ارتقاء روسيا
إن تاريخ روسيا في خلال ثلاثمائة عام يقود المتتبِّع له إلى الدهش الشديد والحيرة العظمى، عندما يذكر كيف كانت حالة هذه المملكة عندما جلس على عرش الحكم فيها أول ملك من أسرة آل رومانوف، فقد كانت عبارة عن عدة مدن صغرى، وقرى متاخمة لمدينة موسكو، وكانت في حالة يرثى لها من الدمار والخراب، من توالي هجمات القوازق، الذين كانت عصاباتهم تطوف البلاد وتعيث فيها فسادًا، وكذلك عصابات البولونيين، وعصابات أخرى من المتشردين، الذين لا عمل لهم غير النهب والسلب وقطع الطرق. وأما مدينة موسكو فقد دنَّسها ودمرها الأعداء، الذين احتلوها مرارًا، حتى إن قصر الكرملين المشهور لبث مدة طويلة بدون سقف.
وقد استولى الأسوجيون على أراضي نوفغورود، واستولى البولونيون على مقاطعة سمولنسك الروسية، وكذلك أخضعوا لسلطتهم جهات روسيا الصغرى الغربية. ثم إن الجهات الجنوبية والجنوبية الشرقية كانت برمتها خاضعة لعصابات القوازق والتتر الأشداء، فالأولون ما كانوا يعترفون بسلطة، أما الآخرون فكانت تركيا تعضدهم وتعزز سلطتهم. وأما سيبيريا الغنية الواقعة وراء الجبال، كانت مستقلة استقلالًا تامًّا، يحكمها عدة قبائل مختلفة.
وإذا قابلنا بين هذا الماضي البعيد، وحاضر روسيا السعيد، التي تبلغ مساحة أرضها الكثيرة السكان سدس مساحة الكرة الأرضية، فإننا نندهش دهشًا شديدًا لهذا الانقلاب العظيم، ولا ريب أنه يخطر على بال كل إنسان، أنه حدث بظروف فوق العادة، أو بحظٍّ عظيم حالف الأمة الروسية وحكامها، أو أن أحد حكامها انتهز فرصة ضعف جيرانها، وأن ذلك حدث بواسطة دهاء رجال سياستها، وبقوة جنودها ومهارة قوادها.
والتاريخ الروسي يدل بإيضاح زائد، على أن روسيا لم يظهر فيها شخص كنابوليون أو كإسكندر الكبير، ولكنها سارت في سبيل القوة والرقي سيرًا تدريجيًّا، حتى أصبحت الآن إمبراطورية عظمى. والحقيقة أيضًا أنها ما وصلت إلى حالتها الحاضرة إلا بوجودها تحت صولجان آل رومانوف.
تقوَّت ونمت روسيا مرهبة الأعداء بالاتحاد والتمسك بالمبادئ القويمة والثقة بقادتها الذين يقودونها في سبيل الحياة. إن المبدأ الأساسي الحيوي، الذي سارت عليه روسيا في خلال ثلاثمائة عام، هو مبدأ الإيمان الأورثوذكسي القويم، وإخلاصها وطاعتها لمليكها الأورثوذكسي. إن القيصر هو ممسوح من الله على المملكة، ولذلك فهو راعٍ للكنيسة، ومدير شئونها الروحية أيضًا، وحياة روسيا قائمة على ثلاثة أمور، هي: «اتحاد الشعب والملك والكنيسة»، وفي هذا الاتحاد تكون قوة روسيا.
إن زمن الاضطراب الذي قضته روسيا لم يقتصر على كونه زمن محن وتجارب ودمار، فإن زمن الخصام على عرش المُلك زعزع البلاد، وزاد في تعاستها وشقائها، وكل ذلك مهَّد الطريق لجلوس الشاب ميخائيل ثيودوروفيتش رومانوف على عرش المملكة، ويعتبر عهده عهد سعادة وسلام لها.
ويجب ذكر الأب ثيوكتيست، الذي دبَّ روح الحماس في نفوس رعيته، حتى كسروا الجنود الثائرين في عام ١٦٠٦، وفي عام ١٦٠٨ فقط عادوا فاستولوا على المدينة وقتلوا أسقفها البار، وقتل الأب غالاكتيون؛ لأنه أبى مباركة المدعي بالملك.
ولما استولت جماهير الخائنين على مدينة روستوف، التجأ المطران فيلاريت رومانوف مع أهل المدينة المخلصين إلى الكنيسة، وأقفلوا أبوابها، واستعد الجميع معه لميتة الاستشهاد، ولكن الأعداء حطموا باب الكنيسة ودخلوها عنوة، وقتلوا عددًا غفيرًا من الشعب، ودنَّسوا الهيكل المقدس، ثم ألبسوا المطران ملابس بولونية رثَّة، وقبعة تترية، وقادوه حافيًا بالإهانات والازدراء والتحقير إلى السجن.
