أفلاطون
لم يشهد التاريخ فيلسوفًا قبل أفلاطون أنشأ فلسفة جامعة ونظامًا شاملًا لنواحي الفكر وجوانب الحقيقة؛ إذ كان كل من سبقه ضيق الأفق محدود النظر، إذا تناول بالبحث جانبًا فاتته الجوانب الأخرى؛ ولذا لم تَعْدُ الفلسفة قبل أفلاطون أن تكون مجموعة من آراء متناثرة ونظريات وملاحظات، لم تتسع بحيث تشمل الكون بأسره، ثم أتى أفلاطون فأجال البصر فيما أنتج الفكر من قبله، وأخذ خير ما عند الفيثاغوريين والإيليين، وأحسن ما أنتجه هرقليطس وسقراط، وهكذا قطف أجمل أزهارهم، ثم نسقها جميعًا في طاقة جميلة منسجمة، قدمها للعالم فلسفة جديدة من خَلْقه وإنشائه، فلم يكن حاصدًا لإنتاج غيره وكفى، بل جمع شتى العناصر، وسلط عليها أشعة من ذهنه الجبار فانصهرت كلها في مبدأ جديد أنشأه إنشاءً وابتكره ابتكارًا، ثم اتخذه نواة يبدأ منها السير وأساسًا يقيم عليه البناء.
لا يعرف التاريخ على وجه الدقة متى وُلد أفلاطون، ويُرَجَّح أن يكون ذلك بين سنتي ٤٢٩–٤٢٧ق.م، وهو سليل أسرة أرستقراطية في أثينا قد تحدرت إليه منهم ثروة عريضة أفسحت له من الفراغ ما يتطلبه الاشتغال بالفلسفة.
أما كتب أفلاطون فقد صاغها في أسلوب الحوار، واتخذ من سقراط بطلًا للكثير الغالب من تلك المناقشات المكتوبة، فيجري على لسانه ما يريد أن يقوله هو من فلسفة مضافة إلى فلسفة سقراط نفسه، وبذلك امتزجت آراء سقراط بآراء أفلاطون؛ حتى لا تستطيع أن تميز بينهما في كثير من المواضع، ولم يكن أفلاطون في كتابته فيلسوفًا فقط بل كان كذلك أديبًا فنانًا، فحواره مملوء حياة بما أودع من خيال حسن وفكاهة لطيفة، وقص حوادث وإدخال أشخاص ذوي شخصيات مختلفة يمثلون أدوارهم تمثيلًا دقيقًا.
وأظهر شيء في أسلوب أفلاطون أنه أسلوب خيالي، فهو لا يشرح فكره بوضوح وبطريقة علمية مباشرة، ولكن يشرحه من طريق الاستعارات والأساطير والقصص، وهي طريقة جميلة في كثير من الأحيان ولكنها مربكة، فكثيرًا ما يتردد الباحث هل هو يريد المعنى الحقيقي لكلامه، أو هو قد أتى به على طريق الاستعارة، وأنه يرمي إلى معنًى آخر، وقد جاء هذا من قِبَل أنه فيلسوف شاعر، أو فيلسوف وأديب معًا، واجتماع الفلسفة والشاعرية خطر؛ لأن غرض الفلسفة فهم الحقيقة وشرحها من الطريق العلمي، وغرض الشاعرية مجرد شعورك بالحقيقة ووصف إحساسك بها بعرض صور واستعارات ومجازات وما إليها، فإذا كان الإنسان فيلسوفًا شاعرًا فهناك الخوف من أنه لا يعمد إلى الحقيقة الخارجية فيشرحها بل يعمد إلى شعوره بها فيشرحه على الطريقة الشعرية، فكان أفلاطون بديعًا في مزج الشعر بالفلسفة فخرج قوله حكيمًا جميلًا، ولكنك لا تدري في كثير من الأحيان أين هو حكيم وأين هو جميل؟ ثم لا تعرف أحكمة هو فتركن إلى ظاهر لفظه، أو خيال وشعر فتحاول أن تتبين ما يرمي إليه.
أما المجموعة الثانية من كتب أفلاطون، والتي تقع في المرحلة الوسطى من مراحل حياته، أعني في تلك الفترة التي أنفقها في الانتقال من بلد إلى بلد، فترى فيها إلى جانب آراء سقراط طائفة من آراء المدرسة الإيلية التي أخذها وهو في ميغارا عن صديقه إقليدس الميغاري، وفي هذه المجموعة الثانية كذلك ترى فلسفته الخاصة قد أخذت في التكوُّن، وترى فكرته الأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفلسفي — وأعني بها نظرية المُثل — قد بدأت في الظهور، ولكنه ظهور غامض يكتنفه بعض التهويش والاضطراب، كأنها لم تكن قد اتضحت بعد في ذهنه وضوحًا تامًّا؛ ولذا تراه في محاوراته فيها يتعثر في التعبير ويغمض في الشرح، لا ينطلق لسانه في سهولة ويسر؛ لأن الأفكار في ذهنه كانت نيئة لم تنضج بعد فلم يقوَ على تذليلها، بحيث تجري مع قلمه طيعة، وإذن فلن تجد في هذه المجموعة الثانية جمالًا في الأسلوب ولا ألوانًا من الفن كالفكاهة اللطيفة التي عهدناها في المجموعة الأولى، وكل ما يصادفك هنا مادة متصلة في الحوار كلها أدلة عقلية، وحجج منطقية.
أما المجموعة الثالثة التي أثمرتها مرحلته الثالثة من مراحل حياته التي قضاها في الأكاديمية في أثينا، فهي ناضجة أتم النضوج وفيها ترى أفلاطون قد اكتمل نموه، وسيطر على أفكاره وآرائه فاستطاع أن يجريها في عبارات فنية رائعة سلسة صافية، فعاد الأسلوب في هذه المرحلة إلى صفائه ونقائه الذي لازمه في المرحلة الأولى، فإن كانت المجموعة الأولى تتميز بطابع الجمال الذي في الأسلوب، والثانية بالعمق في التفكير، فقد جمعت الثالثة بين هذَيْن الطابعَيْن، وجاءت فكرًا ناضجًا في أسلوب جميل.
- (١)
نظرية المعرفة التي يكمل بها ما أبداه سقراط من تفنيد مذهب السوفسطائيين.
- (٢)
نظرية المُثُل التي تبحث في الحقيقة المطلقة.
- (٣)
والطبيعة (الفيزيقا) وهي تبحث في ظاهر الوجود من حيث هو مادة تملأ المكان والزمان.
- (٤)
والأخلاق وتشمل المبادئ السياسية، وواجبات الإنسان من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في مجتمع.
(١) نظرية المعرفة
كان السوفسطائيون يقولون إن المعرفة كلها مترتبة على الإدراكات الحسية، وهي لذلك مختلفة عند الأشخاص؛ لأن هذه الحواس وهي مبعث الإدراكات لا تتفق عند الناس جميعًا، فلما أتى في أثرهم سقراط، وأراد أن يثبت أن العلم ثابت الحقائق، وجه إلى السوفسطائيين نقدًا هدم قولهم من أساسه، وأقام الدليل على أن المعرفة عبارة عن مدركات عقلية؛ لأنها تتكون في مجموعها من حقائق كلية استخلصها العقل لا الحواس من الجزئيات، ولما كان العقل عنصرًا مشتركًا لزم أن تكون الحقيقة عند شخص معين هي نفسها الحقيقة عند شخص آخر.
وها هو ذا أفلاطون ينهض بعد أستاذه فيواصل بعده الطريق حتى ينتهي إلى نظريته الهامة — أعني نظرية المُثُل — وهي قطب الرحى من فلسفته، وأساسها التي تقوم عليه وأصلها التي تتفرع منه.
- (١)
يقول بروتاجوراس: إنَّ ما يبدو حقًّا لشخص ما فهو حق بالنِّسبة إليه، فماذا يقول فيما يبدو للناس أنه الحق عن حوادث المستقبل، فقد يؤكد شخص أنه سيكون وزيرًا في العام المقبل، وإذا به يستقبل عامه في غيابة السجن، وإذًا فما ظنه حقًّا لا يأتيه الشك تبين أنه وهم باطل أثبتت خطأه الأيام.
- (٢)
كيف نتخذ الحواس سبيلًا إلى العلم، وهي تحمل إلينا إدراكات متناقضة، فهذه الشجرة كبيرة إذا دنوت منها، صغيرة إذا بعدت عنها، وهذا الكتاب خفيف إذا قارنته بوزن المائدة، وهو ثقيل إذا قارنته بالقلم، وهو أبيض اللون في ضوء الشمس، أخضره في ضوء آخر، ولا لون له في الظلام، وهذه الورقة مربعة إذا نظرت إليها من أعلى، وهي ليست كذلك إذا تغير موضع نظرك إليها، فأي هذه الآثار حق وأيها باطل؟ إن الحواس تحمل إلى أذهاننا آثارًا مختلفة عن الشيء الواحد، فيأخذ العقل في الاختيار والتفضيل، ويقبل هذا ويرفض ذاك حتى يكوِّن لنفسه حقيقة الشيء المُحَسِّ، فإن نقلت إليَّ شكلًا بيضيًّا لهذا القرص أدرك عقلي صورته الحقيقية وهي أنه مستدير، أما إذا كانت المعرفة سلسلة من الإدراكات الحسية فليس لنا الحق في تفضيل إدراك على إدراك آخر؛ لأنها جميعًا معرفة، فهي جميعًا حق.
- (٣)
تؤدي نظرية السوفسطائيين إلى نتيجة محتمة وهي استحالة التعليم والحوار وبطلان الأدلة والبراهين؛ لأنه إن كان كل إدراك يأتي به الحس حقًّا، ولا تَقِلُّ قوة حقيقته عن أي إدراك آخر، لزم أن يكون إدراك الطفل في مستوًى واحد مع إدراك معلميه من حيث أن كليهما يحس الحقيقة، وإذًا فيستحيل على معلم أن يعلم شيئًا، أما الأدلة والبراهين والحوار فلا يكون فيها غناء؛ لأن مجرد القول بأن شخصَيْن يتنازعان على حقيقة شيء ما يتضمن أنهما يعتقدان في أن لذلك الشيء حقيقة خارجية يختلفان عليها، فإذا تناقض إدراكهما له وجب أن يكون أحدهما على الأكثر هو وحده المُصيب، أما أن نسلم بأن كلَيْهما على حق فيما يقول فتسليم بأن كل حوار أو تدليل لغط لا ينتهي إلى شيء.
- (٤)
لو كانت الحواس هي مقياس الحقائق لاشترك الحيوان مع الإنسان في إدراك الحقيقة؛ لأنه يشترك معه في الجانب الحسي منه، وإذن لوجب أن يكون الحيوان مقياسًا لكل شيء، كالإنسان سواء بسواء.
- (٥)
تناقض هذه النظرية نفسها بنفسها، وحين يقول بروتاجوراس «إن ما يبدو لأي شخص أنه الحق فهو حق بالنسبة له» يثبت بهذا القول نفسه فساد رأيه؛ لأنني إذا قلت إن نظرية بروتاجوراس تبدو لي أنها باطلة وجب أن يعترف معي بروتاجوراس نفسه أنها كذلك، وإذن فلا نظرية هناك يعترف بصحتها جميع الناس.
- (٦)
القول بهذه النظرية لا يجعل فاصلًا بين الحق والباطل، فكل شيء حق وباطل في آن واحد، وإذن فاللفظتان تعنيان معنًى واحدًا، أو لا تعنيان شيئًا؛ وعلى ذلك فيكفي أن تقول إنني أدرك كذا أو كذا دون أن تضيف إليه صفة الحق؛ لأنها كلمة فارغة لا يُقصَد بها معنًى.
