أرسطو (أرسططاليس)
(١) حياته وكتبه
(٢) مؤلفاته
رووا أن أرسطو ألف نحو أربعمائة كتاب، ويقل عجبنا من هذا إذا نحن ذكرنا أن لفظ «كتاب» كان يطلق على ما يسمى عندنا الآن «فصلًا» أو «بابًا» وقد فُقِدَ أكثر من ثلاثة أرباع مؤلفاته، ولكن كان من حسن الحظ أن ما بقي هو أهم ما كُتِبَ، وهو يُمثِّل شرحًا تامًّا لآرائه في مختلف المسائل الفلسفية، وقد وصلت كتبه هذه إلينا مهوشة وخاصة ما كان منها في «ما بعد الطبيعة» فبعض رسائله فيها ناقصة، ويظهر أن مؤلفها لم يكن أتمها، وبعضها غير مرتب، فالباب منها ينتهي في أثناء البحث، ويبدأ الباب الذي يليه في وسط بحث آخر وهكذا.
وأما رسائله في الموضوعات الأخرى فأقل فوضى، ويظهر أن أرسطو كان حَضَّرَ كثيرًا من رسائله تحضيرًا أوليًّا ولم يكن أعدها للنشر، فخرجت كما وصفنا، ومع هذا فكتبه ورسائله تُوضِّح آراءه توضيحًا تامًّا كما ذكرنا.
ألف أرسطو كتبه بعد نضوجه في السنين الثلاث العشرة من آخر حياته، فلم يكن فيها تدرُّج في الرقي واختلاف في الآراء أحيانًا كما نرى في كتب أفلاطون، بل كان فكرُه ناضجًا، ونظرياته تامة، قد فرغ من بحثها، ويغلب على الظن أنه بدأ كتابته بالمنطق، ثم بالعلوم الطبيعية، ثم بالأخلاق والسياسة، ثم بما بعد الطبيعة.
أراد أرسطو أن يصلح الخطأ الذي وقع فيه أستاذه ليبدأ سيره في طريق مستقيمة مستوية، فتوجه بنظره نحو الطبيعة وما فيها، غير معترف بما اتُّهِمَتْ به هذه الأشياء المُحَسَّة من أنها لا تمد الإنسان بالعلم الصحيح، فلقد هجرها أفلاطون وطرحها وراء ظهره، وارتفع في تأمله إلى عالم المُثل المجرد، فاعتزم أرسطو أن يهبط إلى الطبيعة مرة ثانية، على ألا يكون بحثه حسيًّا محضًا، بل حاول أن تكون فلسفته طبيعية عقلية في آن واحد، تبدأ بدراسة أتفه الأشياء التي تقع تحت الحواس، ثم تمضي صُعدًا حتى تصل إلى مرتبة التعليل والشرح لكل ظواهر الوجود المتغيرة، متنقلًا في بحثه من المحسوسات الكثيرة التي يغص بها الكون إلى الواحد الأبدي الخالد، وقد انتقد ما ذهب إليه أفلاطون من شرح ظواهر الكون بالمُثل، وقال إنه بذلك أضاف إلى العالم عاملًا آخر يوازيه كثرة ويوازيه مقدارًا، وكلاهما يعوزه التعليل، ويكفي هدمًا للمُثل أنها لا تُعلِّل الحركة، وإن بقي تعليل الحركة مغلقًا فمحال أن نفسر من الطبيعة شيئًا، وإذن فلم يكن بُدٌّ من محاولة أخرى لتعليل الوجود غير تلك التثنية التي فرضها أفلاطون في فلسفته، فزعم أن للكون عنصرَيْن: مادة ومُثُلًا، وينبغي أن يكون هذا التعليل الجديد الذي ننشده عاملًا على ربط ذَيْنك العنصرَيْن، ليوحِّد بين الطبيعة وروحها، وإن شئت فقل بين الأشياء وأسبابها، وقد انتهت هذه المحاولة بأرسطو إلى ابتكار علم جديد لم يكن له وجود من قبل، فهو من خلقه وإنشائه، ذلك هو المنطق.
فالمنطق — أي قوانين الفكر — سبيل مأمونة تؤدي بنا إلى الحقيقة المنشودة، بانتقال الفكر من المقدمات إلى النتائج الصحيحة، أي من الأشياء والحوادث إلى ما تتضمنه هذه من معنًى، يقول أرسطو إن الإنسان مفطور بطبعه على طلب المعرفة واستطلاع العلم، والإدراك الحسي هو أول خطوة يخطوها في هذا الاتجاه؛ إذ تتعلق حواسه بالأشياء الجزئية الخارجية التي لا ينقطع سبيلها، فإذا ما تجمعت في الذهن أكداس من تلك الإدراكات الحسية، واستعان بذاكرته على الاحتفاظ بها وثب إلى المرحلة الفكرية الثانية وهي التجربة التي تقوم على مقارنة الأشياء بعضها ببعض وتعليلها، ولكن التجربة لا تزال علمًا ناقصًا؛ لأنها كالإدراك الحسي، تدور حول الحقائق المحسة الواقعة، أما المرتبة الأخيرة العليا فهي التأمل النظري في هذه العلل التي حصلها الذهن لكي يكشف الإنسان عن منبعها وأصلها، وتلك هي المعرفة الكاملة، الفلسفة.
هذا الانتقال من الأشياء الجزئية إلى عللها، ثم إلى علة هذه العلل جميعًا، هو الطريق الطبيعي الذي يسلكه العقل في التفكير، هو المنطق.
(٢-١) في المنطق
ويُسمى أرسطو بالمعلم الأول؛ لأنه أول معلم لعلم المنطق ولم يكن قبله علمًا.
(٢-٢) ما بعد الطبيعة (ميتافيزيقا)
- (١)
أن نظرية المُثل لأفلاطون لا تُوضِّح لنا مشكلة كيف نشأ هذا العالم مع أن هذه أهم مسألة في نظر الفلسفة، فإذا سلمنا بأن هناك مثالًا للبياض مثلًا، فكيف نشأت عنه الأشياء البيضاء؟ لا يمكننا أن نفهم هذا من كلام أفلاطون، ولا يمكننا أن نفهم العلاقة بين المثال وأشيائه، يقول إن هذه الأشياء صورة للمثال، وإن المثال «يشاركها في الوجود» ولكن هذه العبارة — كما يقول أرسطو — عبارة شعرية: لا تُوضِّح العلاقة، ولا تبين أساس الوجود.
- (٢)
هب أن هذه الأشياء وضحت بنظرية المثال، فأفلاطون يرى أن المُثل ثابتة على حال لا تتغير، وأنها ساكنة غير متحركة، وإذا كان كذلك فيجب أن تكون صورها — وهي الأشياء — كمثالها ثابتة ساكنة، ولكننا نرى العالم متغيرًا متحركًا، فالأشياء ترتقي وتنحط ولا تستقر على حال، فلمَ تتغير هذه الصورة مع أن أصلها — وهو المُثل — ليست متغيرة؟
- (٣)
أن هذا الوجود مملوء بأشياء كثيرة، ومهمة الفلسفة أن تبين لنا كيف وُجدت هذه الأشياء، ونظرية أفلاطون لا تبين لنا إلا أن وراء هذه الأشياء عالمًا آخر هو عالم المُثل، وهذا الذي فعله أفلاطون ضاعف الموجودات ولم يُعِنْ على حلها بل زاد الارتباك في منشئها، فقال أرسطو: إن مُثل أفلاطون في هذا كمثل شخص صعب عليه أن يعد كمية من الأشياء فضاعف عددها ليسهل عليه عدها.
- (٤)
يرى أفلاطون أن المُثل لا تُدرَك بالحس، والحق أنها تُدرَك بالحس، فهو في الحقيقة يأخذ الأشياء التي تُدرَك بالحس ويعممها ويسميها ثانية لا تحس، فلا فرق في الحقيقة بين الحصان ومثال الحصان والإنسان ومثال الإنسان إلا التخصيص والتعميم، وليست المُثل إلا الأشياء المحسوسة مجردة، وقد شبه أرسطو ذلك بالآلهة المجسمة في بعض المذاهب الدينية «فكما أن الآلهة عندهم ليست إلا أناسي مؤلهة فكذلك المُثل ليست إلا الأشياء الطبيعية أزلية مؤبدة»، ويقول أفلاطون إن الأشياء صورة من المثل، والحق بعد الذي شرحناه أن المثل صورة من الأشياء.
- (٥)
وقد فَنَّدَ أرسطو نظرية المُثل بما سماه «الإنسان الثالث»، ذلك أن المثال يشرح القدر المشترك بين الأشياء، فكلما كان هناك قدر مشترك كان هناك مثال، فهناك قدر مشترك بين الناس كلهم؛ لذلك كان لهم مثال هو مثال الإنسان، ولكن هناك قدر مشترك بين الفرد من الناس وبين مثال الإنسان، فيجب أن يكون لذلك مثال يشرحه، وهذا هو ما سماه «الإنسان الثالث»، وهناك كذلك قدر مشترك بين هذا الإنسان الثالث والفرد من الناس، فيجب أن يكون له كذلك مثال، وهكذا إلى ما لا نهاية، وفي هذا التسلسل، وهو محال.
- (٦)
وأخيرًا وهو أهم اعتراضات أرسطو أن المُثل على رأي أفلاطون ماهية الأشياء، وماهية الأشياء يجب أن تكون فيها لا خارجًا عنها، ولكن أفلاطون فصل المُثل عن الأشياء وجعلها عالمًا مستقلًّا، وجعل لكل مثال وجودًا مستقلًّا … إلخ.
وانتقل بعد ذلك أرسطو إلى بيان أن الحقائق الكلية كالعدل والحرارة والبرودة وحقيقة الإنسان ليس لها وجود خارجي، وإنما الموجود في الخارج هو المفردات كالشيء الحار والشيء البارد، والإنسان، أعني أفراده، أما الحقائق الكلية فليس لها وجود إلا في أذهاننا، فمثلًا حقيقة الإنسان هو القَدْر المشترك بين الناس كلهم، وهو الذي نسميه الإنسانية، والإنسانية لا تُوجد مستقلة وحدها إنما توجد في الأفراد، كالحرارة توجد في الحار، والبرودة في البارد وهكذا، وهذه الإنسانية لا بُدَّ أن تتحقق في كل فرد ليكون إنسانًا، وإذا سُلِبَت منه لم يبقَ إنسانًا، وليس بضروري ما ذهب إليه أفلاطون من أن كل ما نتصوره لا بُدَّ أن يكون له صورة موجودة قائمة في نفسها في الخارج، فإننا قد نتصور ما ليس له وجود خارجي، كجبل من ياقوت وبحر من زئبق ونحو ذلك، وله في شرح ذلك والبرهنة عليه كلام لا يحتمله هذا المختصر.
- (١)
فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكوَّن منها الشيء، كالبرنز للتمثال، والخشب للشباك وهكذا.
- (٢)
وأما العلة المحركة فيعني بها القوة التي عملت على تغيير الشيء واتخاذه شكلًا جديدًا، وليس يعني بالحركة التحول من مكان إلى مكان بل كل تحول وتغير، فإذا تغير ورق الشجر من أخضر إلى أصفر فالقوة التي نشأ عنها هذا التغير هي القوة المحركة، ففي مثل التمثال السابق العلة المحركة هي المَثَّال (صانع التمثال)؛ لأنه هو علة تغيير البرنز من حال إلى حال.
- (٣)
والعلة الصورية عرَّفها أرسطو بأنها روح الشيء وما به الشيء هو هو، وفي مثلنا هذا ما به التمثال تمثالًا.