ومما تقدَّم، يظهر لنا أن رجال الدين كانوا يظهرون بمظهر الأبطال البواسل، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى برهان؛ لأن المنازعات والحروب كانت جميعها تحدث بسبب الدين، وكان الروسي يفضِّل الاستشهاد على تغيير دينه، وقد أُهرقت دماء ألوف الروسيين بسبب الدين، ولكن إيمانهم لم يتزعزع، ولكن هذه الشدائد والأهوال التي ذاقها الروسيون بسبب الدين، قد أثمرت فيما بعد أثمارًا شهية غزيرة.
لفظة الوطن مقدسة عند الروسي، ولكنه يعتبر أن الوطن هو الدين الأورثوذكسي، ومع أن روح التعصب تشتمُّ من هذا التعبير، ولكنه لا يعبأ بذلك، بل يعتقد اعتقادًا راسخًا في نفسه أن كل تغيير في الدين ولو في بعض الطقوس يعتبر خيانة شنعاء، وسقوطًا للنفس، وخرابًا للوطن. فالروسي يفهم الوطن غير ما يفهمه الآخرون، فهو في نظره عبارة عن الكنيسة وجميع ملحقاتها، وبناء على ذلك فإن مالوروسيا (روسيا الصغرى) هاجمت ضد بولونيا؛ لأنها مسَّت إحساسات أهلها الدينية، وانضمت بعد ذلك إلى موسكو، وبوجه الإجمال فإن الروسيين يحافظون على دينهم محافظتَهم على نفوسهم؛ ولذلك فهم حماة الأورثوذكسية في روسيا، وفي الشرقين الأقصى والأدنى وفي أميركا وجميع أنحاء العالم.
صاحب السمو الملوكي ولي العهد
حياة الكنيسة والمعارف اللاهوتية على عهد مُلك آل رومانوف
قضت الكنيسة عهدًا محزنًا في أواخر القرن السادس عشر، قُبيل عهد الاضطرابات الثقيل؛ فقد كثُرت الهرطقات واشتد ضغط الغرب لدرجة قصوى، وكانت المدارس ومعاهد العلم مصدرًا لكل هرطقة وفساد، وقد قفلت المدارس الروسية، وما كان رجال الدين يستطيعون قراءة الكتب الكنائسية علنًا، والشعب كان يرزح تحت أعباء الجهل المطبق، حتى إنه قلَّ مَن كان يعرف منه دستور الإيمان أو أبانا الذي.
وفي جهات روسيا الجنوبية الغربية، حيث انتشرت سلطة الجزويت الذين نشروا الكثلكة بالقوة، كان رجال الدين الأورثوذكسي يسامون صنوف العذاب والهوان؛ فقد اضطهدهم وطردهم كهنة الجزويت، وكانوا يجلدونهم بالسياط كما يجلدون الفلاحين، وأما جهل الشعب في هذه الجهة وانحطاطه، فحدِّث عنه ولا حرج. أما الكنائس الأورثوذكسية، فإن أكثرها تحول إلى كنائس كاثوليكية، وبعضها أُجِّر لليهود، فكان المستأجِر اليهودي يحفظ لديه مفاتيح الكنيسة، ويتقاضى أجرةً معينة على كل مرة يفتح فيها أبواب الكنيسة لإقامة الخدمة الإلهية، هذا فضلًا عن أنه كان يتهكم مع أبناء جنسه على الخدمة الدينية.
إن زمن انتشار سلطة البولونيين وانحطاط الحالة الاقتصادية في زمن الاضطراب والمشاغب، زادا في حرج المسألة، وفي انحطاط الكنيسة إلى درجة محزنة، وانحطاط المدارس الدينية والعلوم اللاهوتية. وحسبنا الآن أن نقابل ذلك الماضي المؤلم التعيس بهذا الحاضر المفرح السعيد، حتى نعلم ذلك الشوط الواسع من النجاح الذي قطعته الكنيسة في عهد آل رومانوف.
ومن عهد جلوس ملوك رومانوف على عرش الملك، ابتدأ دور الاهتمام بإعلاء شأن التعليم الديني وحياة الكنيسة، ويجب أن نفهم أنه لم يكن من السهل القيام بهذا العمل العظيم، لا سيما في ذلك الوقت الذي كانت عصابات البولونيين والقوازق والليتفيين يطوفون جميع أنحاء المملكة، يعيثون بها فسادًا، وينهبون الأديرة والحلل الكنائسية والأواني المقدسة، ويجردون الأيقونات من الحجارة الكريمة المزدانة بها.