- (٧)
لا يخلو إدراك كائنًا ما كان من عنصر خارج عن عمل الحواس، فإذا قلت مثلًا «هذه الورقة بيضاء» فقد تظن أن هذا إدراك جاءك عن طريق الحواس وحدها، والواقع أن فيه جانبًا كبيرًا من عمل العقل، إن حاسة الإبصار قد نقلت إليك صورة معينة، فمن أدراك أنها ورقة وليست قطعة من الخشب أو النحاس؟ أليس هذا الحكم بأنها ورقة نتيجة لعملية عقلية سريعة قارنت بها هذا الجسم الذي تراه بمجموعات الأنواع التي في ذهنك، فلما رأيت فيه صفات الورق حكمت بأنها ورقة، ثم أجريت مقارنة أخرى من حيث اللون، فقست هذا اللون المعين الذي ينقله إليك البصر بمعلوماتك السابقة عن الألوان، وحكمت آخر الأمر أنها بيضاء، وإذن فيستحيل أن تحكم على الشيء المحسِّ بنوعه إلا إذا كنتَ عالمًا بمواضع الشبه بينه وبين أفراد نوعه، وبمواضع الخلاف التي تميزه من أفراد الأنواع الأخرى التي حصلتها تجاربك الماضية، وهذه المقارنة السريعة التي لا بُدَّ منها قبل الحكم بأن ما ترى قطعة من الورق هي في الواقع عملية عقلية محضة، يستحيل أداؤها على الحواس؛ لأن أعضاء الحس تنقل الصورة الخارجية، كل عضو في دائرته المعينة، دون أن تشترك جميعًا في بناء الصورة، فالعين تحمل الشكل، والأصابع تحمل الملمس، والأنف ينقل الرائحة وهكذا، فإذا وصلت هذه الجزئيات إلى الذهن تظل هكذا مفككة لا يتصل بعضها ببعض إلا إذا أدركها العقل فكوَّن منها صورة تطابق صورة الشيء الخارجي.
وخلاصة القول: أنَّ العلمَ لا يُمكن أن تأتي به الحواس وحدها، وأنَّ العقل هو الأداة التي نستعين بها في الوصول إلى المعرفة مهما كان نوعها، ولا بد من التفريق بين العلم الصحيح والرأي الشخصي.
وإلى هنا سار أفلاطون في نفس الطريق التي سلكها أستاذه سقراط، حيث انتهى إلى أن المدركات العقلية وحدها التي يعبر عنها بالتعاريف هي العلم، ولكنه لم يقف عند هذا الحد الذي وقف عنده سقراط، بل تابع السير حتى وصل إلى الحقيقة المطلقة بنظرية المثل التي ننتقل الآن إلى شرحها.
(٢) نظرية المُثُل
انتهى سقراط إلى أن العلم الصحيح هو الإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل بعد استعراض الجزئيات وجمع الصفات الجوهرية المشتركة بينها، واستبعاد الصفات العرضية التي يتصف بها بعض الجزئيات دون بعض، وأضاف إلى ذلك أن التعريف هو في الواقع تعبير عن تلك الإدراكات الكلية، وهذه التعاريف هداية للإنسان في تفكيره وفي سلوكه، ترسم له الطريق واضحة مستقيمة، فتعريف الفضيلة — مثلًا — لا يدع أمامنا مجالًا للشك في قيم الأعمال؛ لأنه سيكون لنا بمثابة مقياس نقيس به العمل، لنرى هل فيه ماهية الفضيلة كما نفهم من تعريفها، فيكون العمل خيرًا، أوْ ليست فيه فيكون شرًّا، ولكن سقراط حين قرر أن هذه الإدراكات الكلية التي يصل إليها الإنسان بعقله هي المعرفة وقف عند هذا الحد، ولم يعتبر أن لها وجودًا معينًا في الخارج، فأتى أفلاطون وخطا بعد أستاذه خطوة انتهت به إلى هذه النظرية التي هي من فلسفته كالأساس من البناء، فقد سلم مع سقراط بصحة ما وصل إليه من أن العلم لا يقوم على المدركات الحسية التي توصلها الحواس إلى الذهن، بل هو عبارة عن المدركات العقلية التي يستخلصها العقل مما يصادف في الحياة من جزئيات، ولكنه لم يوافق سقراط على أن هذه الصور الذهنية ليس لها وجود يطابقها في العالم الخارجي، بل إن لها حقيقة خارجية مستقلة عن الإنسان، فالإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل هي أسماء لها مسميات في الواقع، وإلا لكانت وهمًا باطلًا من خلق الخيال، أليست الفكرة الحقيقية هي ما كانت منطبقة على الواقع؟ فإن رأيت الشمس طالعة وكانت طالعة حقًّا كانت فكرتي صحيحة، وإلا فهي فكرة باطلة، وبناءً على هذا تكون الحقيقة عبارة عن مطابقة الفكرة الذهنية للشيء الخارجي، والفكرة الباطلة هي التي لا تطابق شيئًا موجودًا بالفعل، ولما كان العلم هو ما تعلق بالحقيقة وحدها لزم أن يكون لكل ما أعلمه صور فعلية في الخارج، ولكن العلم كما رأينا عند سقراط ووافقه أفلاطون هو الإدراكات الكلية العقلية التي تنصب على الأنواع، وليس الإدراكات الحسية الجزئية التي تقع على الأفراد، وإذن يتحتم أن تكون لتلك الإدراكات الكلية مسميات حقيقية واقعية خارجية تطابقها تمام المطابقة، وإنه لتناقض أن تذهب إلى أن الإدراك العقلي هو وحده العلم الصحيح، ثم تسلم من جهة أخرى أن ليس له شيء في الخارج ينطبق عليه.
وما دامت الإدراكات العقلية الكلية هي وحدها العلم الصحيح، إذن فكل ما نحصله بواسطة الحواس باطل أو شبه باطل، فنحن ندرك عددًا عظيمًا من الجياد بواسطة الحواس، ولكن العقل يقدم لنا صورة واحدة للحصان هي الإدراك الكلي للنوع بصفة عامة، فإذا كانت هذه الصورة الواحدة التي يكوِّنها العقل هي وحدها الحق، كانت كل الجياد التي رأيناها في الحياة العملية ظلًّا للحقيقة لا الحقيقة نفسها.
وليس الأمر قاصرًا على الأشياء المجسدة، بل يتناول كل ضروب المعرفة، خذ الجمال مثلًا، فإن سألتك عن الجمال ما هو، فقد تشير إلى وردة قائلًا: إن في هذه لجمالًا، كما تقول ذلك في حسناء، وكما تقوله في المنظر الطبيعي الجميل، وفي الليلة المقمرة، ولكن هذه كلها أشياء جميلة وليست هي الجمال في ذاته، وأنا أسأل عن شيء واحد هو الجمال، لا أشياء كثيرة يتمثل فيها الجمال، فإن كانت الوردة مثلًا هي الجمال استحال أن تقول ذلك في أي شيء آخر؛ لأن الجمال شيء واحد، وآية ذلك أن له في اللغة لفظًا واحدًا، هو شيء غير هذه الأشياء التي أشرت إليها، فماذا عساه أن يكون؟ قد تعترض بأن ليس ثمت جمال واحد، وأنه متعدد يظهر في الأشياء ولا يكوِّن شيئًا بذاته، ولكن ما الذي دعاك إلى القول بأن الوردة والمرأة والمنظر والليلة المقمرة تشترك جميعًا في صفة واحدة هي الجمال؟ أليس ذلك دليلًا على أنك وجدت وجهًا للشبه بينها؟ ومن أدراك بهذا الشبه؟ إنها ليست العين؛ لأن البصر لا يدل على أن الوردة تشبه في منظرها الليلة المقمرة، هذا فضلًا عن أن التشابه بين الأشياء لا يُعلم إلا بالمقارنة، والمقارنة لا تكون بالحواس، إذن لا بُدَّ أن يكون في ذهنك فكرة عن الجمال تقيس بها الأشياء الخارجية، فتعلم مقدار ما لها من جمال، وبهذه الفكرة الذهنية استطعت أن ترى وجه الشبه بين الوردة والليلة المقمرة؛ لأن كلًّا منهما فيه شبه بالصورة التي لديك.
هذه الفكرة عن الجمال هي فكرة عن شيء واحد، فإما أن يكون لها وجود في الخارج تطابقه أو لا يكون، فإن لم يكن فهي إذن من انتحال الخيال وتلفيق الذهن؛ وبناءً على ذلك تكون أحكامك كلها عن جمال الأشياء الخارجية مقيسة بمقياس شخصي محض، ونكون قد عدنا إلى الوراء حيث فلسفة السوفسطائيين بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، فما يراه جميلًا فهو جميل، وما يراه قبيحًا فهو قبيح، فلم يبقَ إلا أن نسلم بأن فكرة الجمال الموجودة في العقل إنما تطابق شيئًا واحدًا في الخارج تمام المطابقة هو الجمال، ومعنى ذلك أن ثمت في العالم الخارجي جمالًا في ذاته مستقلًّا عن عقل الإنسان.
وما قيل عن الجمال يمكن أن يُقال عن العدل والخير والبياض والسواد وسائر الصفات، فثمت في الخارج عدل واحد ينطبق على فكرة العدل الموجودة في العقل، وهو متميز عن الأعمال التي نصفها بالعدل، كذلك هناك أشياء كثيرة بيضاء، ولكن البياض في ذاته شيء واحد موجود فعلًا وله صورة في الذهن.
وهذه القاعدة صحيحة عن الرذيلة وعن الأشياء المادية كلها كالحصان مثلًا، فإن سألتك عن الحصان ما هو؟ فلست أريد حصانًا معينًا مما نراه في الحياة العملية، إنما أريد ذلك الحصان الواحد الموجود في الخارج، والذي له صورة في الذهن.
- (١)
عناصر، ومعنى عناصر في الفلسفة أن وجودها من نفسها، لم يسبب وجودها شيء خارج عنها، وأنها أساس الأشياء ولا شيء أساس لها، لا تعتمد على شيء وغيرها يعتمد عليها، وهي الأُسس الأُولى للعالم.
- (٢)
وهي عامة لا خاصة، فمثال الإنسان ليس إنسانًا خاصًّا بل هو الحقيقة العامة لكل إنسان.
- (٣)
وهي ليست أشياء مادية بل معاني مجردة، لها وجود في نفسها مستقل عن كل عقل، وما في العقل — إذا صدق — صورة لها.
- (٤)
وكل مثال وحدة لا تتعدد، وإنما الذي يتعدد أفرادها، فمثال الإنسان واحد، ومثال الجمال واحد، وإنما يتعدد الأشخاص.
- (٥)
وهي أبدية لا تفنى إنما تفنى الأشخاص، فالأشياء الجميلة تفنى، أما مثال الجمال فلا، كالتعاريف، فتعريف الإنسان حقيقة خالدة لا تتأثر بما يطرأ على أفراد الإنسان من تغير.
- (٦)
وهي جوهر الأشياء؛ لأن التعريف يشتمل على الصفات الجوهرية للشيء، فإذا عرفنا الإنسان بأنه حيوان مفكر فمعنى هذا أن التفكير هو جوهر الإنسان، وأما الصفات العارضة كشكل الأنف مثلًا فلا تدخل في التعريف.
- (٧)
كل مثال كامل، فمثال الإنسان هو نموذجه الكامل، والإنسان الشخصي يبتعد منه ويقرب بنسبة كماله.
- (٨)
وهي لا يحدها زمان ولا مكان وإلا كانت مشخصة.
- (٩)
وهي معقولة، أعني أن في إمكان العقل إدراكها، وذلك بالبحث والاستنباط.
تلك هي صفات المُثُل التي تميزها من الأشياء المحسة تمييزًا ظاهرًا، فمثال الحصان مثلًا يختلف عن الحصان نفسه في أن المثال حقيقة مجردة، وأنه وجود مطلق أما الحصان فشيء محسوس، وهو باطل، وليس له من الوجود الحقيقي إلا بمقدار قربه من مثاله، ومعنى ذلك أن الأشياء المحسة فيها جانب الوجود لقربها من المثال، وفيها جانب العدم لبعدها عن التجريد، فهي لهذا وسط بين الوجود والعدم، أعني أنها أنصاف حقائق، كذلك يتميز مثال الشيء عن الشيء نفسه بأن المثال واحد، أي إن هناك مثالًا واحدًا للحصان، أما الشيء نفسه فكثير متعدد، والمثال لا يحده الزمان والمكان؛ لأنه فكرة مجردة، أما الشيء المحس فزماني مكاني، والمثال لا يتغير ولا يتحرك، أما الشيء فمتغير أبدًا متحرك أبدًا.
وقد رد أرسطو نظرية أفلاطون هذه إلى مصادر ثلاثة: فقد أخذ من الإيليين فكرة الوجود المطلق وطبقها على المُثل، وأخذ من هرقليطس فكرة التغير المطلق وطبقها على الأشياء المحسة، كما أخذ من سقراط نظرية المدركات العقلية.
