الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
هذه المحاضرة هي حلقة في سلسلة من المحاضرات التي يُقصد بها بحث الثقافة المصرية من نواحيها المختلفة للوقوف على المصادر المتعددة التي كان لها الأثر في تكوين هذه الثقافة، ومهمة الباحث في ذلك أشبه شيء بمهمة الكيميائي يحلل المادة المركبة إِلى عناصرها ويستنبط الكيفية التي بها تفاعلت هذه العناصر فتَكَوَّن من اجتماعها وتآلفها ذلك الجسم المركب، فالثقافة المصرية كانت في المحاضرات السالفة من هذه السلسلة، وستكون في هذه المحاضرة موضع بحثنا وتحليلنا، تارة نُذيبها وأخرى نصهرها وثالثها نَبْخَرُها أو نُقَطِّرُها؛ ولذا فسأطلب إِلى حضراتكم إِذا وجدتموني أعالج مادتنا بهذه الوسائل الفعالة أن تحملوا عملي هذا على الرغبة في الوصول إِلى حقيقة جوهرها وَاكْتِنَاهِ سرها، لا على مجرد الشغف بالتحطيم والإِتلاف الذي أنا بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وستكون مهمتي مقصورة على البحث عن عنصر واحد من العناصر الداخلة في تركيب الثقافة المصرية الحديثة، ألا وهو العنصر العلميُّ؛ ذلك لأن حضرات الذين نظموا عقد هذه المحاضرات قد استحضروا خُبراء غيري يتحدثون إِليكم عن العناصر الأخرى التي هم أدرى بها وأعلم بخواصها مِنِّي.
فلنعتبر إِذن ثقافتنا المصرية، وأعني بها الثقافة المصرية في عهدنا الحالي، طبعًا من الممكن أن ننسب إِلى مصر ثقافات مختلفة في أزمة مختلفة؛ فنتكلم عن الثقافة المصرية القديمة، والثقافة الإِغريقية في مصر، والثقافة العربية في مصر وهكذا، ولكنني أعتقد أن هذا يكون خطأ في التعبير؛ فكما أننا لا ننسُب إِلى الشخص الواحد شخصيات مختلفة في أدوار حياته المختلفة، بل نفترض أن له شخصية واحدة تتطور وتنمو وتتكيف من حينٍ إِلى آخر، كذلك يجب أن نعتبر ثقافتنا المصرية وحدةً متواصلة الوجود منذ أقدم المدنيات المصرية إِلى اليوم، وأن ننظر إِلى الحضارات الإِغريقية والعربية وما اقترحها لاستكشاف العلوم هي بحيث لا تترك إِلا القليل لحدة الذهن وقوته تكاد تتساوى في استعمالها العقول على تفاوت مداركها، فكما أنه في رسم خط مستقيم أو دائرة كاملة الشكل يتفاوت الناس بحسب مهارة أيديهم ومقدرتهم على الرسم إِذا هم رسموها معتمدين على اليد فقط، ولكنهم يتساوون أو يكادون إِذا هم استعملوا المسطرة والبرجَل، فكذلك الحال في أمر طريقتي، وخلاصة هذه الطريقة الباكونية — كما تُسمَّى — أن الباحث لكي يصل إِلى معرفة أسباب الظواهر الطبيعية، عليه أن يدرسها دراسة مباشرة في ظروف مختلفة، ثم يقارن بين هذه الظروف ليصل إِلى ربط الأسباب بمسبباتها الحقيقية مراعيًا في ذلك أنه كلما وُجِد السبب وُجِد المسبب، وكلما غاب السبب غاب المسبب، وكلما زاد مقدار السبب أو نقص زاد مقدار المسبب أو نقص تبعًا لذلك.