إن سلطة البطركية — وبالإجمال السلطة الروحية — ارتفعت حالًا على أثر ارتقاء والد أول ملك من ملوك آل رومانوف على كرسي البطركية، وهو البطريرك فيلاريت. وعلى عهد الملك ميخائيل ثيودورفيتش ارتفع شأن البطركية لدرجة قصوى، لا تطلب زيادة لمستزيد، حتى إن البطريرك أحرز لقب الملك الأعظم، وكان يحضر المجالس التي يعقدها الملك، ويحضر أيضًا الجمعيات العمومية، وكان لرأيه المقام الأول.
وعلى عهد البطريرك فيلاريت أنشئت مدرسة دينية في مدينة موسكو لتعليم العلوم اللاهوتية باللغتين اليونانية واللاتينية القديمتين. وفي عام ١٦٨٢ تولَّد مشروع إنشاء أكاديميا لاهوتية، واستُدعى للتعليم فيها أساتذة يونانيون.
وفي عام ١٧٦٢ استولت الحكومة على كل الأموال الموجودة في الكنائس، وكان هذا من الأسباب الداعية إلى تقليل عدد الرهبان، ولكن لوحظ إذ ذاك تقدُّم أدبي عظيم بين الموجودين منهم، وظهر عدة رهبان نوابغ.
وأما ترقية الكنيسة وتقدُّم العلوم اللاهوتية، فقد ابتدأت في القرن التاسع عشر، عندما بلغ عدد الجامعات اللاهوتية أربعًا، وأصبحت مع المدارس الدينية الوسطى ذات رواتب مخصصة وقوانين منظمة، وقد نبغ منها عدد عظيم من رجال الدين المشهود لهم بالتضلع من العلوم اللاهوتية والأعمال المجيدة.
ولكن الإصلاح العظيم في نظام المدارس الدينية الذي حدث عام ١٨٦٧، كان له الفضل الأوفر.
وفي أول الجيل السابع عشر على عهد ملوك آل رومانوف الأولين، كان التعليم الديني منحصرًا في ولايات روسيا الوسطى، ولكن في مقاطعات نوفغورد وما جاورها الخاضعة لأسوج، كان المبشرون ينشرون المذهب البروتستانتي، وفي روسيا الصغرى وروسيا البيضاء كانت انتشرت الكثلكة بالقوة، وفي الجنوب والجنوب الشرقي ساد الإسلام، وفي خلال الجيل السابع عشر اندمجت نوفغورد وروسيا الصغرى مع مملكة موسكو في أبرشية واحدة، ومن هذا الوقت غدا نور الأورثوذكسية ينتشر شيئًا فشيئًا، حتى وصلت أشعته إلى الشرق الأقصى. وابتداء من عام ١٦٨٢ أصبحنا نرى الأديرة منتشرة حتى في سيبيريا المتباعدة، ومع مرور الزمان أصبحت الأورثوذكسية منتشرة في سيبيريا وفي جنوب روسيا وفي القوقاس وأستراخان.
وبوجه الإجمال فإنه في خلال ثلاثمائة عام تعززت الكنيسة الأورثوذكسية، ونمت وتقوَّت على مثال الكنيسة البيزنطية، عندما كانت في أوج مجدها، وقد أُدخلت على المدارس اللاهوتية إصلاحات عديدة جدًّا، جعلتها لا تخرج في تعاليمها عن حدود تعاليم الإنجيل الشريف.
بيت رومانوف والأسطول
من المسائل الرئيسية التي وجَّه إليها التفاته مؤسسُ دولة رومانوف، هي اهتمامه بتعزيز قوات روسيا الحربية.
نحن نعلم حق العلم الخدمات الجليلة التي قامت بها للوطن قواتها الحربية، التي أوصلت حدود روسيا على عهد خلف ميخائيل ثيودورفيتش من بحر البلطيق حتى المحيط الهادي.
إن الوقت المضطرب المظلم انتهى بانتخاب الملك الشاب ميخائيل، الذي وحَّد الأمة ووفَّق بينها.
