أَمِيرَةُ الْبَنْغالِ
(١) رَسائِلُ الأَصْفِياءِ
وَفَدَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» عَلَى مَدِينَةِ «إِكَّاشَكْرا». وَما إِنِ اسْتَقَرَّ بِهِمُ الْمُقامُ حَتَّى جاءَتْهُمْ رِسالَةُ خالِهِمْ «فِيدُورا» وَتَبِعَتْها رَسائِلُ قَلِيلَةٌ أُخْرَى مِنْ بَعْضِ أَصْفِيائِهِمْ، تَحْمِلُ إِلَيْهِمْ أَنْباءَ «هَسْناپورا» وَطَنِهِمُ الْحَبِيبِ. فَعَلِمُوا مِن فَحْواها (مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ) أَنَّ سَوادَ النَّاسِ (جُمْهُورَهُمْ) قَدْ جازَتْ عَلَيْهِمُ الْحِيلَةُ، وَلَمْ يُساوِرْهُمُ الشَّكُّ فِي أَنَّهُمْ ذَهَبُوا طُعْمَةً سائِغَةً لِلنَّارِ فِي قَصْرِ الْهَلاكِ. وَطالَعَتْهُمُ الأَنْباءُ بِما اسْتَأْثَرَ بِهِ «دُرْيُدْهانا» مِن نُفُوذٍ وَسُلْطانٍ، وَكَيْفَ سَلَبَ نُفُوذَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَنْصارِهِما، وَنَحَّاهُمْ عَنِ الْمُلْكِ.
(٢) مِهْرَجانُ «الْبَنْغالِ»
وَكانَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» — كَما عَلِمْتَ يَفِيضُونَ نَشاطًا وَقُوَّةً وَتَوَثُّبًا وَفُتُوَّةً. فَلَمْ يَرْتاحُوا إِلَى حَياةِ الْخُمُولِ وَالدَّعَةِ.
وَعَلِمَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» أَنْ «دُرُوپَادَا» عَدُوَّ مُعَلِّمِهِمْ «دُرُونا» قَدْ أَذاعَ فِي بِلادِ الْهِنْدِ أَنَّهُ سَيُقِيمُ فِي حاضِرَةِ مُلْكِهِ مِهْرَجانًا عَظِيمًا يَتَنافَسُ فِيهِ الرُّماةُ، لِيَخْتارَ أَوَّلَ الْفائِزِينَ زَوْجًا لابْنَتِهِ فانْطَلَقُوا مُسْرِعِينَ — فِي زِيِّ النُّسَّاكِ الَّذِي اخْتارُوهُ — إِلَى أَنْ بَلَغُوا حاضِرَةَ «الْبَنْغالِ»، فَعَلِمُوا أَنَّ الْمَلِكَ «دُرُوپَادَا» قَدْ أَعَدَّ — لِلْمُتَبارِينَ فِي مَيْدانِ الرِّمايَةِ — امْتِحانًا عَسِيرًا، فَأَمَرَ بِصُنْعِ قَوْسٍ كَبِيرَةٍ مِنْ خَشَبٍ مَتِينٍ فِي مِثْلِ صَلابَةِ الْحَدِيدِ، كَما أَمَرَ بِتَعْلِيقِ خاتَمٍ فِي طَرَفِ عَصًا طَوِيلَةٍ مُسْتَدِقَّةٍ، لِيَظَلَّ الْخاتَمُ مُعَلَّقًا فِي الْهَواءِ، مُتَرَجِّحًا لا ثَباتَ لَهُ وَلا قَرارَ. وَجَعَلَ مِنْ شَرائِطِ النَّجاحِ فِي الْمُباراةِ أَلَّا يُقْبَلَ فِيها إِلَّا سَرِيٌّ (شَرِيفٌ) ماجِدٌ، يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ دَمُ السِّيادَةِ وَالإِمارَةِ. وَلَنْ يَتِمَّ لَهُ الْفَوْزُ إِلَّا إِذا حَنَى الْقَوْسَ الْكَبِيرَةَ الصُّلْبَةَ، وَأَطْلَقَ مِنْها خَمْسَةَ سِهامٍ تِباعًا، لا يُخْطِئُ الْهَدَفَ مِنْها سَهْمٌ واحِدٌ.
ثُمَّ تَفَرَّقَ الْمُنادُونَ، فارْتَقَوْا سَلالِمَ عِشْرِينَ مَعْبَدًا فِي مُخْتَلفِ أَنْحاءِ الْمَدِينَةِ، يُبَصِّرُونَ النَّاسَ بِما يَعْنِيهِمْ أَنْ يَعْرِفُوهُ عَنِ الْمُباراةِ: مَوْعِدِها وَشَرائِطِ الدُّخُولِ فِيها. فَتَهافَتَ عَلَى الْمُباراةِ السُّراةُ (الأَشْرافُ) وَالأُمَراءُ الْمُتَفَرِّدُونَ بِالْبَراعَةِ فِي فُنُونِ الرِّمايَةِ، يَحْدُوهُمُ الأَمَلُ فِي أَنْ يَفُوزُوا بِأَمِيرَةِ «الْبَنْغالِ»، الْمُتَفَرِّدَةِ بالْغِنَى وَالطُّهْرِ والْجَمالِ.
فَلَمَّا حانَ مَوْعِدُ الْمُباراةِ، حَفَلَتِ الْمَدِينَةُ بِالْوافِدِينَ مِنْ نَظَّارَةٍ وَمُتَبارِينَ وازْدَحَمَتْ بِجُمُوعِهِمُ الأَسْواقُ، وَغَصَّتْ بِهِمُ الْمَيادِينُ. فَكانَتْ فُرْصَةً لِتَرْوِيجِ الْبَضائِعِ والسِّلَعِ، أَتاحَتْ لِتُجَّارِ الْحُلِيِّ أَنْ يَعْرِضُوا عَلَى الْوافِدِينَ نَماذِجَ ذَهَبِيَّةً مُصَغَّرَةً لِقَوْسِ الْمُباراةِ الْعَظِيمَةِ، لِيُقَدِّمَها الزَّائِرُونَ بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ هَدايا لِمَنْ يُحِبُّون. وَلَمْ يُقَصِّرْ رِجالُ الشُّرْطَةِ فِي حِفْظِ النِّظامِ وَحِراسَةِ الأَمْنِ.
