الفيثاغوريون
ولعل ما حدا بفيثاغورس إلى إنشاء هذه الجمعية رغبة قديمة كان يطمح إلى تحقيقها منذ شبابه؛ ذلك أن طاغية جبارًا يدعى «بوليكراتس» كان يحكم ساموس وطن فيثاغورس، وكان يسوم أهله الذل والعذاب، فكان ذلك حافزًا لفيثاغورس في مستهل حياته على التفكير في النظم الاجتماعية القائمة، ومن أي نواحيها أُصيبت بالفساد، فلما اكتمل نضوجه العقلي، وكُتبت له الزعامة الفكرية وهو في كروتونا أراد أن يكوِّن جماعة مثالية، تحقق المثل الأعلى الذي ينشده، فوثق بين أعضائها برباط الإخاء، ودعاهم أن يسلكوا في الحياة صراطًا مستقيمًا يلتزمونه مهما كلفهم ذلك من عناء.
ولم تكن هذه الجماعة سياسية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، ولكن سرعان ما اصطدمت شعائرهم ونظمهم بالسياسة؛ لأنهم أرادوا أن ينشروا مبادئهم ويفرضوا تعاليمهم على أهل «كروتونا»؛ فنتج عن ذلك اضطهاد الحكومة للفيثاغوريين، فأحرقت مكان اجتماعهم، وفرقت شملهم، وقتلت بعضهم وشردت آخرين، غير أن الجماعة استردت قوتها بعد، واستمرت في عملها، ولكن لم يُسمع عنها شيء يستحق الذكر بعد القرن الخامس قبل الميلاد.
ويجب أن ننبه هنا إلى شيء هام، وهو أنا إذا قلنا الفلسفة الفيثاغورية فليس معنى ذلك أن كل ما فيها من آراء قال بها فيثاغورس نفسه، وإنما قالت بها جمعيته؛ إذ لم يتسنَّ العلم بما كان من فيثاغورس نفسه وما كان من تلاميذه.
قال الفيثاغوريون: «إن سبيل معرفة الأشياء أوصافها.» ولكن أكثر الأوصاف ليست عامة في الأشياء، فهذه ورقة خضراء، ولكن ليس كل الورق أخضر، بل بعض الأشياء لا لون له، وهذا الشيء حلو، ولكن ليس كل شيء حلوًا، وهكذا الشأن في المشمومات والمسموعات والمرئيات وغيرها، إنما هناك صفة واحدة عامة في كل شيء هو العدد، فكل شيء جسماني أو غير جسماني له صفة العدد، وبعبارة أخرى: «لا يمتاز شيء عن شيء إلا بالعدد، فالعدد هو جوهر الوجود وحقيقته.» هكذا ارتأى الفيثاغوريون، ولهم في ذلك منطق مستقيم إلى حدٍّ ما؛ لأنك إن أنعمت النظر في الأشياء جميعًا وجدتها تتميز عن بعضها بصفات معينة: فللوردة مثلًا خواص تُعرف بها، وللنار خواص بعينها وهكذا قل في كل شيء، ولكن تلك الصفات أعراض قد تكون وقد لا تكون، أي إنك تستطيع أن تتخيل في غير عسير كونًا يخلو من اللون والطعم والرائحة، ولكن ثمت حقيقة لا يمكن أن نتخيل الأشياء بدونها، وهي العدد، خذ مثلًا عشر برتقالات، فلا يشق عليك أن تتصور لونها أحمر أو أخضر أو بلا لون، ولا يشق عليك أن تتصورها حلوة أو مرة أو ملحة أو بلا طعم، وإذن فهذه الصفات ليست جوهرًا يدوم ما دامت البرتقالات، ولكنه يستحيل عليك أن تتصورها غير قابلة للعدد؛ وعلى ذلك تكون قابلية العدد صفة لازمة لا تزول إلا بزوال الأشياء نفسها.
