الرأي الحر
(المحاضرة الأولى من سلسلة المحاضرات التي ألقاها بقاعة يورت التذكارية الأستاذ الدكتور طه حسين.)
سيداتي، سادتي
كأنما كنا مع الحرية على موعد أيها السادة، فلم أكن أُقَدِّر ولم يكن الأستاذ كليلاند يُقَدِّر أيضًا منذ أسابيع حين كان يتحدث إِليَّ في أمر هذه المحاضرات عن الرأي الحر، لم نكن نُقَدِّر أن المحاضرة التي سأتحدث فيها عن الرأي كيف نشأ؟ وعن آثاره كيف كانت؟ لم نكن نُقَدِّر أن هذه المحاضرة ستُلقى في الأيام التي يشعر الشعب المصري بأن حريته تُردُّ إِليه فيها.
ولولا أننا نعيش في القرن العشرين وأن الحضارة الإِنسانية قد تقدمت خطوات واسعة منذ خمسة وعشرين قرنًا، لولا هذا لظننت أن ذلك الروح وأن ذلك الشيطان الذي كان يلهم سقراط هو الذي ألهم الأستاذ كليلاند أن يطلب إِليَّ أن أتكلم في موضوع حرية الرأي، وأن يكون هذا الحديث في ١٦ نوفمبر؛ أي بعد أن أُعلن أن الحرية قد رُدت إِلى مصر بيومٍ واحد.
على أني أريد أن أتحدث إِليكم عن الرأي وحريته، حديث الأستاذ لا حديث رجل آخر، ومن المحقق أن أحاديث الأساتذة في كثير من الأحيان قد تكون ثقيلة وقد تكون مملة، فأستميحكم المعذرة إِن ثقل عليكم الحديث أو أخذكم الملل.
نستطيع أن نمضي في البحث التاريخي عن حرية الرأي، بل عن الرأي نفسه إِلى أبعد زمن ممكن، فلن نتجاوز الألف الثاني قبل المسيح، إِلى ذلك الوقت كان الإِنسان يحيا حياة توشك أن تكون آلية يتأثر فيها بالغريزة، ويطيع فيها الغريزة، أكثر مما يتأثر بأي شيء آخر، وأكثر مما يطيع أي شيء آخر؛ فكانت حياته اليومية نتيجة لتلك الغرائز، وكانت حضارته التي انتهى إِليها نتيجة لتلك الغرائز التي كانت تسيطر على حياته سيطرة تامة، ولست أدري أيستطيع الأدباء والذين يدرسون التاريخ منذ العصور القديمة جدًّا أن يظفروا بنص من هذه النصوص التي تصور لنا إِنسانًا يفكر ويعلن رأيه في حرية وصراحة ويجد من الجماعات التي يعيش فيها مقاومات؛ مقاومة له حين يفكر، ومقاومة له حين يعلن رأيه، ولكن الذي لا نكاد نشك فيه هو أن أقدم هذه النصوص التي نستطيع أن نلاحظ فيها أثر الحرية وأن نشعر بالحرية الشخصية، ومن ظهور التأثر بهذه الحرية الشخصية التي تدفع الفرد إِلى أن يعلن آراء لا يوافقه غيره عليها؛ أقدم هذه النصوص لا نكاد نجدها إِلا في الإِلياذة والأودسة؛ فنحن في الإِلياذة نرى جماعات يونانية متأثرة أشد التأثر بأحكام العادة والتقاليد، خاضعة أشد الخضوع لهذه الأحكام، ولا نرى في هذه الجماعات فردًا مقتنعًا بأنه موجود وجودًا خاصًّا، وإِنما هو مؤمن أشد الإِيمان بأنه لا يوجد إِلا للجماعة وبالجماعة، ولا يستطيع أن يفكر إِلا كما تفكر الجماعة، فتفكيره من تفكيرها وشعوره من شعورها، وحسه من حسها، وإِعرابه عن هذا الشعور وترجمته عن هذا الحس هو نفس الإِعراب ونفس الترجمة اللذين تلجأ إِليهما الجماعة حين تعبِّر عن حسها وشعورها.
