أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
يدين العرب لكثير من خلفائهم وأمرائهم بالأخذ من المدنية الفارسية والهندية واليونانية، وممن كان لهم الفضل الأول في ذلك عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمأمون وخالد بن يزيد وأولاد موسى بن شاكر وضرباؤهم، وما عتم العرب بعد أن كانوا تلاميذ الأقدمين أن أصبحوا أساتيذ في كل الفنون التي وجهوا إِليها قواهم العقلية، وزادوا فيها أو هذبَّوا ورتبوا في أُصولها وذيولِها، ومن أول ما فكروا فيه علوم الفلك وتقويم البلدان والرياضيات والطب، وجاءت الفلسفة بعد ذلك وما أفلحوا فيها كثيرًا.
وفي التاريخ العام، ولا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب من العلوم كان أعظم من قسط غيرهم؛ فلم يكونوا واسطةً نقلت إِلى الشعوب الجاهلة في إِفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارفَ الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صُبَّت وتمازجت تمازجًا متجانسًا، أبدعوا مدنيةً حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة. وقال العلَّامة درابر: «من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم، فإِن قلة الإِنصاف المبنية على الأحقاد الدينية، وعلى العُنْجُهية القومية، لا تدوم أبد الدهر.»
يقول لبون: «إِن تحمُّس المسلمين في دراسة الحضارة اليونانية واللاتينية مدهشةٌ حقيقةً، وقد ضاهت العربَ شعوبٌ كثيرة، وربما لم يَقُم من الشعوب من تقدَّمهم في هذه السبيل.» وقال توفنر: «إِن أوروبا قضت قرونًا حتى بلغت الغاية التي وصل إِليها عرب إِسبانيا في قرنٍ واحد.» وذكر بريس دافن أنه بعد سقوط الدولة الرومانية لم يكن في الأرض شعبٌ يستحق أن يُعرف غير الشعب العربي؛ وذلك لكثرة فحول الرجال الذين نشئوا منه، ولِما أحدثته فنون هذا الشعب وعلومه من التقدم العجيب في العالم قرونًا عديدة، لا جَرَمَ أن العرب عرفوا صنائع السلم كما عرفوا صناعة الحرب وخاضوا عباب كل علم وفن بحسب ما ساعدهم محيطهم وبيئتهم.
قلنا إِن من أول العلوم التي عانوها علم الأفلاك لعلاقتها بالصلوات؛ وذلك لأنه كان من المألوف عندهم وعند غيرهم في تلك العصور أخذ الطالع من الكواكب، ونشأ علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القُطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدَّره بطليموس ﺑ «١٢» درجة، فأرجعوه إِلى «٥٤» أولًا ثم إِلى «٤٢»؛ أي إِلى الصحيح من مقداره تقريبًا، فقالوا بكروية الأرض منذ أول سلطانهم، وجمع المأمون بعض حكماءِ عصره على صنعة الصورة التي نُسبت إِليه، ودُعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن إِلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس، ووضع له علماءُ رسم الأرض — وكانوا سبعين رجلًا من فلاسفة العراق — كتابًا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، والفزاري أول من استعمل الإِسطرلاب من العرب، وهو فلكي المأمون، وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرَّقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطليموس في الفلك.
ويقول العلَّامة غوتيه إِن الشريف الإِدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علَّم أوروبا هذا العلم لا بطليموس، ودام معلمًا لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصوَّر للعالم إِلا ما رسمه الإِدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإِدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب، ووصل علماء الجغرافيا منهم إِلى بلاد لم تطأها من قبل غير أقدامهم وحوافر قوافلهم في آسيا وإِفريقية. ولا تزال بقايا تلك الكُتب، وأكثرها مما طبعه الغربيون وتنافسوا في الأخذ منه، شاهدةً على تلك الهمة الشمَّاء والعلم الغزير المنقح وأنهم كانوا في فن الجغرافيا مبتدعين لا متبعين، وأن كثيرين من علماءِ الجغرافيا فيهم طافوا العالم قبل أن يدونوا كُتبهم فوضعوا ما وضعوا عن عِيان ومشاهدة.
ولقد كشف العرب منابع النيل قبل أن يتصدى الإِفرنج لها، وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارًا لم تُعرف حتى قال أحد عارفيهم قبل كولمبس بقرنٍ ونصف: «لا أمْنع أن يكون ما انكشف عنه الماءُ من الأرض من جهتنا منكشفًا من الجهة الأخرى، وإِذا لم أمنع أن يكون منكشفًا من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.»