ولما كانت المُثُل دائمة ثابتة لا يطرأ عليها تغير أو فناء كانت هي مصدر المعرفة الحقيقية، على خلاف عالم الحس الذي يخضع لتغير متصل لا ينقطع، ولا يثبت الشيء على حاله لحظتَيْن متتابعتَيْن، فهو لا يصلح أن يكون مصدرًا للعلم؛ لأنك لا تستطيع أن تعلم شيئًا عن جسم يتغير من لحظة إلى لحظة؛ إذ لا بُدَّ أن يثبت أمام العقل حتى يمكن العلم به، ولكن هذه الأشياء المحسة ليست مجهولة منا كل الجهل، فهي تصور المُثل وتحاكيها على حال يختلف حظه من الدقة باختلاف الأشياء؛ وهي لهذا يمكن معرفتها بقدر دقة محاكاتها للمثل، فإن كان هذا الإنسان أقرب من ذلك إلى مثال الإنسان، كنا به أعلم.
وليست تقتصر المُثُل على الأشياء العقلية كالخير والجمال والعدل، والأجسام كالحصان والشجرة والنهر، والصفات كالبياض والسواد، ولكنها تتناول الأشياء المصنوعة أيضًا، فهذه المقاعد والموائد والملابس والأسرة لها مثل أيضًا، بل إن هناك مثلًا للقبح والظلم، ومثلًا لصنوف الأقذار.
وقد كتب أفلاطون في إحدى حواراته ما يدل على ذلك دلالة واضحة، فجعل بارمنيدس يسأل سقراط الصغير: هل هناك مثل للشعر والأقذار؟ فأنكر سقراط في جوابه أن يكون لمثل هذه الأشياء الوضيعة مثل، فيصححه بارمنيدس قائلًا: إنه إذا ارتفع إلى مرتبة الفلسفة العليا فلن يزدري هذه الأشياء كما يزدريها الآن، والخلاصة أن كل شيء يكون له في الذهن إدراك كلي، أعني أن كل نوع تنطوي تحته جزئيات كثيرة ويكون له اسم واحد يُطلق عليه، فله مثال.
ثم تقدم في نظرية المُثُل فقال: إن الحقيقة المطلقة — أي المثل — ليست وحدها منعزلة، ولكنها أعضاء من كلٍّ واحد، أي إنها في مجموعها تكوِّن كُلًّا ذا أجزاء، وكل هذه الأجزاء متصل بعضها ببعض.
فكما أنَّ المثال الواحد يُطبَّق على جزئيات كثيرة من الأشياء المحسة يكون هو بينها العنصر المشترك، كذلك يكون فوق كل طائفة من المُثُل الدنيا التي تشترك في صفة ما مثال أعلى منها، وهذا المثال الأعلى نفسه يكون فوقه مضافًا إليه ما يشبهه من المُثل مثال أعلى، وهكذا دواليك: فمثال البياض ومثال الحمرة ومثال الزرقة يشملها كلها مثال اللون، ومثال الحلاوة ومثال المرارة تنطوي تحت مثال الطعم، ثم تنطوي مُثل اللون والطعم وما إليهما تحت مثال أعلى منهما هو مثال الكيف، وهكذا تظل تتدرج في العلو حتى يتكوَّن لديك هرم، وفي قمته المثال الأعلى الذي يفوق كل ما عداه من المُثُل، وهو حقيقة الوجود المجردة التي وُجدت بنفسها ثم صدرت عنها سائر المُثُل، بل الكون كله، ذلك هو مثال الخير، ومن هذا نرى أن عالم المُثل وحدة، إلا أنها تتكوَّن من أجزاء كثيرة، وأهم مسائل الفلسفة عند أفلاطون هي معرفة مراتب هذه المثل والعلاقات التي تربط بعضها ببعض؛ ولذلك بدأ في دراسة تلك العلاقات ولكنه لم يكمل بحثه، وإنما أكثر من ضرب الأمثلة على العلاقة فقط، فقال مثلًا: إن مثال الخير هو أساس كل المثل، وإن ما عداه مؤسس عليه ومشتق منه، ولكن لم يبين بعد ذلك هذه العلاقات بوضوح.
ولما كان مثال الخير هو المثل الأعلى كانت كل المُثل تسير نحوه، وهذا العالَم أيضًا بسيره نحو المثل ينشد الخير، أي الكمال.
وهذا يسلمنا إلى التساؤل عن رأي أفلاطون في الله، وإذا تتبعنا قوله نراه يعبر عن الله طورًا بصيغة المفرد، وطورًا بصيغة الجمع، وينتقل في تعبيراته بسهولة من التوحيد إلى التعديد؛ ذلك لأنه يذكر أحيانًا ما يُفْهَم منه أن هناك آلهة متعددين، ويقول بعدُ إن هناك «خالقًا» أعلى يدبر العالَم ويحكمه، وهو فوق أن تحيط به العقول، ولكن ما علاقة هذا الإله الأعلى بالمُثل وخاصةً بمثال الخير الذي قال عنه أفلاطون «إنه أساس كل المُثل»؟ الجواب عن هذا السؤال لم يتضح من كلام أفلاطون وضوحًا تامًّا؛ لأنه استعمل في الكلام طريقة ميثولوجية، ومن ثم أخذ الشراح يفرضون الفروض لشرح هذه العلاقة، وملخص ما قالوا: إن هذه العلاقة لا تخلو من أمور ثلاثة لم يسلم كل منها من الاعتراض: فقد نقول إن الله خالق المُثل ومنها مثال الخير، وهذا الفرض يهدم نظرية المُثل من أساسها؛ لأنها مؤسسة على أنها قديمة لم يخلقها خالق، ولا تدين بوجودها لشيء آخر. وقد نقول إن مثال الخير أوجد الله، وهذا الفرض يحط من شأن الله ويجعله مجرد مخلوق. والفرض الثالث أنه أزلي أبدي وهو يتعاون مع مثال الخير على تدبير هذا العالم، وهذا يجعل مذهب أفلاطون ثانويًّا تافهًا. ولما رأى بعض الشارحين أن هذه الأقوال لا تنتج فَرَضَ فرضًا آخر: وهو أن الله ومثال الخير كلمتان مترادفتان استعملها أفلاطون لمعنًى واحد، واستدل على ذلك بعبارات وردت في كلامه، ولعل هذا أقرب الفروض لرأي أفلاطون.
كذلك مما طبقه أفلاطون على نظريته في المُثل قوله في الحب، وقد لاك الناس كثيرًا كلمة «الحب الأفلاطوني» ولكن أكثرهم لم يفهم معناها كما أراده أفلاطون، فأفلاطون يعتقد أن نفس الإنسان قبل ولادته كانت مجردة عن الأجساد، وكانت تعيش في عالم المُثل تتأمل وتفكر، فلما حلت بالجسم — بالولادة — وانغمست في عالم الحس نسيت عالم المثال، فإذا وقع النظر على شيء جميل تذكرت مثال الجمال الذي كانت تعيش فيه وفي أمثاله؛ لأن هذا الجميل صورة من ذلك المثال، وهذا هو السبب فيما نشاهد من وله وهيام وفرح وعواطف حادة، ونحو ذلك مما يصحب النظر إلى الجميل، وهذا الحب للصورة الجميلة أول خطوة في الحب تتدرج منها النفس إلى درجات أرقى، فتدرج من حب الصورة الجميلة إلى حب النفس الجميلة إلى حب العلوم الجميلة إلى حب مثال الجمال إلى حب عالم المثل جميعه، إلى الفلسفة.
وحب الفلسفة هو غاية الغايات، هو الغاية التي ليس وراءها غاية، ومن ثم كان أفلاطون يرى أن من المستحيل الإجابة عن سؤال «ما فائدة الفلسفة؟» ويرى أن السؤال نفسه فاسد؛ لأن فائدة الشيء إنما تظهر بما هو غاية له، ففائدة المال تظهر في الأشياء التي يُعد المال وسيلة إليها، فإذا سألت ما فائدة الفلسفة؟ فمعنى ذلك أن الفلسفة وسيلة لشيء، وهذا قلب لوضع الأشياء، فليست الفلسفة وسيلة لشيء، وإنما كل شيء وسيلة للفلسفة.
(٣) رأيه في الطبيعة أو في هذا الوجود
يرى أفلاطون أن هناك عالَمَيْن: عالم المُثل وهو عالم الحقيقة وهو الأساس، وعالم الطبيعة وهو عالَمنا هذا، وهو عالَم الظواهر المحدود بالزمان والمكان. أما العالَم الأول فليس محدودًا بزمان ولا مكان، وعالم الطبيعة ينقسم إلى قسمَيْن: جسماني وهو هذه الظواهر التي نراها ونحس بها، وغير جسماني وهو النفس، ولنتكلم عن رأي أفلاطون في كل من النوعَيْن.
(٣-١) العالم الجسماني (عالم الحس)
(٣-٢) النفس الإنسانية
النفس الإنسانية كنفس العالَم هي على حركته، ولها اتصال بالمُثل واتصال بعالم الحس، وهي تنقسم إلى قسمَيْن: الجزء الأعلى أو الأرقى وبه العقل، وهو الذي يدرك المثل، وهو بسيط غير مركب ولا يقبل التجزئة، وهو أبدي لا يفنى. والقسم الثاني، القسم اللاعاقل، وهو يتجرأ ويفنى، وهذا القسم ينقسم إلى جزأَيْن: الجزء الشريف والجزء الوضيع، فالجزء الشريف تتعلق به الشجاعة وحب الشرف وكل العواطف النبيلة، والجزء الوضيع يتعلق به كل الشهوات البهيمية. والجزء الأول له اتصال بقسم العقل، ولكنه يختلف عنه بأن غريزي لا يصدر منه الشيء عن تفكير، ومركز قسم العقل الرأس، ومركز الجزء الشريف من القسم اللاعاقل القلب، ومركز الجزء الوضيع أسفل البدن، والإنسان وحده هو الذي له القسمان، والحيوان له النوعان من القسم الثاني، والنبات ليس له إلا النوع الأخير من القسم الثاني، والذي يميز الإنسان عما عداه هو قوة التفكير.
وقد ربط أفلاطون نظريته في أبدية النفس وأزليتها بنظريته في المثل بمسألتَيْن هامتَيْن: وهما التذكر والتناسخ.
أما التذكر، فقد قال إن كل معارفنا ليست إلا تذكرًا لما كانت تعلمه النفس عندما كانت تعيش في عالم المُثل قبل أن تحل بالجسم، وليس يعني أفلاطون بالمعارف ما يشمل المدركات الحسية مثل: إن هذه الورقة بيضاء أو نحو ذلك، إنما يعني المعارف التي تُدرَك بالتفكير والعقل، وقد أداه إلى هذا الرأي ما لاحظه من أن القضايا الرياضية — ﻛ ٢ + ٢ = ٤، ومجموع زوايا المثلث تساوي قائمتَيْن ونحو ذلك — فطرية في النفس لم تكتسبها بتجارب خارجية ولا بالتلقين.
وبذلك اقترب أفلاطون من النظرية الحديثة التي تفرق بين العلم الضروري والعلم المكتسب، وهي النظرية التي وضعها «كانت» وملخصها: أنك إذا نظرت إلى نظرية رياضية مثل: ٢ + ٢ = ٤ فليس معناها أن شيئَيْن وشيئَيْن تساوي أربعة أشياء، بل هو معنى مجرد يجب أن يكون، وبعبارة أخرى إنك لم تستفد هذا من الاستقراء، بل إن العقل علم بذلك من غير استقراء، ويحكم باستحالة ظهور حالة يكون فيها ٢ + ٢ = ٥، وعلى عكس ذلك قضية أخرى مثل الذهب أصفر، فإن هذا جاء من طريق الاستقراء لا من عمل العقل نفسه، بل العقل نفسه يُجوِّز وجود ذهب أزرق، ولم يمنع منه إلا عدم وجوده في الخارج، وتُسمَّى القضية الأولى وأمثالها قضية ضرورية، والثانية قضية مكتسبة.
