الفيلسوف تين
سيداتي، سادتي
أما الفيلسوف الذي أريد أن أحدثكم عنه الليلة، فالحديث عنه يحتاج إِلى عناية خاصة؛ لأن حياته العادية يسيرة جدًّا، ليس فيها ما تعودتم أن تسمعوه من الاضطراب ومن اختلاف الظروف، ومن هذه الطوارئ الكثيرة التي تمس حياة عظماء الرجال.
ومن العسير جدًّا أن أتحدث إِليكم ساعة كاملة عن الحياة العادية لهذا الفيلسوف «تين» كما تحدثت إِليكم عن «فولتير» أو «جان جاك» أو «رينان»، فأنا إِذن سأحدثكم حديثًا علميًّا ولكن أخشى أن يكون جافًّا بعض الشيء؛ لأني سأتحدث إِليكم عن مذهبه أو مذاهبه في العلم والفلسفة والتاريخ والأدب، إِذن فالحديث غير رائق ولا مريح وقد يدعو إِلى تفكير وإِلى تأمل، وأظن أن التفكير العميق، والتأمل بعد الإِفطار وفي رمضان ليسا من الأشياء التي يستريح إِليها الناس كثيرًا، فقد أرادت الظروف أن يكون الحديث عن «تين» في هذا الوقت.
وُلِد تين في أواسط القرن التاسع عشر بالضبط سنة ١٨٢٨م، بعد رينان بنحو خمسة أعوام، ونشأ في شمال فرنسا، في أسرة من الطبقة الوسطى أيضًا كغيره من الفلاسفة الذين تحدثت إِليكم عنهم، كان أبوه موثِّقًا كما كان أبو فولتير موثِّقًا أيضًا، وكان من أسرة بروتستانتية، وقد بدأ حياته كغيره من شبان الطبقة الوسطى في مدرسة من المدارس العادية في موطنه، ثم انتقل إِلى باريس فأتم دراسته الثانوية هناك، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى كان قد أتم هذه الدراسة، ثم تقدم في التحصيل واستطاع أن يدخل مدرسة المعلمين العليا، ومدرسة المعلمين في ذلك الوقت أرقى مدرسة في فرنسا للدراسة العلمية والأدبية والفلسفية أيضًا، وهي المدرسة التي أخرجت لفرنسا في القرن الماضي — وما تزال تُخرج لها حتى الآن — أدباءها وفلاسفتها وشعراءها وكُتابها ووزراءها أيضًا، في هذه المدرسة اتصل تين بجماعة من كبار الأساتذة الفرنسيين، وجماعة من الطلاب الذين كان لهم أعظم الأثر في حياة فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي.
أتم تين دراسته في نحو سنة ١٨٥١ وتقدم للامتحان الذي يتقدم إِليه عادةً طلاب هذه المدرسة، امتحان الأجريجاسيون وهو امتحان الأستاذية للثانوي، ولكنه لم ينجح، ثم ترك المدرسة واشتغل بالتعليم في بعض الكليات في الأقاليم، وبعد ذلك بنحو سنة أو أكثر بقليل كان في فرنسا الانقلاب الذي أحدثه نابليون الثالث، وكان أول أثر لهذا الانقلاب في الحياة العقلية الفرنسية أن ساء الظن بين الجامعة والحكومة، وأساءت الحكومة رأيها في الجامعة إِلى أقصى حد، وفرضت سلطانها عليها، وتتبَّعت أساتذتها بالمراقبة فيما يقولون وفيما يفعلون، واجتهدت في أن تُبعد عن التدريس من يظهر في دروسه أو في سيرته أنه محب للحرية أو مؤيد لها أو داعٍ إِليها أو عاطف على النظام القديم نظام الجمهورية، أو مناصر للثورة الفرنسية، وكان تين من هؤلاء فأُبعد عن نفير ونُقل إِلى مكان آخر، فأخذ يعلِّم فأحس نفس الضغط الذي أحسه في كليته الأولى، واضطر إِلى أن يطلب إِلى وزارة المعارف أن تمنحه إجازة طويلة، فأسرعت إِلى ما كان يريد فتخلصت منه، وتخلص هو منها أيضًا، ومنذ ذلك الوقت انقطع تين لشيئين: الدراسة العلمية الخالصة من ناحية، والأسفار والتجول من ناحية أخرى، وانقطع للبحث والتأليف، وفي سنة ١٨٥٢ تقدم إِلى السوربون برسالة للدكتوراه في الحس فرُفضت هذه الرسالة؛ لأنها كانت متأثرة بالآراء الجديدة إِلى حدٍّ ما.