وضربَ العرب في مجاهل الأرض ومعالمها يتَّجرون ويبحثون على ما لم يسبق لغيرهم من الأمم، وكثيرًا ما كان ينتهي بعض المولعين بالمُطَوحات من أرباب الرحلات من الإِفرنج إِلى أماكن منزوية عن العالم في إِفريقية وآسيا، ثم لا يلبثون أن يروا العربَ قد سبقوهم إِليها منذ قرون ونشروا بين أهلها دينهم ولسانهم وأنشئوا فيها إِمارات صغيرة ساروا فيها على آيينهم وأوضاعهم.
وكانوا كلما نزلوا أرضًا أنشئوا فيها المساكن، بل أقاموا المدن وهندسوها، ومن المدن التي أنشئوها في الشرق والغرب ما أصبح في قليل من الزمن أشبه بالعواصم الكبرى، وكانوا إِذا اضطروا إِلى الغارة على مقاطعة وأكرهتهم الحرب على أن يخرِّبوا بعض عمرانها لدواعٍ حربية لا تمضي أعوام قليلة حتى يعيدوها جنات غَنَّاء بما فُطِروا عليه من بُعد الهمة وسعة الفضل، ويتعمدون أن يكون ما يعمرون من الأبنية الخالدة لا الموقتة.
وسبقت العرب إِلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان، اخترعها زين الدين الآمدي (٧١٢ﻫ/١٣١٢م) وكان قد فقد بصره في أول عمره، فكان كلما اشترى كتابًا لخزانته لفَّ ورقة على شكل حرف من الحروف ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة ثمن الكتاب.
هذا قول بعض العلماء، والصحيح أن الحروف البارزة كانت معروفة عند العرب قبل هذا العصر بدليل قول أبي العلاء المعري:
وسبقت العرب الأوروبيين إِلى الطيران، وقد حاوله عباس بن فرناس حكيم الأندلس، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى، ووضع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات، ومثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلًا يُخيل للناظر أنه حقيقة.
ويأخذ الإِنسان العجب إِذا قرأ في اللزوميات للمعري قوله:
وقوله:
فيتجلى له أن العرب في ذلك العصر ارتقوا بعقولهم إِلى البحث عن وجود بشر في الأفلاك وإِلى البحث عن عناصر الأفلاك وتربتها.
وكادوا يعرفون في الأَندلس الجراثيم، وكانت وقايتهم من الأمراض تكاد تشبه وقاية أهل العصور الحديثة على ما ذكر ذلك ابن خاتمة في رسالته في الوباء، وسبقوا إِلى معرفة مرض النوم وسمَّوه النُّوام، وشرحوا أعراضه، وعرفوا الطباعة فألَّف أحد الأندلسيين كتابًا في الخواص وصنعة الأمدَّة وآلة الطبع، وكان أحد وزراء الناصر الأندلسي من أهل المائة الرابعة «ينفرد بالولايات فتُكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطبع فتُطبع وتُخرج إِليه، فتُبعث في العمال ويُنفذون على يديه»؛ أي إن الأندلسيين عرفوا الطبع قبل مخترعه المشهور غوتنبرغ الألماني بأربعمائة سنة، ولكن بغير الحروف المنضدة، وعلَّموا الغرب صُنع الكتاب وعمل إِبرة السفينة، وآلة الظل والمرايا المحرقة بالدوائر والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطًا كبيرًا في الميكانيكيات، ولما بعث الرشيد العباسي إِلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة، تعجَّب منها أهل ديوانه، ولم يستطيعوا أن يعرفوا صورة تركيب آلتها على ما حقق ذلك سيديليو، ومع ذلك لم يكن في عصر العباسيين أجلُّ من مهنة الفلاحة.
أظهر العرب بمهارتهم مزايا فواكه الفُرس وأزهار إِقليم مازَنْدَران، واستقطروا معظم ما في بلادهم من الزهور والورود، وكان لهم من صناعة الطيوب والعطور تجارة رابحة، وقد أغنوا العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة والدهون والمراهم والغول (الألكحول) واللَّعوق والسنامكي والراوند والخيارشنبر وجوز القيء، هم الذين كشفوها، واستلزمت أُصول تداويهم أن يعمدوا إِلى استعمال الفتائل وإِلى الحجامة في أمراض الصرع واستعمال الماءِ البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جرَّاحوهم تفتيت حصاة المثانة وقدح العين، واستخرجوا منها الجُرَيْم العدسي الشفاف، ويظهر أنهم عرفوا البنج، وفي التاريخ العام وكل هذا المجد في الطب العربي، إِن لم يَبدُ لنا بأنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة. وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإِكسير الذي يهب الحياة ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إِلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يُحوِّل المعادن إِلى ذهب. ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدًى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.
