية في الشرق الأوسط؛ ذلك الجزء من العالم الذي يسود فيه الإسلام»، إشارة مبالغًا فيها؟ يعتبر الشرق الأوسط أيضًا ذلك الجزء من العالم الذي خرجت منه أكثر من حركة إرهابية يهودية؛ في حين أنه في أعقاب تفجير أوكلاهوما — الذي كان أكثر الأعمال «الإرهابية» فتكًا على مر التاريخ حتى جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر — لا يمكن إغفال القدرات التدميرية للأصولية المسيحية في الغرب نفسه. لكن ليس من المثير للدهشة وجود نقاش محتدم حول ما إذا كان الإسلام دينًا يحرض على العنف بشكل خاص. وبينما قوبلت فكرة صمويل هنتنجتون، القائلة إن صعود الإرهاب الإسلامي علامة على «صدام الحضارات»، بالكثير من النقد والرفض الرسميين؛ فإن هذه الرؤية عكست بلا شك رؤية الجهاديين؛ فالهدف النهائي لهم يتمثل في التغيير الشامل للعالم.
من الدين إلى السياسة
ربما تعتبر فكرة وضع حدود بين الدوافع الدينية والعرقية فكرة إشكالية؛ نظرًا لأن هذه الحدود قابلة للاختراق. على سبيل المثال، كيف يمكن قياس الرمزية الدينية في الرسوم الجرافيتية لحركة إيوكا في قبرص، أو في الرسومات ذات النهايات على شكل جمالون في «صخور القدَّاس» في مدينة بلفاست الجمهورية؟ في حقيقة الأمر، ترجع جذور فكرة فصل العنصر «الديني» في دوافع إحدى الجماعات — للتحقق مما إذا كان عنصرًا «مسيطرًا» أم لا — إلى الثقافة السياسية الغربية، التي تفصل فصلًا حادًّا بين الكنيسة والدولة، وبين المقدس والدنيوي. ربما كان للعنصر الديني قيمة محدودة في الغرب؛ حيث كان مفهوم المقدس أو «القومية المقدسة» أكثر انتشارًا في المجتمع الغربي مما تصور كثيرون. يمكن تطبيق هذا المفهوم على ثقافات أخرى في حذر شديد. في حالة الديانات «البدائية» الإحيائية، تعتبر استحالة وضع حدود للعالم الروحي مفهومة، ربما لأن شعوبًا مثل شعب النوير في السودان كانت تُدرس من قبل علماء الأنثروبولوجيا، وهي شعوب صار ينظر إليها حاليًّا باعتبارها شعوبًا متطورة للغاية. على الجانب الآخر، ظل الإسلام — الذي كان مجال اختصاص الخبراء الغربيين الذين كان يُطلق عليهم «المستشرقون» أو «المستعربون» أو «المتأسلمون»، الذين كانت خلفياتهم المعرفية مغايرة له — محيرًا للمحللين الغربيين. وقد قال البعض إن الإهمال النسبي للدراسات الإسلامية ينبع من حقيقة أن الإسلام لم يتوافق مع التوقعات التي كانت تثيرها الفكرة القائلة إن الإسلام يسير على خطوات «الديانات الكتابية» الأخرى. وفي ظل توقع الغربيين أن يتبع الإسلام مسارًا خطيًّا تقدميًّا من اليهودية والمسيحية، عجزوا عن إدراك قوة الأساس الثقافي العربي القديم في إطار بنية من الإيمان يُتوِّجه الاعتقاد الصارم بوحدانية الإله كما دعا إليها محمد؛ أي أن الله هو القوة المسيطرة الحاكمة فوق بنية إحيائية. ولا تزال دراسات الثقافة الدينية السائدة في مصر وفي أماكن أخرى تُظهر عالمًا تتشابك فيه العناصر الطبيعية والعناصر الخارقة.
