سقراط
كان من آثار السوفسطائيين أن تَعَرَّض كل نظام للسقوط، وانهدم ما كان للناس من مثل يطمحون إليها، سواء في ذلك الأخلاق والدين والحقيقة والقانون، فقد ذهب كل فرد في إدراك الفضيلة والرذيلة وتفسير الخير والشر مذهبًا يناسب هواه ويتفق ومآربه، وأخضعوا الدين للنقد والشك حتى كادت العقائد في الآلهة تندك من أساسها، وأنكروا الحقائق الخارجية إنكارًا، فالإنسان هو مقياس كل شيء، ولم يعتقدوا أن ثمت حقيقة في الواقع الخارجي مستقلة عن الإنسان، وعبثوا بالعادات الموروثة والقوانين، فجاء سقراط وألفى هذه الأنقاض المنهدمة يعوزها البناء، فأقامها وأعاد لها النظام الذي أتلفه السوفسطائيون.
وُلِدَ سقراط في أثينا حول سنة ٤٧٠ق.م من أب يحترف صناعة التماثيل وأم قابلة، ولو أن التاريخ لا يعي عن طفولته ونشأته إلا قليلًا لا يغني في تصويره تصويرًا دقيقًا، إلا أن له خاصة عجيبة تحببه إلى النفوس وتجذبه نحو القلوب، فلا يكاد القارئ يتلو من تاريخه ذلك القليل المذكور حتى تسرع الصورة إلى صفحة الذهن تامة واضحة، هي بلا شك أشد وضوحًا من صورة أفلاطون الأرستقراطي، وأنصع جلاءً من صورة أرسطو العالم، على كثرة ما أفاض التاريخ في حياتهما، احترف حرفة أبيه ولبث يزاولها حينًا قصيرًا، قيل إنه صنع خلاله مجموعة ضئيلة من التماثيل عُرضت فيما بعد في الأكروبوليس بأثينا، ثم ترك هذه المهنة، وتخصص للفلسفة التي اعتبرها رسالته في الحياة، وكان يعيش في أثينا، ولبث فيها لم يغادرها قط إلا حين اضطرته ظروف الحرب أن ينخرط في سلك الجيش، وظل مشتغلًا بالفلسفة حتى اتُّهِمَ في نحو سن السبعين بإنكار آلهة اليونان والدعوة إلى آلهة جديدة، وأنه يفسد عقول الشبان، فحُكم عليه بالإعدام وأُعدم.
كان سقراط قبيح المنظر، فهو قصير بدين دميم، بارز العين، كبير الأنف في قبح، واسع الفم، بالي الثياب، وأراد الله أن يكون هذا الشكل الممقوت مستقرًّا لنفس قوية جميلة ذكية، فقد كان عادلًا حتى لا يُؤثر عنه أنه ظلم أحدًا، حكيمًا حتى قَلَّ أن يخطئ في حكمه على شيء بأنه حق أو باطل، وكان ضابطًا لنفسه إلى حدٍّ يستدعي الإعجاب، راضها حتى أصبحت طوع إرادته، وحتى كان دخله القليل يكفي كل حاجاته، وكانت مواهبه العقلية لا تقل عن مواهبه الأخلاقية، فهو مفكر دقيق الملاحظة يستغل مواهبه وينظم استعمالها، وعلى كثرة ما حباه الله من مواهب العقل كان يعلن أنه لا يعرف شيئًا، وليس حكيمًا ولكنه فيلسوف «محب للحكمة» فكثيرًا ما قال: «أنا أعرف شيئًا واحدًا وهو أني لا أعرف شيئًا.»
ولما كان سقراط يحب الحكمة وينشدها، فقد كان يتلمسها في كل من يصادفه، واعتاد أن ينزل إلى سوق أثينا أو المجتمعات العامة، ثم يتحدث مع كل من أنس منه ميلًا إلى الكلام في مسائل الحياة والموت وما يتعلق بهما، لا يعبأ بحالة من يحادثه، غني أم فقير، شاب أم شيخ، صديق أم غير صديق، وحديثه مباح لكل من يريد، لا يأخذ عليه أجرًا كما كان يفعل السوفسطائيون، ولم يكن يحتكر الكلام، بل يتبادل الحديث، ويوجه المناقشة إلى الجهة المنتجة، وهذه الطريقة التي مهر فيها سقراط هي طريقة الحوار، فكان يلقي على سامعه سؤالًا ثم يناقش جوابه ويصححه أو يتممه، ثم يتعرض للسؤال ويجيب، وكثيرًا ما تعمد أن يورط محاوره في الخطأ أو يتورط هو في الخطأ لينكشف جهل محدثه، أو ليستخلص منه النتيجة كأنها قضية صحيحة معروفة من قبل.
