المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
كان المذهب الذري أو مذهب «الجوهر الفرد» ثمرة هاتَيْن القريحَتَيْن، ومن العسير بل من المستحيل أن نرد لكل منهما حقه فيه، فليس لدينا من وسائل الإثبات ما نستطيع به أن نرجع كل فكرة إلى صاحبها، ولكننا لا نخطئ إن قلنا إن ليوسبس هو واضع الأساس، وأن ديمقريطس هو الذي أقام البناء وخرج منه الفصول والفروع، كما أن له الفضل الأوفر في إذاعة المذهب، حتى كان له من الشيوع عندئذ ما جعله خليقًا بالذكر والتسجيل.
أما هذا المذهب في حقيقته فيكمل النقص في فلسفة إِمْبِذُقْلِيس، أو إن شئت فقل يصحح أخطاءه ويقوم ما اعوج من منطقه، فلعلك تذكر أن فلسفة إِمْبِذُقْلِيس لم تضف فكرًا جديدًا، بل اقتصرت على التوفيق بين فلسفتَي بارمنيدس وهرقليطس، فاعترفت مع الأول بدوام الوجود وثبوته، واعترفت مع الثاني بتحوله وصيرورته، ولكنها خصت بالدوام مادة الوجود التي ذهبت إلى أنها تتألف من أجزاء، أي ذرات، لم ينقص عددها ولن ينقص، ولم تزد ولن تزيد من الأزل إلى الأبد، فهي من هذه الناحية باقية خالدة، أما التغير والتحول ففي انضمام الأجزاء إلى بعضها وانفصالها.
هذا وقد رد إِمْبِذُقْلِيس الكون إلى عناصر أربعة: التراب والماء والهواء والنار، لا تفتأ في اتصال وانفصال يكونان سببًا في نشأة الأشياء واختلاف صفاتها تبعًا للاختلاف في نسبة المزج بين العناصر، وقد زعم أن ما يدفع المادة إلى الالتئام حينًا والانحلال حينًا آخرهما قوتان متضادتان متنازعتان، أعني الحب والنفور.
ولو أنعمت النظر قليلًا فيما ذهب إليه إِمْبِذُقْلِيس لأحصيت عليه مآخذ ثلاثة؛ فهو أولًا: قد فرض أن مادة الكون مؤلفة من ذرات لا ينقص عددها ولا يزيد، ووقف عند هذا الحد من القول، وكان خليقًا به أن يتناول تلك الذرات — وهي قطب الرحى من مذهبه — بالتعريف والشرح حتى يقدم لنا عنها صورة صحيحة.
وثانيًا: فرض أن تلك العناصر الأربعة التي يتركب منها الكون، والتي تختلف في خصائصها وصفاتها، يمتزج بعضها ببعض في نسب مختلفة، فتنشأ من المزيج صفات الأشياء المتباينة، فالفرق بين صفات النحاس وصفات الخشب ناشئ من نسب العناصر التي يتركب منها الخشب والنحاس، ومعنى هذا أن خصائص العناصر الأولى أزلية أصلية لم تتفرع عن شيء آخر، وأما خصائص الأشياء فمشتقة من كيفية تركيبها، وفي هذا التفريق بين صفات العناصر وصفات الأشياء التي تركبت منها تناقض ظاهر.
والغميزة الثالثة: هي ذلك الرأي الشعري الذي ارتآه في الحركة من أنها تنازع بين الحب والبغض، فهذا رأي جدير أن يكون من أساطير الأولين أو من خيال الشعراء، وليس خليقًا بالفلسفة التي تقوم على المنطق الصارم.
