تمازج الحضارتين العربية والغربية
لما بدأ العرب بفتوحاتهم في الإِسلام فقضوا على فارس، واقتطعوا من بيزنطية مملكة الروم الشرقية، الشامَ ومصرَ وسواحلَ إِفريقية؛ كانت فارس والروم أقوى دول العالم وأكثرَها حضارة، وكان العرب شبه متحضرين يتعلمون ممن غلبوهم ما يُصلح الملك والسلطان. وما انقضى ثمانون سنة على خروج العرب من جزيرتهم حتى أضافوا ما عَرفه المغلوبون إِلى ما عرفوه هم من أساليب الحرب والإِدارة، فرأيناهم وقد مُكِّن لهم في الغرب يستولون على الأندلس ويتوسعون في فتوحهم جنوبيَّ فرنسا.
وبينا كان بنو أُمية في الشام يديرون مُلكًا عظيمًا، ويضعون أُسس المدنية العربية بنقل العلوم المادية عن السريانية والقبطية والرومية، ويُعْنَون كل العناية بتدوين العلوم الدينية والأدبية، وقد بدأت طلائع الحضارة في البلاد التي أظلها سلطانهم؛ كانت بلاد الغرب اللاتيني في أحط دركات المدنية، بل كانت إِلى همجية مرمضة، تُعد بداوة العرب في جزيرتهم قُبَيل الإِسلام مدنيةً إِذا قيست ببداوة الغرب، بلى، كان الناس يعيشون في بلاد اللاتين والأنجلو سكسونيين والجرمانيين والصقالبة في توحُّش مُدْلَهم، وأوروبا غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، والمستنقعات في كل ناحية تحصد الأرواح، والوبالة والأوبئة تغادي تلك الشعوب القذرة وتراوحها، لا يعرفون البيوت الصحية، ولا الفُرش الوثيرة، تنام الأسرة كلها في غرفة واحدة على فَرْشٍ من تبن أو نبات مجفف، وهي إِلى الفطرة بعاداتها وأكلها وشربها ولباسها ومجالسها، وبيوت لندرا وباريز أكواخ صغيرة بُنيت من أحجار مضفورة مصفوفة كيفما اتفق، وهناك قلاع وأبراج وكنائس لا هندسة لها.
وليس في الغرب شيء اسمه أمن وأمان، يُقضى على كل إِنسان أن يكون على استعداد في كل حين ليردَّ الأشقياء عن داره وحقله، وفي غدوه ورواحه، فلا ينام إِلا وسلاحه إِلى جنبه، ولا يستطيع المرء أن يسير فراسخ قليلة دون أن يُستهدف للقتل أو السلب، وقد جعل بعض أرباب القوة مِنْ نَهْبِ عروض الناس في الطرق مهنةً لهم يعيشون منها، يَقتلون ويُقتلون، وما من حكومة قوية تناقشهم الحساب على ما تجني أيديهم؛ لأن الأمراء كانوا مع رجال الدين أشبه برؤساء عصابات منهم بزعماء بلاد، ولم تكن أوروبا كلها قد دانت بالنصرانية، بل كان من ممالكها من لم يزل على مجوسيته ووثنيته، والنصرانية دخلت المدن أولًا وتسرَّبت إِلى القرى والدساكر بعد أزمان.
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك الغرب أُميًّا أو يقرب من الأمية، كان المنصور والرشيد والمأمون تترجَم لهم كُتب الطبيعيات والرياضيات والفلك والطب والفلسفة والصناعات، وبينا كان أهل غاليا أُميين كلهم ما دوَّنوا كتابًا ولا أخبارًا ولا عرفوا أدبًا ولا شعرًا، كان العرب قد أنشئوا في كل قُطر نزلوه كتلًا علمية، ومجالس أدبية، وأصبح عامتهم يقرءون ويكتبون، وخاصتهم يَنظِمون وينثرون ويخطبون ويؤلفون ويبحثون في العلم والفلسفة على طريقة أشبه بطرق أهل المدنيات الحديثة، على حين كان نبلاءُ القرون الوسطى في الغرب لا يمتازون عن الفلاحين بتهذيبهم وعلمهم، وكلهم أُميون جهلاء قساة الطباع، يستحلون كل منكر لا همَّ لهم غير الشراب والطعام والصيد والغارات.
وبينا كان الغرب لا يعرف حياة الرفاهية، ومن أهله كسكان شلشويق (شلزويك هولشتاين) في الدانيمرك من كانوا كالوحوش يسترون عوراتهم بقطع من الجلود، شأن كثير من الشعوب في شرقي أوروبا وشمالها ولا يحسنون لَفْق الجلود ولا خياطتها أيضًا، كان العرب قد دخلوا في مباهج الحياة ورفاهة العيش يلبسون ونساؤهم أجمل الأكسية من الحرير والقطن والصوف والكتان ينسجونها في معاملهم ويحوكونها على أنوالهم وهي وافية بحاجات الحضري والقرَوي منهم على اختلاف الفصول.