أيقن إذن سقراط أنه أحكم أهل زمانه حقًّا بهذا التفسير، وكان يعلن كلما بدأ حوارًا أنه يجهل الموضوع جهلًا تامًّا، وأنه راغب شديد الرغبة في معرفة ما قد يعلمه محاوره، ولم يكن في هذا الظهور بالجهل متكلفًا ولا متصنعًا، بل كان يعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه وبأن الناس جميعًا لا يعرفون شيئًا عما يتشدقون به من ألفاظ، ومَن في أثينا كان يستطيع أن يقول شيئًا عن حقيقة الخير والحق والجمال؟ لا شك أنهم عاجزون عن تحديد معانيها، وكل ما يتظاهرون به من حكمة وعلم إن هو إلا إغراق في الجهل والحمق والغرور، وكان سقراط يثق بجهل مناقشيه، ولكنه اعتاد أن يسخر ويتهكم منهم، فيقول لمحدثه: إني على يقين أنك تعلم عن الموضوع المبسوط شيئًا، ثم يرجو ويلح في الرجاء أن يفيض مناقشه عليه من علمه وحكمته، فإذا ما جازت الحيلة على المحدث المسكين، وهم بالحديث واندفع في سوق الحقائق اندفاعًا، أبدى سقراط إعجابه به لولا أن نقطة غامضة اندست في ثنايا الحديث، وهو يرجو لها شرحًا وإيضاحًا، ثم يأخذ في إلقاء الأسئلة المحرجة في مهارة ولباقة، وإذا بالمحدث متورط في جهله، معترف به.
لبث سقراط يزاول في كل يوم حواره الفلسفي، لا يلتزم له مكانًا معينًا، فهو يحاور في السوق، وفي حوانيت الصناع، وفي أروقة الحمام، وفي الملاعب الرياضية، ولا يلتزم لحواره موضوعًا معينًا، فهو يناقش في كل ما يعرض من مسائل، حتى بلغ من عمره عامه السبعين، وكان قد أَلَّبَ على نفسه طبقات الشعب؛ لأنه كره نظام الديمقراطية في الحكم، ولم يسغ أن ينتخب لمناصب الدولة جماعة الزراع والصناع، كما أغضب الطبقة العالية؛ لأنه كان يمقت الأرستقراطية وما تَجُرُّ وراءها من الاستبداد والظلم، فوُجِّهَت إليه تهم ثلاث: الأولى إنكاره آلهة اليونان، والثانية دعوته إلى آلهة جديدة، والثالثة إفساد الشباب الذي فُتن به والتف حوله التفافًا شديدًا مأخوذًا بسحر حواره.
قضى سقراط في سجنه ثلاثين يومًا ينتظر تنفيذ الموت، وكان أصدقاؤه يغرونه خلالها بالفرار، ولم يكن الفرار من السجن شاقًّا ولا عسيرًا، فقديمًا فر فيلسوف آخر من سجنه هو أناكسجوراس الذي أعانه على الفرار بركليس، وقليل من الدنانير كانت تكفي لرشوة الحارس وتمهيد الهروب.