قال غوتيه: وللعرب في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة لعصورهم، وقد وُجد في كتاب عربي قديم لم يُنقل إِلى اللغات الأوروبية أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي، ولم تعرف أوروبا سرَّ هذه الصناعة إِلا في النصف الأول من القرن السادس عشر.
ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة وأحسن العمال، وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علمًا حقيقيًّا للعرب، أخذوا نظرياتهم من الكُتب ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويَعدُّها عملًا مهينًا، وجرى في حكم العادة على عهد استبحار العمران العربي أن يتعلم كل إِنسان مهما علت منزلته صناعة من الصنائع المعروفة أو الصنائع النفيسة، يروِّح بها عن نفسه ساعات الفراغ ويعتاش منها إِذا أعوزته الأيام.
ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإِفريقية لاستثمار المعادن، يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، وأخرج الصقليون جميع ما حوت جزيرتهم من معادن ومنها الفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت مِلكًا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوربس والملح الأندراني والكبريت، واستخرج العرب ما في الشام من الحُمَّر والحديد والنحاس والصفر والزاج والقلي والفوسفات والمغرة والنيكل والكبريت والطَّفَال والبارود القصبي (السوديوم) وعنوا كل العناية باستثمار مقالع الأحجار والرخام والمرمر، وما كانت عنايتهم قليلة بالحمَّات والمياه المعدنية، وعلى هذا جروا في كل أرض فتحوها فخضعت زمنًا لدولتهم الكبيرة.
قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في علم الحِيل (الميكانيكيات) والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأَ لهم سبيل ابتداع الكيمياء وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إِلى استعمال الربع والإِسطرلاب في علم الهيئة واستخدام الموازنة في الكيمياء مما خُصوا به دون سواهم، وهيأَ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام العددية في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضًا مطلقين على ذوات القدْر الأعظم أسماءً عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة، وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورًا بعثت نورًا باهرًا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إِلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك.
وهم الذين أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء وكشفوا بعض أجزائها المهمة كحامض الكبريتيك وحامض النتريك (الفضة) والغول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية؛ إِذ كانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية، وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في ثقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عَوْمِ الأجسام وغرَقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأَ اليونان بكون الشُّعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيُظهره، وقالوا إِن الشُّعاع يمر من المرئي للعين، وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا طريق الشُّعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنَّا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب، قال: والذي يُدهش كثيرًا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إِليها؛ فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقًّا، إِنهم وصلوا به إِلى الأشياء الآلية وغير الآلية؛ فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية.
ويقول العلَّامة سنيوبوس: جرى أُمراء العرب على قاعدة ريِّ الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار وجازَوْا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إِلى إِسبانيا أسلوب النواعير تمتح الماء، والسواقي التي توزعها، وإِنَّ سَهْلَ بَلَنْسيه الذي جاء كأَنه حديقة واحدة هو من بقايا عمل العرب وعنايتهم بالسقيا، ونظَّم العرب ديوان المياه الذي كان يُرجع إِليه في مسائل الري، وكانت طريقتهم في ري العراق تشبه أعمال الري في مصر وأستراليا والولايات المتحدة في عهدنا هذا، واستعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملوا كثيرًا من النباتات إِلى صقلية وإِسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمِشمش والبرتقال والكَبَّاد والنخل والهِلْيُون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين بل القطن والقصب.