لم يوضح أفلاطون النظرية بهذا الشكل بل قال إنا نجد أن القضايا الرياضية يدركها العقل لا من طريق التلقين ولا من طريق التجربة، واستنتج من هذا أن هذه القضايا كانت معروفة للنفس قبل الولادة، ولا يُقال إن المعلم يعلمها للطفل فيتعلمها، بل الواضح أن الطفل إذا ذكر له المعلم هذه القضايا فهمها وسلم بها، وشعر أن المعلم لم يُمْلِها عليه ولكنه كشف الغطاء عنها، واستدل على ذلك بأن سقراط حادث طفلًا رقيقًا لم يتعلم من قبل رياضة، وما كان يعرف شيئًا عن المربع، فبسؤال سقراط له أسئلة حكيمة منطقية استطاع الطفل أن يعرف خواص المربع، ولم يلقنه شيئًا، ولم يزد عن أن سأله جملة أسئلة، قال أفلاطون: وإنما لم نتذكر المعلومات من أنفسنا بسهولة، واحتجنا إلى معلم أو نحوه يذكرنا؛ لأن حلول النفس بالجسم واشتغالها به عاقها عن التذكر السريع.
أما رأيه في التناسخ فيتلخص في أن النفس كما قدَّمنا كانت تسبح في عالم المُثُل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلَّت بالجسم وتعلَّقت به، فإذا مات الإنسان وكان قد عاش في حياته عيشة طيبة وعلى الأخص راضَ نفسه على تذكُّر كل عالَم المُثل، وبعبارة أخرى تفلسف، تعود النفس إلى عالم المُثل راضية سعيدة وتقيم فيه، وبعد طويل من الزمن تعود النفس فتحل في إنسان آخر، أما الذين ساءت أعمالهم في الحياة الدنيا فتُعذَّب نفوسهم بعد الموت، ثم يحلون في جسم أحط منهم، فالرجل قد يحل في جسم امرأة، وإذا عاش الرجل شهوانيًّا حل في جسم حيوان وهكذا.
(٤) رأيه في الأخلاق
- (١)
إنَّ هذا القول يستدعي أن لا شيء حق في ذاته بل الحق نسبي، فما يكون حقًّا بالنسبة لي قد لا يكون حقًّا بالنسبة لك، وما يكون فيه لذة لشخص قد يكون فيه ألم لآخر، وبهذا لا يكون الخير والشر متمايزَيْن، ولا يكون لكل منهما حقيقة ذاتية.
- (٢)
إذا كان الحق هو اللذة، فاللذة هي إرواء الرغبة أو الشهوة، والرغبة أو الشهوة ليست إلا شعورًا، وبهذا تكون الأخلاقية (أو الحكم على العمل بالخير أو الشر) تابعة للشعور الشخصي، ولا يكون هناك قانون عام يخضع له الناس جميعًا.
- (٣)
أخلاقية العمل يجب أن تتبع قيمة العمل الذاتية لا أن تتبع شيئًا آخر وراءه، أما السُّوفسطائيون فيجعلون أخلاقيَّة العمل لا تتعلق بالعمل، ويجعلون أخلاقيَّة العمل ليست إلا وسيلة لغاية أخرى وراءها، فالفضيلة ليست هي اللَّذة كما أن المعرفة ليست إدراك الجزئيات.
كذلك يقول أفلاطون: ليسن الفضيلة هي عمل الحق، فقد يُعمل الحق على أساس باطل فلا يكون فضيلة، فليس يُشْتَرَط في الفضيلة معرفة ما هو الحق فقط، بل يُشْتَرَط أيضًا معرفة لِمَ كان هذا الحق حقًّا … لهذا كانت الفضيلة في نظره العمل الحق صادرًا عن معرفة حقة بقيمة الحق … ولهذا فرَّق أفلاطون بين الفضيلة الفلسفية والفضيلة العادية التقليدية، فالأولى مؤسسة على التفكير وفهم الأساس الذي بُنِيَ عليه العمل، والثانية عمل حق نشأ عن عرف أو تقليد أو غريزة أو عطف أو نحو ذلك، فعملك الخير لأن الناس يعملونه من غير فهم لماذا كان هذا حقًّا هو فضيلة الطيبين من عامة الناس، وإن شئت فقل هو فضيلة النحل والنمل وما إليهما، وقد تفكه أفلاطون على مبدئه في التناسخ فقال: لعل أرواح مثل هؤلاء الناس تحل فيما بعد في نحل أو نمل.
وهنا تساءل: إذن ما هو الخير؟ كيف أعرفه؟ ما مقياس الخير والشر؟ وبعبارة أخرى: ما غاية الغايات التي إذا قرب العمل منها كان خيرًا، وإذا بعد عنها كان شرًّا؟
اشتق أفلاطون إجابته على هذا السؤال من إلقاء نظرة على نظرية المُثُل، ونظرة على عالم الحس الذي نعيش فيه، فكانت النتيجة أنه رأى أن السعادة أو غاية الغايات تتكون من أربعة أجزاء: أولًا — وهو أهمها — العلم بعالم المُثُل وهو الفلسفة، ثانيًا: تفهم الارتباط بين عالم المُثل وعالم الحس، وكيف يتجلى عالم المثل على عالم الحس، وذلك يستتبع عشق ما في عالمنا من جمال ونظام وتناسق، ثالثًا: التثقف بأنواع من العلوم والفنون، رابعًا: التمتع بلذائذ هذا العالم النقية الطاهرة البريئة، والترفع عما هو منها خسيس دنيء.
هذه هي السعادة أو الفضيلة الفلسفية، ولم يجرد أفلاطون الفضيلة العادية من القيمة، بل قال إن الإنسان لا يستطيع أن يقفز دفعة واحدة إلى قمة الفضيلة الفلسفية، بل لا بُدَّ من المران والسير درجات، ومما يساعد على هذا السير الاعتياد الحسن، وغرس الفضائل العرفية، والعادات الحسنة، حتى إذا جاء دور التفكير والتأمل كان الاستعداد لذلك حاصلًا، واستطاع الإنسان أن يصعد على هذا الأساس.
كان سقراط يرى أن الفضيلة واحدة وهي المعرفة، وقد اتبع أفلاطون أولًا رأي أستاذه في كتابته الأولى، ثم عدل عن ذلك ورأى أن كل قوة من قوى الإنسان لها فضيلة خاصة، فعنده أن أسس الفضائل أربعة: ثلاثة منها لأجزاء النفس الثلاثة التي شرحناها قبلُ، والرابعة جماع الثلاثة، ففضيلة قسم التفكير (وهو الجزء الأعلى من النفس) «الحكمة»، وفضيلة الجزء الشريف من القسم اللاعاقل «الشجاعة»، وفضيلة الجزء الثاني منه العفة أو ضبط النفس، فإذا أدى كل قسم عمله على الوجه الأكمل نشأ من اكتمال هذه القوى وتعاونها الفضيلة الرابعة وهي العدل.
ويتبع هذا القسم الأخلاقي رأيه في المرأة والزواج، وقد رأى فيهما ما كان شائعًا في زمنه، فلم يأتِ فيهما بجديد، فكان يرى أن المرأة أحط طبيعيًّا من الرجل، ولم ينظر إليها النظرة السائدة في عصرنا من أنها جزء مكمل للإنسانية، تتصف بفضائل خاصة لا يتصف بها الرجل، بل كان يرى أنْ ليست المرأة نوعًا آخر غير نوع الرجل لها مميزاتها الخاصة، بل يرى أنها من نوعه ولكنها أحط منه درجة، فهما عقليًّا من نوع واحد ولكنه يفضلها؛ ولهذا يرى أنه يجب ألا تُحرَّم من التعلم الذي يتعلمه الرجل، وبنفس الطريقة التي نربي بها الرجل، وفي مقابل ذلك يجب أن تشارك الرجل في تحمل الواجبات، حتى الواجبات الحربية.
وتبع رأيه في الزواج رأيه في المرأة، فهو يرى أن الزوجة ليست المثل الأعلى في زمالة الرجل وصداقته، فالصديق الطبيعي للرجل ليس الزوجة ولا المرأة ولكنه الرجل، والغرض من الزواج ليس التعاون الروحي بين الرجل والمرأة والمشاركة في الصداقة؛ لأن المرأة لا تستطيع ذلك، بل الغرض من الزواج إيجاد النسل.
وقد أجاز الاسترقاق، وقال إنه ظاهر المشروعية لا يحتاج تبريره إلى برهان، وكل ما يمكن أن يُقال فيه إيصاء مالكي الرقبة بالعدل مع الأرقاء وحسن معاملتهم.
ومهما قيل من أن آراء أفلاطون الأخلاقية لم تَعْدُ وجهة نظر قومه، فله أثر لا يُنكر في إحدى نواحي الأخلاق، وذلك أن فكرة كانت تسود في اليونان وهي قصر عمل الخير على الأصدقاء، ومعاملة الأعداء بالشر، فنقد أفلاطون تلك النزعة نقدًا صارمًا، وقال: إنه ليس من الخير مطلقًا أن تفعل شرًّا، سواء كان ذلك الشر موجهًا إلى عدو أو صديق، وواجب حَتْم على الإنسان أن يعامل أعداءه بالخير لعله يكوِّن منهم أصدقاء، ومن الفضيلة أن ترد الشر بالخير، فذلك أسمى من أن تجاوب الشر بالشر.
(٥) رأيه في الدولة
بحث أفلاطون في الغرض من الدولة، وبعبارة أخرى في الغاية التي نقصدها من ورائها، فقال إن الغرض من حياة الأفراد هو الحكمة والفضيلة والمعرفة، والأفراد لا يستطيعون الوصول إلى هذه الغاية من غير أن يعانوا عليها، فالغاية من الدولة إسعاد أفراد الأمة وإعانتهم على الوصول إلى هذه الأغراض التي ذكرنا، وإذ كان خير وسيلة لإعانة الأفراد على الوصول إلى أغراضهم هو التربية كانت تربية الشعب أول عمل وأهم عمل تقوم به الدولة.
يجب أن تُؤَسَّس الدولة على الفكر والتعقُّل، وأن تكون القوانين التي تصدرها ناشئة عن فكر وتعقُّل، ومثل هذه القوانين لا يمكن إلا أن تصدر عن عقلاء مفكرين، وبعبارة أخرى «فلاسفة»، فحكام الأمة يجب أن يكونوا فلاسفة، ولما كان الفلاسفة في كل أمة قليلين، وجب أن تكون الحكومة أرستقراطية، ولكن لستُ أَعْني أرستقراطية النسب ولا أرستقراطية المال وإنما أعني أرستقراطية العقل، ويجب أن يكون أول عنصر في الدولة العقل ثم القوة ثم العمل، وكل عنصر من هذه العناصر تمثله طائفة من الأمة: فالعقل في طبقة الحكام، والقوة في الشرطة والجنود والمحاربين ونحوهم، وقد احتجنا إليهم في الدولة؛ لأن بعض العامة لا يخضعون للقوانين التي يُصدرها العقلاء طوعًا، فيجب أن يخضعوا لها كرهًا (بواسطة القوة) والعمل في طبقة العمال. وهذا التقسيم الثلاثي تابع عنده للتقسيم الثلاثي للنفس الذي ذكرناه من قبل، فالقسم المفكر من نفس الشخص يقابله في الدولة فلاسفة الحكام، والقسم الراقي من النفس اللاعاقلة يقابله الجنود والمحاربون، والقسم الشهواني يقابله طائفة العمال. كذلك الفضائل لكل قسم في الدولة هي الفضائل لكل قسم في النفس، ففضيلة الحكام الحكمة، وفضيلة الجنود والمحاربين الشجاعة، والعمال العفة، وقيام كلٍّ بفضيلته، وتعاون هذه الفضائل الثلاث ينشأ عنه العدل الاجتماعي.
يجب — كما قدمنا — أن يكون الحاكم فيلسوفًا، وأن يكون كذلك دائمًا، وأن يصرف وقته في تعرف المُثل، وبعبارة أخرى في دراسة الفلسفة، وألا تستغرق أوقاتهم مسائل الحكم؛ ولذلك يجب أن يكون الحكم دوريًّا، فبعض الفلاسفة يحكمون حينًا ويتفلسفون حينًا — وهكذا دواليك — وواجب الشرطة والجنود حماية الدولة داخليًّا وخارجيًّا، فهم يحمونها خارجيًّا من أعدائها الخارجين، وداخليًّا من الدوافع اللاعاقلة التي تصدر عن غوغاء الشعب.