(٣) الْخائِبُون
وَلَمَّا افْتُتِحَ مَيْدانُ الصِّراعِ، تَحَلَّقَ الْمُتَبارُونَ عَلَى تَبايُنِ أَسْنانِهِمْ (أَعْمارِهِمْ) واخْتِلافِ بِلادِهِمْ، حَوْلَ الْمِنَصَّةِ الذَّهَبِيَّةِ الْعالِيَةِ الَّتِي وُضِعَتْ عَلَيْها قَوْسُ الْمُباراةِ، وَتَدافَعَ النَّظَّارَةُ مُتَطَلِّعِينَ لِرُؤْيَةِ الْمُتَبارِينَ.
وَوَقَفَ إِلَى جِوارِ الْقَوْسِ خَمْسَةُ فِتْيانٍ أَقْوَياءَ، أُولِي بَأْسٍ أَشِدَّاءَ، يَسْتَرْعُونَ انْتِباهَ النَّظَّارَةِ بِما يَرْتَدُونَ مِنْ ثِيابِ الْبَراهِمَةِ النُّسَّاكِ، وَيَسْتَثِيرُونَ إِعْجابَهُمْ بِما يَبْدُو عَلَى سِيماهُمْ مِنْ دَلائِلِ الْفُتُوَّةِ، وَأَماراتِ الْبَأْسِ وَالْقُوَّةِ وَظَهَرَتْ «دُرُوپادِي» أَمِيرَةُ «الْبَنْغالِ» فِي أَجْمَلِ زِيٍّ وَأَبْهَى حُلَّةٍ، عَلَى مَسافَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ مِنْ قَوْسِ الْمُباراةِ، تُلاحِقُها عُيُونٌ عَشْرٌ، تَرْنُو إِلَيْها فِي شَوْقٍ واهْتِمامٍ. وَهَمَسَ أَكْبَرُ الإِخْوَةِ قائِلًا: «أَرْجُو أَنْ يُسْعِدَنِي الْحَظُّ بِزَواجِها.» فَأَجابَهُ «أَرْجُونا»: «لَنْ يَظْفَرَ بِها سِواكَ.» وَحانَتْ ساعَةُ الْبَدْءِ، فانْدَفَعَ الْمُتَنافِسُونَ إِلَى الْقَوْسِ يَتَسابَقُونَ، وَكُلُّهُمْ يُحاوِلُ جاهِدًا أَنْ يَحْنِيَ الْقَوْسَ، فَلا يَظْفَرَ مِنْ مُحاوَلَتِهِ بِغَيْرِ الْخَيْبَةِ وَالإِخْفاقِ. وَكانَ نُسَّاكُ الْبَراهِمَةِ الْخَمْسَةِ يَبْتَسِمُونَ كُلَّما شَهِدُوا عَجْزَ الْمُتَنافِسِينَ.
(٤) الْفائِزُ الأَوَّلُ
ثُمَّ فُوجِئَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» بِما لَيْسَ فِي حُسْبانِهِمْ، فَغاضَتِ ابْتِسامَتُهُمْ، وَتَبَدَّلَ أُنْسُهُمْ وَحْشَةً وانْقِباضًا. حِينَ سَمِعُوا صَوْتَ الْمُنادِي يُعْلِنُ اسْمَ «كَرْنا». يا لَلْعَجَبِ! ما الَّذِي جاءَ بِخَصْمِهِمُ الْعَنِيدِ، وَشَيْطانِهِمُ الْمَرِيدِ!
وَرَأَوْا «كَرْنا» يَصْعَدُ إِلَى الْمِنَصَّةِ — دُونَ أَنْ يَفْطُنَ إِلَى أَعْيُنِهِمُ الْعَشْرِ الَّتِي يَكادُ الشَّرَرُ يَتَطايَرُ مِنْها — ثُمَّ يُمْسِكُ بِالْقَوْسِ وَهِيَ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ «أَرْجُونا» وَإِخْوَتِهِ؛ وَإِنَّهُمْ لَيَكادُونَ يَلْتَهِمُونَهُ بِأَنْظارِهِمْ، وَيُزْلِقُونَهُ بِأَبْصارِهِمْ. وَقالَ «أَرْجُونا» يُسائِلُ نَفْسَهُ مُتَلَهِّفًا: «أَتُراهُ يَفُوزُ؟ أَتَكُونُ أَمِيرَةُ «الْبَنْغالِ» مِنْ نَصِيبِهِ؟» وَأَمْسَكَ الْفَتَى بِالْقَوْسِ يَحْنِيها فِي مَشَقَّةٍ وَعُسْرٍ وَإِرْهاقٍ، وَتَصَبَّبَ وَجْهُهُ عَرَقًا. «أَتُراهُ يَفُوزُ؟» وَحَبَسَ النَّظَّارَةُ أَنْفاسَهُمْ مَأْخُوذِينَ بِما يَشْهَدُونَ. ها هِيَ ذِي قَوْسُ الْمُباراةِ تَلِينُ بَعْدَ اسْتِعْصاءِ، وَيَنْحَنِي وَتَرُها. «أَتُراهُ يَفُوزُ؟» أَيُّ جَهْدٍ مُضْنٍ يَبْذُلُهُ الْفَتَى! إِنَّ ساعِدَيْهِ (ذِراعَيْهِ) تَكادانِ تَنْخَلِعانِ. «أَتُراهُ يَنْهَزِمُ؟» كَلَّا فَقَدْ تَجَدَّدَتْ عَزِيمَتُهُ، والْتَهَبَتْ حَماسَتُهُ، فَشَدَّ الْقَوْسَ وَثَناها، وَرَمَى سِهامَهُ الْخَمْسَةَ، فَلَمْ تُخْطِئْ مَرْماها. لَقَدْ فازَ «كَرْنا» وَتَعالَتْ لِفَوْزِهِ صَيْحاتُ الْمُعْجَبِينَ تَشُقُّ أَجْوازَ الْفَضاءِ، وانْطَوَتْ صَيْحاتُ مُنافِسِيهِ، بَيْنَ هِتافِ مُهَنِّئِيهِ. وَقَفَزَ «دُرْيُدْهانا» إِلَى صَدِيقِهِ «كَرْنا» فِي فَرْحَةٍ طاغِيَةٍ وابْتِهاجٍ شَدِيدٍ مُمْسِكًا بِيَدِهِ، لِيُقَدِّمَهُ إِلَى أَمِيرَةِ «الْبَنْغالِ» وَهِيَ جالِسَةٌ أَمامَ سُرادِقِها الْحَرِيرِيِّ، مُرْتَدِيَةٌ حُلَّةَ الْعُرْسِ. وَفُوجِئَ النَّظَّارَةُ بِما لَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بالٍ، حِينَ رَأَوْا أَمِيرَةَ «الْبَنْغالِ» تَنْهَضُ مِنْ كُرْسِيِّها مُتَّجِهَةً إِلَى «دُرْيُدْهانا» تَسْأَلُهُ فِي صَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ واضِحِ النَّبَراتِ: «خَبِّرْنِي عَنْ صاحِبِكَ أَيُّها الأَمِيرُ. مَنْ أَبُوهُ؟ فَإِنَّ أَوَّلَ شَرائِطِ الْمُباراةِ — فِيما تَعْلَمُ — أَلَّا يَشْتَرِكَ مَنْ لا يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ دَمُ الإِمارَةِ والنُّبْلِ. وَلَعَلَّكَ سَمِعْتَ — فِيما سَمِعْتَ — أَنَّ والِدَ هَذا الْفَتَى لَمْ يَكُنْ — إِذا صَحَّتِ الشَّوائِعُ — إِلَّا حُوذِيًّا. فَكَيْفَ يَطْمَعُ ابْنُ حُوذِيٍّ فِي زَواجِ أَمِيرَةِ «الْبَنْغالِ»؟»
أَيُّ مُفاجَأَةٍ باغَتَتْهُ الأَمِيرَةُ بِها؟ إِنَّهُ لَمْ يُفَكِّرْ قَطُّ فِي جَوابِ هَذا السُّؤالِ، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُ قَبْلَ الْيَوْمِ عَلَى بالٍ. لَقَدْ وَفَدَ عَلَيهِمْ «كَرْنا» وانْدَمَجَ فِي رِفْقَتِهِمْ، دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُ أَحَدٌ عَنْ مَوْطِنِهِ وَأُسْرَتِهِ، وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ.
وامْتُقِعَ وَجْهُ ابْنِ «الضَّرِيرِ» مِنْ شِدَّةِ الْخَجَلِ وَهَوْلِ الْمُفاجَأَةِ، والْتَفَتَ إِلَى صاحِبِهِ يَنْتَظِرُ إِجابَتَهُ، فَرَآهُ صامِتًا لا يُجِيبُ، وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَهُ بَهْتَةُ الْمُتَحَيِّرِ الْمُرِيبِ، يَهُزُّ رَأْسَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَيَغُضُّ الطَّرْفَ (يُغْمِضُ الْعَيْنَ) وَلا يَنْطِقُ بِحَرْفٍ.
فَقالَتِ الأَمِيرَةُ: «فَلْيَعُدْ صاحِبُكَ مِنْ حَيْثُ جاءَ، وَلْيَذْهَبْ حَيْثُ شاءَ.»
فَلَمْ يَزِدْ «كَرْنا» عَلَى أَنْ بَسَطَ ذِراعَيْهِ، وَرَفَعَ إِلَى كَوْكَبِ الشَّمْسِ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ كَرَّ راجِعًا، وانْطَلَقَ صاحِبُهُ فِي أَثَرِهِ، وَلَفَّهُما الزِّحامُ فَغَيَّبَهُما فِي أَطْوائِهِ. وَعادَتِ الثِّقَةُ إِلَى قَلْبِ «أَرْجُونا» بَعْدَ فُقْدانِ الأَمَلِ، وَلَمْ يُطِقْ صَبْرًا عَلَى الْبَقاءِ، فَأَسْرَعَ إِلَى الأَمِيرَةِ وَحَيَّاها قائِلًا: «أَمَّا أَنا فَمَعْرُوفُ الأَصْلِ، عَرِيقٌ فِي الإِمارَةِ، بِرَغْمِ ما تَرَيْنَ مِنْ خُشُونَةِ مَظْهَرِي. فَهَلْ تَأْذَنِينَ لِي فِي أَنْ أُجَرِّبَ حَظِّي؟»
فَحَنَتِ الأَمِيرَةُ رَأْسَها مُوافِقَةً.
(٥) فارِسُ الْمَيْدانِ
وَعَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الْجَمْعِ الْحاشِدِ تَوَجَّهَ النَّاسِكُ الْبَرْهَمِيُّ إِلَى الْقَوْسِ، فَرَفَعَها بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَشَدَّ بِالأُخْرَى وَتَرَها، فانْحَنَتْ فِي يَدِهِ أَشَدَّ انْحِناءٍ، وانْطَلَقَتْ سِهامُهُ الْخَمْسَةُ تِباعًا، مُسَدَّدَةً إِلَى هَدَفِهِ سِراعًا. واسْتَوْلَى الدَّهَشُ والإِعْجابُ عَلَى النَّظَّارَةِ بِما شَهِدُوهُ مِنْ بَراعَةِ «أَرْجُونا» وَقُوَّتِهِ، فارْتَفَعَ هُتافُهُمْ بِتَحِيَّتِهِ، وَدَوَّى تَصْفِيقُهُمْ إِعْجابًا بِقُدْرَتِهِ. وَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِ الأَمِيرَةُ تُحَيِّيهِ وَتُهَنِّئُهُ فِي ابْتِسامٍ وَإِعْجابٍ، ثُمَّ شَفَعَتْ تَحِيَّتَها وَتَهْنِئَتَها بِقَوْلِها: «إِنَّ ما يَبْدُو عَلَى قَسِماتِ وَجْهِكَ، وَما شَهِدْناهُ مِنْ آياتِ مَجْدِكَ وَكَمالِ مُرُوءَتِكَ، لَدَلِيلٌ أَيُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّكَ عَرِيقٌ فِي الإِمارَةِ أَصِيلٌ.»