ولكنا نجد في هذه الخصومة التي تصورها الإِلياذة بين أجا ممنون وأخيل بعض أفراد قد أخذوا يتمردون على الجماعة وعلى السلطان القائم ولكنهم يتمردون تمردًا خفيًّا مستورًا لا يكادون يعلنونه، إِنما يتحدث به بعضهم إِلى بعض في أحاديثهم الخاصة؛ هو لغة النجوى.
نجد فردًا من أفراد اليونان ينعي على أجا ممنون سلطانه وطغيانه، ولكنه لا يكاد يتحدث إِلى من حوله بهذا النعي، أو بهذا السخط حتى ينهض من ينهض من سامعيه فيضربه بالعصا على رأسه، يريد أن يضطره إِلى السكوت فيستخزي هذا الفرد الذي خرج على الجماعة وأنكر ما لها من قوة ومن قدرة ومن استئثار بالبأس والبطش، هذه الحياة التي تصورها لنا الأشعار القديمة في الإِلياذة والأودسة وما أشبهها من الأغاني اليونانية التي كانت تُنشد في القرن العاشر وفي القرن التاسع قبل الميلاد، تصور لنا جماعات أخص ما توصف به أنها متشابهة في الرأي والخُلق والعادة، وأنها تعيش عيشة توشك أن تكون كالنمل أو النحل أو كعيشة غير هذه الحيوانات من الحيوانات الاجتماعية لولا أن الله قد منحها غرائز ومنحها استعدادًا خاصًّا للرقي والكمال لم تستطع أن تصل إِليها النمل أو النحل.
ولكن الحياة الإِنسانية لم تقف عند هذا الحد، وقد أراد الله للإِنسان أن لا يكون حيوانًا اجتماعيًّا بالغريزة وحدها، وإنما أراد له أن يكون حيوانًا اجتماعيًّا بالغريزة والعقل، والعقل الإِنساني يرقى شيئًا فشيئًا، ورقيه نتيجة الحياة المادية وتعقُّدها وما ظهر فيها وما زال يظهر من الخصومات والتنافس على المنافع، والتهالك على إِرضاء الحاجات الإِنسانية التي لا تنقضي، وما دام الناس يشعرون بهذه الحاجات ويُدفعون بغرائزهم إِلى إِرضاء هذه الحاجات، وما دامت هذه الحاجات مختلفة أشد الاختلاف متنوعة أشد التنوع؛ منها ما يمس الثروة والاقتصاد، ومنها ما يمس السياسة والعلم، وما دام هذا كله موجودًا؛ فلا بد للإِنسان من الحيلة، ومتى وُجِدت الحيلة، أخذ عقله في الوجود، ومتى وُجِد العقل الإِنساني وشعر الفرد بأنه شيء فقد أخذت الخصومة وأخذت الحرب توجد بين الفرد والجماعة، ومتى ظهرت شخصية الفرد وابتدأ يشعر بأن له حقوقًا وعليه واجبات، وبأن هذه الحقوق يجب أن يتقاضاها، وبأن هذه الواجبات يجب أن يقْضِيها، فإِن استطاع أن يفر منها فعل، ما دام هذا كله موجودًا؛ فليس من شك في أن مسألة حرية الرأي قد وُجِدت، وأن هذه المسألة التي قامت ستظل قائمة إِلا أن يُرَدَّ الإِنسان إِلى حياة الغريزة الأولى التي كان يحياها.
وفي القرن السابع أو القرن الثامن قبل الميلاد أخذت الخصومات بين الجماعات اليونانية تظهر على المنافع المادية، خاصةً امتلاك الأرض، وعلى استثمارها والانتفاع بما تأتيه من ثمرات، ثم لم تلبث هذه الخصومة أن تجاوزت الجماعات إِلى الأفراد أنفسهم، فأخذوا يتخاصمون، كل منهم يريد أن يملك أعظم حظ ممكن من الأرض أو الثروة، بعد أن كانوا لا يشعرون بشيءٍ من ذلك.