كان أول احتكاك مدني وقع بين العربي والغربي في آسيا الصغرى؛ لأنها كانت ميدانًا للغارات بين العرب والروم منذ اقتطع العرب الشام من أملاك البيزنطيين، وحاولوا أن يتقدموا إِلى فتح القسطنطينية، وتكون الغزوات بين الفريقين سجالًا؛ فيأخذ كل فريق من الفريق الآخر أُسارى، قد يقضون في بلاد عدوهم أعوامًا، فيتعلم العربي الرومية ويتعلم الرومي العربية، ويزور في أيام المهادنات والسلام بعض أهل الطبقة العالية والوسطى البلاد المجاورة، ويرى كل ما عند الفريقين من أسباب التفوق، وما خلت بلاده مما عند جاره من عوامل النهوض وأساليب القوة في الأمم.
ولما انبلج فجر القرن الثاني زادت ساحة أخرى لتعارف العربي بالغربي وهي ساحة جنوب أوروبا الغربية؛ أُضيفت إِلى ساحة جنوب أوروبا الشرقية بفتح العرب الأندلس سنة ٩٢ﻫ عندما قضوا على مملكة الويزغوت أو الغوط كما كان يُطلق عليهم العرب، وانحاز الإِسبانيون إِلى شمال جزيرة أيبريا يعتصمون في جبال جِليقِيَّة ويستأثر العرب بمعظم بلاد إِسبانيا والبرتقال، يستصفونها من البحر الرومي إِلى بحر الظلمات ويُقرُّون أهل البلاد على قضائهم وإِدارتهم ويعدلون فيهم ويقلدونهم بعض الأعمال الصغرى ينتهون منها إِلى كبرياتها بعد زمنٍ قليل. ومن عادة العرب إِذا فتحوا قُطرًا أن يُبقوا لأهله أَوضاعهم ومصطلحاتهم وتراتيبهم وأن يَحْكُموه لأول الأمر حكمًا أشبه بالحماية ثم يحيلونه مُلكًا صرفًا، وهذا من بديع سياستهم، وكانت الجزية التي ضربها العرب على غير المسلمين زهيدة بالقياس إِلى ما كانوا يستمتعون به من الراحة والهناءة، وقضت شروط الصلح أن يُجعل على كل رجل حر بالغ دينار واحد في السنة وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير ومقدار من الخل والعسل والزيت وعلى العبد نصف ذلك، وأن تُحفظ على أهل البلاد دماؤهم؛ فلا يُسْبَوْن ولا يفرَّق بينهم وبين أولادهم ونسائهم ولا يُكرهون على دينهم ولا تُحرق كنائسهم.
وما عتم الإِسبانيون والبرتقاليون أن شاهدوا الفرق المحسوس بين ثقافة العرب الغالبين وثقافة المغلوبين، وادَّعى بعضهم أن حضارة الأندلس كانت لا بأس بها بدخول العرب وفاته أن القوم نسوا لغتهم بمجرد استيلاء الغريب على إِسبانيا؛ فما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكُتب اللاتينية بحروف عربية، كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العربية، وما مضى نصف قرن حتى دعت الحال إِلى ترجمة التوراة والقوانين الكنسية إِلى اللغة العربية؛ ليتمكن رجال الدين أَنفسهم من فهمها، وما أَتت على الفتح خمسون سنة حتى أصبح الناس كلهم يتكلمون بالعربية والعقود والمواثيق تُكتب بالعربية حتى بين الإِسبان أَنفسهم، واتخذ النصارى من اللغة العربية ترجمانًا لعواطفهم وقلوبهم، وأَخذوا يحبون تلاوة قصائد العرب وقَصَصَهم ويدرسون كُتب علماء الإِسلام وفلاسفتِهم، لا ليردوا عليها، بل ليُحَلُّوا بها منطقهم، يقرءون العربية بلذة ويقتنون كُتبها بالأثمان الغالية، يؤلفون منها خزائن نفيسة، ويذكرون في كل مكان أن آداب العرب مما يُعجب به، وإِذا حدثتهم عن كُتبهم الدينية أَجابوك بازدراء: إِن هذه الكُتب غير حَرية بالْتفاتهم، وما كنت تجد في ألف رجل من يكتب رُقعة مناسبة باللغة اللاتينية، وأنت إِذا كلَّفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهورًا يعبِّرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة، وقد يَنظِمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعرَ العرب أَنفسهم.
لم يمضِ قرن على فتح الأندلس حتى أخصبت القرى وكثرت المزارع واتصل العمران وتزاحم الناس بالمناكب في المدن، وغدت قرطبة عاصمة البلاد كعواصم أوروبا اليوم، تُنار ليلًا بالمصابيح يستضيء الساري بسُرُجها ثلاثة فراسخ، وكان من رجال الحسبة وهي أشبه بالمجالس البلدية ودواوين الشرطة اليوم، أن بلَّطوا الشوارع وأخذوا كل يوم يرفعون القُمامات والقاذورات ويُزال ضرر المجاري والقني لئلا يتأذى بها السكان، ولا يبني من يحب البناء إِلا على طريقة هندسية يعينها له ديوان الحسبة؛ ليترك فراغًا يتمتع به الجيران وأبناءُ السبيل، لا يمنع عنهم الشمس والهواء ولا تتضايق المارَّة مهما كثر سوادهم، فقرطبة إذن أول مدينة في العالم كان لها مثل هذا النظام، وما لبثت أن غدت عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة، وكعبة يحج إِليها بعض النابهين من أهل الغرب ينظرون إِلى تراتيب العرب وعدلهم وأحكامهم نظر الدهشة والاستغراب، ومثلها كانت طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس في الشمال والجنوب.