وَبَدا الْغَيْظُ وَالْحَنَقُ عَلَى وَجْهِ الْمَلِكِ — أَوَّلَ الأَمْرِ — حِينَ رَأَى النَّاسِكَ الْبَرْهَمِيَّ يَظْفَرُ فِي الْمُباراةِ، وَلَكِنَّهُ سُرْعانَ ما غَمَرَهُ الْفَرَحُ حِينَ داناهُ، وَتَبَيَّنَ مَلامِحَهُ وَسِيماهُ، فَهَشَّ لَهُ وَحَيَّاهُ.
ثُمَّ خَتَمَ تَحِيَّتَهُ بِقَوْلِهِ: «لَقَدْ بَهَرَتْنِي شَجاعَتُكَ وَشَجاعَةُ إِخْوَتِكَ حِينَ قَدِمْتُمْ إِلَى مَمْلَكَتِي غُزاةً فاتِحِينَ، مُتَوَثِّبِينَ لِنُصْرَةِ «دُرُونا» مُتَحَمِّسِينَ. وَكانَ مِنْ أَشْهَى رَغَباتِي وَأَكْبَرِ أُمْنِيَّاتِي، أَنْ يُسْعِدَنِي الْحَظُّ بِتَزْوِيجِ ابْنَتِي واحِدًا مِنْكُمْ. وَقَدْ أَظْفَرَنِيَ الْقَدَرُ بِما أَتَمَنَّاهُ، فَشُكْرًا للهِ.» فَقالَ «أَرْجُونا»: «لَقَدِ اخْتارَها عَمِيدُ أُسْرَتِنا زَوْجًا لَهُ!»
فَأَجابَهُ الْمَلِكُ: «ما أَسْعَدَها بِهِ.» وَلَمْ يَكُنِ ابْتِهاجُ الأَمِيرَةُ بِأَقَلِّ مِنِ ابْتِهاجِ أَبِيها، حِينَ عَلِمَتْ أَنَّ شَرِيكَ حَياتِها هُوَ عَمِيدُ أُسْرَةِ «الشَّهِيدِ» وَخَلِيفَةُ «بِهِشْما» فِي مُلْكِهِ السَّعِيدِ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّها سَتُصْبِحُ بَعْدَ قَلِيلٍ مَلِكَةَ «هَسْناپورا». وَتَمَّتْ مَراسِمُ الزَّواجِ، وَذاعَ ما كانَ مَطْوِيًّا مِنْ أَنْباءِ الأُمَراءِ، وانْتَقَلَتِ الْبَشائِرُ إِلَى وَطَنِهِمْ فِي مِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ.
فابْتَهَجَ لَها الأَهْلُونَ أَيَّما ابْتِهاجٍ، واشْتَدَّ فَرَحُ «بِهِشْما» فَجَمَعَ مَجْلِسَ الشُّورَى عَلَى عَجَلٍ، لِيُعِيدَ إِلَيْهِمْ ما سَلَبَهُ ابْنُ عَمِّهِمْ مِنْ حَقِّهِمْ. وانْتَهَى قَرارُ الْمَجْلِسِ إِلَى قِسْمَةِ الْمَمْلَكَةِ بَيْنَ أَبْناءِ «الضَّرِيرِ» وَأَبْناءِ «الشَّهِيدِ».
وَلَمْ يَسَعْ «دُرْيُدْهانا» أَنْ يُعارِضَ قَرارَهُمْ، بَعْدَ أَنْ رَأَى سُراةَ الدَّوْلَةِ وَأَعْيانَها يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ أَبُوهُ، فَلَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يَتَظاهَرَ بِالْقَبُولِ، وَيَحْنِيَ رَأْسَهُ لِلْعاصِفَةِ حَتَّى تَمُرَّ بِسلامٍ، وَهُوَ يُضْمِرُ الْكَيْدَ لَهُمْ والإِيقاعَ بِهِمْ. وَراحَ الْخَبِيثُ يُغْدِقُ الْمالَ عَلَى أَنْصارِهِ وَمُؤَيِّدِيهِ، وَيَرْشُو مِنْ يَقِفُ مِنْ مَعارِضِيهِ، وَيَفْتِكُ بِمَنْ يُصِرُّ عَلَى مُناوَأَتِهِ، بَعْدَ أَنْ يَيْأَسَ مِنِ اسْتِجْلابِ مَوَدَّتِهِ. وَما زالَ يُحاوِرُهُمْ وَيُداوِرُهُمْ، حَتَّى انْتَهَى قَرارُهُمْ إِلَى أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِالنِّصْفِ الْعامِرِ الآهِلِ بِالسُّكَّانِ، تارِكًا لأَبْناءِ عَمِّهِ النِّصْفَ الْغامِرَ (الْمُجْدِبَ الْمَهْجُورَ). فَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ التَّسْلِيمِ بِما قَضَى بِهِ وَحَكَمَ، لِما يَعْلَمُونَ مِنْ طُغْيانِهِ، وَعَجْزِ جَدِّهِمْ عَنْ نَقْضِ ما أَبْرَمَ. فاتَّخَذُوا أُهْبَتَهُمْ، وَأَعَدُّوا لِلرَّحِيلِ عُدَّتَهُمْ، وَما زالُوا يُواصِلُونَ السَّيْرَ حَتَّى بَلَغُوا مَمْلَكَتَهُمْ الْمُجْدِبَةَ الْفَقِيرَةَ، وَهُمْ عَلَى ثِقَةٍ بِقُدْرَتِهِمْ عَلَى بَعْثِ الْحَياةِ فِي جَدْبِها وَمَواتِها، وَإِشاعَةِ الْخِصْبِ والنَّماءِ فِي صَحارِيها الْقاحِلَةِ وَفَلَواتِها، بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ دُءُوبٍ وَمُثابَرَةٍ وَصَبْرٍ عَلَى مُكافَحَةِ الأَهْوالِ، وَعَزِيمَةٍ كالْحَدِيدِ تَدُكُّ الْجِبالَ. وَكانَتْ حاضِرَةُ مُلْكِهِمُ الْجَدِيدَةُ أَوَّلَ ما وَجَّهُوا إِلَيْهِ هِمَّتَهُمْ، وَفَوَّقُوا إِلَيْهِ عَزِيمَتَهُمْ. فَبَدَءُوا بِإِصْلاحِها وَتَعْبِيدِ طُرُقاتِها وَتَخْطِيطِ بَساتِينِها وَمُتَنَزَّهاتِها، وَهَدْمِ ما تَداعَى مِنْ دُورِها وَمَعابِدِها، وَأَقامُوا عَلَى أَنْقاضِها صُرُوحًا باذِخَةً وَمَعابِدَ فَخْمَةً، بَعْدَ أَنْ جَلَبُوا كِبارَ مُهَنْدِسِي الْهِنْدِ، وَبَذَلُوا لَهُمْ ما وَسِعَهُمْ مِنْ تَشْجِيعٍ وَمالٍ، فَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ قَلِيلٌ حَتَّى أَصْبَحَتْ حاضِرَةُ مُلْكِهِمْ أَفْخَمَ حَواضِرِ الْهِنْدِ، وَأَصْبَحَ قَصْرُ جَدِّهِمْ يَتَضاءَلُ بِالْقِياسِ إِلَى قَصْرِهِمُ الَّذِي تَخَيَّرُوا لَهُ أَحْسَنَ مَيْدانٍ، وَتَأَنَّقُوا فِي هَنْدَسَتِهِ وَزَخْرَفَتِهِ، حَتَّى غَدا جَدِيرًا بِسُكْنَى أَمِيرَةِ «الْبَنْغالِ». وَأَقامُوا دارًا عَظِيمَةً يَرْتادُها الْمُطالِعُونَ، وَجَلَبُوا ما اسْتَطاعُوا مِنْ نَفائِسِ الْكُتُبِ.