وعلى الجملة أهم عملهم تنفيذ الأوامر والقوانين التي يصدرها الحكام الفلاسفة، وواجب العمال أو جمهور الناس الاشتغال بالتجارة والزراعة والحرف ونحو ذلك، ويجب أن تمتنع الطبقتان الأوليان عن الاشتغال بشيء من ذلك.
ولكن كيف نُعيِّن أن هذا الفرد من طبقة الحكام أو الجنود أو العمال؟ يقول أفلاطون: إن هذا لا يترك للشخص نفسه ليلتحق بأية طبقة ولا يُحدَّد بالمولد، فليس ابن الفيلسوف يُربَّى ليكون من طبقة الفلاسفة وهكذا، إنما يُترك إلى رجال رسميين في الدولة يعينون طبقة الشخص بناءً على اختبارهم غرائزه واستعداداته كما يعينون عددَ ما تحتاجه الدولة من كلِّ طبقة من الطبقات الثلاث.
يجب على الدولة أن تُمكِّن الأفراد من الوصول إلى سعادتهم وذلك بتشجيع ما هو خير، وهدم كل ما هو شر، ومن وسائل حصر الشر ومنع تسربه إعدام الأولاد يولدون من آباء أشرار، وعدم السماح للضعاف والمرضى من الأولاد بالبقاء، ومن وسائل تشجيع الخير سيطرة الدولة على تربية الناشئين، فيجب فصل الأولاد عن آبائهم من وقت ولادتهم وانتسابهم إلى الدولة لا إلى آبائهم، وإشراف الدولة من صغرهم على تربيتهم، ويجب اتخاذ الوسائل الفعالة في ذلك حتى لا يعرف الآباء أولادهم إذا خرجوا للحياة العامة، ويجب أن تشرف الدولة إشرافًا تامًّا على برامج التعليم، وألا تسمح بتعليم شيء يعين على الرذيلة ويضر بأفكار الشعب، فمثلًا الشعر يجب ألا يُسْمَح منه إلا بما يعين على الفضيلة، ولا يكفي في السماح به أن يكون جميلًا؛ إذ لا قيمة للجمال إذا لم تكن غايته الفضيلة، ولذلك يجب أن تشرف عليه الدولة.
يجب أن تراعى مصلحة مجموع الأمة لا مصلحة فرد أو أفراد، فيجب ألا يكون لفرد منفعة شخصية تتميز عن منفعة المجموع، ويجب أن تنهار هذه المصالح الفردية، فليس هناك مِلْكية، وليس هناك اختصاص الأب أو الأم بأولاد معينين بل اشتراكية في الأموال والنساء والأولاد، والدولة تملك الأولاد منذ ولادتهم.
(٦) رأيه في الفن
لم يكن لأفلاطون بحث منظم قائم بنفسه في الفن، وإنما له فيه آراء مبعثرة نذكر أهمها:
نظريات الفن الحديثة مؤسسة على أن الفن غاية في نفسه لا وسيلة لشيء آخر، وأن الشيء الجميل له في نفسه قيمة ذاتية، وأن الفن يحكم بقوانينه هو، وبمقتضى مقاييس الجمال، وليس يُحكم عليه كما يذهب «تولوستوي» بمقتضى المقاييس الأخلاقية، وليس الجميل وسيلة للخير بل هو نفسه غاية، أما أفلاطون فيرى أن الفن يجب أن يكون خاضعًا للأخلاق والفلسفة، فالشعر مثلًا كما أسلفنا لا يُسمح منه إلا بما يعين على الفضيلة، ولا يكفي أن يُقال إنه جميل ليُسمح به، فيجب أن يُلْجَم الشعر بالأخلاق.
وفي العصر الحديث كان «رسكن» يرى هذا الرأي ومن أقواله المشهورة: «لا يمكن أن يكون جميلًا إلا ما كان حقًّا.» هذا خضوعه للأخلاق، وأما خضوعه للفلسفة فذلك أن الغرض من التربية تَفَهُّم المُثل، والعلوم والفنون إنما وُضعت في برامج التعليم والتربية؛ لأنها تعين على فهم هذه المُثل، أما هي فلا قيمة لها في ذاتها.
وهو يرى أنَّ الفن إنَّما هو تقليد الطَّبيعة ومحاكاتها، فهو ليس إلا إبراز صورة للأشياء المحسوسة كما أن هذه الأشياء المحسوسة ليست إلا صورة للمُثل، فالفن ليس إلا صورة لصورة … فهو لم يلحظ ما للفن من خلق، ولم يَرَ أن الفنان لا يقتصر على تقليد الطبيعة، بل يكملها ويسبغ عليها شيئًا من شعوره وطموحه: لا، لم يَرَ أفلاطون شيئًا من هذا، بل رأى أن الفن نسخة من الأصل، وهذا الرأي معيب؛ لأنه يستلزم أن تكون الصورة الفوتوغرافية أكمل صورة لأنها أحكم تقليد.
يرى أفلاطون أنَّ الفنانَ لا يستمد فنه من العقل والتفكير، بل يستمده من الوحي أو الإلهام، فهولا يصدر عنه التصوير الجميل بناءً على قواعد قد وُضعت، بل هو يعمل بما يُلْهَم، ويسير على القواعد الفنية بلا شعور، ولم يقدر أفلاطون هذا الوحي أو الإلهام تقديرًا كبيرًا، بل رآه حقيرًا وضيعًا، وسماه الجنون السماوي، أما كونه سماويًّا فلأن الفنان يُبْرِز إلى الوجود أشياء في منتهى الجمال، وأما أنه جنون فلأنه نفسه لا يعلم كيف صدرت عنه ولا لم صدرت، فالشاعر يجري على لسانه القول الحكيم والشعر الجميل وهو يشعر بذلك، ولكن لا يعلم كيف كان، فإلهام الفنان ليس في مستوى المعرفة العقلية، بل هو أحط منها، ومن ثم كان الفن أحط من الفلسفة.
وهكذا لم يقوِّم أفلاطون الفن ولا الفنان تقويمًا كبيرًا، وكان للفن مقام أكبر في نظر أرسطو، مع أن أفلاطون فيلسوف وفنان، وكتابته الفلسفية آية من آيات الفن، وأرسطو لم يكن فنانًا، بل فيلسوفًا فقط، وكتابته علمية لا فن فيها، ومع هذا نظر إلى الفن بخير مما نظر إليه أفلاطون.
وما ذكرناه من رأي أفلاطون في الدولة والفن موجز أتم إيجاز، وسترى شيئًا من تفصيل ذلك فيما سنعرضه من تلخيص كتابه «الجمهورية».
(٧) كتاب الجمهورية أو المدينة الفاضلة
كتاب الجمهورية هو أهم ما سطر أفلاطون من كتب، فهو بحث شامل لفروع متشعبة من آرائه، كأنما أراد به أن يكون ملخصًا موجزًا لفلسفته جميعًا، ففيه مذهبه فيما وراء الطبيعة، وفي السياسة، وفي الدين، وفي الأخلاق، وفي علم النفس، وفي التربية، وفي الفن، وقد بسط فيه من موضوعات البحث ما يبدو لقارئ هذا العصر أنه جديد.
فكتاب الجمهورية في حقيقة الأمر صورة وافية لأمهات المسائل في الفلسفة، ولا غرابة، فهو صورة مصغرة لأفلاطون، ودراسة هذا الكتاب دراسة لرأي أفلاطون في المدينة الفاضلة، أو المدينة النموذجية، وهاك مجمل ما فيه:
«ما هي في ظنك أعظم فائدة عادت عليك من ثروتك؟»
فأجابه سيفالوس: إنَّها مكَّنته من أن يكون جوَّادًا كريمًا أمينًا عادلًا. فسأله سقراط في مكر وتهكم: وماذا تعني بالعدل؟ وهنا بدأ حوار فلسفي عميق حاد حول تعريف العدل، فليس أعسر من التعريف اختبارًا لقوة الذكاء ووضوح التفكير، فلم يكن بد من أن يعترف سيفالوس بعد محاولة فاشلة بعجزه عن تعريف العدل، فأخذ سقراط يدور بالسؤال على الحاضرين واحدًا فواحدًا، وكلهم عاجز عن الأداء، فثارت ثورة الغضب في ثراسيماكوس وضاق صدره بإحراج سقراط له، فصاح في وجهه قائلًا: «ما أشد غفلتك يا سقراط! ماذا تفيد من هزيمة محاوريك واحدًا إثر واحد بهذا الأسلوب المعيب؟ إذا كنت تريد معنى العدل، فأسمعنا جوابك أنت قبل أن تتوجه بالسؤال، فذلك أفضل من أن تزهو بنفسك حين تفند أقوال الآخرين … ما أكثر من يستطيع أن يوجه الأسئلة، ولكن ما أقل من يقوى على الجواب!»
فلم يعبأ سقراط بهذا القول، وأخذ يستفسر الحاضرين عن معنى العدل دون أن يدلي بإجابته، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى كان دور ثراسيماكوس، فلم يتردد سقراط في أن يتوجه إليه بنفس السؤال: ما هو العدل؟ فأجاب وهو يتميز من الغيظ:
«إذن أصغ إلى ما أقول: أنا أزعم أن القوة هي الحق، وأن العدل ما كان في صالح الأقوى، والقوانين وليدة الحكومات، تتغير بتغيرها، وسواء كانت ديمقراطية أم أرستقراطية أم أوتوقراطية، فهي تصوغ القوانين بما يتفق ومصالحها، وتلك القوانين التي وضعتها الحكومات طبقًا لأغراضها تفرضها على الناس فرضًا باعتبارها تمثل العدل، وعلى كل من خالفها يقع الجزاء؛ لأنه عندئذ يكون مخالفًا للعدل، وليس أدل على صدق ما أقول مما يحدث في حالة الحكومة الأوتوقراطية، فهي تنتزع أملاك الناس بالقوة، والعجيب أن يقابل هؤلاء الناس هذا الاعتداء على أموالهم بالتمجيد، بدل أن يقولوا إنه سرقة وغش.»
وقد نحا ثراسيماكوس في قوله هذا منحى السوفسطائيين؛ إذ قال إن ما يراه القوي عدلًا فهو عدل، فالعدل ما تفعل القوة.
هكذا دار الحديث حول العدل، فقد أُجيب بأن ما تفعله القوة هو الخير، وهي وحدها مقياس الأخلاق، ولكن ما قول سقراط في هذا؟ وقوله هو رأي أفلاطون، أيفضل أن يكون العدل في المساواة أم في جانب القوة وحدها؟ إنه لم يجب جوابًا صريحًا، ولم يزد على أن أشار إلى أن العدل يظهر في العلاقة بين أفراد المجتمع، فإذا أردنا دراسة العدل فليس الفرد موضوع البحث، ولكن المجتمع بأسره، فالعدل كما أشار سقراط في هذا الحوار جزء من أسس الاجتماع، فينبغي أن نأتيه عن طريق دراسة المجتمع، لننظر كيف يكون المجتمع وهو في أكمل نظمه، وكيف تكون العلاقة بين أفراده، وبذلك نعلم ماهية العدل، وبعبارة أخرى لو استطعنا أن نصور لأنفسنا دولة عادلة، أمكننا أن نصف الرجل العادل.
يسأل أفلاطون في عجب: إذا كان ممكنًا للإنسان أن يتخيل حياة بسيطة سعيدة فماذا يمنع من تطبيق هذا النموذج الخيالي تطبيقًا عمليًّا؟ وهو نفسه يجيب بأن الشره والرغبة في الترف هما اللذان حالا دون قيام «مدينة فاضلة» إلا في الخيال، إن الإنسان ليدفعه الطمع إلى امتلاك أوسع ما يمكن امتلاكه من متاع الدنيا وحطامها، وهو كلما حقق أمنية قامت وراءها أمنيات، فلا يزال يسعى ويسعى إلى تحصيل ما لا يملك حتى يدركه الموت دون أن يصل في طمعه إلى حد، فكانت النتيجة المحتومة لهذه الرغبة الغريزية المركبة في طبائع البشر أن يسطو فريق قوي من الناس على فريق مستضعف فينتزع منه ما يملك قسرًا، وكل ذلك ينتهي إلى النزاع بين دولة ودولة، فنشوب الحرب بينهما؛ ولذا كان توزيع الثروة لا يثبت على حال دائمة، فهي متنقلة من يد إلى يد تبعًا لانتقال القوة من شخص إلى شخص، أو من جماعة إلى جماعة، وكلما تغير توزيع الثروة تغيرت معه الحال السياسية، فإذا أربت ثروة التاجر على ثروة مالك الأرض الزراعية مثلًا تحتم على الأرستقراطية أن تنزل عن مناصب الحكم لتفسح الطريق إلى طبقة التجار، وهذا ما يسمى بالحكومة الأولجاركية.