ولا أنكر على حضراتكم أنني عندما لُقِّنت هذه الأشياء عجبت أشد العجب من أن تُعتبر طريقة باكون هذه بدعة في التفكير، كما أنني أصارحكم القول بأنني تشككت كثيرًا في مدارك باكون عندما قرأت وصفه لها بأنها طريقة «تكاد تتساوى في استعمالها العقول على تفاوت مداركها»؛ إِذ إنني لم أجد في طريقته إِلا أمورًا تكاد تكون بديهية، أعتقد أن الشخص العادي عندنا يفطن لها بغاية السهولة بل وأظنه يطبقها في حياته اليومية، واليوم، وأنا أعيد التفكير في هذا الموضوع أراني أجد في عمل باكون وما عُلِّق عليه من الأهمية دليلًا على شيء واحد ألا وهو انحطاط التفكير العلمي في البلاد الأوروبية في عصر باكون، والظاهر أن الأمم المختلفة تأتي عليها أدوار في تاريخها تخزن فيها عقولها في خزانات من حديد وتسير منقادة بحكم التقاليد والآراء البالية حتى إِذا أخرج واحد منهم عقله من خزانته، وأزال عنه شيئًا من الصدأ المتراكم عليه ثم استعمله مرة أو مرتين، هلل القوم وكبَّروا وطبلوا وزمروا معجبين بلباقة هذا الفرد وشدة مهارته، وربما عدُّوه ساحرًا أو مارقًا خارجًا عليهم لِما يأتيه من الأمور المدهشة التي لا يجسر على الإِتيان بمثلها سواه، ولا بد أن شيئًا من هذا القبيل حدث في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وهنا يجب عليَّ أن أرد على اعتراض ربما بدا لبعض حضراتكم، فربما قيل إِنه من الظلم أن أحكم وأنا ابن القرن العشرين وقد تشبعت بالتفكير الحديث وتأثرت بمؤثراته على أمثال السير فرنسيس بيكن الذي هو من واضعي أُسس هذا التفكير، فكأنما الغصن ينظر إِلى الجذع ويَعجب من انحطاطه وقربه من الأرض ناسيًا أنه لولا هذا الانحطاط لَمَا كان ارتفاع الغصن، جوابي على هذا أن شجرة التفكير البشري يذهب أصلها إِلى أعمق بكثير من أيام فرنسيس بيكون؛ فالتفكير البشري وعلى وجه الخصوص التفكير العلمي المبني على المشاهدة المباشرة كان موجودًا قبل بيكن عند العرب وعند الإِغريق وعند المصريين القدماء، وقد وصل في كل من هذه العصور إِلى مستوى يفوق بكثير ما كان عليه في أيام بيكن، وكل ما يمكن أن يقال عن عصر بيكن هو أنه عصر نهضة، عصر استيقاظ تبعه تقدُّم مبني على نتائج أعمال العصور التي سبقته.
فالعقلية العلمية والطريقة العلمية إِذن ليستا وليدَتَيِ الحضارةِ الأوروبية الحديثة ولكنهما كانتا موجودتين أينما ومتى وُجِد العلم، وعلى وجه الخصوص كانتا موجودتين في مصر في أيام الفراعنة وفي عصر الإِغريق وأيام ازدهار الحضارة العربية، وأخيرًا هما موجودتان بيننا اليوم، وقد سبق أن بينتُ لحضراتكم أن الثقافة المصرية الحالية هي أيضًا ليست وليدة العصر الحالي، بل يرجع تاريخها إِلى فجر التاريخ يوم كانت مصر مبعث ثقافات الأسرة البشرية.
وإِذن فالثقافة المصرية والعلم صديقان قديمان نشآ في مهدٍ واحد وترعرعا على ضفاف النيل معًا وشربا من مائه، فليس بغريب أن نجد بينهما أواصر الأُلفة وروابط العِشرة القديمة، أو بعبارة أخرى ليس بغريب إِذن أن نجد الأثر العلمي واضحًا في ثقافتنا المصرية الحديثة.
فلنُحلل إِذن ثقافتنا الحالية باحثين عن عنصر العلم فيها، لنحلل أدبنا وفنوننا ونظمنا الاجتماعية وتشريعنا وتعليمنا، فهل نجد للعلم والتفكير العلمي أثرًا واضحًا فيها؟ أراني مضطرًّا إِلى الدخول في بعض التفاصيل التي لا مفر منها بحكم مهمتي كباحث ومُحَلِّل؛ ولذا فأستميحكم عفوًا إِذا أنا تعرضتُ لبعض الأمور التي ربما ظهر لأول وهلة أنْ لا شأن لي بها، ولكن علينا أن نتذكر أنني إِنما أتعرض لها من ناحية واحدة فقط هي الناحية العلمية، ومادمتم تسلِّمون بأنني أعرف شيئًا عن العلم، فلعلني أستطيع أن أتعرف عليه إِذا أنا وجدته داخلًا في تركيب الثقافة.
فعن الأدب الذي هو رمز من أظهر الرموز على ثقافات الأمم؛ هل في أدبنا الحديث ما يدل على أثر التفكير العلمي فيه؟ لا أقصد بذلك طبعًا أن نجد أدباءنا يصوغون نظريات إِقليدس أو قوانين نيوتن في قالب شعري أو روائي.