وظفر العرب في الشام وفارس بصناعات قديمة نُقلت إِلى جميع البلاد الإِسلامية فتكملت ومنها نشأت صناعة أوروبا الحديثة. وذكر سنيوبوس أنواع هذه البضائع التي نقلوها من الشرق إِلى الغرب ولا سيما إِلى الأندلس وقال: عاشت الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال على عهد الرومان من أقصى المملكة إِلى أقصاها بسلام وراحة، يتقايضون غلات أرضهم ومصنوعات معاملهم، ويرحلون إِلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إِلى الشعوب البربرية في أوروبا ينقلونها في البر والبحر. وذكروا أن العرب أحرزوا خَصْل السبق دون غيرهم في مضمار التجارة، ورقوا الصناعة البحرية، ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة، واقتبسوا استعمال إِبرة السفينة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر؛ أي ضبط، وشرحوا الكفالة، وأنشئوا المصارف للفقراء، ووضعوا السفاتج (الكمبيالات) المألوفة وردود التمسك (البروتستو)، وبعثوا الحركة في مصارف الغرب الحديثة. وكانوا حيث نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ والفُرَض، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل. وكانت المدن الإِسلامية أوساطًا تجارية كبرى.
واستخرج علماءُ العرب من كُتب الطب اليوناني الطب التجريبي، وهو طب العقاقير والحبوب، وأعظم ما غلب على العرب من العلوم علم الكيمياء برعوا به وطبقوه على الزراعة والصناعة، ولهم المنَّة على جميع الأمم بأرقامهم العربية، وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة، وتهذيبهم الهندسة وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سمت الشمس ومعادلة الليل والنهار والبقع الشمسية، وكشف كيماويوهم وأطباؤهم خواص الغول والنشادر وحامض الأَزوت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والراوند والسنامكي. وهم أسرع الناس لتدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم والكتابة في فلسفة التاريخ وعلوم الاجتماع. وتوصَّل العرب إِلى إِثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسًا للطريقة التي سمَّوها الشكل المُعيَّنَ في حل المثلثات الكروية. وعرفوا حامض الكبريت استخرجوه من الزاج بواسطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة والقلي، وطرق إِذابة الذهب وملح النشادر وحجر الكي والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب، ويعرفون صُنع الصواريخ؛ أخذوا سرها من الروم وعملوا البارود للمدافع وربما كان ذلك قبل الصينيين، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر. وعُني العرب بصنع القاشاني، وغيَّروا طرق صُنعه وأشكاله. واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت من الشام إِلى معامل البندقية ونُسجت على منوالها، وكذلك تعلَّم البنادقة صُنع المرايا وكانت تُصنع في صُور، ومن البندقية انتقلت إِلى أوروبا، ونُقل من الشام والعراق إِلى الأندلس صُنع السيوف الدمشقية والثياب على أنواعها ومنها «الدمسكو» نسبة إِلى دمشق و«الموسلين» نسبة إِلى الموصل وهو الشفوف، ثم عُرفت هذه الأصناف في بلاد الغرب.
كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تُقرأ في أوروبا في كُتب العرب، ومن كُتبهم في العلم الطبيعي والرياضي والفلك والكيمياء ما فقد أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية، وجميع المادة الطبية التي أخذها الغربيون من العرب بقيت إِلى القرن السابع عشر هي المعول عليها وحدها. قال سنيوبوس: ويتعذر الحكم في تحديد الطرق التي دخل منها إِلى أوروبا اختراع من اختراعات الشرق، وفيما إِذا كان انتهى إِلينا من طريق الصليبيين في فلسطين أو من طريق التجار الإِيطاليين، أو جاءَنا من عرب صقلية أو من المغاربة في إِسبانيا، بَيْدَ أن الحساب يمكن تقديره بما نحن مدينون به للعرب، وإِن كان هذا الحساب مما يطول شرحه. فقد أتتنا من العرب؛ أولًا: الحنطة والهِلْيَون والقَنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر. ثانيًا: معظم صناعاتنا في التزيين كالثياب الدمشقية القطنية والجلد المدبوغ وثياب الحرير المزركشة بالفضة والذهب والشاش الموصلي والشفوف والحِبَر والمخمل (القطيفة) والورق والسكر وأنواع الحلواء والأشربة. ثالثًا: مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعبًا.
ولقد جمعت العرب وقرَّبت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند والصين) وهم الذين نقلوها إِلينا، ودخل كثير من الألفاظ في لغاتنا، وهي شاهدة بما نقلناه عنهم، وبواسطة العرب دخل العالمُ الغربي الذي كان بربريًّا في غمار المدنية، فإِذا كان لأفكارنا وصناعاتنا ارتباط بالقديم، فإِن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة قد جاءتنا من العرب. وقد أخذ الأوروبيون من العرب صُنع الجوخ في جملة ما أخذوا من الصنائع، وكان أهل بيزا الإِيطاليون ينزلون مدينة بِجَاية في الجزائر فتعلَّموا منها صُنع الشمع ومنها نقلوه إِلى بلادهم وإِلى أوروبا.