تتمثل النقطة الرئيسية هنا في أن الإسلام يمثل ثقافة دينية لا تقبل الفصل بين الجانبين الدنيوي والروحي، وكما يقول برنارد لويس: «إن فكرة السلطة العلمانية في حد ذاتها تدل على عدم الإيمان.» على الرغم من أن هناك آخرين يرون أنه في نهاية القرن العشرين أدى ضغط القولبة الذي تمارسه سلطة الدولة إلى التآكل المستمر لهذا الرفض التقليدي؛ فمن اللافت للانتباه أنه خلال العقد الأخير زادت حدة النقد «الأصولي» لدول «المسلمين السيئين»؛ خاصة من قبل الدعوة السلفية. لا يزال السؤال عما إذا كان هذا الرفض يجب أن يتخذ شكلًا عنيفًا؛ مسألةً في غاية التعقيد. والمفهوم الذي يتحدثون عنه بصورة عامة في المناقشات حول الإرهاب، ألا وهو مفهوم الجهاد، غالبًا ما يُقدم باعتباره تحريضًا ضمنيًّا على العنف. لكن قد تكون الترجمة التقليدية — «الحرب المقدسة» — مضللة (حيث إن الوسم «مقدسة» يعتبر إضافة غربية طُرحت للأسباب التي تناولناها توًّا)؛ إذ إن الجهاد يعني حرفيًّا «الكفاح»، وربما يمكن تفسيره بصورة أفضل باعتباره «نضالًا». يرى بعض المسلمين المحدثين أن الجهاد يشير إلى النضال الروحي، أو على أقصى تقدير إلى الحرب الدفاعية لا الحرب الهجومية، لكن لا يتقبل الجهاديون الأصوليون ذلك. لكن إذا كان الجهاد — مثلما يشير هؤلاء — واجبًا دينيًّا للحفاظ على حالة من الحرب مع أولئك الذين لا ينتمون إلى مجتمع الإسلام، فهل يمكن أن يؤدي الإرهاب — إذا فُهم على نحو صحيح — هذه الوظيفة؟
مبدأ الخلاص والملك الألفي
هل هناك أسباب وراء أن أعمال العنف المتطرف الذي يتجاوز الأعراف الاجتماعية — «الفظائع» على حد تعبير رابابورت — يجب أن تصدر عن قناعة دينية؟ يبدو أن هناك سببين مهمين لذلك؛ يتمثل السبب الأول فيما يطلق عليه عادة «التعصب»؛ أي قدرة المعتقد الديني على إلهام الالتزام، ورفضه لأي حلول وسطية. يتمثل السبب الثاني في مبدأ الخلاص؛ أي توقع حدوث تحوُّل وشيك في العالم. هناك أسباب موازية (ظلال) لهذين السببين في المجال الدنيوي؛ وُسم الثوريون من كافة المشارب بالمتعصبين (مثلما وُسم أنصار فرق البيسبول أو كرة القدم)، بل وقد أظهر بعض هؤلاء على الأقل مؤشرات واضحة على أمل الملك الألفي السعيد في إمكانية أن يحقق العمل الدرامي النبوءة فجأة أو يسرِّع عجلة تحقيقها.
ثمة عامل ثالث — وقد لا يبرر استخدام العنف بل يزيد من قيمة استخدامه — ألا وهو الاعتقاد أن الموت في سبيل قضية مقدسة هو النهاية المناسبة للحياة. وتوجد أصداء مشابهة لهذا السبب أيضًا في المجال الدنيوي متمثلة في أفكار (ما يطلق عليها ويلفريد أوين «الكذبة القديمة») مثل «من الرائع والمشرف أن يموت المرء في سبيل بلده»، لكن بعض نظم المعتقدات الدينية تأخذ هذا العامل إلى مدى أبعد. يرجع السبب الأكبر في الصورة السلبية للإسلام في الغرب، دون شك، إلى الاتجاه الظاهري في الإسلام لتشجيع العمل الفدائي أو الانتحاري من قبل المجاهدين بما في ذلك الأطفال. على سبيل المثال، تحت عناوين مثيرة للقلق من قبيل «البريطانيون المسلمون يسلكون طريق الجهاد: جماعة إرهابية في كشمير تزعم أن أحد الانتحاريين من برمنجهام»، جمعت صحيفة بريطانية جميع عناصر هذه الصورة، وأشارت إلى أن مؤسس الجماعة الإسلامية التي تتخذ من لندن مقرًّا لها تحت اسم «المهاجرين» زعمت أنها أرسلت ما يقرب من ١٨٠٠ شاب للمشاركة في «الخدمة العسكرية» خارج البلاد. من خلال تجنيدهم في المساجد والجامعات في جميع أنحاء البلاد، ذهب هؤلاء الشباب لمحاربة «القوات المحتلة» الكافرة في كشمير وفلسطين والشيشان. واقتبست الجريدة «رجل الدين سوري المولد» يقول: «من يضحي بنفسه في سبيل الله في صورة قنابل بشرية، فإنه يحقق مرتبة الشهادة ومأواه الجنة.»
