بطرس الأكبر
وجدتُ من الضرورة أن أخصِّص فصلًا في كتابي هذا، أذكر فيه شيئًا عن أعمال بطرس الأكبر، واضع أساس روسيا الجديدة، مقتطفًا ذلك من عدة تواريخ روسية، فأقول:
في عام ١٦٨٢ توفي الملك ثيودور أليكسييفيتش، ولم يترك له خلفًا من أولاده يرث الملك بعده، ولكنه كان له أخوان، أحدهما يوحنا، من أم واحدة، وهي ماريا ميلوسلافسكايا، زوجة الملك أليكسني الأولى، والثاني بطرس من ناتاليا زوجة الملك الثانية، ولما مات الملك ثيودور المذكور، لم يوصِ بالملك لأحد، وفي خلال دفن الملك تساءل الناس عمن يجلس بعده على عرش المملكة، وكان عمر شقيقه يوحنا ١٦ عامًا، ولكنه كان ضعيف النفس والإرادة، ومريضًا في جسمه؛ لذلك لم يكن يصلح للملك، وأما الأمير بطرس فكانت بنيته قوية، ومشهورًا بالذكاء وسرعة الخاطر؛ ولذلك فإن الأفكار اتجهت إليه، ولما صعد البطريرك إلى الساحة «الحمراء»، سأل الشعب أيهما من الشقيقين يريدونه ملكًا عليهم، فأجاب بصوت واحد نريد الأمير بطرس، وبعد ذلك قدمت موسكو روسيا جميعها يمين الطاعة له.
بطرس الأكبر
•••
ولد بطرس الأكبر في ٣٠مايو/أيار، سنة ١٦٧٢، ولما بلغ الرابعة من عمره توفي والده، فتكفلت والدته ناتاليا كيريللوفنا تربيته، ولما حان وقت تعليمه، استدعت والدته البطريرك الذي صلى صلاة مخصوصة، ورش الفتى بالماء المقدس، وباركه وعهد أمر تعليمه إلى الشماس زوتوف الذي أجلس الأمير الصغير وركع أمامه، وبدأ يدرسه، ولكن الأمير لم يستفد منه شيئًا؛ لأن هذا المعلم كان ملمًا إلمامًا بسيطًا بالقراءة والكتابة، حتى لما بلغ بطرس السادسة عشرة كان يقرأ قراءة ضعيفة جدًّا، ويكتب بأغلاط فاحشة جدًّا تدل على ذلك كراريسه التي كان يكتب بها المحفوظة إلى اليوم، وبعد ذلك وقف على مبادئ بعض العلوم من رجل غريب يدعى تيمميرمان، وجد مصادفة في موسكو، وكان في ذلك العهد سفيرًا لروسيا في باريس الأمير ياكوف دولجوروكي، فأحضر له هدية أسطرلابًا وبعض أدوات حسابية، ولكن الملك الصغير الذي كان عمره آنذاك خمسة عشر عامًا، لم يدرِ ما يفعل بها، ولم يستطع أحدٌ من المحيطين به أن يوضح له طريقة استعمالها، ولكن طبيبًا نمسويًّا أرشده إلى رجل هولاندي تاجر، فاستدعاه وأخذ يدرس عليه الحساب وبعض العلوم، وكان هذا المعلم الجديد جاهلًا أيضًا، حتى إنه يغلط في جميع الأرقام الصغيرة، وقد نشأ بطرس وهو لا يدري شيئًا من العلوم، الأمر الذي أَسِف عليه مرارًا عديدة في حياته، حتى قال مرة: «آه لو تعلمت في صغري كما ينبغي!» ودخل مرة غرفة بناته فوجدهن يتعلمن، فتنفس الصعداء، وقال: «كنت أتمنى أن يكون أصبعًا واحدًا في يدي خيرًا من بقائي جاهلًا.»
وكان بطرس يتمرن كثيرًا في المناورات العسكرية بجوار موسكو برًّا وبحرًا، ولم يرحم في هذه المناورات نفسه، ولا الذين معه، حتى إنه تفرقعت مرة قنبلة فغطى دخانها وجهه، وجرحت شظاياها عدة ضباط، وحينما كان يقوم بمناورة بحرية في البحر الأبيض، هبَّت عليه ريح شديدة هاج منها البحر وماج، وكاد يخته يغرق بمن فيه، وقد نظروا الموت حيانًا، فتناول بطرس الأسرار المقدسة، ولكن من حسن حظه وجد بين البحارة بحار ماهر، استطاع إدارة الدفة وقاد اليخت إلى مكان أمين.
وبعد أن درس بطرس بعض الفنون الحربية من تلك المناورات، نزل لميدان العمل وجعل يحارب أعداءه المحيطين به.