وَزَخَرَتِ الْحاضِرَةُ بَعْدَ أَنْ أَقْبَلَ عَلَيْها النَّاسُ مِنْ كُلِّ صُقْعٍ، فَدَبَّتِ الْحَياةُ فِي أَرْجائِها، وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ أَصْبَحَتْ مِنْ أَغْنَى حَواضِرِ الْهِنْدِ وَأَحْفَلِها بِالسُّكَّانِ. فَلَمَّا تَمَّ لأَبْناءِ «الشَّهِيدِ» ما أَرادُوا، وَجَّهُوا جُهُودَهُمْ لإِصْلاحِ ما جاورَها مِنَ الْبِلادِ، فَصَنَعُوا بِها صَنِيعَهُمْ بِالْعاصِمَةِ، وَشَقُّوا الْجَداوِلَ فِي الْمَزارِعِ، وَأَقامُوا الْجُسُورَ، والدَّساكِرَ والدُّورَ، وَما زالُوا يَتَعَهَّدُونَها بَلَدًا بَعْدَ آخَرَ، حَتَّى أَصْبَحَتْ قُراها وَمَدائِنُها تُنافِسُ الْحاضِرَةَ فِي الثَّرْوَةِ وَالْعُمْرانِ، حافِلَةً بِمَعاهِدِ الْعِلْمِ، وَأَسْواقِ التِّجارَةِ، وَحَمَّاماتِ السِّباحَةِ، والْبَساتِينِ والْمُرُوجِ والْمُتَنَزَّهاتِ.
فَلَمَّا عادُوا بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُمْ ما أَرادُوا، فَكَّرُوا فِي إِقامَةِ مِهْرَجانٍ عَظِيمٍ ابْتِهاجًا بِتَتْوِيجِ أَخِيهِمُ الأَكْبَرِ. وَدَعَوْا إِلَيْهِ مَنْ جاوَرَهُمْ مِنْ مُلُوكِ الْهَنْدِ وَأُمَرائِها، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ دَعْوَتِهِمْ أَبْناءَ عَمِّهِمْ، بِرَغْمِ ما يَعْرِفُونَهُ مِنْ بُغْضِهِمْ لَهُمْ وَعَداوَتِهِمْ. وَكانَ «دُرْيُدْهانا» — كَما عَلِمْتَ — شائِنًا لَهُمْ حَقُودًا، مُضْطَغِنًا عَلَيْهِم حَسُودًا. وَكانَ كَما رَأَيْتَ لا يَفْتُرُ حَسَدُهُ، وَلا يَهْدَأُ حِقْدُهُ، وَلا يَفْرُغُ كَيْدُهُ، فَلَمَّا شَهِدَ الْمِهْرَجانَ، وَرَأَى ما دَبَّ فِي مُلْكِهِمْ مِنَ الْعُمْرانِ، وَشَهِدَ مَدِينَةَ «اندربرشتا» الَّتِي شَيَّدُوها عَلَى أَجْمَلِ طِرازٍ وَأَبْهَى غِرارٍ، وَرَأَى قَصْرَهُمُ الْعَظِيمَ تَحُفُّهُ الْمُرُوجُ والْبَساتِينُ، امْتَلأَ قَلْبُهُ بِالْغَيْظِ وَالْحَنَقِ، فَكادَ يَحْتَرِقُ، وَكادَتْ مَرارَتُهُ تَنْشَقُّ. وَضاعَفَ مِنْ بُغْضِهِ وَشَنآنِهِ، وَزادَ فِي غَضَبِهِ وَأَحْزانِهِ، ما جَرَّهُ إِلَيْهِ الْغَيْظُ مِنْ حَيْرَةٍ وَغَفْلَةٍ أَذْهَلاهُ، وَغَطَيا عَلَى بَصَرِهِ وَأَعْمَياهُ، فَراحَ يَتَخَبَّطُ فِي طَرِيقِهِ وَيَتَعَثَّرُ، فِي غَيْرِ هَدْيٍ وَلا تَبَصُّرٍ، وَهَمَّ بِدُخُولِ إِحْدَى حُجُراتِ الْقَصْرِ، وَكانَتْ أَرْضُها مِنَ الْبَلُّورِ فَحَسِبَها بِرْكَةَ ماءٍ، فَشَمَّرَ عَنْ ساقَيْهِ حَتَّى لا تَبْتَلَّ ثِيابُهُ.