فكرْ في كل شيء تَرَ العدد له أساسًا، فنسبة الأشياء بعضها إلى بعض عبارة عن عدد، فإن قلت إن هذه الشجرة أطول من تلك كان معنى ذلك أن الوحدات الطولية في الشجرة الأولى أكثر عددًا من وحدات الشجرة الثانية، وهذا النظام الذي يشمل الكون هو في حقيقته عدد أيضًا؛ لأنك حين تقول إن صفوف الجند مرتبة منظمة، فإنما تعني قولك إن الجنود على أبعاد متساوية، يفصل كل جندي عن الآخر عدد من الوحدات القياسية مساوٍ للذي يليه وهكذا، ثم استمع إلى نغمات الموسيقى وفكر في أمرها تجدها عددًا كذلك؛ لأنها ليست في الواقع إلا موجات صوتية واهتزازات وترية تُقاس بوحدات معروفة في علم الصوت، ويقارن بعضها ببعض بعدد تلك الوحدات.
وقد نقدهم الفلاسفة بعدُ نقدًا شديدًا أدى الفيثاغوريين إلى تعديل بعض آرائهم.
فالأعداد إذن عندهم مادة الكون مهما اختلفت أشياؤه وصوره، ولما كانت الأعداد كلها متفرعة عن الواحد لأنها مهما بلغت من الكثرة فهي واحد متكرر، كان الواحد أصل الوجود عنه نشأ وتكون.
ولكن الأعداد تنقسم إلى فردية وزوجية، وهذا علة انشطار الكون إلى محدود ولا محدود، فالفردي اللامحدود، والزوجي المحدود، ولكن كيف ارتبط الفردي باللامحدود والزوجي بالمحدود؟ محل نظر وغموض.
وقد وضعوا قائمة بعشر أضداد هي عماد الكون وهي: (١) الفردي والزوجي. (٢) المحدود واللامحدود. (٣) الواحد والكثير. (٤) اليمين واليسار. (٥) الذكر والأنثى. (٦) المستقيم والمعوج. (٧) السكون والحركة. (٨) النور والظلمة. (٩) الخير والشر. (١٠) المربع والمستطيل.
ويطبقون المعنويات على نظريتهم في العدد، فيقولون مثلًا: إن العدل هو رد المثل إلى مثله، فإذا أساء أحد إلى إنسان أنزل به مثل ما أساء، وشطحوا في ذلك فجعلوا العدالة عددًا مربعًا؛ لأنه حاصل ضرب عدد متساويَيْن: واختاروا لذلك عدد أربعة؛ لأنه يساوي ٢ × ٢.
وهكذا ذهبت المدرسة الفيثاغورية إلى أن جوهر الكون أعداد رياضية تتركز كلها في الواحد، وأنت ترى من ذلك أنهم خطوا بالفلسفة خطوة جديدة نحو التفكير المجرد، فبدأت الفلسفة منذ ذلك الحين تتحلل بعض الشيء من تلك النزعة الطبيعية (الفيزيقية) التي سادت عند فلاسفة يونيا لتستقبل صبغة جديدة — هي صبغة الفلسفة في أصح معانيها — أعني التفكير المحض فيما وراء الطبيعة وظواهرها، ولئن كان مجهود المدرسة الفيثاغورية في ذلك الانتقال ضئيلًا مملوءًا بالأوهام فإن الفلسفة مدينة لهم بالمحاولة الأولى في ذلك على كل حال.
وللفيثاغوريين آراء فلكية قيمة، منها: نقضهم للفكرة السائدة في ذلك الحين من أن الأرض مركز الكون؛ إذ قرروا أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول النار المركزية، وليست هذه النار المركزية هي الشمس؛ لأن الشمس نفسها تدور حولها، وقد كانوا بذلك أول من اتجه بالنظر الفلكي هذا الاتجاه الصحيح، الذي أدركه كوبرنيكس وسار به نحو الدقة العلمية شوطًا بعيدًا.