•••
بدأت الفلسفة منذ السوفسطائيين تتجه ببحثها نحو الإنسان، وانصرف سقراط يحاول معرفة حقيقته، وكان مكتوبًا على معبد «دلفي» هذه الحكمة القديمة: «اعرف نفسك بنفسك.» فما أسرع ما اتخذها سقراط شعارًا له وقاعدة لفلسفته، فليس سوى النفس الإنسانية جديرًا بالبحث، ولا خير في معرفة تهمل الإنسان لتُعنى بالطبيعة تلتمس أصلها وعلة ظواهرها، ولا قيمة لعلوم الرياضة والطبيعيات والفلك إذا قِيست بمعرفة الإنسان، أو بعبارة أخرى بمعرفة الأخلاق؛ ولذلك تراه يقول عن نفسه إنه لم يغادر المدينة إلى الحقول والأشجار؛ لأن هذه لا تعلمه شيئًا، وأسمى ما يريد أن يظفر به هو معرفة الأخلاق وحدها، ولما كانت الأخلاق لا تكون جديرة بهذا إلا إن كان لها مقياس ثابت لا يتبدل تبعًا لأهواء الأشخاص حاول سقراط أن يقيم الدليل على بطلان ما ذهب إليه السوفسطائيون من أن الأخلاق اعتبارات شخصية، ولكن كان السوفسطائيون وضعوا مبدأ شاملًا دعوا إليه، وهو أن الإنسان مقياس لكل شيء، فليس هو مقياسًا للأخلاق وحدها بل لكل الحقائق؛ ولذا كان لزامًا على سقراط أن يهدم هذا الرأي ليثبت الحقائق التي أنكر وجودها السوفسطائيون، ثم يفرع عن هذا ما كان يقصد إليه، وهو أن للأخلاق حقائق ثابتة تُقاس بها أعمال الإنسان، فلنتناول بالشرح ما ارتآه سقراط في هذا الموضوع:
ذهب السوفسطائيون إلى أنَّ الحواسَ هي وحدها السَّبيل إلى وصول المعلومات إلى الذهن، فالإدراك الحسي هو أساس المعلومات جميعًا، ولما كان هذا الإدراك يختلف باختلاف الأشخاص، كانت المعلومات التي تجيء عن طريقه مختلفة كذلك، وإذن فلسنا نعرف من الحقيقة إلا هذه الصور المختلفة التي تقدمها إلينا الحواس، ولا يمكن التسليم بأن ثمت في الخارج حقائق للأشياء ثابتة مع تباين الأشخاص في إدراكها؛ لأنه حتى لو كان في الخارج تلك الحقائق الثابتة فلا سبيل إلى معرفتها ما دمنا نعتمد على الحواس وحدها، فكانت رسالة سقراط أن يبني تحصيل المعرفة على العقل لا على الحواس، وبذلك يثبت ما أنكره السوفسطائيون من وجود الحقائق الثابتة في الواقع الخارجي، ولشرح ذلك نقول:
إذا رأيت رجلًا أو شجرة أو قلمًا، فإحساسك بهذا الشيء الذي تراه إدراك لجزئي واحد من الجزئيات، ولكن لديك إلى جانب هذه الأشياء الجزئية التي تحصلها حواسك مما تصادفه في العالم الخارجي مجموعة من الأفكار العامة تتعلق بالأنواع لا بالأشياء الجزئية ذاتها، وهذه الأفكار العامة لم تصل إليك من طريق الحواس، وإنما نبعت من عقلك ذاته، فأسماء الأنواع كالإنسان والشجرة والمنزل والحيوان لا نطلقها على جزئي واحد، بل على النوع كله، ونعني بها الصِّفات التي يشترك فيها كل أفراد النوع، ولا ندخل في حسابنا تلك الصفات التي تظهر في بعضها دون بعض، فالفكرة العامة عن الحصان ليس فيها صفة البياض؛ لأنه إن اتصف بعض الجياد بهذا اللون فبعضها الآخر ليس كذلك، ولكنها تتضمن مثلا صفة الصهيل؛ لأنها جميعا تشترك فيها، فهذا الجمع بين الصفات المشتركة في أفراد النوع وأبعاد الصفات العارضة، هو من عمل العقل لا الحواس، وهو ما نسميه إدراكًا عقليًّا أو كليًّا، وهذه الإدراكات العقلية أو الكلية عند سقراط هي المعرفة؛ ولذلك لم يتردد في اعتبار العقل أداة تحصيل المعرفة دون الحواس، على خلاف ما رأى السُّوفسطائيون من أن المعرفة كلها لا تعدو الإدراكات الجزئية التي تصل إلى الذهن عن طريق الحواس.
وإذا كانت الحواس ومدركاتها تختلف باختلاف الأشخاص فليس العقل كذلك، إنما هو عام مشترك عند جميع الناس، وما دمنا قد سلمنا بأنه أداة المعرفة، فقد وصلنا إلى نتيجة خطيرة جدًّا تهدم تعاليم السوفسطائيين من أساسها، وهي أن الحقائق الخارجية ثابتة؛ لأن الناس جميعًا يرونها بمنظار واحد، هو العقل، الذي لا يختلف إدراكه في شخص عن شخص آخر.
