الشكاك أو اللاأدرية
الشك كلمة يُراد بها المذهب القائل بأن معرفة الحقائق في هذا العالم لا يمكن الوصول إليها، أو يُشك في الوصول إليها، فهو مذهب هادم للفلسفة؛ لأن الفلسفة ليست إلا السعي لمعرفة حقائق هذا الكون — ومذهب الشك هذا ظهر في عصور مختلفة في تاريخ الفلسفة، فقد رأيناه عند السوفسطائيين، فقد كان جورجياس — أحد زعماء السوفسطائية — يقول كما سبق: إننا نشك في وجود الأشياء، وإن كانت موجودة فلا سبيل إلى معرفتها — وفي العصور الحديثة كان زعيم الشكاك «دافيد هيوم»، فقد أبان أن وسائل المعرفة التي يعتمد عليها العقل البشري كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، والجوهر والعرض ونحو ذلك، ليس إلا وهمًا وخداعًا، ومن ثم لا تمكن المعرفة. وبملاحظة تاريخ الفلسفة يتبين لنا أن نوع الفلسفة الذي يعتمد على التفكير الذاتي، أعني تفكير الإنسان في نفسه وعقله فقط يعقبه دائمًا الشك؛ ذلك لأن المعرفة هي علاقة بين العقل والشيء الخارجي، فإذا اقتصر الباحث على النظر إلى عقله ونفسه مهملًا ما في الخارج أداه ذلك إلى إنكار ما في الخارج من حقائق، فالآن لما اقتصر الرواقيون والأبيقوريون على هذا النوع من التفكير النفسي والأخلاقي أسلم ذلك إلى الشك، فقد انحطت القوة الروحية للأمة، ومل العقل والنفس من التفكير في ذاتهما، وفقدا الثقة بأنفسهما، فجاءهما الشك في إمكان الوصول إلى الحقيقة.
يقول «بيرو»: إنَّ خير طريق يسلكه الحكيم أن يسائل نفسه هذه الأسئلة الثلاثة؛ أولًا: ما هي هذه الأشياء التي بين أيدينا وكيف تكونت؟ ثانيًا: ما علاقتنا بهذه الأشياء؟ ثالثًا: ماذا يجب أن يكون موقفنا إزاءها؟ أما السؤال الأول: فالإجابة عنه إنا لا نعرفها، إنما نعرف ظواهرها، أما حقيقتها الباطنية فنحن بها جد جاهلين، والشيء الواحد يظهر بمظاهر مختلفة للأشخاص المختلفة؛ لهذا كان من المستحيل أن نعرف أي الآراء حق، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن آراء العقلاء مختلفة كاختلاف آراء العامة، وكل وجهة نظر يمكن البرهنة على صحتها وتأييدها كنقيضها، ورأيي مهما كان واضحًا عندي فعكسه واضح عند غيري ومقتنع به اقتناعي، فما عند كل إنسان رأي لا حقيقة، وهذه هي العلاقة بيننا وبين الأشياء، وهو الإجابة عن السؤال الثاني، أما عن السؤال الثالث: فيجب أن يكون «الوقف» التام؛ فنحن لا نستطيع أن نتأكد من شيء ولو كان تافهًا، ومن ثم كان أتباع بيرو لا يصدرون على الأشياء أحكامًا قاطعًا، فهم لا يقولون إن الحق كذا، وإنما يقولون «يظهر لنا كذا» و«ربما كان كذا» و«من المحتمل» ونحو ذلك، وكما قالوا ذلك في الأشياء المادية قالوه في الأخلاق وفي القانون، وفي الأشياء المعنوية، فلا شيء في نفسه حق، ولا شيء في ذاته خير أو شر، وإنما هو خير في رأيي أو رأيك أو حسب القانون والعرف، وإذا عرف العاقل ذلك لم يُفضِّل شيئًا على آخر، وكانت النتيجة الجمود التام، وعدم العمل، فإن أي عمل إنما هو نتيجة التفضيل، فإذا ذهبت يمينًا أو شمالًا فمعنى ذلك أني أفضل ذلك لغرض، فإذا انعدم هذا التفضيل انعدم العمل، وهو ما يرمي إليه بيرو؛ فالعمل مؤسس على العقيدة والعقيدة لا تكون ما لم يكن هناك جزم بأن الحق في جانبها وهو ينكر ذلك، ويرى أن اللذائذ والرغبات يجب أن تُنْبَذ، وأن يعيش الإنسان في هدوء تام وبعقل مطمئن، وبنفس هادئة حُرِّرَت من كل وهم وضلال، وليس الشقاء في العالم إلا نتيجة عدم الوصول إلى ما يرغب فيه أو فقده إذا كان، فإذا تحرر العاقل من هذه الرغبات فقد تحرر من الشقاء، والعاقل يستوي عنده الشيء ونقيضه، فالصحة أو المرض، والموت أو الحياة، والغنى أو الفقر سواء عنده متى عدم الرغبة، وإذا كان مضطرًّا في هذا الوجود إلى العمل كان مضطرًّا أن يخضع للعرف والقانون لا عن اعتقاد بأنهما حق أو مقياس للخير.
•••
- (١)
لا يمكن البرهنة على شيء لأن النتيجة يجب أن يُبَرْهن عليها بالمقدمات، والمقدمات تحتاج إلى برهان وهكذا، فيؤدي ذلك إلى التسلسل.
- (٢)
لا يمكن أن نعرف إن كان رأينا في شيء حقًّا أو لا لأنا لا نستطيع المقارنة بين الشيء ورأينا؛ لأن ذلك يتطلب أن نخرج من عقلنا، فنحن لا نعرف عن الشيء إلا رأينا فيه، فكان من المستحيل المقارنة بين الشيء وصورته في ذهننا؛ لأننا لا ندرك إلا الصورة.
- (١)
إن شعور الأحياء وإدراكهم الحسي للأشياء يختلف.
- (٢)
الناس يختلفون طبيعيًّا وعقليًّا، وهذا الاختلاف يجعل الأشياء تظهر أمامهم بمظاهر مختلفة.
- (٣)
اختلاف الحواس يسبب اختلاف تأثرها بالأشياء.
- (٤)
إن إدراكنا للأشياء يعتمد على حالتنا العقلية والطبيعية وقت إدراكنا.
- (٥)
إن الأشياء تظهر بمظاهر مختلفة في الأوضاع المختلفة وعلى المسافات المختلفة.
- (٦)
إدراكنا الحسي للأشياء ليس إدراكًا مباشرًا بل بواسطة، فمثلًا نحن ننظر إلى الأشياء وقد توسط بينها وبين حواسنا الهواء.
- (٧)
تختلف مظاهر الأشياء باختلاف كميتها ولونها وحركتها ودرجة حرارتها.
- (٨)
يختلف تأثرنا بالشيء بمقدار إلفنا وعدم إلفنا له.
- (٩)
كل ما نزعمه من المعلومات محمول على موضوع، وكل هذه المحمولات ليست إلا علاقات بين بعض الأشياء وبعض أو بينها وبين أنفسنا، وليست تخبرنا بحقيقة الأشياء ذاتها.
- (١٠)
آراء الناس وعرفهم يختلف باختلاف البلاد.
ويريد أن يصل بهذه القضايا العشر إلى القول بأن العلم بكنه الأشياء لا يمكن؛ لأن ما عندما من الوسائل لا يمكننا من ذلك.