- (٤)
والعلة الغائية هي الغرض أو الغاية أو المقصد الذي تتجه الحركة لإخراجه، فالعلة الغائية للتمثال هو التمثال نفسه؛ لأنه غاية المثَّال وغرضه.
ثم خطا أرسطو خطوة أخرى وهي تركيز هذه العلل الأربع في اثنتَيْن سماهما المادة والصورة، ويعبرون عنهما عادة في الكتب الفلسفية بالهيولَى (المادة) والصورة، والذي دعاه إلى هذا أنه رأى أن العلة الصورية والمحركة والغائية ترجع كلها إلى الصورة، ذلك؛ أولًا: أن العلة الصورية والعلة الغائية شيء واحد في النهاية؛ لأن العلة الصورية كما قدمنا ماهية الشيء وما به الشيء هو هو، والعلة الغائية بالتعريف الذي شرحناه هو بروز الشيء المطلوب إلى الوجود، وظاهر من هذا اتحادهما. ثانيًا: العلة المحركة والغائية شيء واحد؛ لأن العلة المحركة هي علة الصيرورة، والعلة الغائية هي النهاية التي تصل إليها هذه الصيرورة. وعند أرسطو أن كل الأشياء إنما تتحرك لغايتها، وإنما توجد لغايتها، فالغاية هي التي تحرك للعمل، وبذلك تكون العلة الغائية هي علة الحركة أو العلة المحركة، ولنضرب لذلك مثلًا: فالعلة الغائية لشجرة الورد هي الورد نفسه، والورد هو على نمو الشجرة، أو بعبارة أخرى العلة المحركة للشجرة، فالشجر إنما ينمو و«يتحرك» طبيعيَّا ليصل إلى غايته وهو الورد، وربما كان ذلك أظهر في أعمال الإنسان؛ لأنه يعمل لغاية يشعر بها ويقصدها، أما الطبيعة فتسير نحو الغاية بلا شعور، ففي مثال التمثال السابق: العلة المحركة للتمثال هو المثَّال؛ فهو الذي يحرك البرنز، ومع ذلك فالذي يحرك المثال للعمل ويدفعه إليه في البرنز هو الفكرة التي لديه من إخراج التمثال كاملًا، أو بعبارة أخرى العلة الغائية، فالعلة الغائية إذن العلة النهائية للحركة، وبذلك يكونان متحدَيْن، وفي أعمال الطبيعة لا عقل ولا فكرة، ولكنها بذاتها تتحرك لغاية، وهذه الغاية هي التي تحركها، وتكون النتيجة من ذلك كله أن العلل الثلاث: الصورية والمحركة والغائية، يمكن رجوعها إلى شيء واحد سماه أرسطو «الصورة»، وجعل في مقابلة ذلك كله المادة أو «الهيولَى».
هذه الهيولَى والصورة هما أساس فلسفة أرسطو الميتافيزيقية وبهما شرح العالم، وقد رأى أن الهيولَى والصورة لا تنفصلان فلا صورة من غير هيولَى، ولا هيولَى من غير صورة، وكل موجود في الخارج يكوَّن منهما، وهما ليسا منفصلَيْن إلا في الذهن، ونحن نفكر فيهما منفصلَيْن لنفهمهما فقط، والهندسة تحدثنا عن الأشكال كأنها قائمة بنفسها؛ فتذكر المثلث والمربع والمخمس والدائرة على أنها أشكال، ولكنها في الحقيقة ليس لها وجود ذاتي مستقل، إنما في الخارج أشياء على شكل مثلث أو أشياء على شكل مربع أو أشياء مدورة، لك الحق أن تتكلم عن خواص الأشكال كأنها أشياء مجردة، ولكنها في الحقيقة لا وجود لها بنفسها في الخارج، فإذا فهمت أن لها وجودًا خارجيًّا فقد وقعت في الخطأ الذي وقع فيه أفلاطون في عالم المثل.
ويجب الحذر من أن تفهم أن أرسطو يعني بالصورة الشكل، وإنما يعني بها جميع صفات الشيء من لون وخفة وثقل وجمال وقبح ولمعان وانطفاء وما إلى ذلك، ويعني بها كذلك العلاقة بين أجزاء الشيء بعضها ببعض، وعلاقة كل جزء بالكل … إلخ، أما الهيولَى فما اتصف بهذه الصفات وأمثالها.
فالوجود أو الخلق هو تحوُّل ما هو بالقوة إلى الشيء بالفعل، وكل حركة وكل تغير ليس إلا خطوات التحول من القوة إلى الفعل، وبعبارة أخرى من المادة إلى الصورة، والمادة وحدها ليس لها وجود في الخارج، إنما الموجود في الخارج مادة اتخذت لها صورة.
وليس هذا التحوُّل من المادة إلى الصورة أو من القوة إلى الفعل تحوُّلًا حيثما اتُّفِقَ، أعني أن المادة أثناء تحوُّلها إلى صورة ليست تسير من الخلف بحركة ميكانيكية بحتة، إنما تُسيِّرها «الغاية» وتجذبها إليها كما يجذب المغناطيس الحديد؛ فما لم تكن الغاية حاضرة فليس هناك قوة تحول المادة إلى صورة، فالغاية سابقة «في الفكر» على الوجود، ولكن من حيث «الزمن» ومن حيث الوجود الخارجي الشيء أولًا وحصول الغاية ثانيًا، فسكنى البيت غاية سبقت في الذهن بناء البيت، ولكن في الخارج بناء البيت أولًا والسكنى ثانيًا؛ فالذي حرَّك العالم إلى الوجود هو الغاية، والذي يحرِّك الإنسان إلى العمل هو الغاية.
وليست علاقة الله بالخلق علاقة زمن، فأرسطو يعتبر أن الزمن ليس شيئا حقيقيًّا ثابتًا وإنما هو مظهر فقط، فالإنسان العادي يرى أنه متى كان الله هو الخالق للعالَم، وجب أن يكون الله أولًا وبعد سنين ربما قُدِّرَت بالملايين، رأى الله — لسبب ما — أن يُبرِز العالَم إلى الوجود فأوجده، فهو يرى أن علاقة بالله بالعالم علاقة زمن فهو أولُ والعالَم ثانٍ، وعلاقة العالم بالله علاقة علة بمعلول أو مؤثر بأثر، ولكن الفيلسوف يعتقد أن هذه الزمنية عرضية ومسألة ظاهرية لا حقيقة لها، وأن العلاقة ليست زمنية ولا علاقة مؤثر بأثر، إنما هي علاقة منطقية، علاقة مقدمة بنتيجة، ﻓ «الله مقدمة منطقية والعالم النتيجة»، والله منح العالم وجوده كما تمنح المقدمة النتيجة وجودها؛ فالنتيجة في القضية المنطقية تتبع المقدمة أعني المقدمة تُذْكَر أولًا والنتيجة ثانيًا، ولكن جاءت أولًا في الفكر لا في الزمن، فالتقدُّم والتأخُّر في المقدمة والنتيجة فكري لا زمني، وكذلك واجب الوجود أو مُفيض الوجود على العالَم عند أرسطو هو أَوَّلُ في الفكر لا في الزمن.
يقول أرسطو: إنَّ العالَم هو سلسلة ترقٍّ للمادة من صورة إلى صورة أرقى منها، فالعالَم درجات بعضها فوق بعض، فما كان من الأشياء في منزلة عالية يكون قد غلبت صورته مادته، وما كان منها في درجة سافلة يكون قد غلبت مادته صورته، حتى إذا وصلنا إلى نهاية الحضيض وصلنا إلى مادة لا صورة لها، وإذا وصلنا إلى الذروة العليا وجدنا صورة لا مادة لها، ولكنَّ هاتَيْن النهايتَيْن ليستا إلا معاني مجردة لا وجود لها في الخارج؛ لأن الذي في الخارج — كما قدمنا — ليس إلا مادة بصورة، والعالم يسير في ارتقاء مستمر، والحركة والتغير مستمران ينقلان ما فيه من درجة إلى أعلى منها، تجذبه نحوها قوة الغاية.
هذه الغاية، وإن شئت فقل الذروة العليا للموجودات، وإن شئت فقل الصورة المجردة، هي التي يسميها أرسطو «الله»، ويقول إنه هو الموجود حقًّا؛ لأن له أتم «صورة»، وكلما قارب الشيء من كمال الصورة كان أقرب إلى الحقيقة، وهو العلة الصورية (والغائية والمحركة لهذا العالم) وإذ كان الله مثلًا أو فكرة أو عقلًا، وإذ كان هو العلة الغائية كان هو غاية الغايات، وهو الذي يسعى إليه ويقصد نحوه كل موجود، وإذ كان هو العلة المحركة كان هو المحرك الأول للعالم وهو مصدر كل حركة، وإن كان هو ليس متحركًا؛ إذ لو كان متحركًا لتحرك إلى غاية، وقد قدمنا أنه غاية الغايات، وليس يعني بقوله: «إنه محرك العالم» أنه يدفعه دفعة ميكانيكية من خلفه، وإنما يعني أنه يجذبه إلى غايته، والعالم لا أول له في الزمن، وإنما سبقه الله كما تسبق المقدمة النتيجة — كذلك لا نهاية للعالم؛ إذ لو كان له نهاية لكانت نهايته صورة مجردة — وهي كما أسلفنا لا وجود لها في الخارج.
يقول أرسطو: إن الله فكرة، ولكنه فكرة أي شيء؟ إنه لما كان صورة مجردة فليس صورة لمادة، ولكن هو صورة الصورة، فهو فكرة الفكرة، فهو يفكر في نفسه بنفسه، هو المفكِّر والمفكَّر فيه، فكما أن الإنسان الفاني يفكر في شيء فإن كذلك الله يفكر في الفكر، لا يفكر في شيء خارج عنه، وهو يعيش في سعادة أبدية وسعادته هي تفكيره الدائم في كماله.
وقد تساءل بعضهم: هل الله في نظر أرسطو «مُشَخَّص»؟ وهو سؤال لم يثره أرسطو وإنما أثاره المحدثون، وقد اختلفوا في الإجابة عنه، فبعضهم يُرجِّح أنه مشخص، ويستدل بما ورد في كلام أرسطو من التعبير عن الله بالموجود المطلق، ومن قوله إنه يعيش في سعادة أبدية، وهذه تعبيرات تدل على أنه مُشَخَّص له وجود مستقل شاعر بنفسه، ولا يصح لنا ان نقول إن هذه التعبيرات مجازية؛ لأن أرسطو كان ينتقد على أفلاطون عباراته التمثيلية والمجازية، وألزم نفسه بالتعبيرات الدقيقة، وتحرى أن يعبر عن أفكاره من طريق الحقيقة لا المجاز.
ويرى آخرون أن الله في نظر «أرسطو» ليس مُشَخَّصًا، بدليل أنه عبر عنه بأنه الصورة المجردة، والصورة المجردة عامةً شائعة وليست مُشَخَّصَة، ومن وجه آخر فالصورة من غير مادة لا وجود لها، وإذ كان الله على تعبير أرسطو صورة لا مادة لها فهو ليس له وجود مُشَخَّص مستقل، وهذا الاضطراب في تخريج كلام أرسطو يدل على أن تحديد معنى الله في كلامه غير واضح صريح.
(٣) فلسفته الطبيعية
يرى أرسطو أن الموجودات في هذا العالم متدرجة في الرقي، وأنها واقعة بين نهايتَيْن: هيولَى لا صورة لها، وصورة لا هيولَى لها، ووظيفة الفلسفة الطبيعية عند أرسطو هي تَبْيِين النشوء والارتقاء الذي سلكه العالَم من هيولَى إلى صورة.