ونقل بنو أُمية إِلى الأندلس منذ كانت إِحدى ولاياتهم، وبعد أن فتحها سليلُهم عبد الرحمن الداخل الأُموي فتحًا ثانيًا واستقل بملكها بعد تَغلُّب العباسيين على دولة أهله في الشرق، أصولهم في الإِدارة والأحكام والأوضاع وطرازهم في هندسة القلاع والجسور والدور والقصور والجوامع. وجعل العرب البيوت والمساكن في أرض الأندلس على الطراز الذي عرفوه في عاصمتهم القديمة دمشق؛ كأن تدخل البيت من دهليز طويل ينتهي بفناء واسع وَسْطه حوض ماء، وعلى جوانب صحن الدار غرف وأَبهاء ومقاصير يأوي إِليها أهل البيت في الصيف، وفي الشتاء ينزلون في الطبقة الثانية من الدار وفيها جميع المرافق، وفناء الدار غاصٌّ بالأزهار وبعض الأشجار المثمرة أو الملطفة للهواء، والدار طبقتان فقط، وتكون غرف الرجال ومثاوي الضيوف منعزلة عن غرف النساء، ولا يزال هذا الترتيب في البيوت محببًا إِلى الناس في الولايات المعروفة بالولايات الأندلسية إِلى يوم الناس هذا يجددون أُدرهم على هذا الطراز.
وأصبحت الأندلس على عهد عبد الرحمن الثالث الأُموي عالِم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، وعلى عهد أخلافه ولا سيما ابنه الحكيم الثاني، أحسن الممالك حضارة وعلمًا وحُسنَ إِدارة في القرون الوسطى، وما وسع المرابطين والموحدين، وإِن كانوا من البربر، إِلا أن يخدموا الحضارة العربية، بل إِن الملوك من بني الأحمر لم يسعهم فيما بعد إِلا أن ينسجوا في الأندلس على منوال الأُمويين، كما لم يجد ملوك الطوائف والمتغلبون على الأطراف مندوحة من الجري على هذا المثال في خدمة العلوم والآداب، يغالون في اختيار خيرة العلماء والأدباء لتقليدهم الأعمال، ولقد وهت في الأندلس بعد بني أُمية أُمور كثيرة ولا سيما سياستها، ولم يضعف فيها العلم والصنائعُ والتجارة والزراعة، وكان ولاة الأمر إِلى الخير في عامة أحوالهم؛ تقل الرِّشوة فيهم، ويبتعدون عن كل ما لا يعبث بأصل من أصول الدين في الجملة.
كان معظم ملوك الغرب على اتصال دائم بملوك الأندلس وأمرائها يوم كانوا لأول سلطانهم في عاصمة قرطبة، وكذلك لما ضغط عليهم ملوك قشتالة وقبعوا في عاصمتهم غرناطة، وما بقي من آثار العرب الكثيرة في جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة إِلى اليوم دليل ناطق بما بلغته حضارتهم من مراقي الفلاح الباهر.
وأدخل العرب الذين جُلُوا إِلى الأندلس وسكنوا المدن والأرياف سكنى دائمة، طرائق معيشتهم وأصول زراعتهم وصناعاتهم على النحو الذي ألفوه في المشرق؛ أدخلوا إِليها كثيرًا من أصناف الحبوب والبقول والأشجار وزرعوا الفلوات وأحيوا الموات وعمروا القرى والمدن، وأدخلوا إِلى الأندلس معظم الصنائع وأخذوا يُجرون المياه في بسائط الجزيرة بما أقاموه من الخزانات والنواعير، وبما عرفوه من أساليب الهندسة في تقسيم المياه، وأسداد بلنسية الباقية إِلى اليوم شاهدة بتفننهم في أعمال الري والسقيا، وهي أثر من آثار نبوغهم في الهندسة. وغلب هذا العلم على أهل هذه الولاية حتى لَنَقْرَأُ في تراجم الرجال أن فلانًا إِمام الجامع الأعظم كان مهندسًا، وفلانًا قاضي الجماعة أو قاضي القضاة كان مهندسًا رياضيًّا.
وأمتع العرب أبناءَ البلاد من النصارى — وكانوا يسمُّونهم المستعربين كما يسمُّون المسلمين الخاضعين لإسبانيا المُدَجَّنين — بعامة حرياتهم يبنون ما شاءوا من بِيع وكنائس ويعقدون مجامع أساقفتهم، وقد عقدوا سنة ٧٨٢م مَجمعًا في إِشبيلية وفي سنة ٨٥٢م مَجمعًا في قرطبة، وكان رجال الدين من النصارى يدعون إِلى دينهم في صميم بلاد الخليفة الأندلسي، وربما وقفوا على أبواب المساجد يتسقطون المسلمين ليبثوا دينهم بينهم، يتعرضون للقتل والإِهانة حتى تُكتب لهم الشهادة والسعادة بزعمهم، وإِذا مرَّ بهم المسلمون مرُّوا كرامًا، وبلغ من سياسة العرب في الأندلس أنه إِذا شجر خلاف بين مسلم ونصراني من الجند يُعطى الحق غالبًا للنصراني؛ فنشأت بذلك وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب، وكان الغالب يومئذٍ في أقصى قِمم عظمته وقوته.