وقال سنيوبوس أيضًا: وكان عبد الرحمن الثالث الأُموي على اتصال دائم بأمراء إِسبانيا وفرنسا وألمانيا وممالك الصقالبة. وكان القصر الملوكي في طاوزة من بلاد فرنسا صورة من صور قصور الخلافة في قرطبة، يتبارى فيه الشعراء وتقوم فيه للآداب سوق. ولما انتقل أحد أمرائهم ليتولى عرش فرنسا (سنة ٩٩٩)، أدخل ما أخذ عن العرب تبدلًا حقيقيًّا في باريز من حيث الأخلاق واللغة. وكان ملوك فرنسا من أهل السلالة الثالثة يقلدون العرب في كل شيء، وتعلَّم الفرنسيس أشياء كثيرة في حملة سان لوي الصليبية التي بقيت عدة سنين في الشرق، وفي الحروب الصليبية تعلَّم الفرنسيس صُنع الورق من دمشق بواسطة أسيرين منهم قضَيا زمنًا فيها فلما عادا إِلى بلادهما نشرا فيها هذه الصناعة المفيدة. وكان لكثير من ملوك أوروبا حرس من العرب إِلى عهدٍ قريب ولا سيما إِيطاليا وفرنسا. وذكر سيديليو أن بعض الإِفرنج زعموا أن العرب لم يعملوا في تقدُّم الصنائع شيئًا مع أنهم على ما قال العارفون برعوا في جميع الفنون الصناعية، واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دبَّاغون سباكون جلاءُون للأسلحة نساجون أصناف الثياب ماهرون في الأشغال التي تُصنع بالمنقاش والمقراض، ويؤيد علو كعبهم في هذه الفنون سيوفهم الباترة ودروعهم الخفيفة الصُّلْبة، وبُسُطهم ذات الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان، وما كشمير هذه الأيام إِلا نموذجات دالة على تلك الصناعة.
ولئن كانت خزائن الكُتب والمخابر والآلات هي مواد التعليم والبحث اللازم، ولكنها على ما قال لبون ليست إِلا أدوات، وقيمتها مناط بالطريقة التي تُستعمل لها، فقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر بنفسه ويوجِد شيئًا، وأن يكون تلميذًا دون أن يوفَق إِلى أن يصبح أستاذًا. أما العرب فبعد أن كانوا تلاميذ سذَّجًا أساتذتهم تآليف اليونان، أدركوا للحال أن التجربة والملاحظة تساويان أكثر من أحسن الكُتب. هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يُعدُّ العمل بها بِدْعًا، ولم تكن كذلك في الدهر السالف؛ فقد ظل علماء القرون الوسطى يشتغلون ألف سنة قبل أن يدركوها. ينسب الناس إِلى باكون قاعدة التجربة والملاحظة وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بَيْدَ أن الواجب أن يُعترف اليوم أن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب. وقال بهذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا كُتبهم ولا سيما هومبولد؛ قال: «إِن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء.»
وقال سيديليو: وقد اشتهرت مدرسة بغداد في أول أمرها بفكرتها العلمية حقيقةً، وكان لها التأثير الأكبر في أعمال العرب، فساروا من المعلوم إِلى المجهول، واستنبطوا أسرار المحسوسات ليُرجعوا الأسباب إِلى مسبباتها، لا يقْبلون إِلا ما أثبتته التجربة. هذه من الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصيبة التي صارت بعدُ عند المحدثين أداة استعملوها للوصول إِلى أجمل ما كشفوه. فكانت التجربة والملاحظة من أسلوب العرب، ودرس الكُتب والاكتفاء بترديد رأي المعلم كانت طريقة أوروبا في القرون الوسطى، والفرق ظاهر بين الطريقتين، ولا تُقَدر طريقة العرب في العلم حق قدْرها إِلا بالبحث فيها.