وفي ١٦٤٢ امتدت علاقات روسيا مع إيران وهولاندا وإنكلترا، الأمر الذي جعل مملكة موسكو توجِّه التفاتها إلى أهمية الأسطول، وقد شرع بذلك الملك الهادئ أليكسي ميخايلوفيتش ومساعده ذو الرأي الثاقب والفكر الصائت أوردين ناشوكين، الذي كتب عنه المستر كولينس الإنكليزي ما يأتي: الآن ناشوكين يعمل بجدٍّ ونشاط في إصلاح وتنقيح القوانين الروسية، وترتيب إدارة المملكة، وهذا الرجل نزيه شريف المبادئ، ولا يمكن ابتياع ذمته، لا يعرف الملل في الأعمال، ويحب الملك حبًّا يشبه العبادة.
صاحب السمو الإمبراطوري
صاحبة الجلالة الإمبراطورة
وفي عام ١٦٦٤، أصدرت حكومة إيران أمرًا بإعفاء بضائع التجار الروسيين من رسوم الجمارك، وقد اضطرت روسيا إذ ذاك أن تحافظ على الطرق التجارية، من أستراخان حتى بحر خفاليتسكي، ولأجل هذه الغاية صنعت الحكومة أول مركب، وذلك في ١٤ نوفمبر/تشرين ثاني من عام ١٨٦٦، في قرية ديلينوفا، وسُمِّي هذا المركب إريول (النسر)، وبلغ طول هذا المركب ٨٠ قدمًا، وعرضه ٢١، وعمقه ٦، وعلى مقدمته ومؤخرته نسرٌ فوقه التاج، ورُسمت على أعلامه النسور أيضًا، وتَعيَّن موظفوه الكبار من الروسيين. ولما أقلع إلى أستراخان رافقه زورقان كبيران أجنبيان، ومركب آخر عليه عدة مدافع وقنابل، ومن هذا الحين دخلت روسيا في عهد مدنية جديد.
ولما ظهر في سماء روسيا بطرس الأكبر، رأى أن الأسطول للمملكة كالماء للسمك، فوضع قانونًا للبحرية قال فيه: إن مملكة موسكو في حاجة شديدة للقوات البحرية، وإنه يجب على خلفائي أن يداوموا الاهتمام بإنشاء الأسطول. وقد حققوا آماله وأتموا وصيته المقدسة رويدًا رويدًا، والحكومة الحاضرة تسعى لإنشاء أسطول ضخم يضارع أساطيل الدول العظمى.
القضاء في روسيا: سنة ١٦١٣–١٩١٣
قلنا إن الملك الشاب جلس على عرش المملكة الروسية، وهي في حالة خراب ودمار، وقد استطاع أن يعمل لخيرها أمورًا كثيرة، ووضع لها نظامات عديدة، ولكن حالة القضاء كانت في درجة منحطة، وقد سلَّمها إلى خلفه كما استلمها هو؛ لأنه من الصعب تنظيم القضاء والأحكام في مثل تلك الظروف المضطربة.
ونحن نعلم أنه بعد الملك ميخائيل جلس على كرسي المملكة ملوكٌ عديدون، استطاعوا إصلاح الأحكام حتى بلغت في هذه الأيام مبلغًا يضارع الأحكام عند أعظم الأمم المتمدنة؛ ففي ذلك العهد كانت الأحكام الإدارية والقضائية ممتزجة ببعضها، بحيث لا يستطيع أحد أن يميز الأحكام المدنية من الجنائية. وقال أحد المؤرخين: إن القضاء كان في ذلك العهد فوضى، لا نظام له معروف، أو طريق مألوف، فإن عدم وجود القوانين وعدم أهلية القابضين على زمام القضاء، كانا يجعلان الحقوق ضائعة، وكان الأهالي يشكون مرَّ الشكوى من حالة القضاء وحالتهم الفقرية، حتى إنهم صرَّحوا مرة للملك أنهم مستعدون لتقديم نفوسهم وأملاكهم في سبيل إصلاح المملكة، ولكن بقيت حالة القضاء مضطربة مختلة على عهد الملوك الأولين، حتى بطرس الأكبر، الذي بناءً على معلوماته التي جمعها من البلاد الأجنبية استطاع أن يضع أسسًا للإدارة والقضاء.
القيصر إسكندر الثالث
وفي عام ١٧١٩ عندما أجري إصلاح الولايات، لم يكن في البلاد موجودةً محاكمُ، فأصدر أمره في ٨ يناير من ذلك العام بإنشاء إحدى عشرة محكمة، وأمر في الحال بإقامة الأبنية لها، وكانت هذه المحاكم تخضع في أحكامها لمحكمة عليا، مؤلَّفة من نظارة حقانية المملكة، وأنشأ بعد ذلك محاكم استئناف ومحاكم في المدن، وبعض القرى الكبيرة، ولكن هذا الإصلاح القضائي لم يأتِ بالفائدة المطلوبة، فإن الولاة ورجال الإدارة لبثوا يتدخلون في شئون القضاء، فحدث بسبب ذلك تناقض في الآراء ووجهة الأحكام، الأمر الذي زاد القضاء اختلالًا واعتلالًا. وفي ١٧٢٠ اشتكت لجنة الحقانية القضائية مرَّ الشكوى من هذه الحالة السيئة، فلجأت الحكومة إلى الطريقة المستعملة في البلاد الأجنبية، وهي نقل الموظف من جهة إلى جهة أخرى.