هذا الإدراك العقلي للأنواع هو في الواقع تعريفها، فإذا أردنا أن نُعَرِّف كلمة إنسان أدخلنا في التعريف الصفات التي يشترك فيها كل أفراد الإنسان دون الصفات العارضة الخاصة ببعض الأفراد، فلا يجوز مثلًا أن نُعَرِّف الإنسان بأنه حيوان أبيض؛ لأن هذا اللون لا يشترك فيه الأفراد جميعًا، ولا أن نقول هو حيوان متكلم بالعربية، لأن هذه اللغة خاصة بطائفة معينة، ولكنا لا نخطئ حين ندخل في التعريف صفة التفكير؛ لأنها عامة شاملة لجميع الأفراد، وليس للشواذ حساب في تكوين القاعدة، وإذا كانت طريقة تكوين التعريف هي نفس الطريقة التي تتبع في تكوين المدركات العقلية، أي جمع الصفات المشتركة وإسقاط الصفات الخاصة، فلا شك في أن التعاريف هي التعبير عن مدركاتنا العقلية، وما دام في مقدورنا أن نصوغ لكل نوع تعريفًا جامعًا لصفاته الجوهرية، أمكننا بذلك أن نحصل على مقاييس للحقائق الخارجية؛ لأننا لو عرفنا المثلث مثلًا استطعنا أن نقارن كل شكل هندسي في الخارج بهذا التعريف لنحكم في يقين هل هو مثلث أم شكل آخر، وليس من حق الأشخاص أن يختلفوا في حقيقته، فيصر أحد على أنه مثلث بينما يؤكد الآخر أنه مربع، ما دام لديهم مقياس يرجعون إليه عند الخلاف، وإذن فنحن نستطيع أن نصوغ للفضيلة تعريفًا يقوم على أساس إدراكنا العقلي لصفاتها المشتركة في كل الأعمال الفاضلة، وبذلك يكون لدينا معيار نقيس به أفعال الناس فنميز بين خيرها وشرها، ولا يجوز للسوفسطائيين بعدئذ أن يجاهروا برأيهم بأن ما أراه حقًّا هو حق لي، وما يطيب لي عمله فضيلة بالنسبة لي؛ لأننا ظفرنا بمقياس يقره العقل، وهو عنصر مشترك عند كل الأشخاص، يمكننا أن نرجع إليه فنحكم على العمل مستقلًّا عن نزوات الشخص وميوله.
تلك هي نظرية المعرفة التي أعلنها سقراط، والتي تقوم على أساس الإدراكات العقلية الحسية، فتوصلنا إلى حقائق الأشياء كما هي في الخارج مستقلة عن الإنسان، وأخذ سقراط يسأل بعد هذا: ما الفضيلة؟ ما الحكمة؟ ويحاول أن يصل إلى تعريف يعبر عن إدراك العقل لها، ليضع أساسًا للأخلاق تنطبق عليه مدلولاتها الخارجية، سواء صادفت هوى من الشخص أم لم تصادف، وكان يلجأ في ذلك إلى طريقة «الاستقراء»، فيسوق أمثلة كثيرة للشيء الذي يريد أن يضع تعريفًا له، ويستخلص الصفات المشتركة من تلك الأمثلة الجزئية، ثم يصوغها في تعريف، فإذا تم له ذلك أخذ يطبق تلك القاعدة الكلية على جزئيات جديدة ليرى مقدار انطباقها على القاعدة التي وصل إليها، فإن لم يجدها مطابقة لها تمامًا عاد إلى قاعدته يعدل فيها ويصحح حتى يكون التعريف جامعًا مانعًا.
ولم يقصد سقراط أن تكون نظرية المعرفة التي تَقَدَّمَ شرحها غرضًا في ذاتها مقصودة لنفسها، إنما اتخذها وسيلة يستغلها في تطبيقها على الحياة العملية، وهذا شأن سقراط، لا يُعْنى بالنظريات إلا إن كانت تعينه على أغراض الحياة العملية، فلم يرد بمعرفة الإدراك العقلي للفضيلة — أعني تعريفها — إلا أن يتمكن من السلوك سلوكًا فاضلًا ينطبق على الفضيلة حسب ما أدركها العقل من صفاتها.