يضخِّم القبول الصريح للموت من الصدمة الثقافية الكامنة في أن قادة هذه الجماعات — لعل أسوأها سمعة «مجلس شورى» حزب الله في لبنان — أصبحوا معروفين باللغة الإنجليزية بأنهم «رجال دين». بل وتمثِّل التغطية الإعلامية الغربية لأخبار حزب الله — بصورة أكثر درامية — الأثر المثير بل والمحير للدمج بين الإسلام والإرهاب. لطالما مزج حزب الله — الذي ولد في خضم الحماسة التي تولدت عن الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩ — بين الدعوات الأصولية الحادة وبين العمل السياسي المحلي الراسخ. وقد صار حزب الله قوة حقيقية مع الغزو الإسرائيلي للبنان في عام ١٩٨٢، وهو الحدث الذي وفَّر أهدافًا حقيقية — بدلًا من أهداف خطابية — وأكسب حزب الله الدعم الشعبي الهائل الذي يتمتع به. ربما تندرج الكثير من عمليات حزب الله لا سيما في بدايته — تفجير السفارة الأمريكية في بيروت في أبريل عام ١٩٨٣، والتفجير الهائل باستخدام شاحنة مفخخة لمقرات قوات البحرية الأمريكية والقوات الفرنسية في أكتوبر من العام نفسه (مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ٣٠٠ جندي)؛ ثم بعد ذلك الفترة التي تبنى فيها منهج احتجاز الرهائن — تحت صفة «إرهابية»، وهو الوصف الذي يُستخدم في الإشارة إلى الحزب على مستوى العالم. وعلى أي حال، فحتى هذه العمليات تحظى ببعد عسكري معروف. أما العديد من العمليات الأخرى، فكانت تعتبر بمنزلة حرب عصابات على مستوى عالٍ من التحديد والتمييز، تستهدف المواقع العسكرية للجيش الإسرائيلي (قوات الدفاع الإسرائيلية) وحليفه جيش جنوب لبنان. (لم يكن هناك ما هو أكثر عشوائية من مذابح صبرا-شاتيلا، أو قذف قوات الدفاع الإسرائيلية لبيروت، أو القصف الذي قامت به القوات البحرية الأمريكية في سبتمبر ١٩٨٣.)
في هذه المواجهة، التي لا يمكن وصفها إلا بأنها صراع لتحرير الأرض (تعتبر كلمة «قومي» أكثر إشكالية في لبنان منها في أي مكان آخر)، صار حزب الله أكثر فعالية على الصعيد العسكري: ففي السنوات الخمس الأخيرة من القرن العشرين، تحسن معدل الخسائر للحزب مقارنةً بخسائر قوات الدفاع الإسرائيلية من أكثر من ٥ : ١ إلى أقل من ٢ : ١، لكن ظل خطاب حزب الله كما هو لم يتغير: إذ كان يدعو ليس إلى تدمير إسرائيل بالكامل فحسب، بل إلى مواصلة صراع الحياة أو الموت الأكبر مع «الغرب» (الذي تعتبر إسرائيل مجرد وكيلة له). يهدف عنف هذا الصراع إلى القضاء على العدو لا ترهيبه فقط؛ ووفق هذا المعنى، ربما لا يكون منطقيًّا تسمية هذا الصراع بالإرهاب. ولا شك أن هذه الدعوات المروعة تستحق الانتباه الإعلامي الذي حازت عليه في الغرب، لكن يشير بعض المحللين إلى بعد آخر أكثر واقعية. إبان عمل حزب الله «كميليشا شبه عسكرية»، سحق حركة أمل التي كانت تهيمن على المشهد فيما سبق، ورسخ نفسه باعتباره منظمة سياسية حقيقية، تعترف — على سبيل المثال — باستحالة تحقيق التزامها الأصلي بإقامة دولة لبنانية إسلامية.
الانتحار والتضحية بالنفس
لا شك في أن «التفجيرات الانتحارية» — أو «العمليات الاستشهادية» — تقض مضجع الغرب بصورة خاصة. قبل قرن من الزمان، أشار المهاتما غاندي إلى كيف أن الإصرار الشديد للحركة الإنسانية الغربية على القيمة العظمى للحياة قد فصلها عن التقاليد الدينية الأخرى، وبالأحرى عن جذورها المسيحية. كان غاندي يرى العمل الانتحاري عملًا مدمرًا؛ تحديدًا لأنه لا يمكن أن يكون وظيفيًّا. فلهزيمة إنجلترا، كان من الضروري عدم قتل أي رجل إنجليزي وإنما «قتل أنفسنا». وقد كان تصريح الانتحاري شاه زاد تنوير المسئول عن تفجيرات السابع من يوليو «إننا نحب الموت كما تحبون أنتم الحياة» صادمًا للغاية للكثيرين، بما في ذلك الذين أدانوا الانتحاريين باعتبارهم أعضاء في «جماعة موت».