وكان طبيعيًّا بحكم تطور الفكر أن يجيء بعد إِمْبِذُقْلِيس من يصهر هذه الفلسفة ويزيل من جوهرها هذا التناقض وتلك المغامز لتستقيم مع سلامة المنطق، وقد أدى تلك الرسالة ليوسبس وديمقريطيس مؤسسا المذهب الذري، فقد بدآ بالذرات يعللانها ويصورانها، فزعما أننا لو حللنا المادة إلى جزيئاتها لانتهينا إلى وحدات لا تقبل التقسيم، هي ما أطلقا عليها اسم الذرات، أو الجواهر الفردة، وهي التي تتكون من مجموعها مادة الكون، وهي لا نهائية العدد، وتبلغ من الدقة حدًّا يتعذر معه إدراكها بالحواس، وليست عناصر الكون أربعة كما ذهب إِمْبِذُقْلِيس، إنما هي عنصر واحد متجانس؛ لأن الذرات الأولى متشابهة متجانسة تتساوى جميعًا في انعدام الصفات والخصائص، إلا أنها تختلف حجمًا كما تتباين شكلًا وقالبًا، ولما كانت الذرات خلوًّا من الصفات لزم أن تكون هذه الصفات التي ندركها في الأشياء ناشئة عن كيفية ائتلاف الذرات في تكوينها للأجسام.
ولكنا مهما جردنا تلك الذرات من الصفات فلا مناص من أن نضيف إليها واحدة أو اثنتين، فهي صلبة ما دامت قد بلغت حدًّا لا تقبل معه التجزئة، وهي كذلك ذات ثقل ووزن، وإن كنا لا نستطيع أن نقول في يقين هل أضاف الذريون هذه الصفة الأخيرة إلى الذرات نفسها أم اعتبروها كسائر الصفات التي تنشأ من تحرك الذرات وتجمعها، ومن الأدلة التي تُساق في هذا المقام لترجيح الحكم بأنهم أضافوا إلى الذرات نفسها صفة الوزن أن الأبيقوريين فيما بعد — وقد أخذوا عن الذريين مذهبهم في الذرات واتخذوه أساسًا لفلسفتهم — كانوا يرون أن للذرات وزنًا وثقلًا، وقد تكون هذه إضافة من عندهم، ولكنا نرجح أن تكون منقولة مع أصلها عن ليوسبس وديمقريطس.
وإذا كانت تلك الذرات أجرامًا ضئيلة دقيقة لها سطوح خارجية محيطة بها، فهي إذن منفصل بعضها عن بعض، ولا بد أن يكون — إذن — ثمت شيء بينها، وأن يكون ذلك الشيء هو الفراغ المطلق أو كما يسميه بعضهم الخلاء، أليست الذرات يسعى بعضها إلى بعض فتأتلف أو تتنافر فينضم بعض إلى بعض ويُدْبِر بعض عن بعض وهكذا، فكيف تتم هذه الحركة التي لا تنقطع بين الذرات إذا لم يكن هناك فراغ تنتقل فيه؟ أعني أنه لو كان الكون غاصًّا بالمادة المتصلة المتلاصقة لتعذرت الحركة تعذرًا تامًّا، ما دامت كل ذرة مضغوطة من كل جانب وليس لديها مجال تتحرك فيه؛ وبناءً على ذلك يكون في الكون حقيقتان أوليتان: الذرات والفراغ، أي المادة والعدم، وهما يقابلان ما يُسمى عند المدرسة الإيلية الوجود واللاوجود، غير أن المدرسة الإيلية كما علمتَ قد أنكرت اللاوجود إنكارًا تامًّا، وقالت إن الوجود وحده هو الموجود، أما جماعة الذريين فقد أثبتوا الحقيقتَيْن جنبًا إلى جنب، فالفراغ المطلق حقيقة واقعة كالمادة سواء بسواء، والفرق بينهما هو الفرق بين الوعاء الفارغ والوعاء المليء.