وهنا نصل إلى أساس النظرية الأخلاقية عند سقراط، وهي توحيد الفضيلة والمعرفة، فقد كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل الخير إلا إذا عرف ما هو الخير، وبعبارة أخرى إلا إذا عرف الإدراك العقلي للخير، فالعمل الأخلاقي مؤسس على المعرفة ويجب أن يصدر عنها، بل إن الفضيلة والعلم شيء واحد، فيستحيل أن تعرف الخير معرفة صحيحة ولا تعمله، كما يستحيل أن تعمل الخير ولا تعرفه، فيكفي في نظر سقراط أن يعلم الإنسان ما هي الفضيلة حتى يكون بمنجاة من فعل الرذيلة، وكل عملٍ شر إنما يصدر عن الجهل بالفضيلة؛ لأن الإنسان لا يسعه إذا عرف الخير أن يفعل شرًّا، وكل الناس ينشدون الفضيلة ولو أنهم يختلفون في معناها، يقول سقراط: «لا يمكن أن يتعمد إنسان الوقوع في الشر، وإذا ارتكبه فلأنه لا يعرف الإدراك العقلي للخير، ولما كان يجهل حقيقة الخير تراه يفعل الشر وهو يظن أنه العمل الصحيح.» وقال سقراط أيضًا: «إذا تعمد الإنسان فعل الشر فهو خير من يفعله غير عامد.» لأن الأول فيه الشرط الأساسي لعمل الخير، وهو معرفة ما هو الخير، أما الثاني فلا خير فيه ما دامت تعوزه المعرفة نفسها.
- (١)
أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل الخير ما لم يعلم الخير، وكل عمل صدر لا عن علم بالخير فليس خيرًا ولا فضيلة، فالعمل الخيِّر لا بُدَّ أن يكون مؤسسًا على العلم ومنه ينبع.
- (٢)
أنَّ علم الإنسان بأن الشيء خير علمًا تامًّا يحمله حتمًا على عمله، ومعرفته بضرر شيء تحمله حتمًا على تركه، وليس إنسان يعمل الشر وهو عالم بنتائجه، فكل الشرور ناشئة عن الجهل، ولو علم المرء أين الخير لعمله حتمًا؛ وعلل ذلك بأن كل إنسان بطبيعته يقصد الخير لنفسه ويكره لها الشر، فمحال أن يفعل ما يضرها وهو عالم بضرره، فما يصدر عن إنسان من الخطأ إنما منشؤه الجهل بالعمل، وعلاج الشرير أن يعلم نتائج الأعمال السيئة التي تصدر عنه، ولتعويد إنسانٍ الخيرَ وجعله مصدرًا للفضيلة يعلم نتائج الأعمال الحسنة، وتوسع في تطبيق نظريته، فعنده الإنسان الخير هو الذي يعلم ما يجب عليه، والملك الصالح هو الذي يعرف كيف يحكم الناس حكمًا عادلًا وهكذا.
وردَّ أرسطو على نظرية سقراط ردًّا مقنعًا فقال: إنَّ سقراط جهل أو تناسى أن نفس الإنسان ليست مركبة من العقل وحده، وتخيل أن كل أعمال الإنسان خاضعة لحكم العقل، ومن ثم إذا علم العقل فضل العمل، ولكنه نسي أن أكثر أعماله محكومة بالعواطف والشهوات، وإذ ذاك قد يقع في الخطأ مهما علم العقل.
ولعل خطأ سقراط في الرأي راجع إلى أنه نظر إلى الموضوع من وجهته هو، وقاس الناس على مقياسه، فقد كان سليمًا مما يتصف به عامة الناس من ضعف، ولم يكن لمشاعره على نفسه سلطان، ولكن عقله وحده هو الذي ملك قياده، فكان عمل الخير يعقب معرفته مباشرة كما يعقب الليل النهار؛ ولذا لم يفهم أن يكون بين الناس من يرتكب الإثم وهو يعرف الخير.