ولقد عَلَّم العرب الشعوب النصرانية — كما قال العلَّامة جوستاف لبون — أثمن الصفات الإِنسانية، وأعني بها التسامح، وما تناول التبدل الذي أدخلوه إِلى الغرب الماديات والعقليات فقط، بل تعداها إِلى تحسين الأخلاق، وكان العرب ينطوون على صفات فيها الكرم والإِحسان، وفيها الشَّمم وعِزَّة النفس، مما لم يكن له أثر عند غيرهم، وانتحل الإِسلام كثير من الأندلسيين، وما كان لهم غير مصلحة ضئيلة في ذلك؛ لأن النصارى في الحكم العربي كانوا يعامَلون كاليهود أيضًا بقواعد المساواة، ولهم أن يتولوا جميع أعمال المملكة، وكانت تَجري على سادات الإِسبان أحكام الإِسلام؛ فيختلطون بأشراف العرب، ومن ظل محتفظًا منهم بدينه نسي عاداته، فصار يحجب نساءَه كالمسلمين، ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم ولذائذهم، ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلُّم اللغة العربية. وتناسى الإِسبان أُصولهم واستعربوا بحضارتهم وأخلاقهم وأنشئوا يفصحون بالعربية، وصار الخلفاء يختارونهم عمالًا لإِدارتهم وأُمناءَ لمشورتهم، يُفْضون إِليهم بأسرارهم. وكان كثير من أذكياء الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين، دع من كانوا في البلاد الواقعة في حكم المسلمين من أرض الأندلس، يتعلمون العربية ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يُستخدمون في أرضه.
وتزوَّج العرب من البنات الإِسبانيات والبرتقاليات، وشاع هذا الزواج بين العرب، وأمسى ملوك النصارى على عهد انقسام الأندلس بين ملوك الطوائف يتزوجون من بنات أمراءِ المسلمين؛ فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إِشبيلية، وعُقِد مثل هذا الزواج غير مرة وكان عدد المتزوجات من الإِسبانيات والبرتقاليات من المسلمين وعدد المسلمات المتزوجات من الإِسبانيين والبرتقاليين آخر أيام الأندلس كثيرًا جدًّا، حتى جرى لذلك كلام في الشروط التي تمت بين الغالب والمغلوب.
ومن العرب من آثر زي الإِسبانيين من الملابس والسلاح واللجم والسروج، وكَلِف بلسانهم، وكثير من أهل الطبقة العالية من المسلمين كانوا يعرفون لسان جيرانهم ويتشبهون بهم في الأَكل والحديث وكثير من الأحوال والهيئات، وكان بعض ملوك بني الأحمر يتزيَّا بزي الإِسبان وكذلك أجنادهم، وذكر العلَّامة ابن خلدون أن الأندلسيين لعهده أخذوا يتشبهون بأُمم الجلالقة في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، وعَدَّ ذلك من علامات الاستيلاء، ولقد قالوا إِن عزيز بن خطاب، وكان من أكابر العلماء، لما مُلِّك على مُرْسية، استمع خُطبة الخطيب حاسِرَ الرأس على مثال ملوك الإِفرنج، وكذلك كان ابن هود يسير في بلاده حاسرًا، وعلى هذا درج بنو الأحمر، وكان يُسمح لعلماء المسلمين هناك أن يرخوا ذوائبهم على مثال رجال الفنون والأدب من الإِسبان، وأخذ النساء والبنات المسلمات يقلدن الإِسبانيات في العهد الأخير بملابسهن وبالسفور أو الحجاب الخفيف. وبلغ من تسامح أمراء المسلمين في الأندلس أن منذر بن يحيى صاحب سرقسطة وذواتها أجرى إِصهار ريمند الجليقي وشانجة القسطلي من ملوك الإِسبان على يديه، وكتب عقد النكاح بينهما بحضرة سرقسطة في حفل من أهل الملتين، وذكروا أن بعض ملوك الأندلس كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة وفيها صور الآدميين وغيرهم.
كانت الأندلس العربية البلد الوحيد في الغرب الذي كانت فيه حقوق اليهود مصونة من جور الجَورَة، فانهالوا عليها من كل فج وكثر فيها سوادهم، ومنهم من انصرف إِلى خدمة الدولة أو تعلُّم العلوم كالطب ونحوه، ومنهم من انتفع بما ربطته حكومة الأندلس مع البلاد المجاورة من الصلات التجارية؛ فكانوا من أول التجار الذين تسافر متاجرهم مع متاجر العرب والبربر وغيرهم على الأساطيل التجارية مقلعة من مالقة والمَرِية ولَشْبُونة وبَرْشَلونة تحمل إِلى الشرق وإِلى شمالي إِفريقية وجنوبي أوروبا غلات الأندلس، وتأتي إِليها بغلات البلاد القاصية، وبعد انقضاء عقود من السنين كان الفضل لبعض علماء اليهود في الأندلس بنقل الحضارة من العربية إِلى العبرانية واللاتينية، فحملوا علم ساداتهم بالأمس إِلى من لم يلقوا منهم في معظم الأدوار إِلا العنت والإِرهاق، ورُبَّ كتاب ضاع أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية أو العبرانية على نحو ما كان من السبعين كتابًا التي نقلها في مدينة طليطلة من العربية إِلى اللاتينية جيراردو دي كريمونا في القرن الثاني عشر وهي في الهيئة والنجوم والهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة.