ومما يجب ملاحظته، أنه في ذلك العهد لم يكن لدى روسيا لا رجل ولا مال للقيام بإصلاح القضاء وتنفيذ نوايا بطرس الأكبر. وقال أحد المؤرخين: إن الأمة كانت في ذلك العهد على جانب عظيم من الجهل المطبق، فلم يكن الواحد يميز القاضي من الحاكم، وقد انتهز الحكام هذه الفرصة لإملاء جيوبهم، ونهب أموال المتقاضين بلا حق، وحاول بطرس الأكبر إجراء طرق عديدة لإصلاح القضاء، فلم يفلح بها، وبناء على ذلك فقد بقي القضاء مختلًّا مدة طويلة في جميع أنحاء روسيا، ومع ذلك فإن ذلك المصلح العظيم أدخل على البلاد إصلاحات عديدة في الأحكام القضائية والإدارية والتجارية، وهو أول من عيَّن رجال النيابة (المدعي العمومي) وألَّف مجلس السنات (الشيوخ) ليكون مرجعًا للقضاء.
القيصر إسكندر الثاني
وقد ألَّف بطرس الأكبر عدة لجان لإصلاح القضاء، فلم تعمل شيئًا مفيدًا، وأخيرًا ترك هذه المسألة لأسلافه. ولما جلستِ الإمبراطورة كاترينا الثانية على عرش المُلك أرادت تحقيق هذه الأمنية، فجمعت لهذا الغرض عام ١٧٦٧ في مدينة موسكو ٥٦٤ نائبًا، عهدت إليهم وضع قوانين جديدة على أساس أمرٍ أصدرته بذلك، ثم إنها رأت أنه ليس من مصلحة المملكة أن تبقى قوانينها على ما هي، فقامت بمشروع إصلاح الولايات عام ١٧٧٦، وأدخلت فيه بعض الإصلاحات على القضاء، وكان أهم شيء ترمي إليه هو تقريب القضاء إلى أفهام الرعية. ومن الإصلاحات التي أجرتها ما يأتي: فصل الإدارة عن القضاء، فصل الأحكام الإدارية عن الأحكام المدنية والجنائية، إنشاء دور خاصة للمحاكم. ومن هذا العهد أصبحنا نرى المحاكم تسير سيرًا منظمًا، وقد قسَّمتها الإمبراطورة إلى ثلاثة أقسام — لا محل لذكرها في هذه العجالة — وبقي القضاء في روسيا سائرًا على النظام الذي وضعته له إلى السنة الستين من الجيل التاسع عشر.
ولكن القياصرة بولس الأول، وإسكندر الأول، وبولس الثاني (عام ١٧٩٦) أجروا بعض الإصلاحات في القضاء، ولكن القضاء الروسي أدخل عليه إصلاح حقيقي على عهد القيصر نقولا الأول، فإنه أمر بجمع القوانين الروسية الموضوعة في أزمان مختلفة، وكان ملغى منها مواد كثيرة، وعهد إصلاحها وإكمالها إلى النابغة المشهور سبيرانسكي، الذي بعد تعب ٧ سنين وضع ٤٥ مجلدًا جمعها من القوانين الموضوعة في أزمان مختلفة.
ولكن على عهد القيصر إسكندر الثاني، دخل القضاء الروسي في عهد جديد سعيد، فوضع في عام ١٨٦٠ قوانين جديدة، ونزع من يد رجال البوليس أشياء كثيرة، وسارت في قضائها على الطريقة السائرة عليها الأمم المتمدنة.
وفي ٢٠ نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٨٦٤ صودق على القوانين التي وضعها القيصر إسكندر الثاني، وبعد عامين دخلت في الاستعمال. ثم إن القيصر إسكندر الثالث وجلالة القيصر نقولا الثاني أجريا بعض إصلاحات ثانوية في القضاء الروسي، وبناء على ما تقدم فإن روسيا انتقلت على عهد آل رومانوف، من عهد مظلم إلى عهد منير عادل لا يضيع فيه حق ولا يُغبَن إنسان.
