فلاسفة يونيا١
في ملطية — في القرن السابع قبل ميلاد المسيح — نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينًا طويلًا من الدهر، وخصص شطرًا من حياته في التفكير المجرد من كل القيود، فنظر إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالمظاهر المختلفة، والكائنات المتنوعة، وأخذ يتفكر في خلقها ويحاول تعليلها.
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى إعمال الفكر، هذا التغير الدائب الذي يطرأ على الأشياء جميعها، فها هو ذا كل شيء — كانت ما كانت مرتبته في الحياة — يكون بعد أن لم يكن، ويظل حينًا يقصر أو يطول، ثم ينحل ويتلاشى كأن لم يغنَ بالأمس، فأنى جاء وإلى أين ذهب؟ إنه لم يُخلق من العدم ولم ينحدر إلى العدم، بل تكوَّن من مادة موجودة فعلًا، ثم استحال إلى مادة لا تزال موجودة كذلك، فمهما يكن من أمر هذه الأشياء التي تراها في الأرض أو في السماء، ومهما يكن من ألوانها المختلفة وأشكالها المتباينة، فهي جميعًا أجزاء من مادة بعينها، يطرأ عليها التغير والتحول، فماذا عسى أن تكون تلك المادة؟
هذا سؤال عرضته الطائفة الأولى من الفلاسفة في يونيا، وحاولوا الإجابة عنه.
إذن فقد فكر الإنسان أول ما فكر، في «المادة» التي يتألف منها الوجود، وهذا طبيعي معقول؛ لأن عقل الطفولة الفج لا يستطيع أن يفهم أو يسيغ إلا العالم المادي الذي يحيط به، وهو لا يقوى على التفكير في المسائل العقلية غير المحسة إلا بعد النضوج، فليس غريبًا أن تبدأ الفلسفة بالتفكير في المادة التي خُيِّلَ إليها وقتئذ أن لا وجود لغيرها، وأن ليس الإنسان نفسه إلا ظاهرة مادية من ظواهرها، ثم تَدْرُج صاعدة حتى تصل إلى التفكير المجرد المطلق عند أفلاطون وأرسطو.
وكان أعلام تلك المدرسة اليونية رجال ثلاثة: طاليس، وأَنَكْسِمَنْدَرْ، وأَنَكْسِمِينِس.
(١) طاليس Thales
أرسل الإنسان بصره إلى الكون يستطلع تلك المادة التي تتكون منها الأشياء جميعًا، والتي ترتد إليها الأشياء جميعًا، وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلًا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فلن يصادف إلا عددًا قليلًا من ألوان المادة التي يجوز عقلًا أن تكون كذلك؛ إذ لا بُدَّ لتلك المادة الأولية المنشودة أن تكون مرنة شديدة المرونة في قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وألا تكون محدودة الصفات محصورة الخواص حتى تتسع لكل شيء، أفلا تستطيع أن تحزر ماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته، ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساءٌ أو أصبح صباحٌ؟ إنها الماء! فليس عجيبًا إذن أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، ويجهر بأن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء الذي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارًا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرًا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجًا؟ وإذن فو غاز حينًا، وسائل حينًا، وصلب حينًا، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
كان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره حتى خُيِّلَ إليه أن الأرض قرص متجمد، يسبح فوق لجج مائية ليس لأبعادها نهاية، ويرجح أرسطو أن يكون طاليس قد خلص إلى هذه النتيجة لما رأى أن الحياة تدور مع الماء وجودًا وعدمًا، فتكون الحياة حيث الماء وتنعدم حيث ينعدم.
تلك خلاصة موجزة لرأي طاليس في نشأة الكون، وقد كان عالمًا بالرياضة، عالمًا في الفلك، حتى قيل إنه تنبأ بكسوف الشمس الذي حدث سنة ٥٨٥ق.م قبل وقوعه، وقيل أيضًا إنه علم المصريين كيف يقيسون ارتفاع الهرم بواسطة ظله، وإنه ابتكر طريقة لمعرفة أبعاد السفن من الشاطئ بالوقوف على نشز عال من الأرض، ولكنه في الفلسفة لم يؤثر عنه إلا هذان المبدآن: الكون يتألف من ماء، والأرض قرص يسبح فوق ماء!
(٢) أَنَكْسِمَنْدَرْ Anaxemander
كلا! لا يمكن أن يكون الماء أصلًا للوجود، فمهما بلغ الماء من المرونة وقابلية التشكل، فهو ذو صفات معروفة معينة تستطيع أن تميزه بها عن المواد الأخرى، ومعنى ذلك أن ثمت صفات تناقض صفات الماء؛ (لأنك لا تدرك الصفة إلا إذا أدركت نقيضها، فلا تفهم الحرارة إلا إذا اقترنت في ذهنك بالبرودة، فإذا انعدم هذا التقابل انعدمت كذلك الخصائص والصفات)، وما دام الأمر كذلك، فلا يُعقل أن تكون المخلوقات جميعًا على تناقض صفاتها مشتقة من أصل واحد ذي صفة معينة معروفة، إنما أصل الكون مادة لا شكل لها، ولا نهاية ولا حدود.