ثم تقدم برسالة أخرى للدكتوراه فقُبلت وظفر بهذه الدرجة الجامعية العليا، وكانت هذه الرسالة قد كُتبت عن الشاعر الفرنسي العظيم «لافونتين»، أخذ تين يجوب في أنحاء أوروبا؛ في فرنسا، وإنجلترا، وإِيطاليا، وألمانيا، وهولندا، وهو في أثناء هذا كله مشتغلٌ بالبحث والتأليف، يُظهر كتابًا إِثر كتاب، حتى عُيِّن بعد أكثر من عشر سنين مدرسًا في مدرسة الفنون الجميلة، وأخذ يلقي فيها محاضرات في الفن وفلسفته وتاريخه كما أخذ يكتب في الصحف، ثم كانت الحرب بين فرنسا وألمانيا، وكانت الهزيمة الفرنسية، ثم الثورة أو الحرب المدنية في فرنسا، وكان لهذه الحركات تأثير عميق جدًّا واضطرته إِلى أن يدرس الحياة الفرنسية درسًا دقيقًا عميقًا، فأخذ يطبع كتابه عن أصول فرنسا الحديثة، وكان غرضه أن يدرس الحياة الفرنسية في هذا العصر؛ كيف نشأت؟ وما هي المؤثرات التي دعت هذه الحياة أن تتطور من الثورة الفرنسية أولًا، ثم قيام الإِمبراطورية، ثم ما حدث بعد ذلك من تطورات إِلى أن كانت الحرب والهزيمة؟
ثم مضى تين في حياته هذه لا يكاد ينصرف بحالٍ من الأحوال عن الدرس والبحث وتأليف الكُتب والكتابة في الصحف إِلى أن مات في أواخر القرن الماضي بعد وفاة رينان بعامٍ واحد سنة ١٨٩٣.
هذه خلاصة حياة هذا الرجل، وأنتم ترون أنها بسيطة، ليس فيها شيء غريب وليس فيها هذا الاضطراب، ولا هذه التطورات العنيفة التي رأيتموها في فولتير وجان جاك ورينان، ومع ذلك فليس يعرف القرن التاسع عشر رجلًا أثَّر في حياة الشعب الفرنسي، وفي حياته العقلية خاصة كما أثَّر الفيلسوف تين، كان صديقًا لرينان، وكان منازعًا لرينان — إِن صح هذا التعبير — ينازعه العقل الفرنسي، وعقل الشباب الفرنسي بنوعٍ خاص، تين ورينان هما الأستاذان اللذان خضع الشباب الفرنسي لهما خضوعًا تامًّا نحو ثلاثين عامًا من سنة ١٨٦٠ إِلى ١٨٩٠، أو ١٨٩٢ أو ١٨٩٣، على أن بين هذين الصديقين اختلافًا عظيمًا جدًّا؛ فقد رأيتم عن رينان أنه كان متجهًا أول أمره إِلى حياة رجال الدين يهيئ نفسه لأن يكون قسيسًا، وأنه انصرف إِلى العلم عن الكنيسة وعن حياة القُسُس، ثم مضى في حب العلم والفلسفة الدينية، ثم عُنِيَ بالتاريخ الديني — بتاريخ المسيحية خاصة — إِلى أن أنفق حياته، أما تين فلم يفكر مطلقًا أن يكون رجلًا من رجال الدين، إِنما كان تفكيره متجهًا إِلى الحياة العلمية الخالصة، على أنه قد صادف مثل ما صادفه رينان في حياته العلمية الأولى؛ صادف الفلسفة الألمانية في حياته فتأثر بها أشد التأثر، صادف فلسفة هيجل كما صادفها رينان وتأثر بها كما تأثر بها رينان، ولكن يظهر أن تين عُني بالعلم التجريبي عناية تفصيلية دقيقة، عناية مباشرة لا كعناية رينان، فقد عرف رينان قيمة العلم التجريبي بواسطة صديقه برتلو، أما تين فإِنه عرف قيمة العلم التجريبي وخطره من تجاربه الخاصة، وكان رينان مؤمنًا بالعلم يُكبره كما كان يُكبر الدين حين كان يدرس الدين، ويعتمد عليه في تنظيم حياته الاجتماعية دون أن يعرف تفصيل هذا العلم أو يشارك فيه، وأن يكون له حظ خاص دقيق.