ومنذ ذلك الوقت أنتجت لهم هذه الخصومات الاجتماعية محنًا ومصائب دعت الأقوياء إِلى أن يضطهدوا الضعفاء، ودعت الضعفاء إِلى أن يلتمسوا لهم أماكن أخرى يستطيعون أن يظفروا فيها بشيءٍ من الأمن والدعة.
ونشأ من ذلك أيضًا أن اختصمت الأُسر؛ فطغى كبير الأسرة على صغارها، واستبد صاحب السلطان الشرعي بالذين ينبغي أن يظلَّهم، واضطروا إِلى أن يهاجموا ويخاصموا فلم تنفعهم مقاومة ولم يَجْدِ عليهم خصام، وفي أثناء هذه الاضطرابات التي نشأ عنها استعمار يوناني في إِيطاليا وفرنسا وأفريقيا، وفي بلاد أخرى بعيدة عن بلاد اليونان، في أثناء هذا الوقت أخذ الأفراد يشعرون بأنفسهم، ويلتمسون لأنفسهم أسباب الراحة، وأسباب الحرية أيضًا، ثم أخذ هذا العقل اليوناني يقوى ويشتد حظه من القوة شيئًا فشيئًا، حتى نشأ عن هذا التفكير البسيط تفكير أكثر منه تركيبًا، تفكير نستطيع أن نقول إِنه قد أخذ يتجاوز الحياة المادية القريبة العاجلة إِلى شيءٍ آخر، وأخذ الناس يفلسفون — إِن صح هذا التعبير — فيما يلم بهم من الخطوب وما يصيبهم من المحن، ويحاولون أن يفهموا المشكلات ويفسروا هذه المصاعب التي طرأت لهم، ثم يحاولون أن يستنتجوا من هذا كله شيئًا يشبه أن يكون حكمة.
وأول ما يصور هذه الأخلاق العامة الأخلاقُ التي تمثل الخير وتمثل الشر من حيث اتصالهما بحياة الفرد لا تجدونه في الإِلياذة وفي الأودسة، ولكن في شعر آخر هو شعر الشاعر اليوناني المشهور «أزيود» الذي أخذ يتفلسف في حياة الإِنسان ويحاول أن يصورها في شعره كما نفلسف نحن في بعض حياتنا اليومية العادية، بل ارتقى تصوير الناس إِلى أبعد من هذا أيضًا حتى حاول أزيود في قصيدته «الأيام والأعمال» التي حُفِظت إِلى الآن، حاول أن يُوجِد شيئًا يشبه العلم، فنظم بعض المعلومات التي كان الناس يستكشفونها كل يوم في حياتهم الخاصة من بعض المعلومات التي تمس الزراعة والفصول من صيف وشتاء وخريف وربيع، ثم ينتقل من هذا إِلى بعض ملاحظات فلسفية عن العمل وفائدته وعدم الاعتماد على الوراثة ولا على الثروة التي تورَّث، ولكن الرجل الذي يستحق أن يُسمَّى رجلًا حقًّا هو الذي يعتمد على عمله.