تضاعف عدد الهجمات الإرهابية بصورة هائلة — فمنذ عام ٢٠٠٠ بلغ عدد الهجمات ثلاثة أضعاف عددها في العشرين سنة الأخيرة — وأسفر بعضها عن نتائج استراتيجية ظاهرة. على سبيل المثال، ساهمت الهجمات الانتحارية المدمرة على القواعد الأمريكية والفرنسية في لبنان في انسحاب قوات هاتين الدولتين من لبنان، وهو ما كان له آثار سياسية كبيرة على المدى المتوسط. لكن لا يزال التفكير في هذا الشأن محاطًا بالصعوبات، ولا سيما لأنه بطبيعة الموقف لا يوجد غالبًا دلائل حاسمة على ما إذا كانت الأحداث تعتبر عمليات ترتفع فيها نسبة الخطورة، وليست حالات تضحية بالنفس متعمدة. حتى مختطفو الطائرات في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ربما لم يكونوا على علم بالنتيجة النهائية لمهمتهم. في بعض حالات الهجوم بالسيارات والشاحنات المفخخة في لبنان في ثمانينيات القرن العشرين، بدا أن سائقي هذه السيارات والشاحنات لم يكونوا على علم بأنهم اختُيروا ليصبحوا شهداء عن طريق أجهزة التحكم عن بعد.
من ناحية أخرى، أسفرت الحملة التي شنتها حماس في صيف عام ٢٠٠١ — عندما اقتحمت شاحنة محملة بالمتفجرات إحدى نقاط التفتيش التابعة للجيش الإسرائيلي في غزة — عن سلسلة من الهجمات الأخرى الجادة والمزعجة. ربما يبدو زعم الشيخ أحمد ياسين — مؤسس حركة حماس وقائدها — أن «جميع الفلسطينيين مستعدون لأن يصبحوا شهداء»، مبالغة، لكنه يبدو أيضًا أكثر من مجرد بلاغة خطابية. فكان من بين أكثر الهجمات الإرهابية في الشرق الأوسط تدميرًا (سياسيًّا ونفسيًّا) الهجمات التي نفذها «شباب صغار السن»، دخلوا إلى شارع بن يهودا — الذي كان مكتظًّا بشباب يهود صغار السن أيضًا في نهاية يوم العطلة — وفجروا عددًا من قنابل الشظايا التي كانوا يلفونها حول خواصرهم. كما قدَّم شريط الفيديو المذهل، الذي صوَّرته حماس لنافث إنثر وهو يفجِّر نفسه في محاولة لقتل المستوطنين اليهود في قطاع غزة، مثالًا حيًّا على هذا الالتزام.
في النهاية، فإن الخيط الفاصل بين الاستعداد للموت والانتحار رفيع جدًّا. إن الانتحار بالنسبة للمسلمين في أوقات السلم محرم مثلما هو محرَّم بالنسبة للمسيحيين (مثل إضراب أعضاء منظمة الجيش الجمهوري عن الطعام). أما في الحرب، مثلما هو الحال مع المسيحيين الأرمن الذين يحتفلون «باختيار الموت عن وعي»، فإنه ربما يمثل تأكيدًا على إخلاص الشخص الوطني أو المؤمن. ولا شك في أن دوافع الأفراد قد تختلف عن دوافع المنظمات: «فالحركات التي ترعى التفجيرات الانتحارية ليست انتحارية في حد ذاتها.»
الأصولية
هل تعتبر هذه الدوافع دينية أم سياسية؟ على الرغم من انتهاج حزب الله وحركة أمل نهجًا يشبه منهج الخلاص، فإنهما قوتان سياسيتان حقيقيتان منخرطتان في صراع أرضي على السلطة، بالضبط مثلما هو حال حماس في فلسطين. لا شك في أن الاندماج الكثيف بين الدوافع الإقليمية والعرقية والطائفية في الحرب الأهلية اللبنانية، يتجلى في تحديات «أصولية» تواجه تحديث الحكومات العلمانية، وكذلك الحال في الجزائر ومصر فضلًا عن إيران وأفغانستان. برزت الأيديولوجية الرئيسية لهذه الحركات — الإسلام السياسي — منذ نصف قرن مضى؛ لكن في العقد الأخير فقط بدأ الغرب يدرك كيف يختلف الإسلام السياسي عن الأصولية في شكلها القديم. يرجع هذا التأخر في الفهم جزئيًّا إلى التعميم الخاطئ (أو كما يقول إدوارد سعيد: العمى الغربي «الاستشراقي» المتجذر للتباينات الدقيقة والتغيرات في العالم الإسلامي). لا يمكن فهم الاختلافات الثقافية العميقة من هذا النوع دون بذل جهد كبير، وهو جهد نادرًا ما كان يلوح في الأفق أنه قادم قريبًا؛ لكن تعرض عدم الاكتراث العام هذا إلى صدمة عنيفة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويظل السؤال إلى متى سيطول عمر فترة روح التساؤل الجديدة هذه.