وعدَّنَ عرب الأندلس المناجم على اختلاف ضروبها، فكانوا يبعثون بما يستخرجونه من أرضهم ويصنعونه من السلاح في معاملهم، وبالحرير والجوخ والجلد والسكر والورق إِلى إِفريقية وسائر بلاد المشرق والمغرب، واشتهرت معامل الورق في شاطبة اشتهار قرطبة بجلودها وسلاحها وحليِّها، وإِشبيلية بحريرها، ومالقة بزجاجها، والمَرِيَّة بوشيها وديباجها وجوخها، وباجة بنسج كتانها، وَسَرَقُسطة بسلاحها، ورية بسجادها، وطُلَيْطِلة ومرسية بأسلحتها، وكانت أوروبا الغربية تأخذ ورقها من الأندلس، وأوروبا الشرقية تستبضعه من معامل دمشق وحلب وطبرية وطرابلس من الديار الشامية، وحمل العرب إِلى الغرب من جملة الصنائع صناعة السجاد وصناعة السفن؛ فجعلوا في كل فرضة من مواني الأندلس على البحر الرومي وبحر الظلمات دور صناعة تُخرج لهم السفن الوافية بالغرض في تلك العصور، فكان الانتفاع من البر والبحر على أتم حالاته، وكانوا يستخرجون من دابة تحتك بحجارة على شط البحر في شَنتَرين وَبَرًا في لون الخز لونه لون الذهب وهو عزيز قليل تُنسج منه ثياب فيتلون في اليوم ألوانًا، ويحجز عليها ملوك بني أُمية فلا تُنقل إِلا سرًّا، وتزيد قيمة الثوب على ألف دينار لعِزَّته وحُسنه، وبلغ من غرام ملوك غرناطة بالعلم أن فرضوا جوائز للمخترعين لينشطوهم ويُلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة، وجازَوْا بالمال الكثير من يستظهرون كتابًا يعينونه لهم في الفن الفلاني. وكما كانت للأندلسيين مجامع علمية تجتمع في أوقات مخصوصة من السنة، كان علماؤهم يؤلفون رسائل يفهمها كل إِنسان تكون له عونًا على الانتفاع بالأعمال العامة؛ أي دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعَمَلَة فتفيدهم فيما هم بسبيله.
وانتقلت بعض صناعات العرب وأساليبهم إِلى فرنسا، ولا سيما في الزراعة وحفر الترع والخلجان ونظام الري، وكانوا أنشئوا الطرق والجسور والفنادق للسياح والمستشفيات والجوامع والرباطات في كل محلة ومنزل، ورأى الفرنسيس كيف عمَّر العرب ناربون وبروفنسيا لمَّا استولوا عليهما وكيف نظموا أساليب السقيا فيهما، وأدخلوا أساليب عمرانهم إِلى قرقشونة ونيم وأتون وسانس وأفنيون ومرسيليا وأرل وبردو، ومنها ما جعلوه قاعدة لأعمالهم الحربية والبحرية، ووقفوا عند حدود سبتمانيا أقاموا لهم فيها مراكز دائمة وعقدوا عهودًا مع أهل البلاد، وكان رجال الكهنوت في تلك الأصقاع يؤْثرون حكم العرب على حكم الغزاة من الجرمانيين؛ لأن هؤلاء ما كانوا يتحرجون من الاستيلاء على أملاك الكنائس، وأخذت الصلات العديدة تنعقد بين المسلمين والنصارى، ولمَّا ارتد العرب عن إِقليم سبتمانيا سنة ٧٥٩م احتفظوا هناك بأملاكهم وبيوتهم.
وذكروا أنَّ شانْجه أمير ليون كان يستشير أطباء العرب، وأطباء العرب من الأندلسيين هم الذين نقلوا الطب إِلى فرنسا في زمن أنشأ فيه الأندلسيون في كل ناحية من بلادهم المدارس وخزائن الكُتب والجامعات العلمية في العواصم وغيرها، فكانت مواطن العلم في الغرب زمنًا طويلًا، ومنها اليوم سَلَمنكَة عاصمة العلم في إِسبانيا، وقُلُمْرِية عاصمة العلم في البرتقال، على نحو ما نشهد لعهدنا مدينة ليبسيك في ألمانيا وأكسفورد في انجلترا. وزالت الأميَّة في الأندلس بما أنشأ الملوك من المدارس، وكان في قرطبة عشرات من الكتاتيب للفقراء فقط، وأصبح الرجال والنساء على السواء يكتبون ويقرءون، بل ربما كان من أبناء الفلاحين من ينثرون ويَنظِمون.
ويقول الإِسبان اليوم إِنك إِذا أنصَتَّ للغناءِ في شوارع قرطبة وإِشبيلية وغرناطة توقن أنه غناءٌ عربي، وإِذا طعِمْتَ في دار أندلسية تجد الطعام طعامًا مغربيًّا، وإِذا شهدت من يجلسون إِلى خوان في مقهى تحصي لهم عادات أهلية خاصة، وإن جميع حياة الأندلس تُذكِّر بالأُمة العربية القديمة، وإن الحدائق والحقول تُسقى من ترع وقنِيٍّ عربية، وإن الموسيقى عربية، وهناك صناعات صغيرة وتجار صغار وقوافل من الحمير والأتن تجتاز الأزِقَّة على نحو ما هي في البلاد العربية، وإِذا استمعت من بُعد إِلى تلفُّظ أهل تلك المدن الأندلسية يتكلمون بالإِسبانية تحسبهم يتكلمون بالعربية لا بالإِسبانية، أما هندستهم وشوارعهم وأحياؤهم وقنيُّ بيوتهم، فهي عربية صرفة على مثال ما هو من نوعها في دمشق وتونس.