ومهما يكن نوع الحكومة، أرستقراطية كانت أم أولجاركية، فهي حتمًا منتهية إلى الزوال إذا ما تطرفت في مبادئها، فالأرستقراطية إن بالغت في حصر القوة وقصرها على فئة قليلة من الملاك كان في ذلك حتفها، وكذلك الأولجاركية إن أسرفت في جمع الثروة بغير تحفظ ولا حذر أدى ذلك إلى فنائها؛ لأن تلك المبالغة وهذا الإسراف لا بُدَّ أن يؤدي إلى ثورة الشعب يومًا ما «وعندئذ تنهض الديمقراطية، فيتغلب الفقراء على أعدائهم، وينتقمون لأنفسهم من هؤلاء الحكام بالقتل والتشريد، ثم يُسَوى بين الناس في الحرية والقوة.» وهذه الديمقراطية نفسها إذا ما تطرفت في مبادئها انهار بناؤها؛ لأنها إن جعلت الناس جميعًا سواسية في الحقوق والقوى فلن يستطيع الدهماء بحكم تربيتهم أن يحسنوا اختيار حكامهم، وقد يُوضَع الأمر في أيدٍ طائشة جاهلة تسير بسفينة الدولة في بحر متلاطم الموج، ولا تزال الأنواء تتنازعها حتى ينتهي الحكم الديمقراطي إلى أوتوقراطية مستبدة، فما أهون أن ينبت من صفوف الشعب زعيم يُداهِن الغوغاء، ويستولي على أفئدتهم بالملق والرياء، فيرفعونه على أكتافهم إلى منصب الحكم، وعندئذ يصرف الأمور كما يشاء ويهوى.
استعرض أفلاطون ذلك كله، وأخذه العجب حين لاحظ أن الناس لا يصطنعون الحكمة في أمور الدولة كما يفعلون في أبسط نواحي الحياة … إن المريض حين يدعو طبيبًا لعلاجه لا يشترط فيه مثلًا أن يكون جميلًا، ولكنه يحرص كل الحرص أن يكون طبيبًا ماهرًا قادرًا على أداء مهمته على الوجه الأكمل، بل اذهب إلى ما هو أحقر من ذلك من شئون العيش، وانظر كيف لا يرضى الرجل حين يريد لنفسه حذاءً إلا أن يكلف بصنعه الحذَّاء الماهر ولا يعنيه في كثير ولا قليل أن يكون ذلك الحذَّاء بليغًا في خطابته أو وسيمًا في محياه، فلماذا لا تسلم الدولة أمورها إلى أكفأ الرجال وأبلغهم حكمة؟ … ولكن من هؤلاء؟ … وكيف نُعِدُّهم؟
لا يرضى أفلاطون أن يجيب قبل أن يلقي بنظرة على طبيعة الإنسان فيتناولها بالتحليل والدرس، وعنده أن لا سبيل إلى فهم السياسة إلا إذا درس الفرد «فالإنسان والدولة شبيهان»، والدولة هي مجموع الأفراد، تستمد حالتها من حالتهم، فإن أردنا دولة كاملة فلا بد من إعداد المواطنين الصالحين أولًا، وكل محاولة للإصلاح قبل ذلك ضرب من العبث لا غناء فيه، فدراسة الإنسان خطوة أولية واجبة لكي نرتب عليها كيفية الإصلاح، فننتهي إلى المجتمع الصالح، أي المدينة الفاضلة.
يقول أفلاطون إن سلوك الإنسان وأفعاله كلها مصادرها ثلاثة: الشهوة والعاطفة والعقل، أما الشهوة فمقرها أسفل البطن وهي مستودع النشاط، وأما العاطفة فمقرها القلب وهي تزود الإنسان في سعيه بالقوة والحرارة، وأما العقل فهو في الرأس وهو ربان السفينة يهديها إلى سواء السبيل.
وهذه القوى الثلاث موجودة في كل إنسان ولكن بدرجات مختلفة، فمن الناس من يكاد يكون شهوة مجسدة تضؤل بجانبها العاطفة والعقل، وهؤلاء ينغمسون في الحياة المادية انغماسًا، ومنهم تتكون الطبقة العاملة في الأمة، ومن الناس من يطغى فيه جانب الشعور، كالمحارب الذي يقاتل من أجل الانتصار وكفى، ثم لا يعنيه بعد ذلك أظفر بالغنيمة أم لم يظفر، وهؤلاء يكوِّنون الجيش والأسطول، وفريق ثالث قليل العدد جدًّا لا يستمتع في الحياة إلا بالتفكير والتأمل وهو لا يقصد إلا إلى المعرفة وحدها، هؤلاء هم رجال الحكمة الذين ينشدون العزلة والوحدة، فلا يقتحمون الأسواق ولا يجولون في ميادين القتال، فهم يقفون من الحياة العملية عند هامشها لا يُدلون فيها بدلاء.
وهذه القوى الثلاث متصل بعضها ببعض أشد الاتصال: فمن مجموعها تتكون النفس، فالشهوة تسعى، والعاطفة تغذيها، والعقل يهديها، والأمر في الدولة كالأمر في الفرد، فيجب أن يتولى زمام الحكم فيها طائفة حكيمة تكون لها بمثابة العقل من الفرد لتسدد خطاها وتسير بها على هدًى وبصيرة، ويجب أن ينصرف إلى شئون الزراعة والتجارة والصناعة فريق غلبت عليهم الناحية المادية (فيكونون طبقة الإنتاج) فهم ينتجون دون أن يتعرضوا للسياسة والحكم، وأما فئة الجيش فتقصر نفسها على الدفاع والحرب، ولا تتجاوز ذلك إلى مناصب الحكومة؛ فالمنتج يكون في أحسن حال ممكنة وهو في ميدان الاقتصاد، والجندي وهو في ميدان الحرب، وتسوء حالهما إذا توليا شئون الدولة، فسياسة الدولة علم وفن يحتاج إلى تدريب طويل، والملك الفيلسوف هو وحده القادر على قيادة الأمة، ولا سبيل إلى إصلاح أمراض المجتمع إلا إذا اجتمعت الفلسفة والسلطة في يد واحدة.
إن كانت الدولة لا تصلح إلا بهذا التقسيم، فما السبيل إلى تنفيذ ذلك؟ كيف نحلل الأمة إلى عناصرها الثلاثة لينصرف كل فريق إلى ما أُعِدَّ له، فالمادي لميدان العمل، والجندي للحرب، والحكيم للحكم؟ يقول أفلاطون: يجب أن نبدأ بعزل الأطفال عن الكبار لندرأ عنهم عادات آبائهم السيئة؛ إذ من المتعذر أن نكوِّن مدينة فاضلة من الشبان الذين أفسدت أخلاقهم أمثلة آبائهم، وواجب حتم أن نطهر الأخلاق من الضعف والفساد، والتربية التي يُؤخذ بها هؤلاء الأطفال يجب أن تكون ممهدة مهيأة لهم جميعًا، فلا يمتاز أحدهم عن أحد في شيء؛ لأننا إنما نقصد من التربية غاية واحدة، هي تمحيص الأفراد والكشف عن العبقري النابغ منهم، وليس النبوغ قاصرًا على طبقة دون أخرى، وإذن فيجب أن يُفسح مجال الظهور أمام كل طفل بغير استثناء، أما مواد التربية في هذه السنوات العشر الأولى فهي لا تزيد عن التربية البدنية إلا قليلًا، فالمدرسة عبارة عن ملعب تُقام على أرضه الألعاب المقررة.
إلى هنا قد أعددنا رجال الدولة المثالية أحرار العقول أقوياء الأبدان، ولكن عنصرًا ثالثًا ينبغي أن يُضاف إلى تربية العقل والجسم، هو الأخلاق، وهي صلة الأفراد بعضهم ببعض، فلا بد أن يتكون من هؤلاء الأفراد كلٌّ متماسك، وأن يعلم كل عضو ما له من حقوق وما عليه من واجبات … ولكن الإنسان مفطور بطبعه على الطمع والجشع، فهو راغب أبدًا في توسيع أملاكه ولو أدى ذلك إلى الاعتداء على غيره، وهو لا يَنِي عن التنازع والتقاتل للوصول إلى غرضه، فكيف السبيل إلى التوفيق بين نزعات الأفراد المتنافرة؟ لا يريد أفلاطون أن يعمد في ذلك إلى قوة الشرطة لتقف كل إنسان عند حده؛ لأنَّ ذلك في رأيه وحشية لا تليق بالمجتمع الكامل الذي يضع أساسه، فضلًا عما تكلفه قوات الشرطة من مال كثير يمكن ادخاره لما هو أجدى لخير الجماعة نفسها، ويرى أفلاطون سبيلًا واحدة تؤدي إلى صد الاعتداء، وذلك بأن نعلم الناس أن قوة روحية عُليا واجبة التقديس والعبادة، ومعنى ذلك أن المجتمع لا يستقيم بناؤه بغير الدين؛ فالأمة كما يعتقد أفلاطون لا بُدَّ لها أن تعتقد في الله، ولا يكفي أن تعتقد في مجرد قوة كونية كائنة ما كانت؛ لأنها لا تبعث الأمل في النفوس، ولا تدفع الناس إلى التفاني في العمل، ولا تغري بالتضحية في سبيل شرف أو وطن، بل ولا تُطَمْئِن القلوب الكسيرة المكلومة، ولا تُوحِي الشجاعة في النفوس اليائسة، بل لا بُدَّ من إله حي يؤدي هذا كله، وأكثر من هذا كله؛ فهو كفيل بإرهاب النفوس الشريرة الجامحة التي تميل إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، فيُلْجِم شهواتهم كي لا تنطلق على سجيتها وفطرتها؛ لأنها ستخشى عقاب الله كما أنها ترجو ثوابه، ثم يحتم أفلاطون أن تُزاد إلى العقيدة في الله الاعتقاد في خلود النفس؛ لأن الأمل في الحياة الأخرى يشد من عزائم الناس، فلا يرهبون الموت ولا يخشون المصائب والنكبات، فالإيمان أقوى سلاح يستند إليه الرجل في معمعان الحياة.
يبلغ الفتى سن العشرين وقد نال قسطًا وافرًا من الرياضة البدنيَّة، والموسيقى ومقومات الأخلاق وشذرات أخرى من العلوم بحيث لا يبلغ السن إلا وقد رُبِّيَ تربية متزنة الجوانب قد تناولت جسمه وعقله وخلقه، وعندئذ تجري الدولة امتحانًا عنيفًا قاسيًا تصهر فيه الفتيان صهرًا لتبلوهم أيهم أقوم، فأما المتخلفون المقصرون فتسند إليهم الأعمال الاقتصادية، زراعة وتجارة وصناعة، وأما الناجحون فيبدءون مرحلة تعليمية أخرى تمتد عشر سنوات، تُرَبي فيها أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ثم يجري عليهم الامتحان مرة ثانية أعسر من سابقتها وأشق، فأما الراسبون فيكون منهم رجال الجيش، وأما الأكفاء فيستأنفون الدراسة، ولكن ماذا يضمن للدولة ألا يتألب عليها الجيش وفي يده القوة كلها؟ لا شيء غير الدين، فهو كفيل بأن يروع الجنود فلا يتجاوزوا حدودهم، ولو فعلوا لارتكبوا إثمًا كبيرًا إذ يعلمون أن الله قسم الأمة إلى طبقاتها الثلاث، فلا يجوز لأحد أن يضيق بما قسم الله له.