رقي الأمة المادي في ثلاثة قرون
لكي يتصوَّر الإنسان الخطوة الواسعة التي خطتها روسيا في ٣٠٠ عام، لا يكلفه ذلك إلا أن ينظر حوله، فيرى كل شيء جديدًا لم يكن له أثر من ذي قبل. اليراع الذي أكتب به، والورق، والكتب، والمنضدة، والساعة، والرسوم الفوتوغرافية، والمصباح الذي ينار بالكهرباء أو الكحول أو البترول، ورياش الغرفة وزينتها، والأواني المنزلية، والطعام والشراب، والشوارع المنارة، والجسور، والعربات، والمخازن، وخطوط الترامواي، كل هذا جديد لم يكن له أثر من قبل، وإن كان فعلى طراز قديم خالٍ من الذوق وإحكام الصناعة. أجل لقد أصبحنا في عالم جديد وحياة جديدة، والروسي الآن ما كان يستطيع العيشة لو وُجد في ذلك العهد المظلم الخالي من جميع مطالب وحاجيات المعيشة، وكذلك إنسان العهد القديم، لو وُجد في هذا العصر لاندهش دهشًا شديدًا، وأيقن أنه في عالم آخر غير عالمه.
فكم من الأعمال العظيمة اقتضى القيام بها في البلاد لإيصالها إلى هذه الحالة التي ترتع بها الآن، فقد ارتقت ارتقاء عقليًّا وأدبيًّا واقتصاديًّا، وغير ذلك.
إن حالة البلاد المادية كانت في ذلك العهد طبيعية، وعاش الناس فيها على حساب مواجب الطبيعة التي كانت تهبها للبلاد.
وأما الزراعة، فكانت في العهد المظلم في درجة قصوى من الانحطاط، ومساحات شاسعة من الأراضي كانت بورًا، لا تجد أيدي عاملة تستثمر خيراتها الوافرة، ولم تكن تزرع إلا قطع أراضي صغيرة في أواسط روسيا.
وكان الأهالي يستسهلون الاشتغال بصيد الحيوانات والأسماك على الاشتغال بالزراعة التي كانت في حيز العدم، ونمت نموًّا بطيئًا جدًّا. مثلًا في عام ١٦١٥ في فورينج وأوسكول، كان يزرع الفلاح فدانًا واحدًا أو فدانًا ونصفًا، ويترك نحو ٣٠ فدانًا خاصة به بورًا.
أما الفلاحون فكانوا يكرهون الاشتغال بالزراعة؛ لأنهم كانوا في أغلب البلاد مستعبَدين للأشراف، ومن أواسط القرن الماضي، أخذ الغيورون على تقدم البلاد يهتمون بمسألة تحرير الفلاح من نير الاستعباد، وأخذت هذه الفكرة الشريفة تزداد انتشارًا يومًا فيومًا، وفي ١٨٦١ جرى إصلاح هام للفلاحين، ووزعت عليهم الأطيان بعد أن كانوا يشتغلون فيها كالعبيد، ولكنها لم تعطَ مِلكًا لكل فرد، بل إنها جُعلت تحت مراقبة جمعيات، حتى إذا ازداد عدد الأهالي في المستقبل يصيبهم نصيبًا من الأرض يرتزقون منه، ولكن في هذه الجمعيات لم تعمَّ المساواة، بل وجد فيها الغبن، حيث كان القوي يأكل حقوق الضعيف، فنجم عن ذلك خراب عام للفلاحين، واضطر البعض أن يشهروا حربًا عوانًا على هذه الجمعيات لإصلاح الخلل الموجود فيها، ثم للضرب على أيدي بعض الأشخاص الذين قبضوا على زمام هذه الجمعيات، واستعملوها لأغراض ثورية، وقد حاول العلماء والأفاضل الذين كرسوا نفوسهم لهذه المسألة إقناع الحكومة بحالة تلك الجمعيات الحرجة، وضرورة تحويل الأراضي إلى ملك الأفراد، وقد انتهى الأمر على هذه الصورة، الأمر الذي أفضى إلى تحسين حالة الفلاحين.
وسارت الزراعة بعد ذلك على طريقة منظمة، وهي خطوة شاسعة في سبيل تقدم روسيا، التي ترتكز ثورتها على الزراعة التي يشتغل بها ثلاثة أرباع أهلها.