هذا الشعور، وهذا الرقي العقلي، وهذا التفكير الذي نلاحظه لم يلبث أن انتهى إِلى نتائجه الطبيعية، وهذه النتائج الطبيعية هي إِيقاظ ميل الإِنسان إِلى النقد، وإِلى الملاحظات المختلفة على النظم التي كان خاضعًا لها، ومنذ أخذ الإِنسان اليوناني يلاحظ وينقد ويضع النظام القائم موضع البحث والتفكير، نشأت الخصومات السياسية عند اليونان، وكان أول مظهر لهذه الخصومات أن أنكر سلطان الملوك، وأن أخذت جماعات من رؤساء الأُسر والعشائر تتحدث بأنْ ليس بين هؤلاء الرؤساء وبين هذا الرجل الذي يُسمَّى الملِك، والذي يستأثر بالسلطة الدينية والقضائية والحربية فرق ما؛ هو من أسرة عظيمة، كما أنهم من أُسر عظيمة أيضًا، له مكانة في الجماعة كما لهم، وهو إِنسان يتأثر، فهو إِذن مثلهم وهم مثله، فما امتيازه؟ وما تقديسه؟ وما الذي يمنع أن يكون هؤلاء الرؤساء الذين يشبهون الملِك؟ ما الذي يمنع هؤلاء الرؤساء من أن يكونوا شركاء الملِك في سلطانه ويقاسموه الامتياز؟ ومن هنا أخذ التنافس العنيف يظهر بين الملوك وبين رؤساء الأُسر، فنشأت الخصومة بين الأرستقراطية والملكية، وليس من شك أن الملوك قاوموا هذا ولكنهم غُلبوا آخر الأمر، وكان انتصار الأرستقراطية على الملكية أول نصر للرأي؛ فقد استطاع الرأي أن يُوجِد في الحياة اليونانية فكرة جديدة وأن يغيِّر نظامًا وأن ينقل الإِنسانية اليونانية من طور الخضوع لفرد واحد إِلى طور آخر هو الخضوع لأفراد كثيرين، ثم نلاحظ أن العقل الإِنساني إِذا بدأ الحركة فلا سبيل إِلى أن يسكن، ولست أدري أشر هذا أم خير؟
بدأ العقل الإِنساني ينقد فلم يكن من سبيل إِلى أن يقف عند حد، وما دام أفراد هم زعماء الأُسر قد استطاعوا أن يغلبوا الملوك بل أن يخلعوهم وأن يستأثروا من دونهم بالسلطان وأن يُنْشِئوا جمهوريات أرستقراطية، أمر الحكم فيها إِلى قلة من غير شك، ولكنه على كل حال إِلى جماعة لا إِلى فرد؛ فما الذي يمنع من أن يفكروا؟ وما الذي يمنع هؤلاء الأفراد الذين ليسوا زعماء ولا رؤساء أن يسألوا أنفسهم — كما كان الرؤساء يسألون أنفسهم — ما الذي يفرق بيننا وبين الزعماء؟ وما بال الزعماء يؤْثرون أنفسهم من دوننا بالأمر؟ وما الذي يمنع أن يكون السلطان شائعًا؟ ومنذ نشأت هذه الفكرة وصل الرأي السياسي الإِنساني الحر إِلى الطور الثاني من أطواره وهو الطور الديمقراطي وأخذ الحكم الديمقراطي ينبث، وظهرت أثناء القرن السابع والسادس قبل الميلاد ثورة على نظام الأرستقراطية في أكثر المدن اليونانية إِن لم يكن فيها كلها.
ولم يكد ينتهي القرن السادس قبل الميلاد حتى انتصرت الشعوب على الأرستقراطية وانتصرت أيضًا الديمقراطية، وحتى صار أمر الحكم إِلى الناس جميعًا بعد أن كان إِلى فرد واحد ثم إِلى جماعة ضئيلة.
من أخص ما يمتاز به العقل الإِنساني أنه إِذا بدأ الحركة لا يقف — كما قلت — ولكنه لا يمضي في طريق مرسومة مستقيمة (غير قابلة للانحراف)، وإنما العقل الإِنساني إِذا تحرك مضى أمامه وينحرف إِلى اليمين وإِلى الشمال، فهو يمضي ثم ينحرف، لا يتحرك حركة مستقيمة، وإنما يتحرك حركة فيها غير قليل من التعريج، فالعقل الإِنساني الذي ارتقى في السياسة والذي مكَّن للأقلية أن تقهر الملوك، ومكن الكثرة من أن تقهر الأقلية؛ هذا العقل لم يكتفِ بالنظر في شئون الإِنسان، ولكنه أخذ ينظر إِلى ما هو أرقى وأعم من الإِنسان، أخذ ينظر إِلى الطبيعة نفسها وهو الذي استطاع أن يُنزل الأرستقراطيات عن سلطانها، فما الذي يمنعه من أن يدرس الطبيعة أيضًا ومن أن يجعلها موضوعًا للبحث أو النقد؟
ومنذ ذلك الوقت أخذ العقل يفكر في مسائل ليس بينها وبين الإِنسان صلة مباشرة، هي مسائل عليا؛ أخذ يفكر في الطبيعة وأخذت الفلسفة الإِنسانية توجَد وجودًا فعليًّا. ونستطيع أن نقول إِن ظهور الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، هو العصر التاريخي الدقيق لظهور العقل بمعناه الصحيح، وهو العصر التاريخي الدقيق لظهور الرأي الحر، وهو العصر التاريخي الصحيح الذي أخذ يظهر فيه أفراد يقاومون الجماعة لا لمصلحة الجماعة بل لمصلحة الفكر للفكر من حيث هو.