كانت حركة الإسلام السياسي حركة مهمة في مصر منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد مدرس (وهي المرة الأولى التي لا يكون فيها ذلك على يد «رجل دين») — وهو حسن البنا — في عام ١٩٢٨. كان البنا يهدف إلى مكافحة تقويض القيم الإسلامية من جانب النظام التعليمي الغربي، وكان من بين أول من وضعوا في عبارات واضحة الإسلام في مقابل «الغرب» باعتبارهما نظامي قيم غير متوافقين بالمرة. في مصر — التي كانت خاضعة للهيمنة والتأثير السلبي البريطاني طويل المدى («الوصاية غير المباشرة») — كان التوتر محسوسًا بقوة. ازدهرت جماعة الإخوان المسلمين مع تأسيس ٥٠٠ فرع لها بحلول عام ١٩٤٠، ثم وصلت إلى ٥ آلاف فرع في عام ١٩٤٦، كل منها يشتمل على مسجد ومدرسة ونادٍ. في ذلك الوقت، كانت هناك منظمة داخلية صغيرة من «الرسل الروحانيين» الذين كانوا ينفذون عمليات إرهابية متفرقة، تهدف أولًا إلى قتل الخائنين للإسلام.
في أواخر أربعينيات القرن العشرين، أخذت الحكومة مجموعة من الخطوات العدوانية لسحق جماعة الإخوان المسلمين؛ فحظرت الجماعة في عام ١٩٤٨، وقامت باغتيال البنا في عام ١٩٤٩. ثم أدى تأسيس جمهورية مستقلة تحت قيادة جمال عبد الناصر (الذي حاول الإخوان المسلمون اغتياله في عام ١٩٥٤) إلى اتخاذ إجراءات قمعية أكثر شمولًا، بلغت ذروتها في عام ١٩٦٥ بشن حملات قمعية شاملة ضد الجماعة، واعتقال وإعدام أكثر خلفاء حسن البنا تأثيرًا وهو سيد قطب. لكن ما كان لاستشهاد سيد قطب سوى أن أكد قوة حجته بأن الإسلام كان يواجه هجومًا شرسًا من خلال عملية التغريب، ويجب الدفاع عنه من خلال الوسائل المادية والروحية.
اتضحت القوة النافذة لتيار الإسلام السياسي من خلال قرار خليفة جمال عبد الناصر؛ أنور السادات — الذي اكتسب قوة سياسية بفضل هويته الإسلامية — برفع الحظر عن جماعة الإخوان المسلمين. في عام ١٩٨١، اغتِيل السادات نفسُه في مشهد درامي بينما كان يتلقى التحية العسكرية أثناء استعراض عسكري كبير. جاء هذا العمل — جزئيًّا — كرد فعل على تصالح السادات التاريخي مع إسرائيل، وعلى حملات الاعتقال الواسعة «للمتطرفين» الدينيين (المسلمين منهم والمسيحيين الأقباط)، لكنه كان يمثل أيضًا إشارة على الهجوم المتزايد على حياة الدولة المصرية العلمانية، من قبل جماعتين مروعتين انبثقتا عن جماعة الإخوان المسلمين؛ ألا وهما الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد. أكملت جماعة الجهاد منطق حجة تيار الإسلام السياسي بالإصرار على مركزية «الفريضة الغائبة»؛ أي الصراع المسلح: «لا شك في أن أوثان هذا العالم لا يمكن القضاء عليها إلا من خلال قوة السيف.» لم يكن ذلك يعني الإرهاب بعد؛ إذ إن جماعة الجهاد خططت لاغتيال السادات باعتبار ذلك «انقلابًا» سيكون بمنزلة الشرارة الأولى لتمرد جماهيري عام، وهو ما لم يتحقق قط. عانت الجماعة قمعًا وحشيًّا من قبل نظام حسني مبارك في السنوات التالية؛ إلا أن التجنيد في تلك الجماعات يبدو أنه يزداد — لا ينحسر — في ظل القمع، وفي هذه الحالة عوضوا أكثر من الخسائر التي تكبدوها مع عودة المئات من المتطوعين، الذين ذهبوا إلى أفغانستان للمحاربة في صفوف «مجاهدي» طالبان ضد الحكومة الماركسية. (للمفارقة — بالطبع — كان هؤلاء هم المحاربين الذين مولهم أكبر أعدائهم، الولايات المتحدة الأمريكية.)