إذا أردنا أن نفهم الطبيعة وجب أن نعرف جملة حقائق؛ أولًا: أن هذا العالم في سيره من الهيولَى إلى الصورة يتحرك نحو غاية، فكل شيء في الوجود له غاية وله وظيفة يؤديها، ولا شيء في الوجود يتحرك لا إلى غاية، والطبيعة تعمل خير ما يمكن للسير في هذا السبيل، وفي كل شيء دلالة على سير الطبيعة إلى غرض وغاية معقولة، فحركات العالم ليست حركات ميكانيكية مجردة عن القصد، إنما كل حركاته حتى الميكانيكية منها موجه إلى غاية.
ويجب ألا نفهم من هذا أن كل موجود إنما يتحرك لخدمة الإنسان، فالشمس تتحرك لتضيء له نهارًا والقمر ليلًا، والنبات والحيوان خُلق لطعامه وهكذا! نعم إن كل الأشياء التي هي أحط من الإنسانية تتجه نحو الإنسان، وغايتها هو الإنسان، بحكم أنه أعلى منها في سلم الرقي، ولكن مع هذا فكل موجود مهما انحط له وجود ذاتي وله غاية ذاتية، وهي موجودة لنفسها لا لنا.
ويجب الحذر أيضًا من أن تفهم من قولنا: إن العالم يسير إلى غاية، أنه شاعر بنفسه عارف بغايته، فالنحل مثلًا يعمل لغاية معقولة ولكنه لا يعقلها، إنما يعملها بغريزته لا بعقله، والموجود الذي يشعر بغايته في عالم الأرض هو الإنسان وحده، أما ما عداه فيسير إلى الغاية من غير شعور وتفكير، حتى الجماد يسير إلى غاية كذلك، فخصائصه التي فيه توضح سيره إلى غاية معقولة، ولكنه هو لا يعقلها، والعالم وإن كان يسير إلى غاية معقولة فهو سائر بالغريزة وبالطبع، وإن شئت فقل بالإلهام، من غير أن يكون أمام عقله غاية واضحة يضع الخطط للسير إليها.
في عملية النشوء والارتقاء تجذب «الصورة» العالم إلى الرقي دائمًا، والهيولَى تعوقه وتؤخره، فحركة العالم تتلخص في «جهد الصورة لتشكل الهيولَى ومقاومة الهيولَى للصورة»، ولما كان للهيولَى قوة المقاومة لم تنجح الصورة دائمًا بل فشلت أحيانًا، وهذا هو السبب في أن الصورة لا توجد من غير هيولَى؛ لأنها لا تستطيع أن تتغلب غلبة تامة على مقاومة الهيولَى، وهذا هو السبب أيضًا في وجود فلتات الطبيعة، وغرائب الخلقة والإجهاض، والولادة غير الطبيعية، ففي هذه كلها فشلت الصورة في صوغ الهيولَى، أو بعبارة أخرى فشلت الطبيعة في تحقيق غايتها؛ ولهذا يجب على العلم أن يُعنى بدراسة الأشياء الطبيعية العادية لا الشاذة، ففي الأشياء الطبيعية العادية يستطيع العلم أن ينظر الغاية التي تسعى إليها الأشياء، وبواسطة هذه الغاية وحدها يمكن فهم العالم، ويُكْثِر أرسطو من استعمال كلمة الأشياء «الطبيعية» و«اللاطبيعية» ويعني بالأولى ما حَقَّقَ غايته، أو ما غلبت فيه الصورة الهيولَى، وعكسها اللاطبيعية.
•••
يتكلم أرسطو بعد ذلك على الحركة والزمان والمكان، ويرى أن الحركة هي سير الهيولَى إلى الصورة، وهي أربعة أنواع؛ الأول: الحركة التي تؤثر في عنصر الشيء إيجادًا وإعدامًا، الثاني: الحركة التي تغير الكيف، الثالث: الحركة التي تغير الكم زيادة ونقصًا، الرابع: حركة الانتقال أو تغير المكان، وهذا الأخير هو أهمها.
لم يقبل أرسطو ما عرَّف به بعضهم المكان من أنه الخلاء أو (الفراغ)، وكان يرى أن المكان الخالي محال، كذلك لم يَرَ ما ذهب إليه بعضهم من أن المكان شيء طبيعي موجود، وإلا لكان هناك جسمان يشغلان محلًّا واحدًا في زمن واحد، أعني الشيء والمكان الذي يملؤه الشيء، وإنما المكان عنده هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي.
ويرى أن الزمان هو مقياس الحركة، فهو يعتمد في وجوده على الحركة (وبعبارة أخرى على التغير) ويقيس ما تقدم منها وما تأخر، وإذا لم يكن في العالم حركة لم يكن زمن، وكما يعتمد الزمن في وجوده على حساب الحركة يعتمد أيضًا على العقل الذي يقيس، فما لم يوجد عقل يحسب الحركة لم يكن زمن، وقد يعترض عليه بأنه يلزم من ذلك أنه لم يكن هناك زمن قبل وجود الإنسان، ولكن هذا الاعتراض يزول إذا علمنا أن أرسطو يرى أن الإنسان والحيوانات أزلية كأزلية الزمن.
•••
نذكر بعد ذلك رأيه في «سُلَّم العالَم» … يرى أرسطو أن العالم متدرج في الرقي، بعضه أرقى من بعض في الوجود وفي القيمة، فهو في هذا ينظر إلى العالم نظرة نشوء وارتقاء، ولكن ليس ذلك بمعنى تحول النوع من شيء إلى آخر أرقى منه بمرور الزمان، فهذا النظر حديث، ولأن أرسطو يرى أن الأجناس والأنواع أزلية أبدية، فأفراد الإنسان يُولدون ويموتون، ولكن النوع الإنساني أزلي أبدي، كذلك الشأن في جميع أنواع النبات والحيوان، وإذ كان الأمر كذلك لم يكن هناك تحوُّل من نوع إلى نوع بفعل الزمان كما هو مذهب «داروين» وإنما الترقي عند أرسطو تَرَقٍّ منطقي أو تَرَقٍّ في الفكرة، فالأدنى يحمل بذور الأعلى بالقوة، فالإنسان هو القرد مثليًّا، والأعلى يحمل بذور الأدنى فعليًّا، فالإنسان فيه ما في القرد وزيادة، فما هو مضمر مستتر في الجنس السافل ظاهر جلي في الجنس العالي، فالصورة التي تحارب للظهور في السافل، تحققت وانتصرت في العالي، ومن ثم فالعالم كله سلسلة أو سُلَّم ذو درجات، ولكن لا تتحول فيه الأنواع على مرور الزمن إلى أنواع أرقى.
أما الأجسام العضوية فغايتها فيها، فهي تحقق نفسها بنفسها، فهي تنمو، وليس نموها مجرد حركة ميكانيكية كما نضع حجرًا على حجر، وإنما نموها من الداخل، وتحويل لما في الخارج إلى داخل للوصول إلى الغاية.
وفي الأجسام العضوية تتجلى الصورة أكثر من تجليها في الأجسام اللاعضوية، ونظامها الداخلي أتم، وهذا التنظيم الداخلي هو ما نسميه روح الجسم العضوي أو نفسه، فعمل النفس — حتى في الإنسان — ليست إلا تنظيم البدن وتوضيح العلاقة بين الهيولَى والصورة، وهذه النفس الحية في الأجسام العضوية درجات بعضها فوق بعض، فالراقي منها هو ما كان أكثر تحقيقًا للصورة.
وأول ما يسعى إليه الجسم العضوي تحقيق شخصه ونوعه، فللأول وهو يتغذى، وللثاني هو ينسل، وأحط درجات الجسم العضوي ما اقتصر على هذَيْن العملَيْن: التغذي والنسل، وهذا هو النبات، وقد أفاض أرسطو في تقسيم النبات إلى أنواع وتدرجه حسب قدرته على هذَيْن الوظيفَتَيْن.
ويلي النبات في الرقي الحيوان، وإذ كان النوع الراقي فيه ما في السافل وزيادة، كان الحيوان يشارك النبات في التغذي والنسل ويزيد في الحس، فالإدراك بالحواس خاصة من خصائص الحيوان لا النبات، ويتبع وجود الحس الشعور باللذة والألم؛ لأن اللذة حس سارٌّ والألم عكسه، وتبع هذا وجود الدافع للبحث عن اللذيذ وتجنب المؤلم، وهذا لا يكون إلا بالقدرة على الحركة؛ ولهذا كان أكثر الحيوان قادرًا على التنقل بخلاف النبات، لأنه لا يشعر بلذة ولا ألم، فلا يسعى لتحصيل الأول والفرار من الثاني، وكما فعل في النبات فعل في الحيوان، فقسمه إلى أنواع متدرجة تبعًا لأداء وظيفته.
ويلي الحيوان في الرقي الإنسان، وله ما للحيوان والنبات من تَغَذٍّ ونسل وحس ويزيد عليها «العقل»، وهو المميز له عن باقي النبات والحيوان، وهو أهم وظيفة له، ثم أخذ يشرح هذه النفس العاقلة، فرأى أنه من السخافة ما ذهب إليه أفلاطون من تقسيم النفس إلى أجزاء؛ لأن النفس شيء واحد لا يتجزأ، والأعمال التي تصدر عنها وإن كانت مختلفة، فإن هذا الاختلاف ليس معناه أن هذه الأعمال صادرة من أجزاء مختلفة، بل معناه أنها مظاهر مختلفة لشيء واحد، كالزجاجة الواحدة، محدبة من إحدى مناظرها ومقعرة من الناحية الأخرى، وهي هي واحدة.
ولهذه النفس الإنسانية وظائف أو ملكات، فأحط دركاتها الإدراك بالحواس، ونحن لا ندرك بحواسنا من الشيء إلا صفاته، فندرك من قطعة الذهب أنها ثقيلة الوزن وأنها صفراء ونحو ذلك، ولكنا لا ندرك ما وراء ذلك، فلا ندرك جوهر الشيء وقوامه الذي اتصف بهذه الصفات، وبعبارة أخرى ما يمكن علمه هو الصورة لا الهيولَى.
ويلي هذه الدرجة في الإدراك ما سماه «الحس المشترك» ويعني به المركز الذي تتجمع فيه الإدراكات الحسية المختلفة، فهو يرى أن أنواع المعرفة — حتى أبسطها — مثل أن هذه الورقة بيضاء لا يكفي فيها إدراك حسي واحد، بل لا بُدَّ لإدراكها من مقارنة ومقابلة، وما يجمع هذه الإدراكات الحسية من الحواس المختلفة ويعمل هذه المقارنة والمقابلة هو «الحس المشترك».
ويلي هذه الدرجة في الرقي قوة الخيال أو «المخيلة» وليس يعني بها الخيال الخالق المبتكر كالذي عند الشاعر والفنان، وإنما يعني القوة التي تتجمع فيها صور الأشياء حتى بعد زوال الأشياء من أمام الحواس، وهي قوة عند كل أحد لا عند الفنان وحده.
ويليها «الحافظة»، وهي كالمخيلة في حفظ الصور، إلا أنها تزيد عليها أنها مع حفظها للصورة تدرك أنها صورة حصلت من إدراك حِسٍّ ماضٍ.