ويقول لبون إِن تأثير العرب في الغرب كان عظيمًا، وإِليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا ولم يكن نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق ولكنه كان يختلف عنه. أثروا في بلاد المشرق بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون واللغة ضعيفًا، وعظم تأثيرهم بتعاليمهم في العلم والآداب والأخلاق، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير الذي أثَّره العرب في الغرب إِلا إِذا مثَّل لعينيه حالة أوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإِذا رجعنا إِلى القرنين التاسع والعاشر من الميلاد يوم كانت المدنية الإِسلامية في إِسبانيا زاهرة باهرة؛ نرى المراكز العلمية الوحيدة في عامة بلاد الغرب عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أُميون لا يقرءون ولا يكتبون. وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان فقراء جهلة يقضون الوقت بالتكسب في أديارهم بنسخ كُتب القدماء ليبتاعوا ورق البَرْدي لاستنساخ كُتب العبادة.
قال: وطال عهد الجهالة في أوروبا وعمَّ تأثيره بحيث لم تَعُد تشعر بتوحشها ولم يبدُ فيها بعض ميل للعلم إِلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت بعض العقول المستنيرة قليلًا بالحاجة إِلى نضو كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون تحته طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إِليه؛ لأنهم وحدهم كانوا سادة العلم في ذلك العهد. ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل بواسطة الأندلس وصقلية وإِيطاليا، وفي سنة ١١٣٠م، أُنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية رئيس الأساقفة وأخذت تنقل إِلى اللاتينية أشهر مؤلفات العرب، وعظم نجاح هذه الترجمات وعرف الغرب عالمًا جديدًا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر. ولم تُنقل إِلى اللاتينية كُتب الرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد وغيرهم، بل نُقلت إِليها كُتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، وهي الكُتب التي كان المسلمون نقلوها إِلى لسانهم.
أصبحت اللغة العربية منذ النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وحافظت على مرتبتها الأولى بين سائر اللغات إِلى آخر القرن الحادي عشر، وكان يُقضى على كل من يحب الاطلاع من أهل القرن الحادي عشر على آراءِ عصره أن يتعلم اللغة العربية؛ ولذلك قالوا إِن كثيرين من زعماء النهضة كروجر باكون وغيره كانوا يعرفون لغتنا. وكان ملوك الأندلس يفاوضون جيرانهم باللغة العربية، وهؤلاء يجيبونهم بها على لسان تراجم لهم يجيدون العربية، ويُقضى على أكثر سفراء الإِفرنج عند ملوك الأندلس أن يلموا ولو إِلمامًا خفيفًا بلغة العرب.
وبعد أن أخذ الغرب العلم عن كُتب العرب وقلَّدهم في مخابرهم ومعاملهم وجامعاتهم ومدارسهم، وقرئت كُتبهم وعلومهم في جامعات الغرب مدة ستمائة سنة ودام ذلك إِلى القرن الثامن عشر؛ لا نستغرب أَن تدخل في جميع اللغات الغربية الألفاظ العلمية العربية ولا سيما في الإِيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتقالية، وفي كل لغة من هذه اللغات اللاتينية بضعة أُلوف من الألفاظ العربية، أخذوها مضطرين عن العرب؛ لأن هؤلاء احتلوا بلادهم أو أماكن منها، بل لأن العلم العربي كان وحده هو المتفوق في العالم، وكان العرب دعاته ورعاته خلال بضعة قرون.
نعم، لم يجد العلم ملجأً أمينًا له غير العرب في تلك القرون، وهذه فرنسا لم تنهض من كبوتها بعد غارات البرابرة إِلا بعد ثمانية قرون وذلك بفضل العرب، ومن علماء فرنسا من يعز عليهم الاعتراف بهذه الحقيقة، وَبَيْنَا كانت المدنية الإِسلامية زاهرة، كانت فرنسا في أحط دركات التأخر، ولم ينتشر الطب والصيدلة في ربوعها إِلا بمساعي أطباء اليهود الذين اعتصموا بإِسبانيا ثم بإِقليم لانكدوك بعد القرن الحادي عشر، وفي لانكدوك أنشئوا عدة مدارس ومنها مدرسة مونبلية، واضطرت بعض الأمم الغربية أن تحمل بعض أبنائها على تعلُّم اللغة العربية، وأسست جنوة مدرستها لتعليم العربية سنة ١٢٠٧م، ورأى ملوك قشتالة بعد وقعة العُقاب التي كُتِب فيها النصر للإِسبان على العرب، أن لا يقاطعوا الماضي القديم وأنهم في حاجة إِلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء من العرب، فحاول ألفونس العاشر أن يعمل لإِسبانيا النصرانية ما عمله العرب لإِعلاء شأن الإِسلام، وذلك بالأخذ من أحسن ما في الحضارتين الإِسلامية والنصرانية ومزجهما بالحضارة الإسبانية؛ فأُسِّست سنة ١٢٥٤م في إِشبيلية مدرسة عامة لاتينية وعربية، واستدعى الملك إِلى عاصمته العلماء من جميع المِلل والنِّحَل ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية يجمع فيها بين الأوضاع العربية وغيرها. وقضى مجمع فينا الديني سنة ١٣١١م أن تؤسس في باريز وأكسفورد وبُولون وسَلَمنكة دروس عربية لتنصير المسلمين، ودروس عبرانية لتنصير اليهود، وعُنيت إِيطاليا منذ ذلك العهد عناية خاصة بالعربية ترى تعليمها من الضرورات لكل تجار المدن البحرية، وكان من ذلك أن احتكرت البندقية تجارة أوروبا مع الشرق، واستأثرت بتجارة آسيا الصغرى، وتمت للبندقية وبيزا وجنوة وطسقانة معرفة الشعوب الإِسلامية أكثر من عامة أهل أوروبا، وكان من العادة الجارية في طبقة التجار من أبناء البندقية أن يتكلموا بالتركية والعربية، ويأخذوا أنفسهم ببعض العادات والأنسة بالمصطلحات الشرقية، ومَلَكَ البيزيون والجنويون والبنادقة أملاكًا مهمة في الشواطئ الشرقية من البحر المتوسط وفي غيرها، وامتزجوا بأهل البلاد، وتأخرت الممالك الأخرى في تلقُّف العربية إِلى القرن السابع عشر والثامن عشر.