ولكن إذا سلمنا بما يقول الذريون من وجود الفراغ إلى جانب المادة ليتيسر لها الحركة، فمن ذا الذي دفع الذرات إلى الحركة أولًا؟ من أين هذه القوة الدافعة التي بعثت المادة على الحركة بعد السكون؟ نحن لا نملك اليوم ما نعتمد عليه في الحكم برأي الذريين في ذلك، ولكنا لو فرضنا أنهم كانوا كالأبيقوريين فيما بعد، وكانوا قد أضافوا إلى الذرات صفة الثقل — كما أسلفنا — يصبح تعليل الحركة عندهم هينًا ميسورًا، فثقل الذرات يدفعها إلى السقوط المستمر في الفضاء اللانهائي، وبدهي أنه كلما كبرت الذرة ازدادت ثقلًا ما دامت الذرات جميعًا متجانسة في مادتها، فإن كانت هذه الذرة ضعف زميلتها حجمًا، وجب أن تكون ضعفها وزنًا كذلك، ولا بد أن يكون الذريون قد توهموا مخطئين أنه كلما ازداد الجسم ثقلًا اشتدت سرعة سقوطه، وبناءً على هذه الخطوات الثلاث: اختلاف الذرات في الحجم، فاختلافها في الثقل، فاختلافها في السرعة، يحدث أن الذرات الكبيرة السريعة تصدم الصغيرة وتزيحها يمنة ويسرة لكي تشق لنفسها طريق الهبوط، وأما تلك الذرات المزاحة ذات اليمين وذات اليسار فسرعان ما يلتصق بعضها ببعض فتكوّن نواة تظل تتجمع حولها الذرات حتى تكون في النهاية عالَمًا عظيمًا، وما أكثر العوالم التي تكونت، وليس عالمنا هذا إلا واحدًا منها، وقد تعود ذرات العالم المتكوِّن إلى التفرق ثانيةً، فينحل وتدركه الخاتمة.
إذن فالمادة متحركة أبدًا ولا يطرأ عليها السكون، ولكن هل تسير في حركتها وفقًا لخطة مقدورة مرسومة، أو أنها تخبط في ذلك خبط عشواء؟ هنا لا يتردد ديمقريطس في القول بأنها الضرورة الآلية العمياء وحدها هي التي تدفع الذرات هبوطًا إلى أسفل، أو دفعًا ذات اليمين وذات اليسار، دون أن يكون لها قدر معلوم ولا سبب مرسوم، ولكن أناكسجوراس الذي كان يعاصره، والذي سنتحدث إليك عنه في الفصل الآتي، كان يعتقد أن ثمت قوة عاقلة رشيدة تدبر تلك الحركة وتملك زمامها، فتسير بها في سواء السبيل.
ولم يكن رأي ديمقريطس في آلية الحركة وفوضاها ليمضي دون أن يترك أثره العميق في زعزعة دين اليونان وهدم آلهتهم؛ لأنه إن كانت العوالم تسير من تلقاء نفسها لم يعد للإنسان في آلهته أمل يرجوه، بل ذهب ديمقريطس في الكفر إلى حد بعيد، فزعم أن فكرة الآلهة قد نشأت من الخوف من الظواهر التي تحدث في الأرض حينًا، وفي السماء حينًا، فتنخلع لها قلوب البشر، كالزلازل والبراكين والمذنبات والشهب وما إليها.
ولما كان كل شيء في الكون مؤلفًا من ذرات تختلف شكلًا وحجمًا، كانت النار كأي شيء آخر مركبة من ذرات، إلا أنها ناعمة مستديرة، والنفس الإنسانية ليست إلا قبسًا ناريًّا يتكون كذلك من ذرات ناعمة مستديرة، إلا أنها أنقى من النار المعروفة ماءً وأشد صفاءً، فإذا أدركها الموت تفرقت ذراتها.
وقد أدلى ديمقريطس برأي في إدراك الحواس للأشياء، خلاصته أن المرئيات الخارجية تنبعث عنها صور تقع على الحواس فتؤثر فيها، فتعكس صورها على صفحة الذهن، أما صفات الأشياء كاللون والطعم والرائحة فلا تقوم بالأشياء نفسها، ولكن تنفعل لها حواسنا؛ ولذلك نختلف في مقدار التأثر بها.
ويجمل بنا أن نختم القول عن المذهب الذري برأي ديمقريطس في السعادة، وإن لم يكن قائمًا على نظرية الذرات، فهو ينصح للإنسان أن يمتع نفسه ما وسعته المتعة، وألا يسيء إليها أو يكدر صفوها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وليست السعادة مرهونة بالقصور المشيدة والضياع الفسيحة، إنما هي متوقفة على الحالة النفسية وحدها، فكلما ازدادت هدوءًا وصفاءً ازداد المرء سعادة ونعيمًا، والسبيل المؤدية إلى ذلك هي اعتدال الحاجات وبساطة العيش.