ثُمَّ أَفاقَ مِنْ ذُهُولِهِ، فَأَدْرَكَ خَطَأَهُ، فَخَجِلَ مِمَّا صَنَعَ. وَتَعالَتْ ضَحِكاتُ السَّاخِرِينَ، فَزادَتْ فِي حَيْرَتِهِ، فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى رُدْهَةِ الْقَصْرِ رَأَى فِي وَسَطِها بِرْكَةَ ماءٍ، فَحَسِبَها بَلُّورًا، فَوَقَعَ فِيها. واشْتَدَّ ارْتِباكُهُ حِينَ اعْتَرَضَهُ بابٌ زُجاجِيٌّ لا يَعْتَرِضُ الْعَيْنَ لِشُفُوفِهِ، وَلا يَحْجُبُ ما وَراءَهُ لِصَفائِهِ. وَكانَ زُجاجُ الْقَصْرِ — نَوافِذِهِ وَأَبْوابِهِ — آيَةً فِي صَفاءِ مَعْدِنِهِ، وَرِقَّةِ مُسْتَشَفِّهِ (الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْظُرُ فِيهِ فَتَرَى ما وَراءَهُ) كَأَنَّما عَناهُ «ابْنُ الرُّومِيِّ» الشَّاعِرُ الْمُبْدِعُ بِقَوْلِهِ:
فَأَخْطَأَتْهُ عَيْنا «دُرْيُدْهانا»، وَلَمْ يَفْطُنْ إِلَيْهِ حِينَ رَآهُ، فَكَسَرَهُ وَهُوَ يُحاوِلُ أَنْ يَجْتازَهُ وَيَتَخَطَّاهُ. وَتَوالَى خَطَؤُهُ، وَلَجَّ بِهِ عِثارَهُ، فَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ الْكَيْدَ والانْتِقامَ. وَلَمَّا عادَ إِلَى بَلَدِهِ أَعَدَّ لانْتِقامِهِ خُطَّةً ماكِرَةً. وَكانَ يَعْلَمُ أَنَّ كَبِيرَ أَبْناءِ «الشَّهِيدِ» يَفُوقُهُ فِي فُنُونِ الرِّمايَةِ وَمْيَدانِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ مُجاراتِهِ فِي النَّرْدِ والشَطَرَنْجِ وَما إِلَيْهِما مِنْ فُنُونِ اللَّعَبِ. وَكانَتِ الإِمارَةُ وَالْفُرُوسِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ — لِسُوءِ الْحَظِّ — لا تَكْمُلانِ إِلَّا بِإِجادَتِهِما والْبَراعَةِ فِيهِما. وَقَدْ عَرَفَ ابْنُ «الضَّرِيرِ» أَنَّ ابْنَ عَمِّهِ سَرِيعُ الْغَضَبِ إِذا غُلِبَ. وَهَذا مَكْمَنُ ضَعْفِهِ، وَمَجالُ هَزِيمَتِهِ. وَلا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْغَضَبَ إِذا اسْتَوْلَى عَلَى صاحِبِهِ سَلَبَهُ عَقْلَهُ، وَمَكَّنَ عَدُوَّهُ مِنْ مَقْتَلِهِ. وَكانَ قانُونُ الْفُرُوسِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ — حِينَئِذٍ — يَقْضِي عَلَى الْفارِسِ أَنْ يُلَبِّيَ دَعْوَةَ مَنْ يَتَحَدَّاهُ إِذا دَعاهُ إِلَى الْحَرْبِ، أَوْ دَعاهُ إِلَى الشَّطَرَنْجِ والنَّرْدِ. فَإِذا تَرَدَّدَ فِي قَبُولِ تَحِدِّيهِ أَوْ رَفَضَ دَعْوَتَهُ، فَقَدَ مَكانَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ. وَأَضاعَ صِيتَهُ وَسُمْعَتَهُ. وَكانَ أَوَّلُ ما بَدَأَ بِهِ ابْنُ «الضَّرِيرِ» بَعْدَ أَنْ عادَ إِلَى حاضِرَةِ مُلْكِهِ، أَنْ وَجَّهَ الدَّعْوَةَ لابْنِ عَمِّهِ لِلْحَفْلَةِ الَّتِي أَعَدَّها لِتَكْرِيمِهِمْ والْحَفاوَةِ بِهِمْ، تَقْدِيرًا لِما وُفِّقُوا إِلَيْهِ مِنْ نَجاحٍ فِي تَجْدِيدِ مَمْلَكَتِهِمْ.
فَلَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا قَبُولُ دَعْوَتِهِ. وانْتَهَزَ ابْنُ «الضَّرِيرِ» فُرْصَةَ الْحَفاوَةِ بِهِمْ لِتَنْفِيذِ ما دَبَّرَهُ، فالْتَفَتَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ «يُدِشتِ-هِيرا» يَدْعُوهُ فِي تَحَدٍّ وَإِصْرارٍ إِلَى النَّرْدِ، فَوَجَمَ الأَمِيرُ وامْتُقِعَ وَجْهُهُ (اصْفَرَّ)، وَسَأَلَهُ أَنْ يُعْفِيَهُ. فَأَجابَهُ ابْنُ «الضَّرِيرِ»: «يالَلْعارِ! أَهَكَذا يَسْتَوْلِي عَلَيْكَ الْخَوْفُ والْجُبْنُ فَتَهْرُبَ مِنَ الْمَيْدانِ؟»
فَغَضِبَ ابْنُ «الشَّهِيدِ» وَثارَ، وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِلْفِرارِ.
وَبَدَأَتِ الْمُباراةُ، والْتَفَّ حَوْلَهُما رِجالُ الْقَصْرِ يَمْرَحُونَ وَيَتَفَكَّهُونَ، وَتَوَجَّسَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» شَرًّا، فَخَيَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّمْتُ والْوُجُومُ. وانْتَحَوْا مَكانًا قَرِيبًا وَهُمْ عَلَى ثِقَةٍ بِسُوءِ الْعاقِبَةِ، وَلَكِنْ لا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِ الْمَقْدُورِ، وَقَدْ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى وَسِيلَةٍ تُخْرِجُهُمْ مِنَ الْمَأْزِقِ الَّذِي وَرَّطَهُمْ فِيهِ ابْنُ «الضَّرِيرِ». وانْتَهَتِ الْجَوْلَةُ الأُولَى بِهَزِيمَةِ «يُدِشتِ-هِيرا»، فَشَحَبَ وَجْهُهُ وارْتَعَشَتْ يَداهُ، وَأَسْلَمَهُ الْغَضَبُ إِلَى مُضاعَفَةِ الرِّهانِ. فَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُ فِي الْجَوْلَةِ الثَّانِيَةِ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْجَوْلَةِ الأُولَى، فاحْتَدَمَ غَضَبُهُ وَزادَ رِهانَهُ. وَما زالَ يَشْتَدُّ بِهِ الْغَضَبُ فَيَزِيدُ فِي الرِّهانِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وانْقَضَتِ السَّاعاتُ، وَسادَ الصَّمْتُ وَأَطْبَقَ السُّكُونُ عَلَى الْحاضِرِينَ. وَما زالَ الْمُتَبارِيانِ، يَزِيدانِ فِي الرِّهانِ وَيُضاعِفانِ، حَتَّى تَمَّتِ الْغَلَبَةُ لابْنِ «الضَّرِيرِ» عَلَى ابْنِ عَمَّهِ. وَأَضاعَ ابْنُ «الشَّهِيدِ» كُلَّ ما يَمْلِكُ هُوَ وَإِخْوَتُهُ مِنْ ثَرْوَةٍ وَمالٍ.