أصبح البحر الرومي بما فتحه العرب من شواطئه بحرًا عربيًّا في أوائل القرن الثالث؛ وذلك لأن شواطئَ إِفريقية وإِسبانيا وكثير من الجزر كجزائر مَنُورَقَة وَمَيُوْرَقَة ويابسة المعروفة بجزائر الباليار أو الجزائر الشرقية وغيرها قد دخلت في حكمهم، ولما فتحوا في سنة ٢١٢ﻫ جزيرة صقلية، وكانوا غزوها غير مرة منذ أخذوا يسافرون على سفنهم على عهد الخليفة الثالث، وأتبعوها بجزيرة سَرْدانية وغيرها؛ تراجعت سفن الروم إِلى المواني القريبة من بلادهم، وامتدت غزوات العرب إِلى بلاد أنكبردة أو لمبارديا وقِلَوْية؛ أي كالابرا، من جنوبي إِيطاليا، واستولوا على أكثر أصقاعها الجنوبية نحو تسع وعشرين سنة، ومن البلاد التي احتلوها احتلالًا موقتًا أو غزوها وتخلوا عنها، ريو والبندقية وطارانت وسالرن وأمالفي ونابل ورومية وجنوة، والغالب أن العرب في الولايات التي نزلوها من جنوبي إِيطاليا لم يؤَثِّروا بصناعاتهم وعلمهم، ولم يخلفوا أثرًا من آثارهم كالنقود والرنوك والمصانع والجوامع على ما حقق ذلك العلَّامة نالينو.
أما في جزيرة صقلية، فإِن العرب طالت فيها أيامهم إِلى سنة ٤٨٤ﻫ وأثروا فيها أنواع التأثير؛ فتركوا لأهلها أولًا عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة، واكتفوا منهم بجباية قليلة كان مقدارها أقل مما كان يستوفيه اليونان منهم وأعفوا منها النساء والأولاد والرهبان، وحافظوا على جميع الكنائس الموجودة ولم يسمحوا بإِنشاء غيرها، على خلاف ما جروا عليه في الأندلس، وَعمَدوا إِلى الزراعة والصنائع فأحيوها، وأدخلوا أصنافًا من الزرع لم تعرفها الجزيرة، ومنها القطن وقصب السكر والزيتون والبردي والكتان والمران، وأقاموا المجاري التي لم تبرح ماثلة للعِيَان، وعلَّموا الناس عمل القنيِّ ذات الأنابيب المعقفة (السيفونات) وكانت قبلهم غير معروفة.
وأنشأت العرب في صقلية مصانع لصنع الورق ومنها انتشرت الوراقة في إِيطاليا، وعدَّنوا مناجم الجزيرة وعلَّموا أهلها صنع الحرير، والغالب أن صناعة صبغ الثياب انتشرت في أوروبا من صقلية، ومن مصانع الصقليين كانت تُصدَّر الأكسية المحلاة بالجواهر، والطنافس المصورة والمنقوشة، والجلد المدبوغ والحلي البديع. وبالإِجمال، حمل العرب إِلى صقلية مظاهر غريبة من فنهم وقناطرهم العالية الجميلة ونقوشهم من المقرنصات وجمال قاشانيهم ذي الميناء والفسيفساء المعمولة من الرخام الملون، وصورَهم الجميلة وبهيجَ صناعاتهم، وما كادت أعلامهم تعلو هذه الجزيرة العظيمة حتى نمت التجارة وكانت قبلهم ضئيلة، وأنشئوا يُقلعون على سفنهم إِلى الجهات الأربع وكانت لهم حكومة ذات مجد ورقيٍّ، وكثر المسلمون فيها خلال قرنين حتى أصبحوا نصف سكان الجزيرة.