سفرات بطرس الأكبر
كان بطرس الأكبر يميل إلى التعرف بالأجانب المقيمين في موسكو، وأكثرهم من النمسويين؛ لأنه وجد في أحاديثهم ورواياتهم عن حالة المعيشة في أوروبا لذة عظيمة، وقد مال في النهاية إلى السفر ليقف بنفسه على مدنية الغرب؛ ليُدخِلها إلى بلاده، وفي ربيع ١٦٩٧ تأهب للسفر، وحتى يتجنب المقابلات الرسمية والاحتفالات الباهرة، ألَّف وفدًا وأوفده إلى عواصم أوروبا، وانتظم هو نفسه في سلك أعضاء هذا الوفد تحت اسم بطرس ميخايلوف، وشدَّد النكير على أعضاء الوفد حتى لا يذكروا اسمه، فوصل إلى ريغان، وكانت إذ ذاك تحت حكم النروجيين، ولم يسمح له حاكمها برؤية حصونها حتى من بعيد، فغادرها على عجل، وفي المدن الأخرى بقطع النظر عن تخفيه، قوبل مقابلات حافلة، وأقيمت إكرامًا له المآدب والليالي الراقصة، والحفلات الهزلية، ولكن جميع ذلك لم يَرُق في عينيه؛ لأنه كان طالب فوائد علمية وصناعية، فكرَّس وقته لزيارة القلاع والحصون، ومخازن الأسلحة والمعامل، والكليات والمكاتب، والمراصد الفلكية، وأهم شيء كان يهمه الاطلاع عليه، هو الاستعدادات الحربية البرية والبحرية، فأقبل على درس ذلك بهمة ونشاط.
وفي مدينة كينيهسبرج انصبَّ على تعليم إطلاق المدافع، وما مضى عليه زمن قصير حتى تحصَّل على شهادة من رئيس المهندسين بأنه يُحكِم الرماية.
وفي هولاندا اشتغل كعامل بسيط مدة أربعة أشهر، أتقن في النهاية صناعة عمل المراكب، وفي بدء أمره أخفى اسمه وقيَّد نفسه في أحد مصانع المراكب، وسكن في بيت الحداد كيست الذي كان يعرفه من موسكو، فكان يذهب كل صباح إلى الشغل ويجهد نفسه في العمل، حتى يتصبب العرق من جسمه، ولكنه لم يستطِع إطالة الإقامة؛ لأن اسمه عُرف، وأصبح الناس الذين يتوافدون زرافات زرافات لمشاهدة ملك روسيا بين العمال يضايقونه جدًّا، فسافر إلى أمستردام حيث انتظم في سلك عمال أحد مصانع المراكب، وهنا صنع بيديه مركبًا دون أن يشترك معه أحد بعمله، وفي النهاية أخذ شهادة نجار ماهر ورسام، ولكنه لم يكن راضيًا عن صناعة المراكب الهولاندية؛ ولذلك غادر هولاندا، وسافر إلى إنكلترا حيث أقام مدة شهرين ونصف في مصنع للمراكب في ديبتفورد، على بعد ثلاثة كيلومترات عن لندرة، ثم سافر بعد ذلك إلى فينيسيا المشهورة في ذلك الوقت بصنع السفن الصغيرة السريعة، ولكنه لم يستطِع الإقامة فيها؛ لأنه اضطر للسفر إلى فينَّا لمقابلة إمبراطور ألمانيا ليحوله عن عقد السلام مع تركيا، وبعد هذه المقابلة أراد العودة إلى فينيسا، غير أنه وردته أخبار من موسكو تنبئه بحصول ثورة، فعاد إليها مسرعًا.
وبعد ذلك حارب الملك كارلوس ملك أسوج حروبًا عديدة، انكسر فيها أمامه، غير أن هذا الانكسار لم يثبِّط عزائم بطرس، بل قال: «إن الأسياد الأسوجيين يحتمل أن يغلبونا عدة مرار، ولكنَّا نتعلم منهم كيف نغلبهم.» وفي ١٦ مايو/أيار، بينما كان الملك كارلوس يحارب في بولونيا، استطاع بطرس كسر جنود الأسوجيين الذين تركهم كارلوس على شواطئ البلطيق، وفي إحدى الجزائر التي استولى عليها، الواقعة على نهر نيفا، وضع أساس مدينة بطرسبرج عاصمة روسيا الجديدة.
وبعد ذلك احتاج بطرس إلى المال، فوضع أساسًا لإيرادات جديدة، فأنشأ ورق «الدمغة»، وأمر ببيعه للأهالي، ووضع الضرائب على الأهلين، وطلب مالًا من الأديرة، حتى إنه أمر بأخذ أجراس كثيرة من الكنائس وصبها مدافع. وفي مدينَتَي نوفغورد وبسكوف، ساق بطرس أهالي المدن والجنود والكهنة والنساء لبناء القلاع والحصون، وبواسطة نشاطه المتواصل أصبح لديه بعد زمن قصير جيش جعل ينتصر انتصارات متوالية، وأخذ بعد ذلك يزيد في عمران وتحصين مدينة بطرسبرج، وقد انتصر في خلال ذلك بطرس أول انتصار بحري؛ فإن مركبين أسوجيين اقتربا من نيينتانتس لتعزيز حاميتها، وكان بطرس قد استولى عليها دون أن يعلم العدو بذلك، فلما بلغ بطرس قدوم المركبين سار مع منشيكوف وفرقة من الجنود على الزوارق، وبعد معركة كبرى أطلقت فيها المدافع، كسر العدو واستولى على المركبين، وكان هو في مقدمة الصاعدين إليهما. وعلى هذه الصورة تم إنشاء مدينة بطرسبرج، التي أَحبَّها بطرس الأكبر محبة شديدة؛ لأنه المؤسس لها، وغدت محل إقامته، وأصبحت بعد ذلك من أهم مرافئ روسيا التجارية، وقد بلغ عدد سكانها على عهده أربعين ألفًا.