ولقد اعتمد العرب على التجارب، وسبقوا العالم وظلوا على سبقهم زمنًا طويلًا وعرفوا مكانة هذه الطريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويُعد المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التجربة أعمالهم العلمية هذا الوضوح والإِبداع الذي لا ينتظر أبدًا أن يسقط عليهما عند من لم يدرس الظاهرات إِلا في الكُتب، ولم يُفتهم الإِبداع إِلا في علم استحال عليهم فيه الرجوع إِلى التجارب وهو علم الفلسفة، وقادتهم الأساليب التجريبية التي كُتب لهم فضل السبق فيها إِلى كشف أمور مهمة وُفِّقوا إِليها بالضرورة في ثلاثة أو أربعة قرون، لم يُكتب مثله لليونان في زمن أطول من زمنهم بكثير، وهذه الذخيرة في العلم الماضي التي انتقلت إِلى اليونان قبلهم، ولم يستخرجوا منها كبير أمر منذ أحقاب، نقلها العرب برمتها مبدلة إِلى أخلافهم. ولم يقف عمل العرب عند تثمير العلم بما أوجدوه، بل نشروه بواسطة جامعاتهم وكُتبهم، فالتأثير الذي أثروه من هذا النظر في أوروبا كان عظيمًا في الحقيقة، وكانوا خلال عدة قرون أساتيذ متفردين عرفتهم الأمم النصرانية، وإِليهم يرجع الفضل في معرفتنا المَدنيتين اليونانية واللاتينية، وفي العهد الحديث فقط تجرَّد تعليم جامعاتنا من الاعتماد على تراجم كُتب العرب وكفَّ الغرب عن الأخذ بواسطتهم.
وللعرب في باب الهندسة الإِبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزُّخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إِيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم هي برود من أكسية الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها كما قال أحد العارفين من الإِفرنج. وعقد لبون فصلًا في تأثير العرب في الصنائع ولا سيما في الهندسة في الغرب؛ فقال: ربما ادَّعى بعضهم أن الهندسة الغوتية مأخوذة عن العرب وهذا وَهَمٌ، فإِننا إِذا قابلنا بين كاتدرائية غوتية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من ذينك القرنين نجد اختلافًا بَيِّنًا بين الهندستين. ولما كانت الفنون تعبِّر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق. وقد أخذت أوروبا من العرب أشياء في الزينة ووُجِدت على بعض البِيَع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر، وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز العربي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة العربية ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق. وقد جلب الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات والمعَرَّقات والمراصد في الأبراج والزغاليل والمحارس الناتئة والأفاريز ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرًا من مهندسي الأجانب وكان فيهم العرب، حتى إِن كنيسة نوتردام دي باري المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من العرب.
أما تأثير العرب في هندسة إِسبانيا فظاهرة ظهور الشمس والقمر، إِلى أن قال: قد ينقرض شعب وتُحرق كُتبه وتُهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثَّره يقاوم أكثر مما يقاوم الصُّلْب، وليس للطاقة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاءِ عليه أكثر من ذلك.
وقال أيضًا: إِن من ألقى نظرة على المساجد والقصور، وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها، يشهد أنها نُسجت على غير مثال، وأن الإِبداع فيها ظاهر محسوس. وإِذا رجعنا إِلى أوائل عهد المدنية العربية وهي في أوجها، نجد التقليد للصنائع الفارسية والرومية ظاهرًا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إِلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال. فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون والإِسرائيليون وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة. ولذا لا ينبغي أن يبعد الناس في مزاعمهم أن العرب لم يكن لهم فن فيه إِبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم عن الأمم التي تقدمتهم، ويُعرف الإِبداع الحقيقي في أُمة من السرعة التي بها تُحول المواد التي بين أيديها فتجعلها وَفْقَ حاجتها وتنشئُ فنًّا جديدًا. وما من شعب فاق العرب في هذا الباب؛ فإِن فكر الإِيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع المفننين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إِلى طرق جديدة فيها كل الحذق والمهارة. فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القِصَر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها؛ فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وُضعت على غاية من الدقة. ولو كان التُّرك مكان العرب ما كان خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر. وكان من أمر الشعوب التي خلَّفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرًا جديدًا، فظل التقليد باديًا في أُصولها وفروعها. أما في المصانع العربية كقصور إِسبانيا وجوامع القاهرة، فإِن المواد الأصلية قد استحالت إِلى ترتيبات بلغ من جُدتها أن يتعذر القول من أين جاءت.
وقال: إِن من ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب يتجلى له أنهم حاولوا أبدًا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والأناقة. فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على متفنن، اغتنوا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام، فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة. وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيُدانيهم في الأخذ بطرائقها، ومن العبث أن نتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإِنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إِلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.