وسار النورمان على سياسة رشيدة لمَّا استولوا على صقلية وقضوا على سلطان العرب فيها؛ فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا منهم كثيرين في قصورهم وحروبهم، فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في خدمة الدولة الجديدة، وبقيت لغتهم رسمية في الجزيرة مدة حكم النورمانيين، وتعلَّم ملوكها العربية ومنهم من برزوا فيها، ونَظموا فيها الأشعار وطربوا لأدبها. وهكذا تخلَّق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني في القرون الوسطى، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بأنهم دانوا بالإِسلام وما زالوا بهم حتى قضوا عليهم بهذه التهمة وغيرها.
كان روجر أول ملك نورماني استخلص صقلية من العرب هو واضع أساس هذا التسامح مع المسلمين، وهو الذي استقدم إِليه من بر العُدوة — وبرُّ العدوة ما سَامَتَ الأندلسَ وصقليةَ من شمالي إِفريقية، ويعنون بالعدوة المغرب الأقصى والأوسط والأدنى — الشريفَ الإِدريسي وبالغ في إِكرامه، وطلب إِليه أن يبقى في صقلية وأن يحقق له أخبار البلاد بالمعاينة لا بما يُنقل من الكُتب، وندب لذلك أناسًا ألِبَّاءَ وجهزهم «روجر» إِلى أقاليم الشرق والغرب والجنوب والشمال وسيَّر معهم قومًا مصورين ليصوروا ما شاهدوه عيانًا، فكان إِذا حضر أحدهم بشكل أثبته الشريف الإِدريسي حتى تكامل له ما أراد وجعله مصنفًا سمَّاه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو من أجلِّ كُتب الجغرافيا التي بقيت من تآليف العرب، وعمل الإِدريسي لروجر كرة أرضية من الفضة كانت من أجمل ما ابتدعته قريحة عربية، رسم فيها العالم ببحره وبره وجباله وسهوله وأنهاره وبحيراته ومدنه وممالكه.
كان تأثير العرب في صقلية بعلمهم أكثر من تأثيرهم بمبانيهم ومصانعهم، وكان الروح فيها عباسيًّا ثم فاطميًّا؛ لأن بني الأغلب أمراء إِفريقية، أي تونس، للعباسيين تولوا ذلك منها أولًا، ثم جاء الفاطميون فخضعت لسلطانهم، أما في الأندلس فكان الروح أُمويًّا بحتًا لا سلطان فيها لغير العرب، يقول العلَّامة آماري المستشرق الصقلي إِن صقلية مدينة للعرب وإِيطاليا مدينة لصقلية بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه منذ قَلَّد البَلاطُ الصقلي البَلاط الملكي الإِسلامي بدأت العناية بقرض الشعر تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإِيطالي. وقال رينالدي لم يساعد العرب فقط على إِنهاض الشعر الصقلي والإِيطالي، بل إِنهم أمدوا القصص الإِيطالية بشكلها ومادتها، وفي بلرم التي اتخذها العرب عاصمة صقلية وعمرت عمرانًا غريبًا، أنشأت العرب أول مدرسة للطب وما عُهد مثلها في جميع أوروبا؛ فقد أُنشئت مدارس الطب في الغرب بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر هذا الفن في بلاد إِيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إِلى أفنيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، ثم تفرَّغ العرب بعد ذهاب سلطانهم من الجزيرة إِلى العلم والتجارة، فكانوا نحو قرنين آخرين بعد خروج صقلية من أيديهم رجال المال والأعمال فيها، بل كانوا سادتها بالفعل، ومن كان له العلم والمال لا ينقصه شيء من القوى.
أخرجت هذه الجزيرة في العهد العربي عظماء من الرجال في العلم والأدب، وكان عددهم بالقياس إِلى من أخرجت الأندلس قليلًا، وقلَّ فيهم النوابغ في علوم العقل على نحو ما كان في الأندلس، ولكن عمل صقلية في التمدين لم ينقص كثيرًا عن الأندلس؛ فإِذا كانت هذه الجزيرة غذَّت غربي أوروبا بضعة قرون بمدنيتها، فإِن صقلية كانت مدة رسالتها ثلاثة قرون ترسل أشعة المدنية العربية إِلى أواسط أوروبا. ولعل ما دعا صقلية إِلى أن تكون دون الأندلس في هذا المضمار كون العرب فيها قلائل وأكثر من نزلوها من البربر، بخلاف الأندلس التي كان فيها العرب كثرة غامرة هاجروا إِليها وطابت لهم مستقرًّا ومُقامًا.
وقصارى القول أنَّ العرب في الأندلس وصقلية بما كان لعنصرهم من المرونة لتقبُّل كل نافع بقبولٍ حسنٍ؛ كُتب لهم الإِبداع في صنائعهم ومصانعهم وشعرهم وأدبهم وعلمهم وعملهم، كأَن هواءَ الغرب علَّمهم أن يغيِّروا ما حملوا معهم من مدنية الشرق بما يلائم تلك البيئة الجديدة، وحببوا من دون إِكراه ما نقلوه إِلى أهل البلاد فطبعوهم بطابعهم وصاغوهم الصياغة التي لا تنافي تعاليمهم ونُظمهم؛ فقربوهم من مناحيهم ومنازعهم ووَقَفُوهم على سر حضارتهم وتفوقهم، وسرى النور من كل أرض احتلوها إِلى أرض بعيدة عنهم، ومن شعوب تمثلوا فيهم بعض الشيءِ إِلى شعوب ما وسعها إِلا أن تجاريهم فيما لا يخرجهم عن الاحتفاظ بمقوماتهم من جنس ولغة.