كان تين يشتغل بالعلم بطريقة مباشرة، طريقة تفصيلية دقيقة جدًّا، كان إِذا تحدَّث عن العلم تحدَّث عنه وهو عالِمٌ به مشارك فيه، وكان يؤمن بالعلم إِيمان اجتهاد خالص، على حين كان غيره يؤمن بالعلم إِيمانًا لا يخلو من التقليد، ومن هنا ظهر الفرق العظيم بين الرجلين في تصور العلم؛ فتين لم يتخذ من العلم دينًا، ولم يفهم العلم على أنه مسيطر على الحياة الإِنسانية، ولا أنه مصلح لهذه الحياة، ولا صالح لأن يكون دينًا للإِنسانية كلها، ولا على أن العلماء يستطيعون أن يُكَوِّنوا كنيسة كما يُكَوِّن رجال الدين كنيسة؛ نظر إِلى العلم على أنه أداة إِلى الفهم ليس غير، نظر إِلى العلم على أنه وسيلة إِلى المعرفة لا أكثر ولا أقل في الوقت الذي كان رينان ينظر إِليه على أنه غاية.
بين مزاج هذين الرجلين؛ مزاج رينان الذي لم يستطع إِلا أن يكون قسيسًا، فقد كان قسيسًا دينيًّا في أول الأمر، ثم أصبح قسيسًا علميًّا بعد ذلك، ثم انتهى إِلى أن أصبح قسيسًا من قسس الشك في آخر حياته، ومزاج تين الذي لم يكن إِلا عالِمًا وعالِمًا بالمعنى الدقيق دائمًا؛ بين هذين المزاجين اختلاف عظيم هو مظهر الفرق بين الآثار التي تركها رينان والآثار التي تركها تين؛ فالآثار التي تركها رينان — كما رأيتم — أكثرها يمس الدين، فإِذا بَعُد رينان عن تاريخ الدين المسيحي أو الإِسرائيلي فإِنه يبعد عن هذه الأشياء ليعود إِليها مرة أخرى، وكان إِذا درس اللغات السامية درسها من حيث هي وسيلة إِلى درس تاريخ المسيحيين أو الإِسرائيليين، وإِذا درس العلم أو نظر فيه، فإِنه ينظر إِليه على النحو الذي قدمته إِليكم، على أنه علم يوشك أن يكون دينًا في المستقبل، أما تين فإِنه لا يدرس العلم إِلا من حيث إِنه أداة المعرفة والفهم، وهو إِذا كتب فهو يكتب في أشياء لا تتجاوز العلم، وإِنما هي العلم نفسه حتى عندما كان يدرس الأدب أو التاريخ.
وأول كتاب أذاعه تين عن لافونتين، وهو الرسالة التي نال بها درجة الدكتوراه، كان في ظاهره كتابًا أدبيًّا، ولكنه في حقيقته بحث فلسفي من أعمق الأبحاث الفلسفية؛ فهو في هذا الكتاب لا يدرس الأدب كما تعوَّد الناس أن يدرسوه، على نحو فيه بحث عن مظاهر الجمال والحُسن، وغيرها من هذه المظاهر التي تخلب النفوس وتثير العواطف، إِنما يدرس أدب لافونتين على أنه ظاهرة من ظواهر الحياة في عصر لافونتين، كما تُدرس الظواهر الكيميائية بالضبط، وهو في مقدمة هذا الكتاب يرى أن الإِنسان حيوان يُنتج الأدب والفلسفة، كما أن دودة القز تنتج القز، وكما أن الأرض تنتج ما تنتج من نبات، وإِذن فيجب أن يُدرس هذا الحيوان الذي ينتج الأدب، كما تُدرس دودة القز التي تنتج القز، والأرض التي تنتج النبات، وهو من هذه الناحية، يوشك أن يكون ماديًّا، وهو مسرف في التأثر بالفلسفة وبالعلم إِسرافًا يوشك أن يكون ماديًّا، وهو مسرف في التأثر بالفلسفة وبالعلم إِسرافًا يوشك أن يُخرِج الأدب عن طوره الذي ألِفَه الناس؛ فهو عندما يدرس شعر شاعر من الشعراء أو نثر كاتب من الكُتاب ليس يعنيه ما سيجده في هذا الشعر من جمال، أو ما سيثيره هذا النثر من العاطفة، إِنما الذي يعنيه نفس الشاعر الذي أنتج الشعر والكاتب الذي أنتج النثر، وهو عندما يُعْنَى بنفس الشاعر أو الكاتب، فهو يعنى بالشاعر أو الكاتب من حيث هما فردان من أُمة أو جماعة، وهو لا يدرس لافونتين ليذوق شعر لافونتين، إِنما يدرس لافونتين وشعره ليفهم البيئة التي عاش فيها، والأُمة الفرنسية في العصر الذي نشأ فيه لافونتين.