هكذا قال أَنَكْسِمَنْدَرْ ثاني فلاسفة المدرسة اليونية، والذي يُقال عنه: إنه كان تلميذًا لطاليس لأنَّه عاصره وعاش معه في ملطية، وكان واسع العلم بالجغرافيا والفلك، وربما كان أول فيلسوف يوناني كتب رسائل في الفلسفة، ولكنها فُقِدَت، وقوله هذا الذي أشرنا إليه مردود عليه؛ لأنه لا يمكن كذلك أن تنشأ الأشياء كلها ولها هذه الصفات المختلفة من مادة لا شكل لها، وإلا فمن أين جاءت صفات الحديد والنحاس والخشب وما إلى ذلك وهي مختلفة كل الاختلاف مع أنها اشتقت جميعًا من مادة واحدة لا تميزها صفات كما يقول؟
كذلك لم يستطيع أَنَكْسِمَنْدَرْ أن يوضح في جلاء كيف تكوَّن العالم — أو العوالم المتعددة كما كان يعتقد — من تلك المادة التي يحدثنا عنها، وكل ما تظفر به منه شرح غامض لا تكاد تتبين منه صورة جلية، ولكنه قدم لنا رأيًا في نشأة الحياة وتطورها فوق الأرض لعله قريب جدًّا مما وصل إليه العلم الحديث في أواخر القرن الماضي، فقد كان يرى أن الأرض كانت سائلًا ثم أخذت تتجمد شيئًا فشيئًا، وفي خلال ذلك كانت تنصب فوق الأرض حرارة لافحة تبخر من سائلها بخارًا يتصاعد ويكوِّن طبقات الهواء، فهذه الحرارة عندما التقت ببرودة الأرض كوَّنت الكائنات الحية، وقد كانت تلك الكائنات أول أمرها منحطة، ثم سارت في طريق التطور إلى درجات أعلى فأعلى بما فطر فيها من دافع غريزي يدفعها إلى الملاءمة بين أنفسها والبيئة الخارجية. إذن فقد كان الإنسان في أول مراحل حياته سمكة تعيش في الماء، فلما انحسر الماء بفعل التبخر اضْطُرت الأسماك المختلفة إلى الملاءمة بينها وبين البيئة، فانقبلت زعانفها على مر الزمان أعضاء صالحة للحركة على الأرض اليابسة، وهي ما ترى من أرجل وأيدٍ، ولعلك مدرك في سهولة ما بين هذا الرأي ونظرية «دارون» من شبه.
(٣) أَنَكْسِمِينِس Anaximenes
إذا كان الماء الذي فرضه طاليس أصلًا للكون لم يصادف من العقل اطمئنانًا؛ لأنه ليس من الشمول بحيث يسع الكون بأسره، وإذا كانت مادة أَنَكْسِمَنْدَرْ التي ليس لها شكل ولا حدود لم تسلم من النقد، فقد نهض أَنَكْسِمِينِس واختار مادة ثالثة فيها الشمول الذي ينقص الماء، وفيها الصفات التي تعوز مادة أَنَكْسِمَنْدَرْ: ألا وهي الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تُنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ في نظره جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت، أليست الحياة في صميمها أنفاسًا من الهواء تتردد في الصدر شهيقًا وزفيرًا؟ إذن فهي الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينًا فيكون شيئًا، ويتخلخل حينًا فيكون شيئًا آخر، والهواء إذا أمعن في تخلخله انقلب نارًا، فإذا ارتفعت كونت الشموس والأقمار، وإذا هو أمعن في التكاثف انقلب سحابًا، ثم أنزل السحاب ماءً، ثم تجمد الماء فإذا هو تربة وصخور، هذا وليست الأرض إلا قرصًا مسطوحًا يسبح في الهواء.
وقد يظن الباحث للوهلة الأولى أن أَنَكْسِمِينِس قد انحط بالفلسفة عن المستوى الذي كان قد بلغه أَنَكْسِمَنْدَرْ؛ ذلك لأنه عاد إلى موقف طاليس، بفرضه أن العنصر الأول الذي نشأ منه الكون كان مادة معينة محدودة، ولكن مهما قيل في هذا فلا شك في أن أَنَكْسِمِينِس قد تقدم بالفلسفة خطوة إلى الأمام بعد أَنَكْسِمَنْدَرْ؛ إذ كان هذا الأخير مهوشًا غامضًا حين أراد أن يبين كيف تخرج المادة التي لا شكل لها هذه الأشياء التي تراها، أما أَنَكْسِمِينِس فيعلل تنوع الأشياء بالتخلخل والتكاثف، ولو أنا أخذنا بنظرية هؤلاء الفلاسفة القدماء من أن أنواع المادة على تعددها واختلاف ألوانها إنما نشأت في الأصل من نوع واحد لاعترضتنا مشكلة عسيرة، هي هذا الاختلاف الذي نراه في صفات العناصر الموجودة بيننا، فمثلًا لو كانت هذه الورقة مُكوَّنة حقيقةً من هواء، فبمَ نعلل لونها وسائر صفاتها؟ إما أن تكون هذه الصفات موجودة في أول الأمر في المادة الأصلية أولًا، فإن كانت موجودة فيها نتج أن المادة الأولى لم تكن مادة واحدة متجانسة كالهواء، ولا بد أنها كانت مزيجًا من أنواع مختلفة من المادة، وإن كانت غير موجودة فيها فكيف نشأت للأشياء خواصها؟ كيف تخرج من الهواء تلك الصفات التي نراها في الأشياء مع أنها ليست فيه؟ لعل أيسر سبيل للتخلص من هذه المشكلة هي أن نبني الكيف على أساس الكم، فنعلل الأول بالثاني، بمعنى أن صفة الشيء نتيجة كمية المادة التي تشغل الحيز، وذلك ما قصد إليه أَنَكْسِمِينِس بالتخلخل والتكاثف.
ومن أشهر هذه المدن إفسوس Ephesus التي يُقال إنها مدينة أهل الكهف، وساموس، وميليتوس Miletus وقد عربها العرب إلى ملطية، وكان منها الفلاسفة المشهورون: طاليس الملطي، وأَنَكْسِمَنْدَرْ، وأَنَكْسِمِينِس، فنُسب هذا الاتجاه من الفلسفة إلى هذا الإقليم، وقيل الفلسفة اليونية والفلاسفة اليونيون.