منذ نشأت الفلسفة أخذ الناس يؤمنون بأن هناك شيئًا اسمه الحقيقة، وأن هذه الحقيقة يجب أن تكون فوق الإِنسان، وفوق الجماعة، وفوق كل شيء، وبأن الرجل الذي يمتاز بالعقل ويمتاز بالتفكير الصحيح يجب أن يضع الحقيقة فوق كل اعتبار وأن يجعلها هي وحدها قِبلته إِذا فكر أو نظر.
ومنذ ذلك الوقت أخذ يوجد بين الناس هؤلاء الأفراد الذين يوصفون بالجنون؛ لأنهم يخالفون جميع الأطوار التي تظهر فيها الجماعة في عصرهم؛ فهم خصوم الجماعة، وهداة الجماعة ومرشدوها إِلى الخير، وهم الذين يشقُّون لها طريقها إِلى الرقي، ولكنهم يسبقون عصورهم دائمًا، وربما كانوا يمتازون بأنهم وجِدوا في الوقت الذي كانت مصالحهم الخاصة تقضي بألا يوجدوا، فمن المؤكد أيها السادة أن سقراط لو وُجِد الآن لَمَا فكَّر فيه إِنسان، ولَمَا حفل به أحد ولا تعرَّض لخصومته أحد، فأين فلسفة سقراط وآراؤه مما وصلت إِليه آراء الفلاسفة المعاصرين؟
من المؤكد أن سقراط لو وُجِد في القرن العشرين لمرَّ كما يمر أي إِنسان مثقف ثقافة عالية ممتازة، ولكن من المحقق أنه لو لم يوجد في العصر الذي وُجِد فيه، ولو لم يسبق الوقت الذي كانت مصلحته الفردية تقتضي أن يوجد فيه، لو لم يوجد في عصر ينكره أشد الإِنكار، ويسخط عليه أشد السخط، لو لم يُوجد سقراط لَمَا وُجِدت الفلسفة التي توجد الآن، فلم يكن بدٌّ إِذن من أن يوجد هذا العقل الذي يظهر شذوذه وتفوقه وخروجه عن المألوف، ومن أن يشذ، ومن أن يخرج على الجماعة ليستطيع أن يُحدِث ما أحدث من الآثار، ويوجد بعده أفلاطون ثم أرسطاطاليس وغيرهم من هؤلاء الذين نراهم الآن ونشهد آثارهم.
لم يكن إذن غريبًا أن يشذ سقراط، ولم يكن غريبًا أن يجد سقراط ما وجد من الخصومة، ولا ينبغي أن نظن أن أول خصومة وجدها سقراط هي هذه الخصومة التي انتهت به إِلى الموت، هذه الخصومة التي اتهمته أمام المحكمة بأنه ينكر الآلهة ويضلل الشباب ويُفسد أخلاقهم، كلا، فإِن سقراط لم يكد يوجد، ولم يكد يظهر كفيلسوف، ويتحدث إِلى الناس بآرائه، ويجادلهم فيما كان يجادلهم فيه، حتى وُجد له خصوم مختلفون، وحتى ظهر رد الفعل، وحتى أنكره الناس إِنكارًا شديدًا، وأنكره الرأي العام وضحك منه وآذاه، وربما كانت قصة السحاب التي بقيت لنا من قصص أرسطوفان قصة رائعة ناطقة بهذه المقاومة التي لقيها سقراط، هذه القصة تصور لنا كيف كان جمهور الشعب ينظر إِلى سقراط فيسخر منه ويجده رجلًا سخيفًا يهذي ويعلِّم الشبيبة كيف تهذي، ويدفعهم إِلى أشياء لم يدفعهم إِليها أساتذتهم من قبل، ثم كيف كان الشعب يضحك من سقراط حينما كان أرسطوفان يمثل لهم هذه الأدوار الغريبة في قصر السحاب.