واعتبر الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي وتحكمها الشرعية الاسلامية هي «دار الإسلام» … واعتبر الأرض التي لا يسيطر عليها النظام الإسلامي ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي «دار الحرب».
وجعل الله هنالك سببًا واحدًا للقتل — حيثما لا يكون بد منه — وهو الجهاد في سبيل الله. وحدد هدف المؤمنين وهدف غير المؤمنين تحديدًا حاسمًا صريحًا:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.
يمثل هؤلاء المجاهدون — الذي يُشار إليهم عادة بالأصوليين — انخراطًا مباشرًا مع العالم الحديث أكثر من مجرد رفضهم له. يرى أحد مؤرخي الإسلام أنه على الرغم من أن رسالة جماعات الإسلام السياسي تعتمد في تفسيراتها على القراءات «ما قبل الحديثة» للقرآن والنصوص الدينية الأخرى، فإنها «حديثة بالكامل في وجوديتها الثورية»؛ إذ إن أولى الجماعات الإسلامية التي برزت إلى الوجود في مصر بعد إعدام سيد قطب، كان مصدر إلهامها ليس فقط الكتابات الإسلامية، بل مبدأ «الدعاية بالفعل» الذي كان يدعو إليه المتطرفون اليساريون مثل جماعة بادر ماينهوف. في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، تحولت هذه الجماعات إلى إطلاق حملة إرهابية بالكامل تستهدف صناعة السياحة، وهو الهدف الذي كان صادمًا بصورة خاصة في الغرب (الذي كان يبدأ ببطء في إدراك أن السياحة ربما لا تكون «بريئة» تمامًا)، وأيضًا يتضمن هجومًا على الغرب نفسه من خلال الإضرار الاقتصادي بالدولة المصرية. وقد تبع سلسلة من حملات إطلاق النار على الحافلات السياحية والرحلات النيلية في أواخر عام ١٩٩٢، سلسلة من الهجمات واسعة النطاق باستخدام البنادق الآلية والقنابل اليدوية على أهداف واضحة مثل فندق أوروبا في القاهرة في عام ١٩٩٦، ثم مذبحة قتل ٥٨ سائحًا في معبد الأقصر في عام ١٩٩٧. كان الضرر الاقتصادي هائلًا؛ إذ فقدت الدولة فرصة تحقيق عوائد تصل إلى ملياري دولار أمريكي مع بداية القرن. وهكذا على الرغم من أن الآلية النهائية التي تستشهد بها هذه الجماعات هي الله — إذ أعلنت الجماعة الإسلامية في عام ١٩٩٦ أنها «ستواصل معركتها» في ثبات «حتى يمن الله علينا بالنصر» — هناك أيضًا مقياس مادي للفعالية. ومن الواضح أنه أينما توفر للجماعات الإسلامية القوة العسكرية اللازمة — مثلما هو الحال في أفغانستان — فإنها لا تقصر استخدام العنف على ما يعكس حوارها البياني أو الرمزي مع الله، بل ينتقلون بمفهوم الجهاد إلى مجال الحرب المفتوحة.
شكَّل الصراع في أفغانستان بعد دخول الاتحاد السوفييتي إليها في عام ١٩٧٩ طريقًا إلى ظهور الحركة الإرهابية، التي تعد الأكثر إشكالية من بين جميع الحركات الإرهابية؛ ألا وهي تنظيم القاعدة. أصبح تنظيم القاعدة — الذي بدأ كجماعة اتصال للمتطوعين العرب الذين انضموا إلى المقاومة الأفغانية — إطارًا عامًّا لنشر القيادة الملهمة لأسامة بن لادن عبر العالم، بعد أن ترك أعضاؤه أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي وانهياره في عام ١٩٨٩. ظل هيكل تنظيم القاعدة سرًّا غامضًا — بالطبع أيضًا بالنسبة للوكالات الاستخباراتية الأمريكية — على الأقل حتى هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وكان يجمع أعضاء تنظيم القاعدة فكرة جوهرية أكثر من تنظيم رسمي يوحدهم، وكانت أحداث حرب الخليج في عام ١٩٩١ سببًا في تحوُّل أسلوبها في الدفاع عن الإسلام. حتى الوقت الذي رفضت فيه الحكومة السعودية عرض بن لادن بإنشاء قوة عسكرية للدفاع عن المملكة العربية السعودية ضد تهديد الغزو العراقي، كان بن لادن ينظر إلى العمل العسكري التقليدي باعتباره عملًا في غاية الأهمية. لكن قبول السعودية التدخل الأمريكي ضخَّم بشدة في عيني بن لادن الخطر الذي يمثله الغرب، والذي تنبأ به البنا وقطب قبل وقت طويل. لقد عاد «الصليبيون»، ويجب مقاومتهم بكافة الوسائل الممكنة: ربما تتراوح هذه الأعمال بين تفجير السفارات الأمريكية، مرورًا بالتفجير الذي كاد ينجح لمركز التجارة العالمي في نيويورك في عام ١٩٩٤، إلى الهجوم على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في ميناء عدن في ١٢ أكتوبر ٢٠٠٠.