نقول: إن من جاز هذا الامتحان — وهم نفر قليل جدًّا — يُعَلَّم الفلسفة، فهم الآن في سن الثلاثين، قد قَوِيَتْ عقولهم واستعدت لإساغتها، ولم يكن من الحكمة أن يُعَلَّموا الفلسفة قبل ذلك خشية أن يستعملوها في الجدل الفارغ الذي لا يقصد إلى شيء إلا الجدل في ذاته وإلا تفنيد أقوال الناس، فيكونوا بذلك كالجِراء التي تجذب هذا الشيء وتمزق ذاك لمجرد اللهو والتسلية، والفلسفة التي سيبدأ الطالب في دراستها تنقسم قسمَيْن: أحدهما التفكير المستقيم الواضح، وهو يتناول ما وراء الطبيعة، والثاني معرفة طرائق الحكم، ويشمل علم السياسة، أما القسم الأول فيقضي الطالب في دراسته خمس سنوات يدرس فيها عالم المُثل، فيكون قد بلغ الخامسة والثلاثين، وممن يبلغون هذه المرتبة، يُنْتَخب رجال الحكم.
ولكن أفلاطون لا يتعجل بتسليم هؤلاء أَزِمَّةَ الدولة؛ لأن إعدادهم كان حتى الآن نظريَّا محضًا، ولا بد أن يكمله جانب التطبيق العملي، ويتحقق ذلك بأن يُسْمَح للطلاب بعد تلك السن أن يخالطوا الناس، وأن يضربوا في الحياة الاجتماعية بسهم وافر، لتصهرهم المنازلة وتحنكهم التجربة، فهنا ستفتح لهم الحياة عن صفحات لم يعهدوها في معهدهم العلمي المنعزل، وهكذا يلبثون في مضطرب الحياة يسعون لتحصيل عيشهم بأنفسهم خمسة عشر عاما، في خلالها تصفي هذه البقية الباقية من الطلاب، فمن ينوء تحت أعباء العيش يُضاف إلى قوة الجيش، ومن يثبت أمام العواصف والأنواء والكروب فهو الجدير بمناصب الحكم، وتكون سنه عندئذ قد بلغت خمسين عامًا قضاها في التجربة والتحصيل.
تلك هي الديمقراطية كما يراها أفلاطون، فليست عنده في مهازل التصويت بل معناها الصحيح أن يفسح المجال أمام الجميع، فتكون لكل فرد فرصة الظهور مساوية لفرصة زميله، فمن استطاع أن يجتاز تلك العقبات المتوالية التي تُوضَع له في طريقه يساهم في حكم الدولة مهما تكن الطبقة التي نبت فيها، قد يعترض بأن حصر الحكم في طبقة ممتازة في كفايتها ضرب من ضروب الأرستقراطية، ولكنها أرستقراطية تختلف عن الأرستقراطية المعروفة في أنها ليست وراثية، فهي كما يسميها بعض الكتاب «أرستقراطية ديمقراطية» فلا فضل ولا امتياز إلا ما أثبت الشخص من مقدرة وذكاء، فابن الحاكم وابن الحذَّاء سواء، تتساوى أمامها فرصة الظهور، ويبدآن شوط الحياة من نقطة واحدة، فإن كان ابن الحاكم عاجزًا غبيًّا سقط عند العقبة الأولى واضطر أن يكون عاملًا، وإن كان ابن الحذَّاء نابغًا انفسح أمامه الطريق حتى يبلغ ذروته حيث الحكم والسلطان.
يريد أفلاطون ألا تنصرف هذه الطبقة الحاكمة إلا إلى شئون الدولة، وأن تتفرغ لها بكل قلبها، ولكي لا تنشأ بين أعضائها الغيرة والمنافسة، اشترط أفلاطون أن تسود الشيوعية حياتهم.
كذلك لا يجوز لهؤلاء أن يتخذوا زوجات لهم، فلا يكون لواحد منهم أسرة معروفة ينصرف إلى رعايتها دون الدولة التي وضعت أمورها أمانة في عنقه، ويرى أفلاطون أن يُخَصَّص لهم جميعًا عدد من النساء، يُنْتَخَبن من الطبقة العاملة أو يُؤْخَذن ممن وصلت بهن التربية إلى مرتبة الفلسفة والحكم، ويكون لكل واحد منهم الحق في الاتصال بأية امرأة منهن.
فأما الأطفال فيُنْتَزعون من أحضان أمهاتهم بمجرد ولادتهم حيث يُرَبُّون في مكان عام، ويقوم بتربيتهم هؤلاء النسوة أنفسهن، فيكون الأطفال كأنهم جميعًا إخوة، والنساء أمهات لهم، والحكام آباء.
ولا يعترف أفلاطون بالفارق الجنسي في التربية، فلا يُحال بين امرأة وبين العلم إذا ما أبدت كفاية ومقدرة، وليس ما يمنع أن تصل المرأة إلى مناصب الحكم إن كانت بها جديرة، فالأمر مرهون بالكفاية وحدها، سواء في ذلك الرجل والمرأة، فإذا لُوحظ العجز في رجل جاز أن يُكَلَّف بالأعمال المنزلية كغسل الأطباق وما إليها؛ لأنها عندئذ تكون هي المهمة التي أعده الله لها.
أما الاتصال الجنسي فلا يجوز أن يُترك للمصادفة العمياء، بل لا بُدَّ من تدبير محكم ترسم الدولة خطته لترقية النوع الإنساني، فإذا كنا نبذل عناية دقيقة لتحسين الماشية بطريقة التوليد حتى نظفر بنسل قوي ممتاز، أفليس الأجدر أن نصرف مجهودًا وعناية لترقية الإنسان نفسه؟ ومهما بذلنا في نظم التربية من جهد فلن تكفي وحدها لتحقيق ما نريد، إذن فواجب محتوم أن نتدبر الأمر من مبدئه، فنشرف على زواج الرجل السليم من امرأة سليمة «ويجب أن نبدأ التربية قبل الولادة»، فلا يُسْمَح بزواج إلا إذا قدم الزوجان إقرارًا طبيًّا بخلوهما من الأمراض … هذا، ويحرم على الرجال أن يتزوجوا قبل سن الثلاثين، ثم لا يجوز لهم أن يقربوا النساء بعد الخامسة والخمسين، أما المرأة فيمتد زمن زواجها من سن العشرين إلى سن الأربعين، وكل رجل يرفض الزواج إلى ما بعد الخامسة والثلاثين تُفرض عليه ضريبة معينة، وكل طفل يُولد من علاقة يحرمها القانون، كأن يكون من أبوَيْن لم يبلغا سن الزواج أو جاوزاها، وكل طفل يُولد وفيه عاهة، يُتْرَك في العراء حتى يموت.
والزواج بين الأقرباء حرام؛ لأنَّه يحط بالنوع، ولا بد أن نتخير أحسن الزوجات لأحسن الأزواج حتى يكون الجيل الناشئ قويًّا سليمًا، والشبان ذوو الشجاعة الباسلة يُباح لهم الاتصال بمن شاءوا من النساء مهما بلغ عددهن؛ لأنه من الخير للدولة أن ينسل أمثال هؤلاء الآباء عددًا وفيرًا من الأبناء.
يتخذ أفلاطون لمدينته الفاضلة كل هذا التدبير ليطهر أبناءها من العلل والفساد — في رأيه — ولكن سلامة الدولة في داخليتها ليس كل شيء، فهناك وقاية أخرى واجبة وهي أن يُذاد عن الأمة بسياج من جيش متين كي لا يتسرب إليها الخطر من الخارج؛ ولذا وجبت العناية الشديدة بالجيش، فيجب على الجيش أن يعيش عيشة غليظة خشنة بسيطة، فيها الاشتراكية التي تسود طبقة الحكام، ومما يجدر ذكره هنا أن المدينة الفاضلة لا تسعى إلى الحرب ولا تميل إليه، وهي تبغي حياة سِلم هادئة، فلو أصبحت الدنيا مدنًا فاضلة لَاسْتُغْنِيَ عن الجيش؛ ولذلك كان من أول الواجبات على الدولة أن تمنع أسباب الحرب ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وأول تدبير يُتَّخذ لهذه الغاية هو منع زيادة السكان، كذلك تُمْنَع التجارة الخارجية تحاشيًا لما تجره وراءها من خلاف ونزاع، وليس من شك في أن التجارة الخارجية نفسها ضرب من ضروب الحرب؛ لأنها تؤدي إلى المنافسة الاقتصادية، وما المنافسة في أي شكل من أشكالها إلا حرب!
هكذا يُشاد للأمة بناؤها السياسي: في الذروة نفر قليل من الولاة يقبضون بأيديهم على مقاليد الأمر تشريعًا وقضاءً وتنفيذًا، وتحميهم طبقة دونها وفيرة العدد، هم ضباط الجيش وجنوده، وهذه بدورها تعتمد في عيشها على طبقة ثالثة أحط منها قدرًا، وأكثر منها عددًا، هي الجماعة العاملة في الزراعة والصناعة والتجارة، أما الطبقة الأخيرة فلهم الحق أن يحتفظوا بالأملاك الخاصة، وأن يتخذوا لأنفسهم زوجات، وأن يكوِّنوا أُسرًا على النظام المعروف، وأما الطبقتان الأوليان فيقوم عيشهم على مبادئ الاشتراكية في المال والشيوعية في النساء.
وليست الملكية الخاصة مباحة للطبقة الاقتصادية إباحة مطلقة، فيجمع الفرد ما استطاع من ثروة ومتاع، كلا، بل من واجب الحكومة أن تراقب ذلك بعين الحذر، فلا تبيح لأحد أن يتجمع لديه من الثروة أكثر من أربعة أمثال متوسط ما يملكه الرجل العادي، وإن زادت عن هذا القدر وجب عليه أن ينزل عن تلك الزيادة إلى الدولة.
وصفوة القول: أنَّ المجتمع الكامل هو الذي تقوم فيه كل جماعة بل كل فرد بواجبه الذي أعدته له الطبيعة، فلا تتدخل فئة في عمل فئة أخرى، ويجب أن يتعاون الجميع على تكوين وحدة متماسكة كاملة متناسقة الأجزاء لا يكون بينها نشاز.
هذا التعاون هو العدل، وتلك هي الدولة العادلة.
لقد بدأ أفلاطون بحثه بالسؤال عن العدل، وأخذ يستطرد في قضاياه، ويوسع في نطاق البحث حتى انتهى إلى ما أراد الوصول إليه، وعرف العدل بأنه: «أداء الفرد لواجبه وامتلاكه لما يخصه.» ومعنى هذا أن كل فرد يجب أن يحصل على ما يساوي إنتاجه، وأن يؤدي العمل الذي يلائم طبيعته، والرجل العَدْل هو الذي يعرف قدر نفسه فيضعها في موضعها الصحيح، وهو الذي يبذل كل ما في وسعه من مجهود لينتج بمقدار ما يربح.
والعدل في المجتمع هو كهذا التناسق الذي يسود الكواكب في تحركها: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وهكذا في المجتمع يجب أن يسعى كل فرد في نطاقه دون أن يبغي على غيره بإثم أو عدوان، أما أن يتطلع رجال الأعمال إلى مناصب الحكم، أو يستولي قواد الجيش بقوة جندهم على السلطة في الدولة فاختلال في تعاون الأجزاء، وانحلال في الرابطة التي تصل عناصر المجتمع، وكل ذلك يؤدي حتمًا إلى دمار المجتمع وخرابه، فالعدل هو التعاون بين الأجزاء.
والعدل في الفرد هو — كالعدل في الدولة — تعاون بين أعضاء الجسم وأجزاء النفس، فكل إنسان عالَم يضطرب بالشهوات والعواطف والأفكار، فإذا ما تعاونت هذه القوى وتناسقت كان الفرد قويًّا في معترك الحياة، أما إذا اختل التوازن بينها، وطغت قوة منها على قوة أخرى، فكانت العاطفة مثلًا هي المالكة زمام الإنسان في عمله بدل عقله، أو حاول العقل أن يكون هو كل شيء بدل أن يقتصر على الهداية فقط تفككت وحدة الشخصية وسارت حتمًا إلى الفشل، فالعدل هو ترتيب أجزاء النفس ترتيبًا جميلًا، وهو للنفس بمثابة الصحة للجسم، ومبعث الرذيلة كلها خلل في التوافق بين الإنسان والطبيعة، أو بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان ونفسه.