لأجل أن نفهم المذهب الأدبي لتين لا بد من أن نلم إِلمامة قصيرة جدًّا برأيه في الفلسفة عامة والفلسفة الإِنسانية خاصة، لافونتين عند تين ظاهرة يجب أن تُدرس كما تُدرس غيرها من الظواهر العلمية؛ فلا بد إِذن لهذا الدرس من قاعدة ومنهج وهي القاعدة الطبيعية لهذا الفيلسوف، كان تين متأثرًا بالفلسفة الألمانية، والفلسفة الفرنسية الوضعية، فلسفة أوجست كونت، وهو منكر قبل كل شيء لحرية الفرد، ولا أريد الحرية السياسية، ولا الحرية الشخصية، إِنما أريد الحرية الفلسفية، وهو ينكر الاختيار، ويعتقد أن العالم متأثر بطائفة من القوانين تدبره وتسيره دون أن تعرض هذه القوانين للخطأ أو الاضطراب، فهو إِذن من أنصار الجبر، من الذين يعتقدون أن الإِرادة الفردية لا تؤثر في حياة العالم بشكل من الأشكال، وقد سمعتم ما قلته لكم من أن تين يرى أن الإِنسان يُنتج الأدب والفلسفة كما أن دودة القز تنتج القز، وكما أن الأرض تنتج النبات.
فهو يعتقد أن الطريقة لفهم الأشياء والحياة إِنما هي الانتقال من المُركب إِلى البسيط ومن العام إِلى الخاص، وإِذن فهو في طريقته فيلسوف قبل كل شيء، يريد أن يفهم شيئًا من الأشياء فهو لا يعتمد في فهم هذا الشيء إِلا على الحس يرى أو يسمع أو يلمس، والنظر والسمع واللمس ينقل إِلى عقله صورًا، وعقله يعمل في هذه الصور فيجردها ويستخرج هذه الأشياء المحسوسة؛ وهو إِذن من أنصار مذهب الحس، والمتأثرين بالفلسفة الإِنجليزية الحديثة ومذهب لوك خاصة، وهو مُعرِض عما بعد الطبيعة لا يرى للإِنسان وسيلة إِلى العلم إِلا بالحس، هو لا يؤمن بما بعد الطبيعة، ولكنه لا يجحده وإِنما يقول لا أراه فلا أعرفه؛ من الممكن أن يكون ما بعد الطبيعة موجودًا ولكن لا سبيل إِلى الحس به، وهذا رأيه في الإِله؛ فهو يقول: من الممكن أن يكون الإِله موجودًا وأن يكون لهذا الكون خالق، ولكني لا أراه فلا سبيل إِلى أن أعرفه، فأنا لا أعرف الله معرفة علمية، ولكني لا أجحده جحودًا علميًّا؛ فالإِله شيء قد يكون موجودًا وقد لا يكون موجودًا.
فإِذا انتقل إِلى دراسة الإِنسان فرأيه في الإِنسان رديء؛ هو يعتقد أننا إِذا درسنا نفس الإِنسان وجدناها تنحلُّ إِلى شيئين اثنين: الإِنسان قبل كل شيء حيوان متوحش، وهو بطبيعته كغيره من الحيوانات الضارية المفترسة تهذبه الحضارة شيئًا فشيئًا، وما زالت به تهذبه وترققه حتى أخفت غرائزه هذه المنكرة، فالإِنسان بحياته أو بصورته الطبيعية شرير والحضارة أخفت غريزة الشر فيه وجعلته مثقفًا إِلى حدٍّ ما، فإِذا عرض لهذه الحضارة ما يزيلها أو يُقِف تأثيرها، ظهر الإِنسان على شكله الأول مفترسًا ضاريًا، وعاد إِلى حياة الطبيعة حياة الإِثم والإِجرام، والإِنسان بعد هذا مجنون وعقله ليس إِلا تكلفًا الأصل فيه أنه لا يستطيع أن يفكر ولا أن يستنبط شيئًا، ولا أن يستخرج حقيقة علمية من الأشياء المحسوسة، إِنما هذا شيء اكتسبه من الحضارة، وهو مع هذا لم يكتسب منه إِلا شيئًا قليلًا، فالإِنسان إِذا فكر فإِنما يفكر في أقل أوقاته، أما في أكثر أوقاته فإِنه يرسل نفسه إِرسالًا، يتخيل أكثر مما يعقل، وهو إِذا تخيل يمضي نحو الجنون أكثر مما يمضي نحو العقل، وهو إِذن يحتقر الإِنسان، وما دام هو مؤمنًا بالجبر منكِرًا للإِرادة مؤمنًا بأن الإِنسان شرير بطبعه، وأن عقل الإِنسان شيء مكتسب؛ فهو غير متفائل بالحياة، وهو ساخط منكِر للناس منكر لحياتهم على اختلافها، وهو في حياته اليومية العملية متأثر بمذهبه الفلسفي؛ فهو مبغض للجماعات مؤْثر للعزلة ما وجد إِليها سبيلًا، لا يتصل بالأندية ولا يختلف إِليها إِلا كارهًا، فإِذا لم يكن له بدٌّ من أن يلقى الناس فهو يلقى جماعات قليلة يختارهم ويصطفيهم من الذين يستطيع أن يتحدث إِليهم في العلم والأدب والفلسفة.