إِذن كان سقراط خارجًا على جماعته مقاومًا لها وكان طبيعيًّا أَن يجد من الجماعة ما وجد، ولم يكن هناك شيء غريب في أن يتقدم اثنان فيتهما سقراط بأنه عدو الشعب، ولا سيما إِذا لاحظنا أن فلسفة سقراط لم تمضِ في طريقها المستقيمة التي كان يجب أن تسير فيها، وإنما انحرفت به إِلى السياسة، وقد قلتُ إِن العقل لا يسير في طريق مرسومة، بل ينحرف إِلى اليمين وينحرف إِلى الشمال، فقد كان سقراط عضوًا من أعضاء الجماعة، يشعر بحقوق وواجبات وكان يشترك في أداء الواجبات العامة، وكان لحُسن حظ الإِنسانية وحُسن حظه مقاومًا لطغيان الطغاة، فلما ذهب عصر الطغاة وجاءت الديمقراطية منتصرة كان سقراط فيلسوفًا، ومعنى هذا أنه لم يمضِ مع الشعب ولم تستقِم به الطريق وإِنما أخذ يسخر من بعض النظم ومن كثير من نظم الحياة الإِنسانية، فخُيل إِلى الناس أنه عدو للديمقراطية.
ومن يدري لعل سقراط لم يكن بينه وبين نفسه صديقًا للديمقراطية! كان إِذن سقراط خصمًا للجماعة في تفكيرها وفي نظامها السياسي، ثم كان فيلسوفًا طاغية إِلى حدٍّ ما؛ فكلكم يعلم أنه عندما قُدِّم إِلى القضاة لم يدافع عن نفسه إِلا كارهًا، إِنما دافع عن نفسه ليسخر من الذين اتهموه والذين حاكموه أيضًا، ثم عندما صدر الحكم على سقراط لم يُظهر احترامًا لهذا الحكم ولا رضي عنه، وكانت العادة إِذا صدر الحكم على متهم بأنه مذنب أن يختار لنفسهِ العقوبة التي يرى أنها خليقة أن تُفرض عليه، فلما سأله القضاة عن العقوبة، قال ساخرًا: «إِنني قد خدمت الوطن خدمة متصلة طيبة وأظن أن الوطن يجب عليه أن يطعمني على حساب الدولة إِلى آخر أيامي»؛ أي إنه يرى أن تكرِّمه الدولة وأن تطعمه لا أن تعاقبه، أمام هذا الاستهزاء لم يكن بدٌّ من أن يُقضى على سقراط بالموت، وليس معنى هذا أن الشعب اليوناني كان موفقًا حين قاوم حرية سقراط، ولا موفقًا حين قضى على سقراط بالموت، ولكن معنى هذا أن الشعب اليوناني كان معذورًا؛ لأن حرية الرأي لم تكن قد عُرفت؛ ولأن الشعب بطبيعته مضطرٌّ إِلى أن يقاوم كل خطب يهدد حياته ويهدد نظامه، فكما أن للفيلسوف حقه في الفكر وفي أن يعلن رأيه، وله الحق في أن يتحدث إِلى الناس حرًّا، فمن الطبيعي أن يقاوم هذا الرأي، ولم يكن العقل الإِنساني قد ارتقى، ولم يكن الإِنسان يفهم مقاومة الرأي بالرأي وحده، إِنما كان الإِنسان يفهم أن كل خارج على الشعب يجب أن يُقضى عليه بالعقاب.
مهما يكن من شيء، فقد كان سقراط هو الضحية الأولى لحرية الرأي، ولكنها الضحية الخالدة الخصبة، وكان موت سقراط إِعلانًا لانتصار العقل وحرية الرأي السياسي؛ فلم يكد يُنفَّذ في سقراط حكم الإِعدام حتى انتشرت آراؤه ومذاهبه انتشارًا رائعًا، وحتى طغت مبادئه على كل الأرض، وانتصرت فلسفته على كل ما سبقها من أنواع الفلسفة وضروب الحكم، وحتى أصبح كل يوناني مثقف سقراطيًّا إِلى حدٍّ ما من تلاميذ أفلاطون أو غيره من تلاميذ سقراط.