(٨) نظرة في فلسفة أفلاطون
إنَّ نظرية المُثل من فلسفة أفلاطون هي كالقطب من الرحى فهي تدور حولها، وتقوم على أساسها، فرأيه في الله ورأيه في الطبيعة وفي النفس، ورأيه في الأخلاق وفي الدولة وفي الفن، كل هذه فروع مستنبطة من نظرية المُثل التي لم تكن ثمرة أفلاطونية مباشرة، بل هي مزيج من الفلسفة الإيلية وفلسفة هرقليطس وفلسفة سقراط اجتمع في ذهن أفلاطون فاستحال إلى لون جديد من الفلسفة مطبوع بطابعه، وأساسه التفريق بين العقل والحس، وحتى هذا التفريق بين العنصرَيْن لم يكن من خلق أفلاطون، إنما بدأ منذ فلاسفة المدرسة الإيلية، فكان بارمنيدس أول من أشار إلى ما بينهما من خلاف، وذهب إلى أن الحقيقة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلا بطريق العقل وحده؛ لأن الحواس غاشَّة خادعة، ولما أن جاءت السوفسطائية حاولت أن تعترض هذا المجرى الفكري الجديد الذي يميل إلى نبذ الحواس وإنكارها، وبذلت جهدًا كبيرًا في محو هذا الحد الفاصل بين العقل والحس، وحصرت المعرفة فيما تأتي به الحواس من علم، فكأنما كانت تعاليمهم هذه داعية إلى استنهاض الفكر لصدها قبل أن يستفحل أمرها ويتسع نطاقها، فتصدى لهم سقراط وفي أثره أفلاطون، وردَّا ما زعمته السوفسطائية: فأنكرا أن تكون الحواس وسيلة للعلم الصحيح، وذهبا إلى أن المعرفة عبارة عن الإدراكات الكلية، وهذه من تحصيل العقل وحده، ثم أضاف أفلاطون إلى أن هذه الإدراكات الكلية ليست طريقة يسلكها العقل في التفكير فحسب، بل إنها لتمثل حقائق خارجية موجودة بالفعل، فنشأت بذلك نظرية المُثل.
ولا بد لكل نظام فلسفي من فكرة رئيسية تكون محوره، ويمكن أن يفسر بها كل ظواهر الكون على اختلاف ألوانها، بحيث تُوضِّح في غير لبس أو غموض كيف نشأ هذا العالم المُحَسُّ الذي نعيش فيه من تلك الفكرة المجردة، كما يجب أن تكون هذه الفكرة نفسها التي يتخذها الفيلسوف أساسًا صدرت عنه الكائنات مفسرة لنفسها، فلا يحتاج فهمها إلى الرجوع إلى شيء سواها خارج عن حدودها، فهل استطاع أفلاطون أن يفسر بالمُثل — وهي أساس نظامه الفلسفي — هذا العالَم الموجود الذي نراه ونلمسه؟ وهل هذه المُثل تشرح نفسها بنفسها؟ هذان السؤالان هما في الواقع مقياس دقيق تستطيع أن تختبر به كل النظم الفلسفية لتعلم مقدار الخطأ والقصور في أي نظام شئت، فإن أمكنك أن تفسر الكون بالحقيقة المجردة التي يتخذها الفيلسوف مركزًا لنظامه، وكانت هذه الحقيقة المجردة المركزية قادرة على تعليل نفسها بنفسها، فالفلسفة التي بين يديك صحيحة قوية، وإلا فهي قاصرة بمقدار عجزها عن تعليل العالَم أولًا، وتعليل نفسها ثانيًا.
- (١)
هذا العالم الذي نعيش فيه ملئ بالأشياء المحسة كأنواع الحيوان والجماد، فما علاقة هذه الأشياء بأصل الكون، أي المُثل؟ يقول أفلاطون: إن الأشياء صور للمُثل أو حكايات لها، فمثال الإنسان مثلًا نموذج يحتذيه أفراد الإنسان، ويحاولون تقليده ما استطاعوا، ولكن هذا القول لا يكاد يدل على شيء، فلماذا وُجدت هذه الصور؟ وكيف نشأت؟ هذا ما نريد الجواب عنه؛ إذ لا بُدَّ أن يكون لوجود هذه الأشياء سبب، ولا بد أن يكون هذا السبب في طبيعة المُثل نفسها لا خارجًا عنها، أي إن فيها قوة باطنة تدفعها بالضرورة إلى تصوير نفسها في الأشياء؛ رغبة منها في تكرير صورتها، بهذا وحده يمكننا أن نعلل وجود الأشياء من المُثل، ولكن أفلاطون لا يعترف بأن في المُثل هذه الضرورة التي تميل بها إلى تكرير نفسها، فقد عرفها بأنها وحدها الحقيقة، وأنها أوجدت نفسها بنفسها، وأن وجودها لا يعتمد على شيء آخر، وأنها لا ينقصها شيء ولا تحتاج شيئًا، فإذا كانت في هذه المرتبة من الكمال المطلق، فلا داعي لأن تسعى إلى تحقيق وجودها في الأشياء المحسوسة؛ لأن وجودها حقيقي لا يحتاج إلى إثبات أو تقرير، فلماذا جاوزت حدود نفسها إلى المادة تطبع عليها صورها؟ لماذا لم تكتفِ بنفسها وهي الحقيقة الكاملة التي لا ينقصها شيء؟ إن رغبتها في تكرير نفسها شعور منها بنقصٍ أرادت أن تكمله بهذه الأشياء التي طبعتها على غرارها، ففي الكون مثلًا أشياء كثيرة بيضاء اللون، وبناءً على نظرية المُثل يكون وجود هذه الأشياء البيضاء مستمدًّا من مثال البياض، ولكن لماذا تحرك مثال البياض فأخرج هذه الأشياء البيضاء؟ فالمثال نفسه هو البياض الكامل، فكان من الطبيعي أن يكتفي بنفسه إلى الأبد دون أن تضطره حاجة إلى تقرير وجوده في هذه الأشياء البيضاء، وقل مثل هذا في كل شيء وفي كل مثال، إذن ليست المُثل كافية لتعليل وجود هذا العالم المحسوس، وكأنما أدرك أفلاطون في مثله هذا القصور، فقال بفكرة الإله، وقال إنه وراء المُثل والمادة معًا، فهو يصوغ المادة على نموذج المُثل، وبذلك تكوَّن عالم الأشياء، وفي هذا دليل قاطع على أن المُثل وحدها عاجزة عن التعليل، وإلا لوجب أن تُعَلَّل الأشياء بالمُثل نفسها لا بشيء آخر وراءها، ولو قلنا إن الله اسم أطلقه أفلاطون على مثال الخير لِنَكْفِيَ أفلاطون مئونة هذا الإشكال، ظهرت لنا المشكلة عينها من جديد؛ لأننا لو عللنا وجود الأشياء بمثال الخير، قامت في وجهنا الاعتراضات نفسها؛ لأنه كبقية المُثل ليس فيه ضرورة تحتم عليه تكرير صورته.
هذا ولو كانت المثل هي الحقيقة النهائية المجردة، لوجب أن يكون الوجود بأسره صادرًا منها متفرعًا عنها، لا يشذ عن شيء واحد، وأقل شذوذ كافٍ لهدم الفكرة من أساسها؛ إذ يكون دليلًا على قصور هذه الفلسفة وعجزها عن تعليل العالم بكل ما فيه، ولكنا قد رأينا أفلاطون يقول بفكرة الإله باعتباره كائنًا وراء المُثل، وإذن فهو ليس فرعًا منها ولا قائمًا على أساسها، وليته اقتصر على هذا، بل أدخل المادة أيضًا، فقال: إنَّ هناك المثل من ناحية، والمادة من ناحية أخرى، والله فوقهما يُصَوِّر هذه على مثال تلك، ومعنى ذلك أن الله والمادة لم ينشآ من المُثل، بل وجدا إلى جانبها منذ الأزل، ولا ينجي أفلاطون من هذا النقد قولُه إن المادة قبل أن تُصاغ على صور المُثل وقبل أن تتخذ صفاتها كانت شبه عدم، فلْيُسَمِّها كيف شاء، فهي وجود قائم بذاته لا يعتمد في وجوده على شيء، ولا تقل في حقيقتها عن المُثل نفسها، فشأنها شأنها من حيث الأزلية والقِدم، لم يصدر أحدهما من الآخر، فكلاهما حقيقة مجردة، وإذن فنحن بصدد مذهبٍ اثنيني ولا ريب، ولعل هذه الاثنينية قد نشأت من الفصل التام بين الحس والعقل، فقد فرَّق بينهما أفلاطون كأنهما جانبان لا تربط أحدهما بالآخر علاقة ما، فتعذر عليه بعدئذ أن يملأ هذه الهوة السحيقة التي أوجدها بنفسه بين العنصرَيْن.
- (٢)
هل يمكن المُثل أن تُعَلِّل نفسها بنفسها؟ وبعبارة أخرى، إذا استعرضناها مثالًا مثالًا، فهل نجدها جميعًا موجودة بالضرورة وأن العقل لا يمكن أن يتصور العالم بدونها؟ ولنستعرض أولًا الإدراكات الكلية التي في أذهاننا فإنها — في رأي أفلاطون — كالمُثل، فهل كل إدراك كلي في الذهن ضرورة لا يستقيم العقل بغيرها؟ فمثلًا ٢ + ٢ = ٤ ضرورة عقلية لا بُدَّ منها، فشيئان وشيئان يجب أن تساوي أربعة، فنحن إذا أقمنا الدليل على أن كل إدراك كلي له هذه الحقيقة الضرورية كانت الإدراكات الكلية لا تحتاج معقوليتها إلى سند، وتكون حقائقها ثابتة، والظن بإمكان عدم وجودها يكون تناقضًا يهدم نفسه بنفسه، ولكنا لو نظرنا إلى إدراكاتنا الكلية لألفينا أغلبها من غير هذا النوع، خذ لذلك — مثلًا — البياض، إنه حقيقة ولكنها ليست ضرورية، صحيح أن في العالم بياضًا ولكنا نستطيع أن نتصور العالم بغيره، فإنكاره لا يؤدي إلى تناقض عقلي؛ إذ ليست هناك ضرورة تحتم وجوده، أي إنه ليس جزءًا من نظام العقل كما هي الحال في ٢ + ٢ = ٤، ولا يجوز فيها أن تقول لماذا وُجدت هذه الحقيقة، فهي من تركيب العقل نفسه لا تستغني عنها إلا إذا استغنيت عن العقل.
إذا وضح ذلك ننتقل إلى عالم المُثل فنجد أفلاطون يقول: إن أساس المُثل كلها ومصدرها إنما هو مثال الخير، فلننظر هل هناك ضرورة تستلزم أن مثال الخير يجب أن يتضمن بقية المُثل؟ فإن وجدنا الأمر كذلك كانت المُثل ميسورة التعليل؛ لأنها تكون صادرة بالضرورة من مثالها الأعلى، ليس لها عن ذلك محيص، وبعبارة أخرى يجب أن نستنتج المُثل كلها من مثال الخير، بحيث لو سلمنا بوجود مثال الخير لزم التسليم بوجود المُثل الأخرى، فهل نستطيع أن نقول إن مثال الخير يستلزم حتمًا مثال البياض، فلا نذكر أحدهما إلا إذا ذكرنا الآخر؟ لا، حَلِّلْ عنصر الخير كيف شئت فلن تجد فيه البياض، إذن لا يتضمن المثلان أحدهما الآخر، ويمكننا أن نفكر في مثال الخير دون أن يطوف بالعقل أدنى طائف للبياض، ولا غرابة في هذا، فمثال الخير لا يشتمل إلا على العنصر المشترك في المُثل الأخرى، ولا تشترك هذه إلا في الكمال، فمثال البياض كامل في ذاته، ومثال الحصان كامل في ذاته وهكذا، فإذا كان مثال الخير يمثل البياض والحصان، فهو يمثل جانب الكمال من كل منهما، ويستبعد لون البياض نفسه والحصان نفسه، ويتضح من هذا أن المُثل لا يستلزم بعضها بعضًا بحكم الضرورة، وخلاصة القول أن المُثل لا تستطيع أن تفسر نفسها بنفسها.
لم تثبت إذن فلسفة أفلاطون أمام هذا الاختبار، فلا هي فسرت لنا العالم، ولا هي فسرت لنا نفسها، فكان على تلميذه أرسطو أن يقوِّم هذا الاعوجاج، ويصلح هذا الخطأ الذي وقع فيه أستاذه، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير.