الأفلاطونية الحديثة
يختلف مؤرخو الفلسفة في عد الأفلاطونية الحديثة فلسفة يونانية، أو فلسفة للقرون الوسطى، ولكلٍّ وجهة نظر؛ فالذين لا يعدونها يونانية يستندون على بعد الزمن بين العهدَيْن، ولأن مؤسسها وهو أفلوطين وُلد سنة ٢٠٥ ميلادية، فهذه الفلسفة وليدة المسيحية، ولأن طابع هذه الفلسفة ليس طابعًا يونانيًّا بحتًا بل هو مصبوغ بصبغة الإلهام الشرقي، وكان مركزها في الإسكندرية لا في اليونان، وكانت الإسكندرية إذ ذاك مدينة عالمية لا يونانية يتقابل فيها الناس من كل جنس ويلتقي فيها الشرق بالغرب. والذين لا يرونها من فلسفة القرون الوسطى يرون أن فلسفة القرون الوسطى نشأت في أحضان النصرانية وفي تربتها، وهي تناهض الوثنية اليونانية، وفلسفة الأفلاطونية الحديثة ليست نصرانية، بل هي عدوة النصرانية، وقد حافظت على الروح الوثني في البيئة المسيحية، وترى فيها الروح اليوناني ظاهرًا، والثقافة اليونانية سائدة، فأولى أن تُعَدَّ فلسفة يونانية.
في العصور الأولى للمسيح ظهر في الإسكندرية مذهب الأفلاطونية الحديثة، وقد سُمِّي بهذا الاسم لأنه وليد تعاليم أفلاطون، ولكنه وليد غير شرعي لأنه لم يحافظ على كثير من أسس أفلاطون، فمبنى فلسفة أفلاطون رأيه في المُثل، وقد ملأ فلسفته بضروب من الخيالات وأحاطها بكثير من الغموض، فأخذت الأفلاطونية الحديثة هذه الخيالات والأساطير التي استعملها أفلاطون على سبيل التمثيل والاستعارة ونحو ذلك على أنها حقائق، ومزجتها مزجًا تامًّا بإلهام الشرق وأحلامه.
يقول هذا المذهب: إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بُدَّ له من علة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كُنهه الأفكار، لا يحده حد، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه، فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يَحُلَّ فيما خلق، بل ظل قائمًا بنفسه على خلقه، ليس ذاتًا وليس صفة، هو الإرادة المطلقة لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له. ولما كان الشبه منقطعًا بينه وبين الأشياء لم نستطع أن نصفه إلا بصفات سلبية، فهو ليس مادة وهو ليس حركة وليس سكونًا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أُضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيهًا له بشيء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدًا له، وهو لا نهائي لا تحده الحدود، فلسنا نعلم عن طبيعة الله شيئًا إلا أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء. ولأن الله فوق العالم ولأنه غير محدود لا يمكنه أن يخلق العالم مباشرة، وإلا لاضطر إلى الاتصال به، مع أنه بعيد عنه لا ينزل إلى مستواه، ولأنه واحد لا يمكن أن يصدر عنه العالم المتعدد، ولا يستطيع أن يخلق الله العالم؛ لأن الخلق عمل، أو إنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغيير في ذات الله، والله لا يتغير، يقول أفلوطين: إنَّ الله علَّة العالم، ويقول من ناحية أخرى: إن الله فوق العالم، ولا يمكن أن يتصل به أي اتصال، هذان قولان متناقضان، فكيف التوفيق بينهما؟ وكيف نشأ العالم عن الله؟ فلجأ أفلوطين في الإجابة عن هذا إلى الشعر والاستعارة والتمثيل، يقول: إن تفكير الله في نفسه وكماله نشأ عنه فيض، وهذا الفيض صار هو العالم، وكما يبعث اللهيب ضوءًا والثلج بردًا كذلك انبعث من الله شعاع كان هو العالم. وبذلك خرج أفلوطين من المأزق المنطقي بعبارات شعرية؛ وعلى ذلك يكون الكون قد انبثق من الله انبثاقًا طبيعيًّا بحكم الضرورة، ولكن ليس في هذه الضرورة أي معنًى من معاني الاضطرار والإلزام، وليس في الخلق معنى الحدوث وليس يقتضي تغيرًا في الله. ولما كان كل كائن قد تفرع هكذا من الواحد الأول — الله — فهو يميل بفطرته إلى العودة إلى أصله ومبعثه الذي كان صدر عنه، ولا ينفك يحاول أن يصل إليه. أما ذلك المصدر الأول فمستقر في نفسه مكتفٍ بها لا يتصل بما تفرع عنه من أشياء، وهذه الكائنات التي صدرت عن الله تكون سلمًا نازلًا من درجات الكمال، فكل شيء أقل كمالًا مما فوقه، ويستمر التناقص في الكمال حتى ينعدم الكمال في آخر السلم انعدامًا تامًّا، حيث يتلاشى النور في الظلام.
وأول شيء انبثق من «الواحد» هو العقل، وهذا العقل له وظيفتان: وظيفة التفكير في الله، ووظيفة التفكير في نفسه، وقد خلع أفلوطين على هذا العقل شيئًا من خصائص المثال الذي شرحه أفلاطون.