ويلي الحافظة «الذاكرة»، والفرق بينهما أن الصور التي في الحافظة تحضر أمام العقل من غير قصد واختيار، أما الذاكرة فإنها تستطيع أن تثير صورها، وتحضرها أمام العقل باختيارها.
وتلي هذا قوة العقل، والعقل نفسه له درجتان: أحطهما العقل القابل وأرقاهما العقل الفاعل، فللعقل قوة على التفكير قبل أن يفكر فعلًا، فهذه القدرة على التفكير تُسَمَّى العقل القابل، والعقل المفكر بالفعل يُسمَّى العقل الفاعل.
ومجموع هذه القوى كلها هو «النفس»، وهذه النفس كما علمنا هي صورة الهيولَى، وإذ كانت الصورة لا تنفصل عن الهيولَى، فالنفس لا توجد من غير بدن فهي وظيفة الجسم؛ ولهذا أنكر ما ذهب إليه فيثاغورس وأفلاطون من التناسخ، خصوصًا حول الأرواح في أجسام حيوان، قائلًا إن وظيفة شيء لا يمكن أن تكون وظيفة لشيء آخر، وعلاقة النفس بالبدن كعلاقة نغمات المزمار بالمزمار نفسه، فالنغمات صورة والمزمار هيولَى، كذلك النفس — إن عَبَّرْتَ تعبيرًا شعريًّا — هي موسيقى الجسم أو روح المزمار، فإذا قلنا بتناسخ الأرواح فكأننا نقول بانبعاث نغمات المزمار من سندان الحداد — وقد يظهر من ذلك أن هذا الرأي يستتبع رفض أية فكرة تقول بأبدية النفس؛ لأن الوظيفة تفنى بفناء العضو، وسنعرض لهذه المسألة بعد — ولكنا نقول هنا إن رأي أرسطو في النفس أرقى من رأي أفلاطون فيها ومن رأي عامة الناس اليوم، فالفكرة الشائعة عند الناس أن النفس وإن لم تكن مادة إلا أنها شيء، ويمكن أن تُوضَع في الجسم وتخرج منه كما نضع الماء في زجاجة ونصبه منها، وأن العلاقة بين الجسم والنفس علاقة ميكانيكية بحتة، ولكن فكرة أرسطو أن النفس صورة الجسم لا يمكن أن تنفصل عنه، ولا يمكن أن تُوجد نفس بلا بدن، والعلاقة بينهما ليست علاقة ميكانيكية بل علاقة كل شيء بوظيفته، والنفس ليست شيئًا تخرج من الجسم وتدخل فيه، بل هي وظيفة الجسم.
ويقول أرسطو إن كل ملكات النفس التي ذكرناها من إحساس وحس مشترك … إلخ، تفنى بفناء الجسم ما عدا العقل الفاعل فإنه لا يهلك، وهو أزلي أبدي، لا أول له ولا نهاية له، قد جاء إلى الجسم من الخارج، ويفارقه عند الموت، وقد جاء من الله؛ لأن الله هو العقل المطلق، فهو يعود إليه بالموت، أعني إذا انقطع الجسم عن العمل، ولكن إذا كانت كل الملكات تفنى ما عدا العقل الفعال، فمعنى ذلك أن الحافظة أيضًا تفنى، ولكن الحافظة لا بُدَّ منها للشخصية، فلولا الحافظة لكانت إدراكاتنا إحساسات متفرقة لا رابطة بينها، والحافظة هي التي تجعلني أربط ماضيَّ بحاضري، وبعبارة أخرى هي التي تجعلني أشعر أني بالأمس هو أنا الآن، فإذا فَنِيَت الحافظة لم تكن هناك شخصية، فكيف تكون حياة العقل الفعال وحده من غير حافظة؟ لم يتعرَّض أرسطو للإجابة عن هذا بوضوح.
بعد النبات والحيوان والإنسان في الرقي تكون الأفلاك، فهل يرى أنها تتمة لسُلَّم العالَم، وأنها أرقى من الإنسان وتأخذ في التدرج إلى الله؟ أو يرى أنها سلسلة وحدها لا تكمل سُلَّم العالم الأرضي؟ رأيان لشراح فلسفة أرسطو: وليس هنا موضع شرح أدلة كل رأي.
على كل حال يرى أرسطو أن الأجسام السماوية أجسام إلهية، وأن الكواكب ومنها الشمس والقمر تدور حول الأرض في اتجاه معاكس للنجوم، وأن هذه الأجسام السماوية أرقى من الإنسان، لها قوة عاقلة أقوى مما عنده، وهي تعيش عيشة سعيدة لا يعتورها نقص، وهي أزلية أبدية، وعالمها لا يعرف الموت والفساد ونحو ذلك مما يعرفها العالم الأرضي، وليست مكونة من عناصر أربعة كالعالم الأرضي، بل هي مكونة من عنصر آخر هو الأثير — ولأنها أبدية كانت حركاتها أبدية، ولأنها مثال الكمال كانت حركتها مثال الكمال، فحركتها ليست في خط مستقيم بل هي حركة دائرية — وقوله هذا يرجح قول القائلين بأنه يرى اتصال السلسلة بين العالم الأرضي والسماوي، وأنها تكون سلمًا واحدًا متدرجًا في الرقي، وفي الذروة من ذلك كله «الله» فهو الصورة المجردة، وهو ليس في عالَمِ زمانٍ ولا مكان؛ لأن ما في الزمان والمكان مُنْتَهٍ محدود، والله ليس كذلك.
وبعدُ فإلى أي حد يتفق أرسطو في رأيه في التدرج والارتقاء مع الآراء الحديثة في التطور؟ لقد ذهب سبنسر إلى أن التطور هو الانتقال من حالة لا محدودة، متفككة، متشابهة، إلى حالة محدودة متماسكة متميزة الأجناس، وهذا ما قاله أرسطو، ولو أنه عبر عنه بأسلوب غير هذا، فهو يسميه تحرُّكًا من الهيولَى إلى الصورة، وهو يصف الصورة بأنها ما يحدِّد الشيء من صفات، فبعد أن كانت الهيولَى مادة لا محدودة، جاءت الصور فطبعتها في أشياء محدودة، وهو يرى كذلك أنه كلما ارتقى الشيء كان أكثر تحدُّدًا؛ لأنه يكون أوفر حظًّا فيما يصيبه من الصورة، والهيولَى قبل أن تشكلها الصور كانت متجانسة، فقد رأينا أنها في بدايتها كانت خلوًّا من الصفات، أي إنها كلها عنصر متجانس، وإن ما أدى بها إلى هذا التباين الذي نلاحظ في الأشياء إنما هو الصفات التي اكتسبتها الأشياء من صورها.
ولكن الفرق بين أرسطو ورجال النشوء الحديث هو أن أرسطو وقف عند تصوره أن التطور ليس إلا رقيًّا منطقيًّا، ولم يدرك أنه حقيقة واقعة تحدث على مر الزمن، فأرسطو ودارون سواء في معرفة الفرق بين النظام العضوي الراقي والسافل، ولكن أرسطو وقف عند هذا الحد ولم يعلم أن هذا الكائن السافل سينقلب مع كر الأعوام كائنًا راقيًا بالفعل.
ولا يقتصر الخلاف بين أرسطو والمحدثين على هذا الفرق، بل هما يختلفان فيما هو أهم من هذا، فأرسطو قد تغلغل في فلسفة التطور أكثر مما فعل العلم الحديث، بل إن شئت فقل إن العلم الحديث ليس لتطوره فلسفة على الإطلاق؛ لأننا حين نقول إن هذا الكائن أرقى من ذلك يجب أن نستند على أساس عقلي في التفرقة بين الكائنَيْن من حيث الرقي والانحطاط، فعلى هذا العماد يتوقف ما إذا كان الكون يخبط في سيره خبط عشواء، أو هو كون يسير وفق نظام وخطة مدبرة نحو غرض معلوم، أما نظرية سبنسر فلا تتضمن معنى التقدم، بل هي تكاد تقف عند مجرد التقرير بأن كائنًا يتغير فيصبح كائنًا آخر، والتغير لا يلازمه التقدم حتمًا، فقد يتغير الشيء إلى شيء يساويه علوًّا أو دونه في المرتبة.
ولا يمكننا أن نفهم الكون إلا إذا أثبتنا أنه يتطور ولا يقتصر على التغير من حالة إلى حالة أخرى كائنة ما كانت، والتطور يقتضي أساسًا عقليًّا تقوم عليه العقيدة بأن بعض الكائنات أرقى من بعض، فلماذا يكون الإنسان أعلى مرتبة من الحصان، أو الحصان أعلى من حيوان الإسفنج؟ إذا أجبت على هذا السؤال فقد حصلت على فلسفة التطور، أما إذا وجهت السؤال إلى رجل الشارع فسيجيبك على الفور بأن الإنسان أرقى من الحصان؛ لأنه لا يأكل الكلأ فحسب، بل هو كائن مفكر له حظوظ وافرة من العلم والدين والفن والأخلاق، ولكن سله لماذا تكون هذه الحالات أرقى من أكل الكلأ، فلن تظفر منه بجواب … انتقل من رجل الشارع إلى الفيلسوف الحديث، إلى سبنسر، وسله يجبك بأن الإنسان أرقى من الحصان؛ لأنه أشد تركبًا في نظامه العضوي، ولكن لم يكون هذا دليلًا على الرقي؟ هنا يقف العلم صامتًا لا يحير جوابًا، لا بل هو يخرج من الصمت بما هو شر من الصمت فيقول: «ليس في حقيقة الأمر رقي وانحطاط، وإنما هي ألفاظ أطلقها الإنسان ليدل بها على المقارنة بين الكائنات من حيث تركيبها العضوي، هي طريقة بشرية للتفكير ليس غير، فنحن نقيس الرقي بمقياسنا، فما كان قريبًا منا شبيهًا بنا كان في رأينا أعلى مرتبة مما هو بعيد عنا مباين لنا في كل نظامه وتركيبه، أما وجهة النظر المجرد فلا تفرق بين كائن وكائن.» ولو سلمنا مع العلم الحديث بهذا لانتهينا إلى نتيجته المنطقية، وهي أن الكون ليس له هدف يرمي إليه، وليس ثمت عقل يسير على مقتضاه، بل هو يسير كما شاءت له المصادفة، وإن كان هذا هكذا فلا فلسفة بل ولا أخلاقية؛ لأننا لو أنكرنا الرقي والانحطاط بين الكائنات فلا مفر لنا من إنكار الفرق بين الخير والشر، وحينئذ لأن تكون سفاكًا أو قديسًا سواء.
لنترك سبنسر إذن، ولنستدبر الزمن فنلقي على أرسطو هذا السؤال: لماذا يكون العلو في النظام العضوي معناه الرقي؟ إنه يجيب بأنه لغط في القول أن نردد هذه الألفاظ: انحطاط ورقي، أعلى وأسفل، ما لم يكن لدينا غرض ننسب إليه الأشياء فنحكم عليها بالنسبة إليه صعودًا أو هبوطًا؛ إذ لا معنى للتقدم إلا أن يكون تقدمًا نحو غاية معلومة، فلو سار جسم في خط مستقيم في فضاء لا نهائي، فمن الخطأ أن نسمي هذه الحركة تقدمًا؛ لأنه لا فرق بين أن يكون الجسم المتحرك عند هذه النقطة أو بعدها بفرسخ أو فرسخَيْن؛ لأنه لن يكون في هذا الوضع الجديد أقرب إلى شيء منه وهو في مكانه الأول، أما إن كان ذلك الجسم لغايته نقطة معينة فعندئذ يصح وصفه بالتقدم أو التأخر؛ لأنه كلما سار شوطًا كان أقرب إلى غرضه المقصود أو أبعد.