ربما ترجع زيادة المعدلات التدميرية لهذه الأعمال إلى الحظ، قدر ما يرجع إلى الاستراتيجية المتبعة، لكنها تشير بالطبع إلى أن إعلان بن لادن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس ١٩٩٦ كان أكثر من مجرد بلاغة خطابية. بعد تفجير نيويورك على وجه الخصوص — الذي كان من شأنه أن يتسبب في دمار هائل لولا وقوع خطأ في عملية زرع القنبلة — يشير اعتبار هجوم سبتمبر ٢٠٠١ مفاجأة كاملة تقريبًا إلى مدى سهولة التقليل من قدر مثابرة الجماعات الإسلامية وتطورها الفني. بل لقد كان رمزي يوسف — مصمم القنبلة — يخطط لتدمير برجي التجارة. وأعلن يوسف بوضوح عن أن هدفه يتمثل في جعل أمريكا تدرك أنها في «حالة حرب» من خلال تكبد خسائر على غرار خسائر هيروشيما وناجازاكي: إذ إن «هذه هي الطريقة التي ابتكرتموها … اللغة الوحيدة التي يستطيع من خلالها المرء التعامل معكم.»
كانت التعبيرات المستخدمة في إعلان عام ١٩٩٦ — «الجهاد ضد الأمريكيين الذين يحتلون بلد الحرمين الشريفين» — ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالسياسة الخارجية الأمريكية (شمل الإعلان سردًا تاريخيًّا للسياسة الخارجية الأمريكية منذ عصر فرانكلين دي روزفلت، فضلًا عن تفصيل لسياسات الفساد والسياسات غير الإسلامية للدولة السعودية). لكن كان هناك ما يهم الجهاديين أكثر من مجموعة سياسات أمريكية محددة. تحتل الولايات المتحدة — «الشيطان الأكبر» — مكانتها في قصة طويلة تدور حول تحول المسلمين إلى ضحايا، أدت فيها جهود الغرب الحثيثة للهيمنة على الإسلام وتدميره إلى التمزق السياسي المهين والإفقار الاجتماعي للعالم العربي-الإسلامي. والحل الوحيد لهذا يتمثل في تأسيس دولة إسلامية حقيقية ينتهي فيها الفصل بين الدين والسياسة. بينما قد يبدو أن الأمر يتطلب تحولًا إعجازيًّا في العالم، من الواضح أن الجهاديين يمكنهم إيجاد نموذج واقعي على هذه «المعجزة» في فترة التوسع المبكرة من عمر الإسلام تحت راية النبي محمد نفسه.
على الرغم من خطابها الذي ينزع لاستخدام إشارات تاريخية، تجمع القاعدة في قوة بين أيديولوجية الإسلام السياسي واستغلال التكنولوجيا الحديثة، لتوضح أن عملية التحديث لا تتطلب (مثلما ذهب معظم رواد الحداثة منذ عهد أتاتورك) عملية «غربنة»؛ إذ يمكن استخدامها ضد الغرب في الصراع من أجل استعادة الإسلام الحقيقي. بدأ المحللون الغربيون تدريجيًّا في التوصل إلى أن «الشبكات» المؤقتة لا المنظمات الدائمة هي الأكثر احتمالًا لتنفيذ هجمات إسلامية. وتقع عوامل مثل المحلية والصداقة، وليس المعتقد الديني، في قلب أو «مركز نشاط»، هذه الشبكات. ويوفِّر الإنترنت — بقدر المؤسسات الدينية — الوسيلة التي يتواصلون بها. لعل ما يدفع المهاجمين لتنفيذ هجماتهم هو الرغبة في الانتقام للمظالم التي يرونها ضد المسلمين في أي مكان في العالم. وكما أعلن محمد صديقي خان — أحد منفذي تفجيرات لندن في عام ٢٠٠٥: «إنني أتحمل مسئولية مباشرة عن حماية إخوتي وأخواتي المسلمين والانتقام لهم.» أما الجدل الاستراتيجي الحقيقي بين الجهاديين فيدور حول ما إذا كانت الأولوية يجب أن تُولى لاستهداف «العدو البعيد» — الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية — أم «العدو القريب»، الأنظمة الإسلامية الزائفة كما في مصر والسعودية.