من هذا العقل انبثقت نفس العالم، وهي ليست مجسدة ولا قابلة للقسمة، ولهذه النفس ميلان: فتميل علوًّا إلى «الواحد» وتميل سفلًا إلى عالم الطبيعة، وقد انبثقت منها النفوس البشرية التي تسكن هذا العالم، فنفس العالم — كالعقل — تنتمي إلى العالم الإلهي الروحاني الذي يقع فوق الحس، وهي تعيش عيشة خالدة لا تحدها حدود الزمن، إلا أنها دون العقل درجة، فهي تقف على هامش العالم الروحاني قريبة من حدود هذا العالم المحسوس، ولو أنها ليست جثمانية في ذاتها إلا أنها تميل إلى الأشياء الجثمانية فتنظر إليها، وهي تقف بين الأشياء من جهة وبين العقل من جهة أخرى وسيطًا تنقل العلل والأسباب التي تبدأ من العقل فتوصلها إلى الأشياء.
من هذه النفس الأولى — أو نفس العالم — خرجت نفس ثانية أسماها أفلوطين بالطبيعة، وهذه النفس الثانية هي التي تشترك وحدها مع العالم المادي كما تمتزج نفوسنا مع جسومنا، وهذه النفس الأخيرة — التي هي عبارة عن النفوس الجزئية الموزعة على الكائنات — هي أدنى مراتب العالم الروحاني، والخطوة التي تليها مباشرة هي المادة التي هي أبعد الكائنات عن الكمال، ويقول أفلوطين إن انبثاق النفوس الجزئية عن نفس العالم هو كانبثاق الضوء من مركزه، وكلما بعد عن المركز ضعف حتى يصير ظلامًا، وهذا الظلام التام الذي انحسر عنه ضوء النفس هو المادة، فالمادة ضوء سلبي، وهكذا يسبح أفلوطين في خيالاته الشعرية.
يقول إن المادة هي مصدر التعدد، وهي سبب الشرور؛ لأنها عبارة عن العدم، والعدم أشد درجات النقص، والنقص هو الشر، وإذن فالمادة هي منشأ الشرور جميعًا، وغاية الحياة التحرر من ربقة المادة، وأول خطوةٍ لذلك التحررُ من سلطة الجسم والحواس، وعن هذا تنشأ الفضائل العادية، والخطوة الثانية الفكر والتفلسف، والخطوة الثالثة أن تسمو النفس فوق التفكير وتصل إلى «اللقانة» أو المعرفة أو العلم اللدني. وكل هذه الخطوات إعداد للدرجة الأخيرة — وهي أنه يذوب في الله، وذلك بالهيام والذهول والغيبوبة والوجد — عند ذلك تتحد النفس بالله، ولا يُقال في هذه الدرجة إنه يفكر في الله ولا ينظر إلى الله؛ لأن كل هذه العبارات تدل على الانفصال أو وجود شيئَيْن، إنما يتحد بالله ويكون هو وهو وحده. وتصل النفوس البشرية الراقية إلى هذه الدرجة في لحظات من الحياة، ثم تعود إلى حالتها البشرية العادية، وقد ذكر أفلوطين أنه سما إلى هذه الدرجة وذاق لذة الاتحاد وأدرك ساعات التجلي بضع مرات في حياته يُقال إنها أربع.
وقد كان من أسباب وجود مذهب الأفلاطونية الحديثة انتشار مذهب الشك، فإذا أيقن العقل أنه لا يستطيع الوصول إلى الحق بتفكيره وبحثه حاول أن يعرفه بكشفه ولقانته، يئس العقل من نفسه فلجأ إلى الكشف والإلهام، ورأى أن التفكير المنطقي لم يفده فأمل أن يفيده السُّكر الروحي.
وكان هذا المذهب يميل أول أمره إلى البحث مشوبًا بالإلهام، ثم غرق في الإلهامات، ونفذ منها إلى الشغف بالاطلاع على المغيبات وخوارق العادات، والاعتناء بالسحر، والتصرف بالأسماء والطلاسم والتنجيم والدعوات والعزائم ونحو ذلك.
وطبيعي أن تنتهي عند ذلك الفلسفة؛ لأن الفلسفة إنما أُسست على العقل ولا يمكن أن تقبل شيئًا فوق العقل، فما ذهبت إليه الأفلاطونية الحديثة من وضع اللقانة والغيبوبة والوجد والإلهام فوق العقل يخالف الفلسفة في أساسها — وهذا النوع أعني نوع إدراك الحق عن طريق الإلهام والوجد واللقانة أقرب إلى النمط الديني منه إلى النمط الفلسفي — عند ذلك خمدت الفلسفة، وظلت خامدة يقتصر المشتغلون بها على تقليب الآراء الفلسفية القديمة وتلوينها حسب ما يحيط بهم من ظروف إلى أن جاء عصر «النهضة» فحييت الفلسفة من جديد، وأُسِّست أنواع من الفلسفة جديدة ووُضِعت للبحث أنماط جديدة سنعرض لها فيما بعد إن شاء الله.