كما أنني لا أقصد أيضًا أن نجد في أدبنا ميلًا خاصًّا إِلى إِدخال المصطلحات العلمية والإِشارة إِلى المخترعات والآلات الحديثة، فالواقع أن هذه الظاهرة وإِن كانت مشاهَدة بيننا إِلى حدٍّ ما إِلا أن الباحث لا يستطيع أن يعلِّق على ظهورها أهمية، هي أثر من آثار العلم إِن شئتم، ولكنه أثر ضئيل غير مرتبط بصُلب موضوع الأدب، وهناك أثر آخر قليل الأهمية أيضًا وإِن كان أهم من الأثر السابق وهو استعمال الطريقة العلمية في تحليل الأدب ونقده، فإِن النقد الأدبي — كما تعلمون حضراتكم — فن مرتبط بالأدب وليس هو الأدب ذاته، ومع ذلك فلا بأس من الإِشارة إِلى ما هو حادث في مصر الآن من التغير في أساليب النقد الأدبي بطريقة لا تدع مجالًا للشك في أنها أثر من آثار التفكير العلمي.
وإِنما الأثر العظيم، الأثر الذي يسترعي نظر الباحث في أدبنا الحديث هو استعمال الطريقة العلمية في الأدب ذاته، والطريقة العلمية — كما بينت لحضراتكم — تنحصر في الاعتماد على المشاهدة المباشرة والتفكير الصحيح، فهي تتميز ببُعدها عن التقليد والمحاكاة لذاتهما، ولا شك في أن أدبنا الحديث قد أخذت تظهر فيه هذه المميزات بصفة واضحة؛ فالأديب اليوم بدلًا من أن يقصُر جُلَّ همِّه على محاكاة من سبقه من الشعراء والكُتاب والنسج على منوالهم، كما كان الحال في الماضي القريب، قد صار يعتمد على خبرته المباشرة وتفكيره الخاص، ولعل بعض كُتابنا وشعرائنا قد تغالوا في ذلك إِلى حد محاولة قطع كل صلة بين الماضي والحاضر، وهي محاولة مآلها الفشل ولا محالة؛ إِذ إن الأدب كالعلم هيكل يُبنى لا سبيل إِلى فصل أعلاه عن أسفله إِلا بهدمه، أو كائن ينمو لا سبيل إِلى محو أثر الماضي فيه إِلا بقتله، وإِنما الذي أقصده من استعمال الطريقة العلمية ذلك الاتصال المباشر بين الأديب وبين بيئته المادية والمعنوية بحيث يخرج أدبه غضًّا يانعًا تستطيبه النفس ويستسيغه الذوق السليم، لا ذابلًا يابسًا قد أكل عليه الدهر وشرب، فهذا الاتصال المباشر هو أساس كل إِلهام صادق في الأدب، به تظهر شخصية الأديب في أدبه وبالتالي تظهر شخصية الأُمة في أدبها.
وما قلته عن الأدب يصح أن يقال عن سائر فنوننا الجميلة من تصوير ونحت وموسيقى؛ ففي جميع هذه النواحي نجد أثر العقلية العلمية ظاهرًا لا يحتمل اللبس ولا الإِبهام.
كذلك الحال في نظمنا الاجتماعية وتشريعنا، فإِننا نرى في كل يوم دليلًا جديدًا على الرغبة الصادقة في حل مشكلاتنا الاجتماعية وسن قوانيننا بما يتفق ومنطق العلم، كلنا حديثو عهد بالوقت الذي كنا نبني فيه نظمنا وقوانيننا على تفكير غيرنا من الأمم أو على مجرد الآراء الموروثة بيننا دون فحص كافٍ لملاءمة نُظم غيرنا لنا أو تمحيصٍ للآراء الموروثة عندنا، أنا لا أزعم أننا اليوم قد وصلنا إِلى الحالة التي نَنشدها بأن أصبح عندنا القادة الاجتماعيون والشارعون الذين يستطيعون أن يدرسوا مشاكلنا دراسة علمية مباشرة ويبينوا لنا السبيل الذي نسلكه بوضوح، فكما ذكرت في أول محاضرتي، نحن لا نزال نتلَمس طريقنا بين حكمة العقل ومنطق العاطفة، ولكن الذي يذكر من حضراتكم ما كان عليه الحال منذ عشرين سنة فقط يستطيع بسهولة أن يلحظ التقدم الهائل الذي حدث في هذه البرهة القصيرة بالنسبة إِلى حياة الأمم.