ومهما يكن من أمر هذا الخطأ في رأي سقراط، فهو لا يخلو من حق كثير، فكثير من الناس في كثير من أوقاتهم يصدر عنهم الشر؛ لأنهم لا يعتقدون اعتقادًا جازمًا بالخير، وهم يتشدقون بأقوال لا تعدو ألسنتهم، ولا تنبعث عن قلوبهم، فنرى كثيرين يحقرون شأن الدنيا، ويقولون إن غنى النفس خير من غنى المال، فإذا ما اضطربوا في حياتهم العملية انطلقوا يلتمسون المال من مآتيه كلها، فهل من الحق أن نقول إنهم يعلمون الخير ولا يعملون به؟ أم أقرب إلى الصواب أن نقول إنهم لم يعتقدوا اعتقادًا جازمًا ما كانوا يلوكونه من أقوال، وإن عقيدتهم في الواقع هي هذه التي تظهر في أعمالهم؟ نحسب أن هذا الوضع الثاني أدنى إلى الصواب وهو ما ظنه سقراط.
وقد نشأ عن نظرية سقراط في الأخلاق نتيجتان؛ الأولى: أنَّ الفضيلة يمكن أن تُعلَّم وإن كانت ليست يسيرة في تعلمها كما هو الحال في الحساب مثلًا؛ لأنَّها تعتمد على عدة عوامل أخرى كالوراثة، وأثر البيئة، والتربية، والتجربة وغيرها.
ولكن إذا كانت المعرفة مُمكِنة التعلم وجب أن تكون الفضيلة كذلك، وأهم عقبة تحول دون معرفة الفضيلة هي صعوبة أن تجد معلمًا يعرف معناها، والنتيجة الثانية: هي أنَّ الفضيلة واحدة وهي المعرفة، وإن شئت فسمها الحكمة، وليس غيرها من الفضائل كالشجاعة والعفة والعدل إلا مظهرًا من مظاهرها وصادرة عنها.
وعلى الرغم من أن سقراط قد أصلح بنظرية المعرفة كل ما أفسده السوفسطائيون فرد إلى الناس إيمانًا بالحقائق الخارجية بعد ما اعتراهم الشك فيها، فلم يعد بالفكر إلى حالته قبل السوفسطائيين بل سار به خطوة واسعة إلى الأمام، فالفكر يجتاز في سيره — عادة — مراحل ثلاثًا؛ الأولى: مرحلة العقيدة التي لا تقوم على أساس من العقل، والثانية: مرحلة يكون الفكر فيها شاكًّا هادمًا ينكر ما بنته العقيدة في المرحلة الأولى، وفي الثالثة: تعود العقيدة بعد الشك مرة ثانية، ولكنها تقوم هذه المرة على أساس الإدراك العقلي لا على التصديق الساذج، فقد كان الناس قبل عهد السوفسطائيين يسلمون بصحة الحقائق والأخلاق وثبوتها مستقلة عن الإنسان، ولكن أحدًا لم يُعْنَ بإقامة الدليل عليها؛ لأن أحدًا لم يشك في صحتها، فجاء السوفسطائيون وأخضعوا العقائد القديمة إلى نقد العقل، فانهار البناء جملة واحدة، ثم تبعهم سقراط وأعاد الأمر إلى نصابه ولكن على أساس جديد، فقد استبدل بالتصديق الساذج العلم والمعرفة.
وقد ظهر في أثينا رجل آخر يريد إصلاح ما أفسده السوفسطائيون كما فعل سقراط، ولكنه التمس طريقًا أخرى تناقض السبيل التي سلكها سقراط، وذلك هو «أرستوفان» الذي كان محافظًا شديد المحافظة والجمود، يتحسر على الماضي الجميل، ويود لو عادت الحياة سيرتها الأولى كما كانت قبل السوفسطائيين، وما دامت هذه السيئات كلها من أثر الفكر فليتوقف الفكر عند حده لا يُسمَح له بالتقدم، ليعود الناس إلى الإيمان الساذج البسيط، غير عالِمٍ أن الحياة لا تعود إلى الوراء كما يستحيل أن يسترد الرجل طفولته، فتلك نكسة لا يعرفها منطق السير والتطور، وليس علاج المرض كما اقترح أرستوفان في صد تيار الفكر، بل هو في الزيادة فيه ما دام الفكر المبتور الناقص ضارًّا لا ينفع، وتلك كانت سبيل سقراط إلى الإصلاح المنشود.