بعد أن تتصوروا فلسفة «تين» على هذا النحو الذي لخصته لكم تلخيصًا ضئيلًا جدًّا يكاد يُفسد هذه الفلسفة، تستطيعون أن تلاحظوا أن إِنتاجه الأدبي قد يكون عميقًا حقًّا، مؤثرًا في العقل وفي الناحية المفكرة، ولكنه لن يكون من هذا الأدب الرائع الذي يسحر ويفتن القلب ويستأثر بالعقل والشعور، فتين لا يريد أن يتحدث لا إِلى القلب ولا إِلى الشعور ولا إِلى العاطفة وإِنما يريد أن يتحدث إِلى العقل.
والغريب أنه مع هذا التضييق الذي فرضه على نفسه قد استطاع أن يُنتج آثارًا أدبية خالدة، ولا شك أن آثاره ستكون أخلد من آثار صديقه وزميله رينان.
أهم نظرية أدبية لتين اعتمد عليها في جميع دراساته الأدبية هي النظرية المشهورة، نظرية تأثر الأديب بما يحيط به من هذه العناصر الثلاثة التي يرى تين أن دراستها هي الدراسة الطبيعية لكل أديب، وهي جنسية الأديب وإِقليمه أو بيئته والعصر الذي يعيش فيه، فليس من سبيل أن نفهم شاعرًا أو فيلسوفًا أو إِنسانًا منتجًا إِلا إِذا عُرفت هذه العناصر الثلاثة. يجب أن تعرف الجنس أو الأُمة أو الجيل الذي نشأ فيه هذا الشاعر أو ذلك الفيلسوف على أنه شخص في هذا الجنس أو الأُمة أو الجيل، ثم ما لهذا الجنس من التأثير في هذا الشاعر أو الفيلسوف، ثم يجب أن تعرف الإِقليم والظروف الطبيعية والاجتماعية التي تحيط به، ثم يجب أن تعرف العصر الذي يعيش فيه، وما يؤثر فيه من المؤثرات المباشرة المعاصرة أو القديمة التي جاءته من التاريخ، ومن كل هذه المؤثرات التي يتأثر بها أي عصر، وتتأثر بها الإِنسانية بوجه عام، وإِذن فالذين كانوا يدرسون الأديب من حيث هو فرد لم يكونوا يوفَّقون في دراستهم، والذين يدرسون الأديب من حيث هو منتج لم يكونوا يوفقون في دراستهم، إِنما كانوا يقتطعون الأديب اقتطاعًا من أُمته أو من عصره، وما دام تين مؤمنًا بأن الحياة الإِنسانية كغيرها خاضعة لقوانين العلم، فليس من سبيل إِلى دراسة الفرد من حيث هو فرد، ولا سبيل إِلى أن يُدرس على أنه فرد، والفرد جزء من أُمة، والأُمة جزء من جنس، والأُمة متأثرة بالإِقليم، متأثرة بالزمان، متأثرة بكل ما يتصل بها من مظاهر الكون والحياة، وعلى هذا النحو كانت دراسة تين الأدبية للشعراء ليست دراسة للأفراد بل هي دراسة أُمم، ودراسة جيل من الأجيال، وهو من هذه الناحية كان خصبًا حقًّا، ويكفي أن تأخذوا أي كتاب من كُتب تين وتقرءوه فستجدونه ممتعًا غنيًّا بالخواطر والآراء والنظرات البعيدة، خذوا كتابه عن لافونتين فستجدون فيه دراسة ممتعة متقنة كل الإِتقان للحياة الفرنسية في عصر هذا الشاعر، خذوا درسه لأي أديب من الأدباء الآخرين فستجدون درسه درسًا لعصر الأديب ولبيئته، وستجدونه قد طبق هذه النظرية أحسن تطبيق ممكن، عندما أراد أن يدرس تاريخ الأدب الإِنجليزي — وهو قد درس تاريخ الأدب الإِنجليزي ليبين صحة هذه النظرية التي أجملتها لكم إِجمالًا — أراد أن يختار حياة أدبية كاملة وأن يُخضع هذه الحياة الأدبية للدرس العلمي الخالص الذي لا يتأثر لا بالأهواء ولا بالعواطف ولا بهذه المؤثرات التي قد تُفسد على الإِنسان تفكيره.