فَهَلْ وَقَفَ عِنْدَ هَذا الْحَدِّ؟ كَلَّا، بَلْ أَسْلَمَهُ الْغَضَبُ إِلَى ما يُشْبِهُ الْجُنُونَ فَصاحَ قائِلًا: «أُراهِنُ بِقَصْرِي.» فَلَمَّا أَضاعَهُ، قالَ: «مَمْلَكَتِي، إِخْوَتِي، نَفْسِي.» وَسُرْعانَ ما فَقَدَهُمْ جَمِيعًا، وَأَصْبَحَ أَبْناءُ «الشَّهِيدِ» خَدَمًا لابْنِ عَمِّهِمْ عَبِيدًا. واسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَبالُ فَقالَ: «هَلْ بَقِيَ لِي شَيْءٌ أُراهِنُ عَلَيْهِ؟» فَأَجابَهُ الْماكِرُ الْخَبِيثُ: «بَقِيَتْ زَوْجَتُكَ» فَقالَ: «نَعَم نَعَم وَسَأُراهِنُ بِها أَيْضًا.» وَسُرْعانَ ما أَضاعَ زَوْجَتَهُ، كَما أَضاعَ مالَهُ وَثَرْوَتَهُ، وَنَفْسَهُ وَإِخْوَتَهُ، وَهُنا صاحَ ابْنُ «الضَّرِيرِ» صَيْحَةَ الْفائِزِ الْمُنْتَصِرِ ساخِرًا مُسْتَهْزِئًا:
«الآنَ تَمَّ لِيَ النَّصْرُ عَلَيْكُمْ، فَأَصْبَحَتُ لَكُمْ سَيِّدًا، وَأَصْبَحَتُمْ لِي عَبِيدًا، أَتَصَرَّفُ فِي أَمْوالِكُمْ وَبِلادِكُمْ وَكُنُوزِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ كَما أَشاءُ. الآنَ أَشْفِي غَلِيلِي، فَآمُرُ بِنَفْيكُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ عامًا كامِلَةً، كَما آمُرُ أَنْ تُصْبِحَ زَوْجَتُكَ «دُرُوپادِي» مُنْذُ الآنَ فِي قَصْرِي أَمَةً ماهِنَةً (مُسْتَعْبَدَةً خادِمَةً) تُنَظِّفُ طَرِيقِي مِنَ الْغُبارِ، أَنَّى ذَهَبْتُ وَحَيْثُما سِرْتُ.»
وَهُنا دَوَّى صَوْتٌ نُسْوِيٌّ يَقُولُ مُتَحَدِّيًا: «ذَلِكَ ما لا يَكُونُ؛ كَلا لَنْ يَكُونَ ما تُرِيدُ أَيُّها الشَّيْطانُ الْمَرِيدُ.» وَتَلَفَّتَ الْحاضِرُونَ فَرَأَوْا «دُرُوپادِي» قادِمَةً عَلَيْهِمْ فِي ثَوْبِها الْجَمِيلِ، وَسَمِعُوها تُتِمُّ ما بَدَأَتْهُ مِنْ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ. فَكَيْفَ قَدِمَتْ؟ كانَ قَلْبُها يُحَدِّثُها بِما جَرَى بَيْنَ أَبْناءِ الْعَمِّ. وَهَتَفَ بِها هاتِفٌ مِنَ الْغَيْبِ بِأَنَّ قَضاءً قاهِرًا يَنْتَظِرُ زَوْجَها وَإِخْوَتَهُ فِي «هَسْناپُورا» فَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِ لِتُنْذِرَهُ وَتُحَذِّرَهُ، فَلَمْ تَصِلْ إِلَّا نَئِيشًا (بَعْدَ فَواتِ الْوَقْتِ). وَرَأَتْ ما يَرْتَسِمُ عَلَى وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ وُجُومٍ وَحَسْرَةٍ، وارْتِباكٍ وَحَيْرَةٍ، فَقالَتْ: «حَدِّثُونِي أَيُّها السَّادَةُ بِما جَدَّ مِنْ شَأْنٍ، وَما حَدَثَ مِنْ أَمْرٍ.» فَقَصَّ عَلَيْها «أَرْجُونا» — فِي لَهْجَةٍ حَزِينَةٍ — تَفْصِيلَ ما حَدَثَ. فارْتَسَمَتْ عَلَى ثَغْرِها ابْتِسامَةُ الطُّمَأْنِينَةِ والثِّقَةِ، وَقالَتْ مُسائِلَةً: «خَبِّرُونِي أَيُّها السَّادَةُ. أَيَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَمْلِكَ؟ أَيْسَتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَهَبَ (يَمْنَحَ)؟ أَيْسَتَطِيعُ مَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ أَنْ يَبِيعَ مَنْ يَمْرَحُ فِي بَحْبُوحَةِ الْحُرِّيَةِ؟» فاقْتَنَعَ بِكلامِها الْحاضِرُونَ، مُؤْمِنِينَ بِصَوابِ ما قالَتْهُ مُصَدِّقِينَ. واجْتَمَعَ الرَّأْيُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لا يَمْلِكُ. فاسْتَأْنَفَتْ قائِلَةً مُوَجِّهَةً حَدِيثَها إِلَى ابْنِ «الضَّرِيرِ»: «فَكَيْفَ يَجُوزُ لِعَبْدٍ فَقَدَ نَفْسَهُ وَسُلِبَ حُرِّيَّتُهُ أَنْ يَبِيعَ امْرَأَةً وَلَوْ كانَتْ زَوْجَتَهُ؟» وَهُنا لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يُنَكِّسَ رَأْسَهُ نازِلًا عَلَى حُكْمِها، مُسَلِّمًا بِرَأْيها. فاسْتَأْنَفَتْ قائِلَةً: «وَقَدْ وَجَبَ عَلَيَّ أَنْ أَصْحَبَ زَوْجِي وَإِخْوَتَهُ فِي شَقاوَتِهِمْ وَمِحْنَتِهِمْ، كَما صَحِبْتُهُمْ فِي هَناءَتِهِمْ وَسَعادَتِهِمْ. وَسَتَرَى كَيْفَ نَعُودُ مِنَ الْمَنْفَى سالِمِينَ، مُتَحَفِّزِينَ لِلانْتِقامِ مُسْتَعِدِّينَ.»