وبناءً على ذلك يجب أن تكون فلسفة التطور غائية، تعترف بأن العالم يسير نحو غاية منشودة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكننا أن نصفه بالبعد أو القرب من الغرض، وبعبارة أخرى لا نستطيع أن نحكم عليه بالرقي أو الانحطاط، فما هو هذا الغرض؟ يجيب أرسطو بأنه: تحقيق العقل، فقد كان الكائن الأول عقلًا خالدًا ولكنه لم يتمتع بالوجود الحقيقي الفعلي، فأخذ يمثل نفسه في النبات ثم في الحيوان، ثم حقق وجوده في الإنسان، وسيظل يرقى في الإنسان حتى يصل إلى وجود خالص من كل شائبة، وعندئذ يكون الكمال المنشود، ولكن كيف بالعالم إذا وصل إلى هذه المرتبة؟ أيُصاب بالجمود فلا يسير؟ إنه لن يصل يومًا إلى ذلك الكمال، وسيظل دومًا يقصد إليه دون أن يبلغه.
وإذن فمقياس الرقي والانحطاط هو مقدار ما يتمتع به الكائن من عقل، ولا يجوز لمعترض أن يسأل: لماذا يكون العقل علامة على الرقي؛ لأن كلمة «لماذا» معناها أن العقل يريد سببًا عقليًّا، ومن التناقض الظاهر أن يسأل العقل عن سبب معقوليته، فسؤالك لماذا كانت الحياة العقلية أرقى كسؤالك لماذا كان العقل عاقلًا، وهو سؤال ظاهر السخافة.
وفي تعاليم أرسطو ما يشعر بمذهب الحلول، وهو المذهب القائل بأن الله حالٌّ في كل شيء، وأن كل شيء مظهر له، فإن فلسفة أرسطو تقول: إن كل شيء في العالم يسعى لتحقيق العقل وله حظ منه، والعقل الكامل هو الله، وإن اختلفت الأشياء في مقدار حظها منه.
(٤) رأيه في الأخلاق
يختلف أرسطو عن أفلاطون في الأخلاق في أن تعاليم أفلاطون تجاوزت ما في قدرة الإنسان وتوغلت في الروحانيات والمُثل العليا، على حين أن أرسطو لمس الحقائق وبنى عليها تعاليمه الأخلاقية العملية، بحث أرسطو في «ما هو الخير» كما بحث أفلاطون، ولكن أفلاطون كان يحتقر عالم الحس وما فيه، فكان في إجابته ينظر إلى عالم فوق عالم الحس، أما أرسطو وهو المحب للحقيقة والواقع، فقد أجاب بما في استطاعة جمهور الناس أن يصل إليه.
أول ما يعرض للباحث في الأخلاق البحث عن غاية الغايات، فالناس يعملون لغاية، وقد تكون هذه الغاية وسيلة لغاية أخرى وهكذا، ولكن يجب أن تكون في النهاية غاية أخيرة ليست وسيلة لشيء هي التي تُسمى غاية الغايات — يقول إن هذه الغاية الأخيرة محل اتفاق بين الناس وهي السعادة، فكل ما يبحث الناس عنه وكل باعث لهم على العمل وما يتطلبونه لذاته لا لشيء آخر وراءه، هو السعادة — ولكن الناس جميعًا على اختلاف طبقاتهم يختلفون في مفهوم السعادة، سواء منهم الفلاسفة والعامة، فبينا يرى بعضهم السعادة في حياة اللذة، إذا بآخرين يرون السعادة في الهرب من اللذة، وكل يرسم للسعادة في الحياة صورة تخالف ما يرسمه الآخر، ولكن لم يحدثنا أرسطو عن طبيعة السعادة ولم يشرحها شرحًا وافيًا يبين الغرض منها.
غير أنه قال — بناءً على تعاليمه السابقة — إذا رأينا أن كل شيء في الوجود له وظيفة وله غاية يسعى بطبيعته للسير إليها فالخير للإنسان ليس في لذة حواسه فقط؛ لأن الإحساس وحده وظيفة الحيوان لا الإنسان — أما وظيفة الإنسان التي امتاز بها فالعقل، فعمل العقل هو الخير بالنسبة للإنسان، والأخلاقية إنما هي في الحياة العقلية، وسيتضح ذلك مما يلي:
ليس الإنسان حيوانًا ذا عقلية فقط، بل لما كان الجنس الراقي فيه ما في السافل وزيادة، ففيه الملكات التي في النبات والحيوان فهو يتغذى كالنبات ويحس كالحيوان، والتغذي والحس طبيعة فيه، فيجب أن تكون الفضيلة نوعَيْن: نوعًا راقيًا يوجد في حياة العقل والتفكير والفلسفة، ونوعًا آخر وهو ما يتعلق بالتغذي والحس، والفضيلة في هذا النوع الأخير أن تخضع الشهوات ورغبات الحس لحكم العقل، وإنما كان النوع الأول أرقى لسببَيْن: الأول أنه فضيلة العقل، وبالعقل صار الإنسان إنسانًا، والثاني: أنه فضيلة فيها تشبُّه بالله، إذ حياة الله هي حياة الفكر الخالص.
والسعادة تتكون من النوعَيْن معًا، ولم ينكر أرسطو ما للظروف الخارجية من تأثير كبير في السعادة، فالفقر والمرض وسوء الحظ تعوق الإنسان عن أن يصل إلى السعادة، وأضدادها وسائل للسعادة لا السعادة نفسها، فالغنى والصداقة والصحة ليست السعادة ولكنها وسائل لها، وأعني بذلك أنه بهذه الأمور تكون السعادة قريبة المتناول، وبدونها يصعب الوصول إليها، وهذه الأشياء قيمتها في ذلك فقط.
لم يتكلم أرسطو طويلًا وبالتفصيل عن النوع الراقي من الفضيلة وفي قوله عن النوع الثاني خَطَّأَ سقراط في فهمه أن الفضيلة في المعرفة، وأن المعرفة كافية وحدها في السير في طريق الحق، وأن الإنسان إذا فكر تفكيرًا مستقيمًا عمل عملًا مستقيمًا، وقال إن سقراط نسي عامل الشهوة في الإنسان، فقد يفكر جيدًا ويرشده فكره إلى الصواب، ولكن تتغلب عليه شهوته فتغويه، ويقول أرسطو إن وسيلة غلبة العقل المران، فبالمران على ضبط النفس وتحكيم العقل والتزام أوامره يمكن ترويض الشهوة وتذليلها، فكلما طال وضع الشهوة تحت نير العقل اعتادت ذلك؛ ولهذا علق أهمية كبرى على العادة، وقال إن تعويد الإنسان العادات الطيبة هو السبيل الوحيد لتكوين الإنسان الطيب.
وإذا كانت الفضيلة في حكم العقل للشهوة كان لا بُدَّ في الفضيلة من العنصرين معًا، فيجب أن تكون شهوة وأن يكون عقل يحكمها، فالزهَّاد الذين يريدون أن يستأصلوا الشهوة من أساسها مخطئون؛ إذ ينسون أن الشهوة عنصر في الإنسان واستئصالها هدم لعنصر من مكوناته، وبتعبير أرسطو إنَّ الشهوة مادة الفضيلة والعقل صورتها، فبهدم الشهوة انهدمت المادة، ولا تقوم الصورة بلا مادة، فهناك نوعان من الغلو فاسدان: محاربة الشهوة حتى تموت، وإطاعتها حتى تغلب العقل، والفضيلة في الوسط، وهو الاعتدال، ونشأ من هذا نظريته المعروفة بنظرية الأوساط أي إن كل فضيلة وسط بين رذيلَتَيْن.
ولكن كيف أعرف هذا الوسط؟ ما المقياس؟ من الذي يحكم؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة عسيرة، فليست المسألة مسألة خط مرسوم أقيسه لمعرفة وسطه، وليست هناك قاعدة واضحة أستطيع بها أن أعرف ذلك، والحكم فيها يتوقف على الظروف المحيطة بالشخص وعلى الشخص نفسه، فما هو نقطة الوسط في حالة ليس كذلك في حالة أخرى، وما هو اعتدال لإنسان إسراف لجاره وهكذا، فيجب أن يُتْرَك الأمر لتقدير الشخص بعد أن يُمَرَّن على صحة النظر لمعرفة الوسط.
ولم يعبأ أرسطو كثيرًا بحصر الفضائل وتعدادها كما فعل أفلاطون، بل رأى أن الحياة أكثر تَرَكُّبًا من أن يُنْحَى فيها هذا المنحى، والفضيلة تختلف باختلاف ظروف الحياة، فهناك فضائل بقدر ما يحيط بالإنسان من ظروف، وقائمة الفضائل التي ذكرها أرسطو ليست — كما قال — حصرًا للفضائل، وإنما ذكرها للتمثيل، وقد مثل لرأيه في نظرية الأوساط بالشجاعة فقال: إنها وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين البخل والإسراف … إلخ.
ولم يطبق هذه النظرية على العدل، فلم يبين أية رذيلتَيْن هو وسط بينهما؛ لأنها في نظره على ما يظهر فضيلة الدولة أكثر منها فضيلة الفرد، حتى يظن بعضهم أن الكتابة عليها في كتاب الأخلاق لأرسطو جاء من خطأ الوضع. ويقول إن العدل نوعان: عدل مُوَزَّع، وعدل مُصَحَّح، فالعدل الموزع يظهر في إعطاء المكافآت والمنح حسب مؤهلات الأفراد، والعدل المصحح يظهر في العقوبة؛ فإنه إذا أخذ إنسان فائدة أو منفعة أو لذة لا يستحقها حصل اختلال في الوجود، ويجب أن يُصَحَّح بأن يُوقَع عليه ألم أو ضرر يتعادل مع ما حصل مما ليس له حق فيه.
كان أرسطو يقول بحرية الإرادة، وعاب على سقراط رأيه في الفضيلة لأنه يستلزم الجبر، فعند سقراط أن التفكير الصحيح يستتبع حتمًا العمل الصالح، وهذا معناه أن ليس له إرادة في اختيار الخير والشر؛ لأنَّ الإنسان الذي يُفكِّر صحيحًا لا يفعل الخير اختيارًا بل جبرًا، وعلى العكس من ذلك أرسطو فهو يرى أنَّ الإنسان مُخَيَّر بين أن يعمل الخير والشر وقادر على فعل كلٍّ منهما، ولم يتعرض أرسطو إلى بيان المشاكل التي تعترض نظرية حرية الإرادة والتي هي مثار الجدل الشديد بين الفلاسفة المحدثين.
(٥) رأيه في الدولة
ليس علم السياسة في نظر أرسطو منفصلًا عن علم الأخلاق، بل هو يرى أن الأول قسم من الثاني، فعلم الأخلاق إما أن يبحث في أخلاقية الأفراد أو في أخلاقية الجماعات، والثاني هو المسمى عادةً بالسياسة، وهناك سبب آخر للاتصال بين القسمَيْن، وهو أن أخلاقية الفرد لا تجد غايتها إلا في الدولة، وبعبارة أخرى في المعيشة الاجتماعية، ولا يمكن أن يصل الفرد إلى غايته بدونها.