ثم مضت الفلسفة مقاوِمَة للجماعات، ثم مضت الجماعات مقاومة للفلسفة أيضًا، وكلكم يذكر أن أفلاطون لم يكن حسن العلاقات مع الشعب الأثيني، وأن أرسطاطاليس قد هرب من أثينا؛ لأنه خاف أن يحاكَم كما حوكم سقراط، ومات وهو في هربه.
مضت الفلسفة تناضل عن حقها في الحرية وتلقى في ذلك محنًا وخطوبًا، تفكر وتعلن تفكيرها، إِلى أن كان عصر ظهور المسيحية، في ذلك الوقت وصلت الحرب بين العقل والضمير وبين الجماعات إِلى أقصى ما كان يجب أن تصل إِليه من عنف، وكان مظهر هذه الحرب بين حرية الضمير والرأي، وبين الدولة والسلطان ما كان من الخصومة بين الإِمبراطورية الرومانية والدين المسيحي، وكما لاحظ «إستيوارت مل» من أن رجلًا من قياصرة الرومان كان فيما يظهر أرقى القدماء تفكيرًا وأسماهم خُلقًا وأعلاهم تصورًا للخُلق الكريم، هذا الرجل هو ماركوس أورليوس الذي ترك في الأخلاق والحكم والفلسفة آراء خالدة، هذا الرجل قد اضطهد المسيحية وعذَّب الناس؛ لأنهم كانوا يقولون ربنا الله، وهذا أيضًا طبيعي؛ لأن المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا حراصًا على أن يستمتعوا بحريتهم بينهم وبين ضمائرهم فحسب، ولكنهم كانوا خارجين على السلطان.
كانوا ينكرون سلطان قيصر ويأبون أن يعبدوا قيصر كما كان يعبده غيرهم، وكانت عبادة قيصر جزءًا من الدين الرسمي والنظام السياسي، والغريب أن اضطهاد قياصرة الرومان للضمير المسيحي، وما سفكوا من دماء المسيحيين كان بالضبط كاضطهاد الأثينيين لسقراط؛ فهذه الدماء المسيحية التي سُفكت في سبيل الاحتفاظ بالرأي وحرية الضمير قد روت الأرض وملأتها بناس يُقدسون الشهداء ويسرعون إِلى المسيحية.
والشر كلُّ الشر أيها السادة يأتي من أن الإِنسان يطغى، ويكاد يكون طغيانه جزءًا من طبيعته، فهذه المسيحية التي جاهدت في سبيل حرية الضمير والتي لقيت ألوان العنف والظلم من قياصرة الروم، والتي سُفِكت دماء مئات الآلاف من أبنائها في سبيل الحرية، هذه المسيحية لم تكد تصبح دينًا رسميًّا حتى تأثرت أو اعتنقت نفس المبادئ التي كانت تحارَب بها، وفرضت على خصومها بعد أن ضعفوا ما كان يفرضه عليها خصومها حين كانوا أقوياء؛ فإِن المسيحية الرسمية قد اضطهدت الوثنيين وقتلتهم وعذَّبتهم، ثم مضى الأمر على هذا النحو حتى أصبحت مصادرة الرأي ومحاربة حرية الضمير شيئًا يوشك أن يكون رسميًّا في بلاد الروم في أواخر العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى، وحتى وُجِد من آباء الكنيسة من كان يقول إِن مَن أظهر خلافًا للدين الرسمي يجب أن يُقتل، ولستُ في حاجة إِلى التحدث عن الفظائع التي اقترفتها الملوك والسلطات لمصادرة الرأي ومقاومة الضمير الحر أثناء القرون الوسطى؛ كلكم يذكر من ذلك الشيء الكثير، وكلكم يشفق على الإِنسانية من آثار هذا كله، ثم كلكم يعلم أن نتيجة هذه المقاومة المتصلة كانت انتصارًا للرأي، وكان ظهور المذهب الجديد، مذهب الإِصلاح، نتيجة لمقاومة حرية الرأي، وكان انتصار مذهب البروتستانت في أوروبا هو انتصار مذهب حرية الرأي والضمير، على أن نفس مذهب البروتستانتية قد لقي مقاومات عنيفة، ولكن هذه المقاومات التي لقيها في بلد كفرنسا انتهت إِلى هذه النتيجة الباهرة التي قد نتحدث عنها في محاضرة أخرى، وهي وجود طائفة من فلاسفة فرنسا يُعلون حرية الرأي، ويتخذون التسامح مبدأً سياسيًّا، ويرون أن التسامح يجب أن يكون القاعدة العليا، والقاعدة الأولى والأخيرة لكل سياسة رسمية يكون عليها الحكم في بلد مثقف يحترم نفسه؛ فلولا هذه المقاومات الفظيعة لَمَا وُجِد فولتير وروسو، ولَمَا أُعلنت حقوق الإِنسان في أمريكا وفي فرنسا التي ما زلنا نعيش في ظلها إِلى اليوم.