وَلَمْ يَتَمالَكْ سَراةُ الْمَمْلَكَةِ وَأَعْيانُها أَنْ يُصَفِّقُوا لَها، إِعْجابًا بِشَجاعَتِها وَهِمَّتِها. وَكانُوا — بِرَغْمِ ما يُعْلِنُونَ مِنْ طاعَةِ الطَّاغِيَةِ — يُضْمِرُونَ لَهُ الْكَراهِيَةَ والْمَقْتَ، كَما يُضْمِرُونَ لأَبْناءِ عَمِّهِ الْمَوْدَّةَ والْحُبَّ.
فاحْمَرَّ وَجْهُ الطَّاغِيَةِ غَضَبًا، وَعَضَّ شَفَتَهُ وَهُوَ يَكادُ يَتَمَيَّزُ (يَتَشَقَّقُ) مِنَ الْغَيْظِ والْحَنَقِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى إِنْكارِ حَقِّ الأَمِيرَةِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّها الْحاضِرُونَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَكْتُمَ غَضَبَهُ وَيَكْظِمَ غَيْظَهُ فَصاحَ قائِلًا: «لِيَكُنْ لَكِ ما تُرِيدِينَ، فاذْهَبِي حَيْثُ تَشائِينَ، وانْطَلِقِي فِي صُحْبَةِ زَوْجِكِ التَّاعِسِ إِلَى مَنْفاهُ، وَشارِكِيهِ فِيما يُكابِدُهُ وَيَلْقاهُ، وانْعَمِي بِحَياةِ الشَّقاءِ بَيْنَ نُسَّاكِ الْغابَةِ، فَرُبَّما اسْتَطاعَتْ أَعْوامُ النَّفْيِ الطُّوالُ أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ عَجْرَفَتِكِ وَغُلَوائِكِ، وَتُذِلَّ مِنْ صَلَفِكِ وَكِبْرِيائِكِ، بَعْدَ أَنْ تُذْبِلَ شَبابَكِ وَتُذْهِبَ جَمالَكِ.»
ثُمَّ شَفَّعَ وَعِيدَهُ بِابْتِسامَةٍ غادِرَةٍ، أَتْبَعَها بِضَحِكَةٍ ساخِرَةٍ، وانْطَلَقَ فِي طَرِيقِهِ مُسْرِعًا.
وَحانَتْ ساعَةُ الْفِراقِ، فَشَيَّعَهُمْ صَفْوَةٌ مِنْ خُلَصائِهِمْ وَأَصْفِيائِهِمْ إِلَى بابِ الْمَدِينَةِ، واسْتَوْلَى الأَسَى والْحُزْنُ عَلَى جَدِّهِمْ «بِهِشْما» حِينَ رَأَى ضَعْفَ الشَّيْخُوخَةِ يُعْجِزُهُ عَنِ الْوُقُوفِ فِي وَجْهِ حَفِيدِهِ، لِرَدِّ عُدْوانِهِ، وَكَفِّهِ عَنْ طُغْيانِهِ. وَقالَ لِوَلَدِهِ «درستراسا» الضَّرِيرِ، مُتَحَسِّرًا: «أَرَأَيْتَ كَيْفَ عَصَفَ بِأُسْرَتِنا الْقَضاءُ، وَأَلْهَبَ فِي قُلُوبِها نارَ الْكَراهِيَةِ والْبَغْضاءِ؟ وَهَيْهاتَ أَنْ يَنْعَمُوا بَعْدَ الْيَوْمِ بِما يَنْعَمُ بِهِ الأَقارِبُ مِنْ صَفاءٍ، وَمَحَبَّةٍ وَوَفاءٍ وَسَتَرَى كَيْفَ يَعُودُ أَبْناءُ أَخِيكَ إِلَى الْقِتالِ، بَعْدَ انْقِضاءِ أَعْوامِ النَّفْيِ الطِّوالِ.»
وَأُرْتِجَ عَلَى «الضَّرِيرِ» وَلَمْ يُسْعِفْهُ الْجَوابُ. وَكادَ النَّدَمُ يَقْتُلُهُ عَلَى ما أَسْلَفَ لأَوْلادِ أَخِيهِ مِنْ إِساءَةٍ، وَما دَبَّرَهُ — مَعَ وَلَدِهِ — مِنْ كَيْدٍ خَسِيسٍ، كادَ — لَوْلا لُطْفُ اللهِ — يُلْقِي بِهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
ومِنْ عَجائِبِ ما حَدَّثَنا بِهِ رُواةُ هَذِهِ الْمَأْساةِ، ما شَهِدَهُ سُكَّانُ «هَسْناپُورا» فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْحافِلِ بِأَعْنَفِ الذِّكْرَياتِ. فَقَدْ سَمِعُوا عَقِبَ خُرُوجِ الأُمَراءِ مِنْ بابِ الْمَدِينَةِ دَوِيًّا وَجَلْجَلَةً كَهَزِيمِ الرَّعْدِ، خَيَّلا إِلَيْهِمْ أَنْ الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ زِلْزالَها. وَأَقْبَلَ ظَلامُ اللَّيْلِ فَمَحا آيَةَ النَّهارِ.