وقد وافق أرسطو أفلاطون في أن الغرض من الدولة إسعاد أفراد الشعب، وبدونها لا يمكن أن يسعدوا؛ لأن الإنسان حيوان سياسي بالطبع، ويعني من قوله «بالطبع» ما تقدمت الإشارة إليه من أن الدولة غاية محتمة له، وجزء أساسي من وظائفه، ويرى أن الدولة صورة والفرد هيولَى، وأن وظيفة الدولة تربية الأفراد على الفضيلة وتهيئة الأسباب لهم ليكونوا فاضلين، وبدون ذلك لا يكون الإنسان إنسانًا إنما يكون وحشًا ضاريًا.
يرى أرسطو أن أصل الدولة يرجع إلى الأسرة، فأول كل شيء كان الفرد، ثم أخذ الفرد يبحث عن رفيق في الحياة فكانت الأسرة (والأسرة في نظره تشمل الرقيق؛ لأن أرسطو كأفلاطون لم يَرَ عيبًا في نظام الرق)، ومن مجموعة أسر تكونت القرية ثم المدينة، ومن مجموعة قرى ومدن كانت الدولة.
هذا هو الأصل التاريخي للدولة، ولكن أهم من أصلها التاريخي في نظر أرسطو أن الأسرة وإن سبقت الدولة في التاريخ فالدولة سبقت الفرد والأسرة في الفكر؛ لأن الدولة هي الغاية، والغاية تسبق الوسائل في الفكر كما تقدم، فالدولة من حيث هي صورة سابقة على الأسرة من حيث هي هيولَى، وإذ كانت الأشياء تُشرَح بغاياتها فالأسرة تُشرَح بالدولة لا العكس.
وليست الدولة مجموعة من الأسر تُكوَّم كما يُكوَّم الرمل بل هي جسم عضوي، وليست علاقة الجزء بالجزء علاقة آلية (ميكانيكية) بل هي علاقة عضوية، فالدولة لها حياة خاصة، وأعضاؤها لها حياة كذلك، وحياة هذه الأعضاء داخلة ضمن الحياة العليا وهي حياة الدولة، وإذ كان الفارق بين الجسم العضوي واللاعضوي أن الأول له غاية في نفسه، والثاني له غاية خارجة عنه كانت الدولة لها غاية في نفسها، والفرد كذلك له غاية في نفسه، وأن غاية الدولة تتضمن غاية الفرد، وبعبارة أوضح كلٌّ من الدولة والفرد له غاية وكلٌّ له حياة وكلٌّ له حقوق، ومن ثم كان هناك نظران يعدهما أرسطو غير صائبَيْن؛ الأول: الرأي الذي يقول بحياة الأفراد وينكر حياة الدولة، وبعبارة أخرى يقول بأن للفرد غاية في نفسه ولا يقول بأن للدولة حياة مستقلة، والرأي الثاني: من يعكس هذا ويقول بحياة الدولة حياة حقة، وينكر حقيقة حياة الأعضاء، فالذين يرون أن الدولة ليست إلا أفرادًا مكدسة، وأن الدولة ليس لها غاية إلا حماية الأفراد وإسعادهم وليس لها وجود مستقل ولا غاية مستقلة، هؤلاء يمثلون الرأي الأول الخاطئ، وهؤلاء يخضعون الدولة لمصلحة الفرد، وينظرون إليها كأنها وسيلة فقط لحماية أرواح الأفراد وملكهم، لا غرض لها في نفسها وإنما غرضها خدمة الأفراد، فهذا النظر لا يقر بأن للدولة حياة ولا بأنها جسم عضوي، وكأن أرسطو بهذا يفند نظرية «العقد الاجتماعي» التي ذاعت في القرن الثامن عشر، كما يرد على النظر الحديث القائل بأن الدولة ليس لها من وظيفة إلا أن تضمن أن حرية الفرد لا يحد منها إلا حق الأفراد الآخرين في أن يتمتعوا بمثل حريته، ويمثل الرأي الآخر الخاطئ ما ذهب إليه أفلاطون من إنكاره حياة الأعضاء، فهو يرى أن الأعضاء لا شيء، وأن الدولة هي كل شيء، ومن أجل ذلك يضحي بالفرد للدولة، ويرى أنه لا يعيش إلا لمصلحتها وليس للفرد غاية في نفسه. يرى أفلاطون أن الدولة وحدة متجانسة الأجزاء ليس لأجزائها حياة مستقلة، ولكن أرسطو يرى أن حياة الدولة حياة جسم عضوي فهو وحدة وأجزاؤه مرتبط بعضها ببعض ولكنها غير متجانسة، ولكل جزء حياته الخاصة، وكما أخطأ أفلاطون في نظره إلى الفرد كذلك أخطأ في نظره إلى الأسرة، فأرسطو يرى أن الأسرة كالفرد جزء حقيقي من الكل الاجتماعي وهو الدولة، وهو جسم عضوي في جسم عضوي وله غاية في نفسه وله حقوق خاصة، أما أفلاطون فيرى أن يلغي نظام الأسرة لمصلحة الدولة بالاشتراكية في النساء وبتربية الأولاد في المربى العام، فقضى بذلك على الأسرة التي هي جزء لا بُدَّ منه للدولة في نظر أرسطو.
- (١)
حكومة الفرد، وهي حكم فرد لأمة بحكم أنه متفوق عليها في عقله وحكمته؛ فهو لذلك يحكمها طبيعيًّا فإذا فسد هذا نشأت:
- (٢)
حكومة الاستبداد، وهي أن يحكم الفرد لكن لا لكفايته وحكمته بل لقوته.
- (٣)
والحكومة الأرستقراطية، وهي أن تحكم الأمة الأقلية العاقلة أو الأقلية الممتازة بكفايتها فإذا فسد هذا نشأت:
- (٤)
الحكومة الأوليجاركية، وهي أن تحكم الأقلية الغنية أو الأقلية القوية.
- (٥)
الحكومة الجمهورية، وهي أن يكون أفراد الأمة متساويين في الكفاية ليس فيها فرد أو طبقة ممتازة، فيشترك الأفراد كلهم أو أغلبهم في الحكم، فإذا فسدت نشأت عنها:
- (٦)
الحكومة الديمقراطية، وهي وإن كان الحكم فيها في يد الأغلبية، فأهم مميزاتها أن الحكم فيها في يد الفقراء.
لم يُعيِّن أرسطو — كما عَيَّنَ أفلاطون — المُثل الأعلى للدولة، فأرسطو يقول ليس هناك شكل خاص هو في نفسه خير الأشكال، فكل شكل يعتمد على ما يحيط به من ظروف، فقد يكون شكلٌ حسنًا لأمة في عصر على حين أنه سيئ في عصر آخر وأمة أخرى؛ ولذلك لم يُعْنَ برسم المُثل الأعلى للدولة، أو كما نقول: «المدينة الفاضلة»، ولكن من هذه الحكومات الثلاث الجيدة فضل أرسطو حكومة الفرد، فحكم الفرد الحكيم العادل خير أنواع الحكم عنده، ولكنه عَدَّ ذلك متعذرًا أو على الأقل متعسرًا، فَقَلَّ أن يُوجد هذا الإنسان الكامل، ونرى هذا النوع موجودًا بين الأمم المبتدية في طورها الأول؛ فنرى في الجماعة فردًا يفوق الباقين في أخلاقه وصفاته فيحكمهم، ويلي هذا النوع من الحكومة الأرستقراطية ودونها في نظر أرسطو الحكومة الجمهورية ويقول: إنَّها كانت أنسب أنواع الحكومات للمدن اليونانية في بعض ظروفها ودرجة رقيها.
(٦) رأيه في الزواج ونظام التربية
يرى أرسطو أن المرأة بالنسبة للرجل كالعبد لسيده، أو كنسبة العامل باليد للمفكر، أو البربري للإغريقي، فهي عبارة عن رجل ناقص التكوين لم يتم خلقه، والذكر بحكم الطبيعة أسمى مرتبة من الأنثى، فهو بالضرورة قوَّام عليها، له أن يحكم وعليها أن تطيع؛ ذلك لأنها ضعيفة الإرادة، ولذا فهي عاجزة عن أن تستقل في خُلُقها دون أن تعتمد على مرشد يهديها سواء السبيل، وتكون المرأة في خير حالاتها إذا ما قبعت في عقر دارها حيث الحياة هادئة ساكنة، تاركة للرجل معترك الحياة الخارجية، ولقد خطأ أفلاطون حين سوى بين الرجل والمرأة في مدينته الفاضلة.
وينصح أرسطو للشاب بتأجيل زواجه حتى يبلغ سن السابعة والثلاثين، وعندئذ يتزوج من فتاة لا تتجاوز العشرين؛ لكي يفقد الزوجان قوة التناسل وحدة العواطف في أسنان متقاربة: «فلو بقي الرجل قادرًا على الإنسال بينا تكون المرأة عاجزة عن الحمل، أو العكس، لنشأ بين الزوجَيْن عراك وخلاف … ولما كانت مقدرة الرجل تمتد إلى سن السبعين، وتقف مقدرة المرأة عند سن الخمسين، وجب أن يكون بدء اتصالهما ملائمًا لهذه النهايات، واتصال الذكر بالأنثى وهما لا يزالان صغيرَيْن خطر على ما ينتجان من أطفال، ويلاحظ في كل أنواع الحيوان أن نسل الصغير يكون ضئيلًا ناقص التكوين، وغالبًا يكون إناثًا.» [السياسة]
ويحسن بناءً على ذلك ألا يترك أمر الزواج لأهواء الشبان تلعب به كيف شاءت لهم عواطفهم، بل يجب أن يُوضع تحت إشراف الدولة لكي تحدد سن الزواج لكل من الجنسَيْن ولتضمن سلامة النسل من جهة، وتضبط عدد السكان من جهة أخرى، فلو ازداد السكان زيادة كبيرة، فسيضطر الآباء إما إلى قتل الأبناء بعد ولادتهم، أو إلى إجهاض الأجنة قبل وضعها: «وإن كان لا بُدَّ من الإجهاض فليكن قبل أن تدب في الجنين الحياة والحس.» [السياسة]
ويجب أن يكون عدد سكان الدولة ملائمًا لثروتها وشتى ظروفها: «فإن قل السكان قلة كبيرة لم تستطع الدولة أن تكفي نفسها بنفسها، وإن كثر السكان كثرة عظيمة … تنقلب الدولة إلى أمة، وكثيرًا ما تكون عاجزة عن اتخاذ حكومة دستورية.» [السياسة]
أما التربية فيجب أن يُوضَع زمامها في يد الدول لكي تشكلها حسب ما يقتضيه نوع الحكومة القائمة، فينشأ الطلاب على طاعة القانون وإلا استحال قيام الدولة، ومن لم يُدرَّب على الطاعة لم يستطع أن يكون بعدُ قائدًا له الأمر، هذا وستعمل الدولة لتنشئة الأفراد على حب الجماعة، وعلى أن خير حرية هي ما قيدها القانون: «فالإنسان إذا ما كمل صار أرقى أنواع الحيوان، وهو شرها إذا انفرد عن الجماعة وانعزل.» ولقد نشأت الجماعة وتطورت لما للإنسان من مقدرة على التخاطب والتفاهم، ثم كانت الجماعة عاملًا شاحذًا للذكاء، ثم كان الذكاء سببًا للنظام، ثم كان النظام أساسًا للمدنية، ففي الدولة المنظمة يستطيع الفرد أن يسلك ألف طريق إذا أراد سموًّا وارتفاعًا، أما إذا انسلخ عن الجماعة وعاش منعزلًا فلا سبيل إلى الرقي: «وإذا عشت منفردًا فإما أن تكون حيوانًا أو إلهًا.» [السياسة]
وهنا يضيف نيتشه، الذي أخذ فلسفته السياسية عن أرسطو هذه العبارة: «وإما أن تكونهما معًا، أي أن تكون فيلسوفًا.» وهو يرى أن تشرف الدولة على التربية وأن تتدرج بها تبعًا لتطور الإنسان، فتبدأ بالتربية البدنية، ثم بتربية النفس غير العاقلة وهذه هي التربية الخلقية، ثم بتربية النفس العاقلة وهي التربية الفكرية.