وهذه العناصر التي تكوِّن الحياة الأدبية توجد عند أُمم ثلاث: اليونانية القديمة، والأُمة الفرنسية، والأُمة الإِنجليزية، فلم يُرِد تين أن يدرس اليونانية لأنها بعيدة جدًّا، وهو لا يستطيع أن يدرسها إِلا درس المؤرخ، وهو في حاجة إِلى أن يدرسها دراسة مباشرة، ولم يُرِد أن يدرس تاريخ الأدب الفرنسي لأنه فرنسي وقد يتأثر بعواطفه وميوله؛ فآثر الأدب الإِنجليزي؛ لأنه أدب عصري ولأنه أدب كامل — كما يقول — لا يخضع في درسه لميوله ولا لشيء من هذه الأشياء، فوضع في هذا الأدب كتابه وأخضع هذا الدرس لهذه النظرية: نظرية التأثر بالجنس والبيئة والعصر، ظهر كتابه في تاريخ الأدب الإِنجليزي في مجلدات أربعة، فإِذا هو إِلى الآن أحسن كتاب وُضع في تاريخ الآداب الإِنجليزية، وهو من الكُتب التي يعتمد عليها الإِنجليز أنفسهم.
خذوا من هذا الكتاب أي فصل من الفصول، خذوا بحثه عن شكسبير أو غيره من الأدباء الإِنجليز المعاصرين وغير المعاصرين، فستجدون درسه درسًا للحياة الإِنجليزية في الوقت الذي عاش فيه الكاتب أو الشاعر الذي يدرسه، من هذه الناحية كانت الدراسات الأدبية لتين غنية حقًّا، ولكنها من ناحية أخرى خاطئة جدًّا؛ ذلك أن تين يُقيم نظريته هذه قبل كل شيء على فكرة ليست صحيحة على كل حال، هي فكرة شائعة عصرية نشأت مع القرن الماضي ولا يزال الناس يؤمنون بها إِلى الآن، وأظنها تُدرس في المدارس والجامعات وفي جامعتنا نحن.
وهي فكرة أن الآداب هي صورة للجماعات، وأن الآثار الأدبية صورة دقيقة أو مقاربة لحياة الجماعات التي تنشأ فيها، وما دام كل أثر أدبي مرآة لحياة الجماعات التي نشأ فيها فلا سبيل إِلى أن يُدرس هذا الأثر الأدبي إِلا من حيث هو مصوِّر للجماعة، وإِذن لافونتين لا ينبغي أن يُدرس من حيث هو لافونتين، إِنما من حيث هو مرآة للعصر الذي نشأ فيه، وأي شاعر من الشعراء لا ينبغي أن يُدرس من حيث هو، بل من حيث هو يصور العصر الذي عاش فيه، هذه هي الفكرة التي فُتن الناس بها في القرن الماضي، فكرة قد يكون بها شيء من الحق ولكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون الحق كله، فأي أدب يمكن أن نعتبره مرآة للحياة الاجتماعية أو البيئة التي نشأ فيها: أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات الوسطى؟ أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات الدنيا؟ أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات العليا؟
وأنا عندما أذكر الطبقات لا أريد الطبقات الاجتماعية، إِنما أريد الطبقات العقلية؛ فأنتم تعلمون أن هناك أرستقراطية فنية، فهناك أشخاص ممتازون بطبيعتهم في الشعر والفكر عن معاصريهم في الحس والشعور والتفكير، خذوا فيلسوفًا من الممتازين في أي عصر من العصور فما الذي تجدونه أو يفاجئكم؟ هو قبل كل شيء أن هذا الفيلسوف أو الشاعر أو الأديب مخالف لمعاصريه لا يعيش كما يعيشون، هو يفكر لا كما يفكر معاصروه، إِنما يفكر كما سيفكر الناس بعد جيل أو جيلين أو أجيال، خذوا أبا العلاء المعري مثلًا أتظنون أنه قد فُهم في العصر الذي كان فيه؟ كلا، إِنما كان ممقوتًا لا يفهمه إِلا أصدقاؤه الأخِصَّاء، أما عامة الأدباءِ والفلاسفة الذين كانوا في عصره فقد كانوا يمقتونه ويكرهونه، وكان رجال الدين يشكُّون في إِيمانه ومنهم من اتهمه بالكفر من غير تردد، ولعلكم تذكرون أنه تعرَّض للموت، خذوا فولتير أو جان جاك، أول ما يمتاز به فولتير أو جان جاك أنه كان مخالفًا للذين كانوا يعاصرونه؛ فبينما كان فولتير يدعو إِلى حرية الرأي كانت الجماعات التي تعيش مع فولتير معادية لحرية الرأي، وكان الذين يؤمنون بمذهبه في عصره قلة، ونحن الآن نؤمن بنظريات فولتير في حرية الرأي، لماذا؟ لأنه قد وُجِد قبلنا ووُجِد قبل أوانه بأكثر من قرن، وكذلك جان جاك، وكذلك أبو العلاء، فنحن الآن نفهم فلسفة أبي العلاء خيرًا مما فهمها أهل عصره، خذوا من شئتم من الفلاسفة أو الأدباء الذين يستحقون هذا الاسم فستجدون أنهم يخالفون العصر الذي كانوا يعيشون فيه في الشعور والتفكير والفهم والإِحساس، إِنما يصورون العصر الذي سيأتي بعد عصرهم، ففولتير لا يُصَوِّر بالدقة القرن الثامن عشر ولكنه يهيئ للقرن التاسع عشر، وهو لا يصور بالدقة العصر الذي عاش فيه ولكنه ينشئ ويكوِّن الثورة الفرنسية، إِذن ليس صحيحًا أنك إِذا درست أديبًا من الأدباء أنك تلمس فيه مرآة للعصر الذي يعيش فيه، وإِذن فليس صحيحًا أنك إِذا درست أديبًا من الأدباء مضطر لأن تدرس ما يحيط بالأديب من المؤثرات؛ لأن هذا الأديب متأثر ببيئته ولكنه مؤثر فيما يحيط به أكثر من تأثره بهذه الأشياء.
إِذن فنظرية الجنس والبيئة والعصر تقوم على أساس خاطئ، ومن هذه الناحية كان تين بهذه النظرية منتهيًا إِلى نتيجتين متناقضتين أشد التناقض؛ دراسة تاريخية خصبة ولكنها من الناحية الأدبية غير قيِّمة، يتخذ الأديب وسيلة لدراسة عصره فيوفَّق أحسن توفيق، ولكنه من ناحية أخرى يمحو شخصية الأديب محوًا؛ فهو يدرس فرنسا دون لافونتين، ويدرس إنجلترا دون أن يدرس شكسبير، ويدرس أي أُمة دون أن يدرس الأديب الذي أراد أن يدرسه، ومن هنا كانت الكُتب التي وضعها تين في الأدب أشبه شيء بمقدمات للدراسات التي عني بها؛ لأنه يكتب كتابًا في تاريخ العصر والبيئة والجنس حتى إِذا فرغ ظن أنه قد درس الأديب، ولكنه لم يصل بعدُ إِلى هذا الأديب.
أظنكم قد تصورتم الآن على نحوٍ ما مذهب تين في فهم الحياة والأدب، وما كان يحيط به من الأشياء، وأنا معتذرٌ من أني قد أطلت، ولكني محتاج إِلى دقائق حتى لا تكون الصورة التي تذهبون بها عن تين مشوهة ناقصة، لا بد أن أقول لكم إِن تين بعد هذا كله كان من خصوم الديمقراطية ومن أعداء الثورة الفرنسية؛ لأنه كان يرى الإِنسان شريرًا بطبعه، والثورة ظرف من هذه الظروف تُظهر الإِنسان كما فُطر شريرًا مفسدًا، ومن هذه الناحية كان مبغضًا لسلطان الجماهير، وهو مع هذا كله من أشد الناس تأثيرًا في الانتصار لحرية الرأي، وكتاباته كلها إِنما تدور حول حرية الرأي.