أخيرًا، يجب أن نتذكر أن «الأصولية» ليست حكرًا على الإسلام. خذ على سبيل المثال جماعة جوش إيمونيم اليهودية التي — في طيش كامل وعدم تقدير للعواقب السياسية — خططت في عام ١٩٨٤ لتدمير محيط الحرم الشريف في القدس. وبهذا العمل، جسَّدت الجماعة الهاجس الذي كان دافعًا للمقاومة العربية ضد الصهيونية منذ البداية، وهو الهاجس الذي كان الصهاينة يسعون بجد لاستبعاده باعتباره مجرد أوهام لدى المسلمين. وقد قلب كاهانا المنطق السياسي التقليدي رأسًا على عقب قائلًا: «إن رفضنا للتعامل مع العرب وفق الشريعة اليهودية هو الذي سيجلب المصائب الكبرى فوق رءوسنا.» (بعبارة أخرى، لا يتمثَّل الشيء الذي يجب خشيته في العداوة مع العرب، أو حتى العالم بأسره، بل غضب الإله.) وكما يشير رابابورت، يؤكد اليهود الأصوليون على العنف الذي كان يهدف إلى الإبادة الجماعية في الغزو اليهودي الأصلي لإسرائيل — عندما صحب الإله نفسه اليهود في غزوتهم — ويؤكدون على أن مفهوم «هريم (أي الحرب)» الإفنائي ليس مُبرَرًا فحسب، بل بمنزلة فريضة للحفاظ على الدولة اليهودية.
ربما يبدو أن هدف الإبادة وليس الترهيب يوسع نطاق مفهوم الإرهاب أكثر مما ينبغي. ورغم أن مفهوم النشاط السياسي قد يكون اصطلاحًا أكثر دقة هنا، إلا أنه مخفف أكثر مما ينبغي؛ بينما يصف اصطلاح الإبادة الجماعية في هذا السياق تطلعًا أكثر منه عملًا. لكن يظل الهدف النهائي — الحفاظ على الأرض — هدفًا سياسيًّا بثبات. إننا نواجه منطقًا سياسيًّا غريبًا، وربما يكون غير مفهوم بالنسبة للتقاليد الغربية، لكنه يمكن النظر إليه على أنه منطق مختلف تمامًا عن الانفصال التام الظاهري عن المنطق السياسي، الذي تعلن عنه معظم الجماعات النشطة «الدينية» الخالصة.
وفق هذا المنظور، ينتمي أكثر الناشطين «الدينيين» الخالصين إلى الطوائف الهامشية، التي — مثل جماعة أوم شنريكيو والجماعات الأخرى التي يبلغ عددها (وفق أحد التقديرات) ١٨٣ ألفًا في اليابان وحدها — تعتمد على رؤى مذهب الملك الألفي التي لا يمكن تحقيقها من خلال أي عنصر بشري (حتى بافتراض إمكانية فهمها في المقام الأول). قد لا تكون هذه الطوائف نتاج المجتمعات التكنولوجية المتقدمة حصريًّا، لكن انتشارها في فترة «نهاية القرن» يبدو أنه يرجع إلى الإحباط تجاه المادية المذعنة «لنهاية الأيديولوجيا». ومثلما هو الحال مع إرهاب الجماعات الصغيرة في سبعينيات القرن العشرين، تمس هذه الجماعات عصبًا حيًّا في المجتمعات التي تكون في بعض الأحيان على وعي بالتطور الفائق، وقلقة إلى حد ما حيال إساءة استخدام التكنولوجيا المتقدمة. فتحت واقعة إطلاق جماعة أوم شنريكيو غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو في ٢٠ مارس ١٩٩٥؛ الباب واسعًا أمام الاحتمال المفزع لتنفيذ عمليات قتل جماعي (وجدت قوات الشرطة في الغارات التي شنتها لاحقًا أن في حيازة جماعة أوم شنريكيو من غاز السارين ما يكفي لقتل ٤ ملايين شخص). في ظل هذا المستوى من العنف، نصل إلى ما يمكن النظر إليه على أنه إما أنقى صور اختزال الإرهاب إلى إشارات رمزية، أو أكثرها عبثية.