إصلاحات بطرس الأكبر
إذا أراد الكاتب تعداد الإصلاحات التي قام بها هذا المصلح العظيم، فإنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا، وإني أذكر منها نزرًا يسيرًا؛ ليكون دليلًا على مجموعها.
بعد رجوعه من أوروبا منع الروسيين ارتداء الملابس الواسعة، التي تعيق الحركة وتبعدهم عن الغربيين، ثم أمر عام ١٧٠٠ أن يكون ابتداء السنة الجديدة من أول يناير/كانون ثانٍ، وكان يبتدئ قبلًا من شهر سبتمبر/أيلول، ثم أصلح القضاء إصلاحًا عظيمًا. ثم قسم المملكة إلى ولايات وجعل عددها ١٢ ولاية، وأنشأ مجلس الشيوخ؛ ليكون مراقبًا على أعمال الولاة والقضاة، ثم جعل إدارة الأمور الدينية في البلاد، في مجلس دعاه مجلس السينودوس، وفي أيامه انتهى زمن البطاركة. أنشأ أوسمة الشرف لمكافأة الموظفين الأمناء، فأنشأ وسام القديس أندراوس المدعو أولًا، ووسام القديسة كاترينا، وأصلح الجندية والأسطول إصلاحًا باهرًا، فبلغ عدد الجيش في أيامه ٢٠٠٠٠٠ جنديٍّ منظم، ولما توفي كان الأسطول الروسي مؤلفًا من ٤٠ مركبًا كبيرًا و٨٠٠ مركب صغير. أصلح حالة الفلاحين الذين كانوا مستعبدين للأشراف الذين كانوا يبيعونهم بيع السلع، ومنع بيعهم بيعًا إفراديًّا؛ أي إنه لم يسمح لأصحاب الفلاحين بيع أب العائلة أو ابنها. أنشأ مدرسة لتعليم أبناء الموظفين والأهالي المتمدنين، وأنشأ عام ١٧١٥ مدرسة تحت اسم الأكاديميا البحرية، وأنشأ عدة مدارس في مقاطعات عديدة، وكل تلميذ كان يخرج من هذه المدارس بدون أن ينجح في الامتحان ويتحصل على شهادتها، كان يمنع من الزواج. ثم أرسل إرساليات عديدة من الطلبة إلى أوروبا، وكان يمتحنهم بنفسه، وأمر الأساقفة أن ينشئوا في منازلهم مدارس لتخريج الكهنة، وأجبر رجال الدين على تعلم — عدا العلوم اللاهوتية — التاريخ والجغرافيا والحساب والآداب. ثم هذب بنفسه الحروف الهجائية الروسية، ونقلها من حالتها القديمة إلى حالتها الحاضرة.
وقد أصلح العيشة العائلية إصلاحًا يذكر، وهدم الحجاب، حيث كان أغلب الأغنياء يحجبون نساءهم وبناتهم؛ ولهذه الغاية كان يولم الولائم في البلاط الملوكي، ويدعو إليها القواد والأشراف، ويرغمهم على إحضار نسائهم وبناتهم، وأمرهم أيضًا أن يقيموا في منازلهم ليالي السرور ويدعون إليها معارفهم، وفعل كل ذلك لنشر روح الولاء بين الهيئة الاجتماعية الروسية. وفي الصيف كانت تعين أيام خاصة للرياضة في حدائق بطرسبرج، كان يجب على الطبقة الراقية حضورها بمجرد سماعها الضرب على الطبل، وبهذه الطريقة تخلصت المرأة الروسية من أسر الاحتجاب، ومن الملابس الخاصة القديمة، وأمر أن تكون المدة بين الخطبة والزواج ستة أسابيع، يجوز فسخ الخطبة في خلالها، وأصدر أمرًا بأنه لدى عقد القران يجب على والدَي العروس أن يقسما يمينًا بأن هذا الزواج برضاء ابنتهما، وبوجه الإجمال فإن بطرس الأكبر قام بحروب عظيمة، كان الفوز فيها حليفه، ووسع أملاك روسيا، وأصلح عادات أهلها، ومهد لها الطريق إلى المدنية، ويروى عنه روايات عديدة في ديار الغربة، وحكايات ونوادر لم أجد لها متسعًا في هذا الكتاب الصغير.