(٧) رأي أرسطو في الفن
- (١)
آراؤه في الطبيعة وأهمية الفن على العموم.
- (٢)
آراؤه التفصيلية في تطبيق نظرياته في الفن على الشعر.
يتميز الفن عن الأخلاق بأن الأخلاق تتعلق بالأعمال وما تصدر عنه الأعمال من باعث وغرض وشعور ونحو ذلك، أما الفن فلا يهتم إلا بما ينتجه الفنان، كذلك يتميز الفن عن عمل الطبيعة بأن الطبيعة تنتج أمثالها، فالنبات يخرج نباتًا، والحيوان ينتج حيوانًا مثله، أما الفنان فقد ينتج شيئًا آخر يخالفه فينتج شعرًا، وينتج صورة، وينتج تمثالًا.
للفن نوعان: فهو إما أن يكمل الطبيعة وإما أن يخلق جديدًا، فمن النوع الأول مثلًا فن التطبيب، فإذا قصرت الطبيعة في منح الصحة للبدن جاء الطبيب يساعد الطبيعة بفنه ويكمل ما بدأت به، ومن النوع الثاني ما نسميه اليوم بالفنون الجميلة، من تصوير وموسيقى وشعر، هذا النوع الثاني وإن سماه أرسطو مقلدًا للطبيعة فهو — في نظره — لا يقلد الأفراد والجزئيات بل يقلد الشيء الكلي في فرد، ومعنى هذا أنه إذا صوَّر إنسانًا فهو لا يصور فردًا يراه وإنما يصور فيه المثل الأعلى للإنسان أو الفرد الكامل منه، فهو يلقي على الصورة نفحة مما يتصوره من الكمال، فالإنسان العادي ينظر إلى الفرد من الناس كأنه فرد، أما الفنان فيرى الإنسانية في الفرد، فيلقي على الصورة شيئًا من هذا النظر العالي، وتكون وظيفته أن يعرض ما يتصوره من الإنسانية فيما يصوِّر.
ومن ثم كان الشعر أقرب إلى الحق، وإن شئت فقل إلى الفلسفة من التاريخ؛ لأن التاريخ يبحث في الجزئيات من حيث هي جزئيات ويخبرنا بما كان، ويوصل إلينا معرفة ما حدث وانقضى، ويهتم بتكرار حوادث لا معنى لها، أما الفن — ومنه الشعر — فيتعلق بروح هذه الحوادث الذي لا يفنى، وبالحقيقة التي ليس ما يعرض من الحوادث إلا مظهرًا لها — فإذا نحن رتبنا الفلسفة والتاريخ والفن حسب أهميتها: كانت الفلسفة في المرتبة الأولى لأنها تبحث في الشيء الكلي من حيث هو كلي، ثم يليها الفن لأن غرضه هو الشيء الكلي متحققًا في جزئي، ثم التاريخ لأنه يبحث في جزئي من حيث هو جزئي — وإذ كان لكل شيء وظيفة لا يصح أن يعدوها وجب على الفن ألا ينافس الفلسفة، فيجب أن لا يتعرض للكلي المجرد، ولا يصح للشاعر أن يصوغ شعره من الأفكار المجردة، إنما يصوغه من الجزئيات ويفيض عليها من الكليات، ومن ثم نقد إِمْبِذُقْلِيس؛ لأنَّه عبَّر عن فلسفته بالشِّعر، وبعبارة أخرى فَنَّنَ فلسفته وهذا ما لا يجوز.
(٨) نظرة في فلسفة أرسطو
لن يطول بنا موقف النقد لأرسطو كما حدث عند أفلاطون وذلك لسببَيْن؛ الأول: أنه كان أقل تعرضًا للخطأ منه، والثاني: أن أهم ما يُؤخذ على فلسفته ردها الكون إلى عنصرَيْن أوليَّيْن، شأنه في هذه الثنائية شأن أستاذه، ولما كنا قد نقدنا هذه الناحية في أفلاطون فحسبنا الآن إشارة سريعة عجلى، فليست فلسفة أرسطو في أساسها إلا الفلسفة الأفلاطونية أُزيل منها كثير مما كان يشوبها من مواضع الضعف ومواطن الزلل.
أقام أرسطو فلسفته على أساس من أفلاطون، فقد اتفق معه بادئ الأمر على أن الحقيقة النهائية التي صدر عنها الوجود بأسره هي الفكر، أو بلفظ آخر الكلي، أو بكلمة ثالثة المثال، أو بعبارة رابعة الصورة أو ما شئت فسمِّه. اتفق معه على هذا الأساس ولكنه اختلف معه فيما أقامه عليه من بناء، فقد ذهب أفلاطون إلى أن الصورة العقلية الكلية التي يرسمها الإنسان في ذهنه للأشياء إنما هي صورة لها مقابل موجود فعلًا في عالم خاص هو عالم المثل؛ ولذا كان — في رأيه — يسيرًا على الروح الهائمة أن تشهد تلك المُثل، فنقد أرسطو هذا الرأي من أستاذه؛ لأنه رأى في ذلك نزولًا بالفكر إلى منزلة الأشياء الجزئية المحسوسة، فما ينبغي أن يكون للصورة الذهنية مقابل في الخارج كما هي الحال في الصور التي تنقلها إلينا الحواس، وهذب أرسطو من هذا الرأي فقال إنه على الرغم من أن الإدراك الكلي هو الحقيقة، إلا أنه ليس له وجود مستقل في عالم خاص به، بل إن وجوده محصور في هذا العالم الذي نعيش فيه، وليست الإدراكات الكلية إلا صور الأشياء الجزئية، وبهذا تفوق أرسطو على سلفه تفوقًا بعيدًا، وخطا بالفلسفة مرحلة فسيحة حتى بلغ بها أبعد حد عرفه الفكر اليوناني.
ولم يكن فضل أرسطو على الفلسفة مقصورًا على ما ذكرنا من تهذيب المذهب المثالي، ولكنه أنتج فوق ذلك فلسفة للتطور لم يشهد التاريخ لها ضريبًا حتى اليوم، إذا استثنينا «هيجل»، بل إن هيجل حين أخرج للعالم مذهبه في التطور إنما كان يتأثر أرسطو في خطاه، ولعل هذا الجانب من فلسفته أقوم ما أضاف إلى ثروة الفكر، على الرغم من أنه قد استعار أساس البحث من أسلافه، فما نحسبك قد أُنْسِيتَ مشكلة الصَّيْرورة أو التَّحوُّل، وكيف كانت للفكر اليوناني محاولات في هذا منذ أقدم العصور؛ فذلك هرقليطس ومن جاء بعده من فلاسفة بذلوا جهدًا كبيرًا لعلهم يدركون كيف أمكن لهذا التحول الطارئ على الأشياء أن يكون، فباءوا آخر الأمر بالإفلاس، على أن هذا الذي قد فشلوا فيه لم يكن من المشكلة إلا أتفه جوانبها، وإنما الأمر كل الأمر هو معنى التحول، والغاية التي تَقصد إليها هذه الصيرورة الدائمة الدائبة بين الأشياء، فليس ما نرى في العالم من تحول وتغير ضربًا من العبث لا يقصد إلى غاية معلومة كما ذهب أولئك الفلاسفة القدامى، ولكنه ارتقاء بالأشياء من الأسفل إلى الأعلى، فيستحيل أن تكون هذه الأحداث المتعاقبة في الكون كما زعم القدماء «قصة يرويها مأفون، تدوي بالصوت وتضطرب بالحركة ولا تدل على شيء» بل لا بُدَّ أن يكون أمامها غاية؛ لهذا لم يقنع أرسطو بالبحث في إمكان الصيرورة فحسب، بل أخذ يقيم البرهان على أن لهذا التحول الدائب قصدًا ومعنى، فليس يخبط في سيره خبط عشواء إنما يسير نحو غاية معلومة يعرف السبيل إليها، أما الغاية فلا شك في أنها عقلية، وأما سبيلها فهو ارتقاء عقلي منظم ينتقل بالعالم مرحلة بعد مرحلة.
تلك كانت فلسفة أرسطو، وهي على الرغم من أنها أبلغ ما وصلت إليه الحقيقة في التعبير عن نفسها في العصور القديمة، إلا أنها لا تخلو من الخطأ والنقص، وأي فلسفة تخلو منهما؟ وها نحن أولاء نعمد إلى مقياسنا ذي الحدَّيْن، الذي ذكرناه من قبلُ لنخبر به فلسفته، ونرى هل وصلت بالفكر إلى حد يجوز الركون إليه، وذلك المقياس هو أن نطرح هذَيْن السؤالَيْن: هل يمكن لمبدئه أن يفسر العالم؟ وهل يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه؟
-
(١)
لعل ما أدى بفلسفة أفلاطون إلى الفشل في تفسير الكون هو تلك التثنية التي ذهب إليها، بأنْ شَطَرَ الوجود إلى حس وفكر، أو بعبارة أخرى إلى مادة ومُثل، فتعذر عليه بعد ذلك أن يشتق هذا العالم من تلك المُثل؛ إذ زعم أنها مستقلة عن العالم تمام الاستقلال، فأوجد بذلك هوة سحيقة بين شطرَي الوجود استحال عليه رَتْقُها كما ذكرنا، فجاء أرسطو ولمس هذا النقص في فلسفة أستاذه، فحاول أن يتداركه بالإصلاح، وذلك بأن يمحو تلك الاثنينية من فلسفته محوًا، فبدأ بإنكاره أن يكون الكلي والجزئي منفصلَيْن، وأن يكونا في عالمَيْن متباعدَيْن، فلا يمكن أن يكون المثال شيئًا هنا، وأن تكون المادة شيئًا غيره هناك، بحيث يحتاجان إلى قوة خارجية تدفعهما فتقرب بينهما وتدمجهما في وحدة هي هذا العالم الذي نرى، إنما الكلي والجزئي أي الصورة والمادة كل لا يتجزأ، هكذا عدَّل أرسطو من رأي أفلاطون، فهل تراه وُفِّق في إزالة الاثنينية ومحوها كما أراد؟ لا نحسبه كذلك، فلا يكفي أن تجمع المادة إلى صورة بأية وسيلة من الوسائل ثم تزعم أنهما قد أصبحتا وحدة متصلة لا سبيل إلى انفصالها مع اعترافك بأنهما حقيقتان نهائيتان مستقلة إحداهما عن الأخرى؛ لأنه إن كان مبدأ العالم المطلق هو الصورة لزم أن تكون المادة صادرة عن تلك الصورة، وأن يقوم الدليل على أن المادة ليست إلا مظهرًا لها. إنه لا يكفي أن تدلل على أن الصورة تخلع على المادة شكلها وكفى، بل يجب أن تكون الصورة منشئة المادة وخالقتها، وأن يكون كل شيء في الوجود قد صدر منها وفاض عنها ما دامت هي وحدها الحقيقة الأولى كما فرضنا، ولكن ها نحن أولاء نرى بين أيدينا عنصرَيْن: صورة ومادة، فإما أن تكون المادة نشأت من الصورة أو لا تكون، فإن لم تكن تحتم ألا تكون الصورة وحدها هي الحقيقة النهائية للكون، بل تقف المادة معها كتفًا إلى كتف عنصرًا نهائيًّا أصليًّا، وبذلك يكون في العالم كائنان كلاهما لا ينشأ عن أخيه، ولكنهما موجودان معًا منذ الأزل، وما هذا من أرسطو إلا إقرار بالاثنينية لا ريب فيه، فهل عالج فلسفة أفلاطون كما أراد؟ كلا، إنه لم يستطع، ووقع فيما أراد أن ينجو منه، وإذن فقد بقيت مشكلة الوجود قائمة تنتظر الحل إذ لم يفسرها أرسطو.