(١) أتباع سقراط
قامت فلسفة سقراط على دعامتَيْن كما أسلفنا؛ الأولى: نظرية المعرفة التي أنكرت أن تكون الإدراكات الحسية أساسًا للعلم، وقالت إن الإدراكات العقلية — أي الأحكام الكلية — هي وحدها المعرفة، وهي ليست من عمل الحواس ولكنها من صنع العقل، ولما كان العقل عنصرًا مشتركًا عند الأشخاص أمكن أن يكون مقياسًا لا تختلف نتائجه باختلاف الظروف، ومعنى ذلك أن الحقائق في العالم الخارجي ثابتة يدركها العقل دائمًا على صورة واحدة، والثانية: هي النظرية الأخلاقية التي توحد بين العلم والفضيلة.
وعلى الرغم من أنَّ نظرية المعرفة كانت أبقى وأعمق أثرًا في مجرى تاريخ الفلسفة من نظرية الأخلاق، إلا أن الوضع قد انعكس في أعين تلاميذ سقراط؛ لأنهم — وقد خالطوا أستاذهم — بهرتهم حياته الأخلاقية، واستولت على إعجابهم حتى أنستهم جوانب فلسفته الأخرى، فتأثروا خطاه بعد مماته، وحاولوا جهدهم أن ينسجوا حياتهم الأخلاقية على منوال حياته، فاتخذوا مثله الأعلى شعارًا لهم، وهو أن الفضيلة غاية الحياة.
أجمع أتباع سقراط على هذا المبدأ، واتفقوا جميعًا على أن تكون الفضيلة غرضًا لحياتهم كما كانت غرضًا لحياة أستاذهم، ولكنهم التمسوا إلى تلك الغاية وسائل شتى؛ ذلك لأنهم اختلفوا في تفسير الفضيلة، فلم يترك لهم سقراط تعريفًا واضحًا لها، يرجعون إليه ليطبعوا سلوكهم بطابعه، وكل ما قاله في هذا الصدد أن الفضيلة يجب أن تنبع من العلم وأن تقوم على أساسه، فيشترط لكي تكون فاضلًا أن تكون عالمًا بتعريفها، أما ما هذا التعريف فذلك ما لم يتعرض له سقراط، قد يُقال إنه عرفها بأنها العلم، وهذا صحيح، ولكن أي علم قصد إليه سقراط؟ أهو علم الفلك أو علوم الطبيعة والرياضة؟ كلا، إنما هو علم الأخلاق، أو بعبارة أخرى علم الفضيلة، فكأنما هو يدور في حلقة مفرغة تبدأ من حيث تنتهي؛ لأنك إذا قلت إن الفضيلة هي علم الفضيلة لم توضح منها شيئًا.
إذن لم يترك سقراط تعريفًا للفضيلة، فكان تعريفها موضع الخلاف بين أتباعه، وانقسموا في تفسيرها شيعًا ثلاثًا، كل منها تذهب مذهبًا يلائم وجهة نظرها، وكل منها تجد من سلوك سقراط مبررًا لسلوكها، وهذه المدارس الثلاث هي: الكلبيون، والقورينائيون، والميغاريون.
(١-١) الكَلْبِيُّون Cynics
انتشر تلاميذ هذه المدرسة في الأرض لا يبتغون من الناس شيئًا ولكن ليحملوهم على الزهد والقناعة، وليعلموهم أن لا خير إلا في الفضيلة، وأن لا شر إلا في الرذيلة، فلا الضياع والمتاع ولا الملكية ولا التمتع بالحرية، بل ولا الحياة نفسها من وسائل الخير، بل الخير هو الفضيلة وحدها، كلا ولا الفقر والشقاء والمرض والرق، ولا الموت نفسه من وسائل الشر بل الشر هو الرذيلة وحدها، فليست العبودية بأسوأ من الحرية إذا كان العبد الرقيق يعيش عيشة الفضيلة؛ لأنه عندئذ يكون حرًّا في نفسه ولو كان مملوكًا في ظاهره، وقد أجاز الكلبيون الانتحار على شرط ألا يكون فرارًا مما في الحياة من ألم وبؤس، بل لكي يقيم به المنتحر دليلًا على أن الحياة ليست شيئًا يدعو إلى التشبث بها.
والفضيلة عند الكلبيين واحدة كما قال سقراط، وفسروا ذلك بأنها لا تتجزأ، فإما أن يكون الشخص فاضلًا إلى النهاية أو لا يكون، كالخط إما أن يكون مستقيمًا أو ليس مستقيمًا، ولا وسط بين الطرفَيْن، فإن كان ذا فضيلة كان عالمًا كل العلم، حكيمًا كل الحكمة، سعيدًا كل السعادة، كاملًا أتم الكمال؛ لأن الفضيلة هي كل شيء، وإن لم يكن كان غبيًّا شقيًّا جاهلًا.