وقال ميجون: لا ننكر على العرب أن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أُسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالب متجانس فأوجدوا منها مَدنية مطبوعة بطابع عظمتهم مشعرةً بسلامة ذوقهم. ولم يمضِ قرن على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشرق وإِفريقية الشمالية وإِسبانيا حتى تبدَّل النظام الاجتماعي في البلاد المغلوبة، وحل محله دين وإِدارة وعادات وأخلاق جديدة، وهكذا يقال في صناعاتهم وفنونهم وكثير من احتياجاتهم. وإِن توحيد تلك البلاد من بحر الظلمات إِلى المحيط الهندي، وإِخضاعها لسلطان واحد ونظام شامل، والعناية بالجندية، وإِقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهَّل سبل التعارف بين المؤمنين وجعل كل واحد منهم يحمل إِلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى. ولذلك رأينا التأثيرات الشرقية في أقدم بناء إِسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان مغربيةً بطرز بنائها شرقية بزخارفها.
وذكر مركيه في كتابه الفن والتاريخ أن العرب ورثوا فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في سلطانهم الفنون والصنائع، وأخذوا يَحْذُقونها ويبرعون فيها في مدارس المورثين؛ إِذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنًّا كما ارتجلوا لهم مُلكًا. ومع ذلك لم يمضِ زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون، دون أن يروا في شيءٍ من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم، أو معارضة لشريعة نبيهم. ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة، بل تعدوه إِلى التفنن والإِبداع، فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا، حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإِسلامية، حرصًا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا، فأصبح الروح العربي بارزًا واضحًا يندمج فيه غيره، ولا يندمج في شيءٍ؛ ولهذا خلقت العرب لها فنًّا يوافق ذوقها ويسير مع طبعها، وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء. ا.ﻫ، قالوا: وقد خضعت الفنون الإِسلامية لنواميس الطبيعة الإِقليمية فاصطبغت في كل قطر بصبغته الخاصة، وكانت في عامة أحوالها من أندلسي ومغربي وصقلي ومصري وشامي وعراقي وفارسي وهندي ومغولي؛ إِسلامية أصلية كريمة نبيلة تنطق بما للإِسلام من إِباء ونجدة وشهامة ونخوة … إِلخ.
هذا يا سادتي ما لَقِفَه العرب ولَقِفُوه، بل هذا مجمل ما اخترعوه وكشفوه، استفادوا منه وأفادوا أهل المدنية الحديثة، عملوا فيه وحدهم بعقولهم وتجاريبهم، وتواضعوا على ما لم تشاركهم فيه أمة (انتهي ملخصًا من كتابنا الإِسلام والحضارة العربية). وبعدُ؛ فإِذا كانت للعرب عناية فائقة بعلوم الطب والتشريح والأقرباذين وعلوم النبات والحيوان والبيطرة والبيزرة وأحكام النجوم والطَّلسمات والسيمياء والكيمياء والفِلاحة والمِلاحة والهندسة وعقود الأبنية والمناظر والمرايا المحرقة ومراكز الأثقال وإِنباط المياه والبنكامات والآلات الحربية والزيجات والتقاويم والمواقيت والأرصاد وتسطيح الكرة والآلات الظلية والحساب المفتوح وحساب التخت والميل والجبر والمقابلة وحساب الخطأَين، إِلى آخر العلوم التي أفردوها بالتأليف وتوفروا على خدمتها؛ فإِن لهم في فروع أخرى من علوم الحضارة ما لا يخطر بالخاطر أنهم سبقوا ووضعوا فيه نتائج تجاربهم؛ فلهم في فن الطبخ والأطعمة والمزورات وتدبير المنزل والمدينة تآليف جميلة، وفي علم العِرافة والقيافة والرِّيانة والفراسة واستحضار الأرواح والقِرانات وقلع الآثار إِلى غير ذلك مما عالجوه من الموضوعات وجعلوه علومًا قائمة برأسها، ما دلوا به على أن هواهم بعلوم الدنيا وازى هواهم بعلوم الآخرة. ولولا أن ضاعت كُتبهم فلم ينتهِ إِلينا منها غير نحو عُشرها، لوقفنا من علومهم وفنونهم على أكثر مما وقفنا. وكان الفضل في الانتفاع ببقايا فضلهم لوراثي مجدهم العلمي أهل المدنيات الحديثة.