-
(٢)
هل يفسر مبدأ الصورة نفسه؟ الجواب هنا أيضًا بالنفي؛ لأنه لا يفسر نفسه إلا إذا نهض الدليل القاطع على أنه مبدأ تمليه البداهة ويحتمه العقل، أو بعبارة أخرى يلزم وجوده بالضرورة، ولكنه ليس كذلك، فهو بيان للأمر الواقع لا أكثر ولا أقل، فلا ندري لماذا يجب أن يكون الواقع هكذا، وألا يكون شيئًا غير هذا. إنه كان ينبغي لأرسطو إذا أراد أن يفسر هذا بتعليل معقول أن يبرهن على أن كل ما في العالم من صور وحدة مرتبطة منظمة، وأن بعضها ينشأ من بعض كما سبق لنا القول في نقد أفلاطون. إنه كان ينبغي أن يشتق المُثل مثالًا من مثال حتى يردها جميعًا إلى مثال أعلى يلزم وجوده بالضرورة ولا يحتاج إلى تعليل، يقول أرسطو إن التغذي هو صورة النبات والإحسان صورة الحيوان، وإن التغذي يمر في تطوره إلى الإحساس، وهو يقف عند حد هذا البيان لما هو واقع حادث فلا يعدوه إلى التعليل، لماذا يجب أن يتطور التغذي إلى إحساس؟ ولم كان هذا التطور ضرورة منطقية ليس إلى وقوعها من محيص؟ فهو قد وصف التطور ثم تركه بغير تعليل.
إن أرسطو يزعم لنا أن العالم يسير نحو غاية مقصودة، هي تحقيق العقل لوجوده، وأن هذه الغاية قد تحققت على وجه التقريب في الإنسان لأنه كائن عاقل، وهذا قول معقول لا غبار عليه، ولكن أليس معناه أن كل خطوة في التطور — أعني في سير العالم — يجب أن تكون أعلى من التي قبلها لأنها تكون أدنى إلى الغاية التي يتجه العالم نحوها في سيره؟ ولما كانت تلك الغاية هي تحقيق العقل لنفسه كان معنى قولنا أن كل خطوة أعلى من التي قبلها أنها أكثر منها عقلًا، ولكن كيف يكون الإحساس أكثر عقلًا من التغذي؟ ولماذا لا يكون العكس صحيحًا؟ هو يقول إن التغذي يتطور إلى إحساس، فلماذا لا يجب أن يتطور الإحساس إلى تغذٍّ؟ ما الذي يمنع أن ينعكس الوضع؟ إن كل فلسفة للتطور مقضي عليها بالفشل إذا لم توضح لماذا تكون الصورة العليا عليا والسفلى سفلى، فمثلًا لماذا يجيء التغذي أولًا باعتباره أسفل ثم يتلوه الإحساس ولا يكون العكس؟ إن كنا لا ندري سببًا لاستحالة وقوع العكس فقد أفلست فلسفتنا في التطور في أهم أغراضها؛ إذ معناه أننا لا ندري فارقًا حقيقيًّا يميز بين الأسفل والأعلى، وعلى ذلك يكون الانتقال في نظرنا مجرد تغير وتحول من حالة إلى حالة، ولا يلزم أن يصحبه علو وارتقاء ما دام لا فرق بين أن تتحول «أ» إلى «ب» أو «ب» إلى «أ»، فقد كان ينبغي إذن لأرسطو أن يقيم الدليل على أن الإحساس أرقى للعقل من حالة التغذي بأن يبين أن الإحساس نتيجة منطقية للتغذي؛ ذلك لأن الترقي المنطقي هو الترقي العقلي بعينه، وقل مثل هذا في سائر الصور جميعًا.
إذن فلم يُوَفَّق أرسطو حين فرض الصورة أصلًا للكون في أن يبرهن على أنها ضرورة، وعلى أن الصور الجزئية مشتقة بعضها من بعض، فلا هي فسرت نفسها، ولا هي قدمت للكون تعليلًا مقبولًا، ولكن إن عجزت فلسفة أرسطو عن أن تقطع في هذا الموضوع بقول فصل فقد سارت في سبيل ذلك شوطًا بعيدًا.
(٩) مقارنة بين أفلاطون وأرسطو
يقول بعضهم: «إنك إذا تحولت من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة أرسطو كنت كمن هبط من ذروة جبل إلى أرض ذات مزارع وبساتين، تَعَهَّدَتْ زرعَها وأشجارَها يدٌ ماهرة، وأُحيطت بسياج حصين.»
يعنون بذلك أن أفلاطون يحلق في السماء، أما أرسطو فيبحث في الأرض ويلمس الواقع، ويقسم القضايا التي تتعلق بكل علم تقسيمًا دقيقًا. كان أرسطو تلميذًا لأفلاطون — كما ذكرنا — ولكن فلسفته تختلف اختلافًا كبيرًا عن فلسفة أفلاطون. لم يكن أرسطو شاعرًا خياليًّا كأفلاطون، إنما كان يحب الحقائق الواقعية ويميل إلى تنظيمها ووضع أسماء لها. لم يكن يهتم كثيرًا بالنظريات الرياضية كما كانت تهتم مدرسة أفلاطون، إنما همه في حقائق البيولوجيا (علم الحياة) وأشباهها، يرى أن طريق المعرفة يجب أن يبدأ بالحقائق الواضحة ثم يتدرج منه إلى ما فوقه.
كان أفلاطون يرى أن الحقيقة مركزها في النظام الروحاني، السماوي (في عالم المُثل)، وليس عالم الحس المادي إلا مظهرًا له، أما أرسطو فيرى الحقيقة في عالمنا الذي بين أيدينا؛ ذلك كان غرضه أن يفهم ما حوله، وهما نظران يكادان يكونان متناقضَيْن، فالأول يرى أن عالمنا لا يُفْهَم إلا بالعالم الآخر الروحاني الإلهي، أما الثاني فيرى أن عالمنا يُفْهَم من ذاته وبإعمال عقلنا فيه نفسه. وقد انتقد أرسطو نظرية أفلاطون في المُثل، وقال إنها لا تُعِين على فهم هذا الوجود، وإنها ليست إلا تطورات خيالية؛ لذلك كانت طريقة شرح أفلاطون لهذا العالم ولنظريات الأخلاق والفن طريقة شعرية، أما أرسطو فطريقته إعمال عقلنا فيما بين أيدينا، والاستعانة على ذلك بالمنطق، ونظراته في الأخلاق تشعر بأنه ينظر إلى الإنسان كإنسان لا كمخلوق إلهي، ونظرته السياسية تدور على نظرته للجماعة كما يراها في هذا العالم الأرضي، لا على مثال كمالي وراء عالمنا نتطلع لاحتذائه. لا يثق أفلاطون بالحواس ولا يرى أنها توصل إلى علم، أما أرسطو — وإن رأى فيها نقصًا — فهو يرى أنها تصح أن تكون آلات تُسْتَخدم لمعرفة بعض الحقائق الأولية، وهكذا ترى الفرق بين عقلية الفيلسوفَيْن كبيرًا، ويجمعها ما قلنا من أن أحدهما يحلق في السماء يبحث عن الحق، والآخر يلمس الأرض يبحث عن الحق، وقد قال أحد الكتاب الألمان: «إن كل مولود يُولد إما أفلاطونيًّا أو أرسططاليسيًّا.» يعني بذلك أن الناس إما أن يميلوا إلى الخيال وإما إلى الواقع، إما إلى ما وراء المادة وإما إلى الحقائق العلمية، إما إلى الشعر وإما إلى المنطق الجاف، فالذين مزاجهم العقلي من النوع الأول أفلاطونيون، والآخرون أرسططاليسيون، وقد نقد بعض المحدثين هذا النظر إلى أرسطو وقالوا — بحق — إن أرسطو في فلسفته لم يخلُ من نفحة شعرية، ولم يكن واقعيًّا صرفًا، فكتابته في بعض الموضوعات كالهيئة وما يتعلق بالأفلاك مصبوغة بصبغة أفلاطون الشعرية، لا بما يغلب عليه من نظرة تجريبية واقعية.
(١٠) المذاهب الفلسفية بعد أرسطو
تاريخ الفلسفة اليونانية بعد أرسطو تاريخ قصير؛ لأنه لم يكن تاريخ إنشاء وبناء، بل تاريخ انحطاط سريع، ويرجع السبب في تدهور الفلسفة اليونانية بعد أرسطو إلى عوامل سياسية واجتماعية، ذلك بأن الفلسفة ليست مستقلة تنمو وتنحط حسب كفاية الشخص الباحث وحدها، إنما تسير جنبًا لجنب مع الحالة السياسية والاجتماعية والدينية والفنية للأمة، فالنظام السياسي والفن والدين والعلم والفلسفة كلها أشكال مختلفة تعبر بها الأمة عن حياتها ودرجة رقيها، ففلسفة الأمة تدل على تاريخها.
وبلاد اليونان من عهد الإسكندر خضعت لسلطان مقدونيا، وطغت قوة المقدونيين على مدنية اليونان وسلبتها حريتها واستقلالها، فأُصيبت بالهرم، ولم يمضِ زمن طويل حتى اكتسحها الرومان وصيروها ولاية من مملكتهم الواسعة.
كان من جراء ذلك أن الفلسفة اليونانية أُصيبت بالهرم كذلك، فالروح العلمي الخالص، والبحث للبحث، والاهتمام بالحقيقة للحقيقة لم نرَه بعد أرسطو، وأصبح الباعث على البحث في الفلسفة ليس حب الاستطلاع، ولا الشوق إلى تعرف الحقيقة، إنما كان الباعث على الفلسفة بجث الفرد وراء ما يخلص من شرور الحياة وويلاتها، وبذلك أصبحت الفلسفة شخصية بعد أن كانت عالمية، وصارت كل الأبحاث تدور حول الشخص وخيره ومصيره وسعادته، ومن أجل هذا كانت كل الأبحاث الفلسفية أخلاقية، وإن بُحِثَ شيء بعدها فإنما يُبْحَث خدمة لها، وكاد ينقطع ما كنا نشاهد في العصور الأولى لليونان من بحث في العالم وشئونه وقضاياه، وتصوروا الإنسان هو المحور والعالم يدور عليه بعد أن كان الأولون يتصورون الإنسان نقطة من محيط العالم، وصار البحث فيما وراء المادة والبحث في الطبيعة والمنطق والفن إنما هو لخدمة البحث الأخلاقي، واختل التوازن الذي كان موجودًا في الأبحاث الفلسفية في الموضوعات المختلفة.
كذلك كان من نتائج هذا التدهور عدم الابتكار إلا قليلًا، ولم يكن ممن جاء بعد أرسطو إلا إحياء لبعض النظريات القديمة وتوسيعها والدوران حولها، ولكن لا جديد.
على كل حال كان أهم الفِرَق بعد أرسطو الرواقيون والأبيقوريون.