كان الروسيون في العهد القديم يعيشون عيشًا بسيطًا طبيعيًّا، يزرعون من القمح قدر ما يلزم لطعامهم، وكذلك من الكتان قدر ما يلزم لملابسهم، ولكن بعد ذلك الحاجة ازدادت كثيرًا، واحتاجت البلاد إلى معامل كثيرة وأيدي عاملة تقوم بحاجات البلاد، فأخذ بطرس الأكبر يغرسها بيده الحديدية، وكان يمنح أرباب الصنائع امتيازات عديدة، ومنحًا كثيرة، وحسَّن أجور العمال، وضمن لهم أجرتهم. ومن جهة أخرى فإنه وضع ضرائب باهظة على المصنوعات الأجنبية، وازدادت الصناعة ارتقاء على عهد كاترينا الثانية، ومنحت امتيازات كثيرة لأصحاب المعامل، وأعفتهم من كثير من الرسوم، وصرحت لمن يريد إنشاء معمل أن ينشئه بدون تصريح من الحكومة.
غير أن الصناعة لم ترتقِ الارتقاء الحقيقي إلا بعد تحرير الفلاحين من نير الاستعباد، فنمت بعد ذلك الصناعة، وزادت معامل الأقمشة والسكر، ومع هذا كان يزداد عدد السكان أيضًا، وتزداد مطالبهم زيادة مطردة، ومع مرور الأيام ارتقت الصناعة رقيًّا محسوسًا، وما زالت الحكومة عاملة على إبلاغها درجة الكمال، حتى تضارع الصناعة في أرقى الممالك والبلاد.
طرق المواصلات في خلال ثلاثة قرون
إذا ألقينا نظرة على تاريخ الأمم، لا نجد في العالم أمة تملك أراضي مثل الأمة الروسية، التي تملك أراضي شاسعة متباعدة الأطراف، مترامية الأكناف، وقسم عظيم منها مغطى بالأحراش الكثيفة والمستنقعات، وكانت المواصلات في العصور الماضية صعبة جدًّا لقلة الطرق، فكان الناس يسافرون على أرجلهم، أو على ظهور الحيوانات، أو على الزوارق، متنقلين من نهر إلى نهر. وليتصور القارئ الصعوبة التي كان يصادفها الأهالي، فإنهم كانوا إذا أرادوا الانتقال من نهر إلى نهر، يجرُّون الزورق أو المركب على الأرض، أو على ظهر نقالات من عيدان الأشجار الغليظة، حتى يوصلوه من نهر إلى نهر. ولهذه الغاية كانوا يصنعون مراكب خفيفة يسهل نقلها، وعدا ذلك فإن القرصنة كانت شائعة في تلك الأيام، فإذا أقبل لصوص البحر على مركب يصرخون على أصحابه بقولهم لهم: ارفعوا أيديكم إلى فوق. فيستولي عليهم الرعب وينقادون صاغرين لأولئك القرصان. وقد قال أحد المؤرخين إن الخوف كان مستوليًا على الأهالي من القرصان، لدرجة أن ثلاثة منهم يستطيعون سلب ثلاثين وأربعين رجلًا من الأهالي.
وعلى عهد بطرس الأكبر بدءوا في إنشاء الطرق، فأصدر أمره بتعيين لجنة خاصة للاهتمام بهذا الأمر، وملاحظة الأعمال. وفي عام ١٧٠٦ أُنشئت في روسيا أول ترعة، وهي المعروفة بترعة لادوجسكي، وكانت الطرق البرية معدومة على عهد بطرس الأكبر وما بعده من الملوك، فكان الإنسان يقطع المسافة بين موسكو وبطرسبرج في خمسة أسابيع؛ لكثرة المستنقعات التي تعترضه في طريقه، وعدم وجود الجسور، ولكن الملوك والملكات كانوا يوجهون التفاتهم رويدًا رويدًا إلى إصلاح الطرق البرية والبحرية، فاستدعوا لهذه الغاية مهندسين من إسبانيا وفرنسا وهولاندا؛ لإنشاء الترع والطرق.
وفي عام ١٨٢٩ أُنشئت في لوندرا أول سكة حديدية، ونسجت بعد ذلك على منوالها الممالك الأخرى، وقد قدم في ذلك العهد إلى روسيا المهندس النمساوي فون جيرستنير، لأعمال خاصة به، وفي خلال وجوده طلب من الحكومة الروسية امتيازًا لإنشاء خط حديدي، ولكنها رفضت طلبه.
وفي عام ١٨٣٨ شرعت الحكومة الروسية بمد أول خط حديدي من بافلوفسك إلى بطرسبرج، وإذ ذاك ظهر مشروع إيصال بطرسبرج بموسكو بخط حديدي، وقد حصل بهذه المسألة مناقشات عنيفة، فإن الأكثرية قاومت هذا المشروع مقاومة شديدة، بحجة عدم وجود الإيرادات الكافية من الخط. وقال أحد المعترضين: إن مقدار الشحن الذي يشحن من موسكو إلى بطرسبرج، لا يزيد في العام الواحد عن ٧٩٠٠ بود، وعدد الركاب لا يزيد عن ٨٠٠٠، ومجموع الإيراد من ذلك لا يزيد عن ٥٦٥٠ روبل (٥٦٥ جنيهًا مصريًّا) فاعترض الكونت «تول» ناظر طرق المواصلات على هذا الاعتراض بقوله: إن قلة الشحن والركاب ناجمة عن رداءة الطرق، فإذا زال هذا السبب وتسهَّلت المواصلات، يزداد مقدار الشحن وعدد المسافرين، وبعد مناقشات طويلة رفض مجلس الوزراء المشروع بأغلبية الأصوات بحجة عدم فائدته.
ولكن الإمبراطور نقولا الأول عقد مجلس الوزراء تحت رئاسته في ١ فبراير/شباط عام ١٨٤٢، وبعد أن سمع مناقشة الوزراء بشأنه، قرر أن المشروع مفيد ومستطاع، وأصدر أمره بالشروع في العمل، وعلى هذه الصورة بُدئ في روسيا بإنشاء الخطوط الحديدية، التي أخذت تزيد يومًا فيومًا، حتى زادت زيادة عظيمة، وتألَّفت منها في هذه الأيام شبكة من الخطوط، تبلغ مساحتها ما يزيد على ٦٠٠٠٠ فيورست، مخترقة جميع أنحاء المملكة شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، ومن ذلك يتضح ما قام به ملوك آل رومانوف من الخدمات في تسهيل المواصلات برًّا وبحرًا.
العلوم والآداب في ٣٠٠ عام
إذا أراد الكاتب وصف حالة العلوم والآداب قبل ٣٠٠ عام، يقف يراعه في يده جزعًا، ولا يطاوعه للسير على القرطاس. وفي بدء الجيل السابع عشر، كانت تشتمُّ في روسيا رائحة الآداب الغربية، ولكن الغربيين عندما كانوا يكتبون عن روسيا، يصفونها بأنها بلاد نصف آسيوية.
وقد سادت في روسيا مدة طويلة المدارس الدينية التي كانت قلَّما تبحث عن الحقائق العلمية في غير الكتب المقدسة، ولم يكن في المدارس الأخرى علوم متنوعة، سوى قواعد اللغة والتاريخ، وقد قبضت المدارس الدينية بيدها الحديدية على زمام العلوم والآداب أكثر من مائة عام.
وفي أوائل القرن الثامن عشر، عندما كان الأوروبيون يؤلفون الروايات والكتب المتنوعة، ما كان في روسيا أثر لذلك مطلقًا، حتى إن لغتها لم تكن مهذَّبة في ذلك العصر، وقد أنجبت البلاد في ذلك العصر المظلم، النابغة لومنسوف الذي أصلح اللغة الروسية وهذبها، وبعد مرور ٦٠ أو ٧٠ عامًا أخذت الآداب الروسية تتدرج في سلم الرقي، حتى ضاهت اللغات الأوروبية.
وفي سنة الستين والسبعين، نبغ في روسيا كاتبان مجيدان، ونريد بهما دوستويفسكي وتولستوي، ولا سيما هذا الأخير الذي دوى اسمه في سائر أنحاء المعمورة، وقد امتاز هذان الكاتبان بتصوير نفس الإنسان الداخلية وشعوره، ووصف معيشة الناس على اختلاف طبقاتهم، ووصف الخير والشر وصفًّا مطابقًا للحقيقة.
وإذا ألقينا نظرة على مؤلفات بوشكين، وغوغول، وأرباب الأقلام، في العام الخمسين نجد أن الروايات والمؤلفات، تقدمت تقدمًا سريعًا، حتى فاقت الروايات الروسية في موضوعها وآدابها الروايات الفرنسية.
وأما المؤلفات القصصية الروسية في الجيل السابع عشر، فقد كانت منحطة انحطاطًا عظيمًا، وتناولت مواضيع سخيفة، مثل الحكايات الخرافية عن إسكندر ذي القرنين وغيرها من الحكايات والخرافات التافهة التي لا يستخلص الإنسان منها مغزى أدبيًّا، أو فائدة من الفوائد، وأما الروايات التمثيلية، فقد مثِّلت أول رواية في مدينة موسكو في مرسح غريغوري في القرن السابع عشر، وهي رواية إستير الدينية، وبعد ذلك نقلت من اللغة الإنكليزية إلى الروسية بعض الروايات التمثيلية، ثم أنشئت بجوار المرسح المذكور أول مدرسة لتدريس فن التمثيل.