(١-٢) القورينائيون Cyrenaics
أليست الفضيلة عند سقراط هي الغرض الأسمى؟ أَوَليست السعادة عنده وسيلة من وسائل الفضيلة وحافزًا قويًّا لها؟ إذن فلنحقق لأنفسنا هذه السعادة ما استطعنا إليها سبيلًا، ولا يكون ذلك بأن نزدري الحياة ازدراءً، ونعيش عيشة زهد وحرمان، ولكن عيشة استمتاع ولذة، فالخير فيما يلذ ويسر، والشر فيما يؤلم ويؤذي، فاعمل كل ما تشتهي واستمتع بالحياة ما ساعفتك، وابتعد عما يؤذيك ويؤلمك، واتخذ في كل ذلك نفسك مقياسًا، فلا يجوز أن تهبط قوانين الأخلاق على الفرد من الخارج، ولا أن تفرض عليه من الجماعة فرضًا ليس له مسوغ، ولكل إنسان أن يرسم لنفسه طريق السعادة فهو بنفسه بصير، (وهم في هذا النظر الأخير قد تأثروا بالسوفسطائيين).
واللذة عند القورينائيين قد تتحقق في التفكير، ولكنها أقوى وأعظم إذا كانت حسية ينعم بها الجسم، وهم مع هذا قد وضعوا حدًّا خفف من حدة هذه النزعة الحسية، فنصحوا أن تكون حكيمًا حينما تنشد لذتك، فلا تجعل نفسك عبدًا للذة، بل لتكن اللذة أداة طيعة للاستمتاع، إذا ظفرت بها فاغتنمها، ولا تأسف عليها إذا أفلتت من يدَيْك، كما نصحوا أن تكون اللذة مأمونة العواقب، وألا تكون سببًا في آلام أكبر منها.
فالحكيم هو من ضبط نفسه وأمسك بزمامها، فلا يميل مع شهوته حيث تميل بل يوازن في كل عمل بين لذته العاجلة وألمه الآجل، ولم تكن تعاليم القورينائيين واحدة في اللذة وتقديرها والاستمتاع بها، بل اختلفت أقوالهم في شرح ذلك تبعًا لاختلاف رؤسائهم.
(١-٣) الميغاريون Megarics
أسس هذه المدرسة إقليدس الميغاري، وقد جمع في فلسفته بين التعاليم السقراطية ومذهب المدرسة الإيلية، فالفضيلة هي المعرفة كما قال سقراط، ولكن أي علم؟ هنا يتأثر الميغاريون برأي بارمنيدس في الوجود المطلق، وفي إنكار الأشياء التي تقع تحت الحس، وفي بطلان الحركة التي نتوهمها في الخارج، فليس ثمت إلا حقيقة واحدة لا تعرف الكثرة ولا الحركة، تلك هي الوجود نفسه، فإن كان سقراط يرى أن معرفة الفضيلة هي كل شيء، وبارمنيدس يرى أن معرفة الوجود هي كل شيء، إذن العلم بحقيقة الوجود والفضيلة شيء واحد عند الميغاريين، والوجود والواحد الذي لا يتعدد والله والفضيلة والخير كلها أسماء مختلفة لمسمى واحد، كما أن التغير والتعدد والكثرة والشر أسماء لمدلول واحد هو نقيض المدلول السابق، الأولى أسماء تُطلق على الوجود، والثانية أسماء تُطلق على العدم، فالكثرة والشر شيء واحد، وكلاهما وهم ننخدع به وليس له وجود في الواقع، ليس للشر وجود حقيقي، وثمت حقيقة واحدة في العالم الخارجي هي الخير، والفضائل المتنوعة كالإحسان والحكمة والعفة إنما هي أسماء مختلفة لفضيلة واحدة، أعني بها معرفة الوجود.
فإن كان الكلبيون قد التمسوا الفضيلة في الزهد والاستغناء، والقورينائيون في اللذة والاستمتاع، فقد التمسها الميغاريون في حياة التأمل الفلسفي، أي في معرفة حقيقة الوجود.