أما عن التعليم الذي ربما كان أكبر عامل على نشر الثقافة وتوجيهها في البلاد فكلكم تعلمون أن العلوم التجريبية تدرَّس في المدارس المصرية بأنواعها، وإِذن ففي هذه الحال عندنا أثر مباشر للعلوم ذاتها في عقلية الأمة، وتفكيرها ناشئ عن دراسة هذه العلوم بالذات، ولا شك في أن تعليم العلوم الحديثة بالأزهر الشريف كان وسيكون له أثره في الثقافة المصرية، بل وفي الثقافة العربية بأسرها، فالأزهر الذي هو أقدم جامعة في العالم والذي خدم العلم وربَّى الروح العلمية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا بعيدة عن كل علم وثقافة، هذا المعهد قد أخذ يستعيد مجده الأول ويتمشى بخطوات واسعة نحو استكمال عظمته وجلاله، إِلا أنه في الوقت الذي أُنوِّه فيه بأهمية تعليم العلوم التجريبية بمعاهدنا العلمية، يجب عَليَّ كمعلم متصل بحركة التعليم في البلاد أن أشير إِلى ضرورة الاعتناء بتربية الروح العلمية ذاتها في مدارسنا، فالعلوم يمكن أن تدرَّس بطريقة علمية كما أنها يمكن أن تُلَقَّن تلقينًا بعيدًا كل البعد عن الطريقة العلمية وروحها، وأساس الطريقة العلمية — كما بينت لحضراتكم — المشاهدة المباشرة والتفكير، أو بعبارة أخرى الاعتماد على النفس في الوصول إِلى المعلومات، هذا الاعتماد على النفس هو أساس كل تقدُّم في العلوم كما أنه أساس كل تقدُّم في سائر مرافق الحياة، ولا أخفي على حضراتكم أن تعليم العلوم بطريقة غير علمية هو عيب ظاهر في نظامنا التعليمي اليوم ولو أنه عيب لا أشك في أنه سيزول تدريجيًا بحكم طبيعة الأشياء؛ فالعلم وحده إِلى حدٍّ ما كفيل بخلق العقلية العلمية في العقول السليمة.
وبعدُ؛ فلعل بعض حضراتكم الليلة كان ينتظر مني أن أشير إِلى الاختراعات والمستحدثات من إِنارة كهربائية وقاطرات وطائرات وما إِلى ذلك وأثرها في ثقافتنا، ولعل هذا البعض قد أدهشه أو أحزنه أنني لم أُشِر إِلى شيء من هذا، أما السبب في عدم إِشارتي إِليه فيرجع: «أولًا» إِلى أنني لا أعتقد أن هذه القاطرات والطائرات … إِلخ هي من العلم في شيء. «وثانيًا» إِلى أننا لو اعتبرناها أثرًا من آثار العلم فلا أظن أن لها شأنًا يُذكر في ثقافة الشعوب، فهذه المظاهر الخلابة وإِن كانت نتيجة لا مفر منها للتقدم العلمي، وعرَضًا من أعراض الثقافة البشرية، إِلا أنها بعيدة عن جوهر العلم نائية عن كنه الثقافة؛ فالثقافة أيها السادة حقيقة معنوية مادتها الروح البشرية، كما أن العلم قوامه التفكير البشري، ولا يجوز الخلط بين هذه الأمور الأساسية وبين المظاهر السطحية التابعة لها والمتوقفة عليها.
لم يبقَ عليَّ إِلا أن أختتم محاضرتي برجاء وأملٍ؛ فرجائي إِلى حضراتكم أن تتقبلوا الآراء التي قدمتها إِلى حضراتكم الليلة بالروح التي أَمْلَتْها عليَّ وهي الروح العلمية، تلك الروح التي إِنما ترمي إِلى الوصول إِلى معرفة الحقيقة وتصوير الواقع بدون تحيز إِلى رأي من الآراء أو ضيق صدر عن قول من الأقوال، وأما الأمل فأن تنتشر هذه الروح بيننا، وأن تتشبع بها ثقافتنا حتى تكون رائدنا نتبين بها سبيلنا في عظمة الماضي، وقوة المستقبل بحصافة الشيوخ وهمة الشباب، بين حكمة العقل ووحي العاطفة.