أظنكم تلاحظون أني عندما عرضت لكم تاريخ حرية الرأي قد سلكت طريقي في الغرب منذ بدأتها إِلى أن انتهيت ولم أذكر الشرق، وهذا صحيح وسببه واضح، وهو أن الشرق القديم، الشرق الذي كان يسبق العصر اليوناني، هذا الشرق لا نستطيع أن نجد فيه ظلًّا لمسألة الرأي وحريته، لا نكاد نجد شيئًا من هذا في تاريخ الشرق القديم، إِنما وُجِدت الخصومات حول الرأي في الشرق عندما يتصل الشرق باليونان أيام الإِسكندر.
أما الشرق الآخر، الشرق الذي يبتدئ من نحو القرن السادس للمسيح والذي نعيش الآن في ظله، الشرق الذي تأثر بالأُمة العربية، الشرق الذي تأثر بالعرب والدين العربي، الشرق الذي تأثر بالإِسلام، هذا الشرق الإِسلامي أيها السادة ربما كان من أسعد أقطار الأرض من هذه الناحية، وأحق أقطار الأرض بالإِجلال؛ ذلك أنه لم يُعرف منذ وجود الإِسلام مصادرة حقيقية، خليقة بهذا الاسم، تقوم على الحرب المنظمة لحرية الرأي، إِنما قام الإِسلام على حرية الرأي مُعْليًا لها حريصًا عليها، وأظن أن كل مفكر حر منصف صادق في البحث والتاريخ لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسجل على الإِسلام، ولا على الذين أخلصوا له أنهم صادروا الرأي أو قاوموا حرية الرأي بنوع من الأنواع.
من المحقق أيها السادة أن نظامًا كالنظام الإِسلامي نجد في تاريخه الأول هذه الجملة الخالدة التي تصور الحرص على حرية الرأي، والفناء مع حرية الرأي، وإِيثار حرية الرأي على الحياة، هذا النظام ظاهر في هذه الجملة الخالدة التي قالها النبي ﷺ لعمه: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت.»
هذا النظام الذي نجد في تاريخه هذه الجملة الخالدة والذي نجد في كتابه المقدس: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ؛ لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون في وقت من الأوقات خصمًا لحرية الرأي، وكل من خاصم حرية الرأي فهو عدو للإِسلام.
ومع ذلك أيها السادة، فإِن برئ الإِسلام من العداوة لحرية الرأي، وبرئ من كل خصومة لحرية الرأي، وإِذا كان الإِسلام هو الدين الذي يجعل حرية الرأي أصلًا رسميًّا؛ فإِن بين المسلمين من يجهرون بمحاربة حرية الرأي، ومن يتخذون الإِسلام وسيلة لمحاربة الإِسلام.
وإِذا لم يكن بدٌّ من أن أؤدي إِليكم بكل صراحة وشجاعة رسالة العقل ورسالة الإِسلام معًا، فإِني أُعلن إِليكم صادقًا بغير تردد: «أن كل من يخاصم حرية الرأي فهو عدو للإِسلام.»