هذا الرجل الذي كان ينكر الاختيار وينكر حرية الإِنسان ويؤمن بالجبر ويمقت الديمقراطية وينكر سلطان الجمهور ويؤْثر الأرستقراطية، والأرستقراطية الإِنجليزية خاصة، هذا الرجل الذي كل شيء في ظاهره يدل على أنه من خصوم الحرية، هو ممن مكَّنوا لحرية الرأي، عندما عرض لكل هذه النظريات ووضعها موضع البحث والمناقشة أثار فيها كل هذه الخصومات، واستباح لنفسه أن يناقش في أشياء لم يكن الناس قد تعودوا إِنكارها، ودعا غيره إِلى رأيه فأثار الخصومة والجدال، ماذا عمل؟ إِنما فرض حرية الرأي على نفسه وخصومه وأنصاره فرضًا، وهو بهذا دفع الفرنسيين والشباب إِلى أن يفكروا في كل شيء ويتعمقوا كل شيء، وأباح لهم أن يعرِضوا كل شيء للإِنكار والشك والرفض إِذا دعا الأمر إِلى الرفض، فإِذا عرفتم أن الشباب الفرنسي في مدة ثلاثين سنة كان ينظر إِلى الرجل على أنه أستاذه يشرب كلامه — إِن صح هذا التعبير — ويتأثر بآرائه في كل ما يعمل وما يقول، وإِذا عرفتم أن كثرة الكُتاب الفرنسيين الذين أخذوا ينشئون منذ سنة ١٨٧٠ قد تأثروا بتين ومذهبه ونظرياته، وهم الذين يكوِّنون الرأي العام — وأريد بالرأي العام الأدبي والعقلي — في فرنسا وأوروبا بعد ذلك؛ إِذا عرفتم ذلك، عرفتم أن حرية الرأي إِذا كانت قد أَنشأها فولتير وأصحابه في القرن الثامن عشر، فقد أتم انتصارها وسيادتها رينان وتين في القرن التاسع عشر.
وأظنني قد استطعت في هذه المحاضرات أن أعطيكم فكرة، لا شك أنها غير واضحة ولكنها مقاربة عن تطور حرية الرأي منذ نشأ العقل الإِنساني في العصور اليونانية الأولى إِلى أن بلغ هذا العصر الحديث.
أما مصير حرية الرأي منذ الآن، فإِني أستأذنكم في أن أقول إِني لست شديد التفاؤل في شأنه؛ لأن ما نراه من تطور الحياة السياسية في العالم المعاصر لنا الآن يدل على أن حرية الرأي توشك أن تتعرض لخطر عظيم، وأظنكم تشهدون — كما أشهدُ — وتلاحظون هذه الأخطار التي تتعرض لها حرية الرأي، لا أقول في مصر، فهي تستمتع بشيء غير قليل منها إِذا قيست إِلى بعض البلاد الأخرى، وأظنكم لم تنسوا أن بعض الدول الأوروبية المتحضرة التي عملت عملًا لا بأس به لتكوين حرية الرأي أخذت تقاوم الآن هذه الحرية، ولم يتحرج وزير من وزرائها من أن يذم العقل وإِنتاج العقل، ويصادره ويدعو إِلى أن تُحرق الكُتب تحريقًا.
هذه الظاهرة لا توجد في بلد واحد بل توجد في بلاد مختلفة، بل هي توجد بالفعل في بعض البلاد التي انتشر فيها مذهب فولتير وأصحابه.
وقد أخذ يوجد بالفعل ظواهر خطيرة في بلد كفرنسا وإنجلترا، في قوم لا يدعون إِلى قبر حرية الرأي، ولكنهم يدعون إِلى ما يعرِّض هذه الحرية للخطر؛ يدعون إِلى مخاصمة الديمقراطية ويعلنون فشلها، ويريدون أن يقيموا نظامًا يعتمد على السلطان القوي أكثر مما يعتمد على إِرادة الشعوب، وقد رأينا النظم التي تعتمد على السلطان القوي وتهدر إِرادة الشعوب في غير فرنسا وإنجلترا، وعرفنا أن نتائجها الأولى إِيذاء العقل وتضييع حرية الرأي.
وإِذا كان لي أن أتمنى شيئًا لمصر، فهو أن تكون أقل البلاد تأثرًا بهذه الظواهر الجديدة التي من شأنها مصادرة حرية الفرد وحرية الشعوب؛ فليس يعنيني من أمر السلطان أن يكون قويًّا أو ضعيفًا، وإِنما الذي يعنيني أن يكفل لي السلطان أن أكون حرًّا فيما أقول، حرًّا فيما أعمل، حرًّا فيما أفكر أيضًا.