أدبنا الحديث: مفاتيح قراءة ومراجعة
لكي يُوجد الأدب فهو يحتاج لأن يُكتب، ويتصل إنتاجه زمنًا وأطوارًا، وتتضافَرَ في إنجازه الأذواقُ والمواهب، وتلتقيَ في مضماره نزوعاتٌ مختلفة هي جماعُ التعبيرِ المركَّب، عن الذات والمجتمع والحياة مرئية، وخفيةً محيِّرة، من غير أن ننسى بناءَ صَرحِه وَفْق أنساقٍ وضوابطَ فنيةٍ تُقيمُ نظامه وتطبعُه بخصائص يمكن اختصارُها، لو شئنا، بوصف الجمال أو الأداء الحسن.
ولكي ينموَ الأدب ويتطورَ فهو يحتاج إلى الوعي به على أكثر من مُستوًى، ومن قِبَل أكثرَ من طرَف، خاصةً وقد بات مألوفًا القولُ بأن العملية الإبداعية كل، لها مُنتِجٌ أوَّل، صاحبُها، والمتلقي المحترف في وضع الناقد أو المُؤَوِّل الذي يجدِّد نضارةَ النص ويُغوِّر معناه. وطرفٌ ثالثٌ هو الجمهور بإطلاق. والرأي الغالب أن النقَّاد والدارسين هم المؤهَّلون، أكثَرَ من غيرهم، بحكم ثقافتهم وإحاطتهم ومناهجهم لفَهْمِ الأدب، وحَصْرِ موضوعه، وتبيُّنِ خصاله، والتماسِ مراميه. كما أن أعمالهم، سواء منها التأريخية أو التقويمية والأخرى التنظيرية المختَصَّة بالمفاهيم والتأصيل، هي التي سمَحَت لقسمٍ كبيرٍ من التراث الإبداعي للإنسانية بالاستمرار في الذاكرة الثقافية، والتحوُّل إلى جزء من مكوِّنات الذائقة الأدبية على مرِّ العصور. أضِف إلى هذا أنها قديمةٌ في تاريخ الأدب الخصوماتُ بين الشعراء واللغويين والبلاغيين والثقات إجمالًا في مبحث الأدب العام، الذين يعتبرون أنفسهم حُجَّةً في منبره وحُراسًا له.
من غير أي إجحافٍ لقيمة العمل النقدي — بكل ما يدخُل في معناه بمقترباته المتعدِّدة وتسمياته المتكاثرة — فإننا نذهب إلى أن وعي الكاتب بعمله، هو الآخر، قويٌّ وناضج، ولا يمكن اعتباره ثانيًا أو لاحقًا بعد انتهائه من وَضْع نَصِّه. وهذا كيفما كانت مستوياتُ الثقافة النقدية لهذا الكاتب أو نوعيةُ ودرجةُ استخدامِه لها وهو يحرُث حقلَه الخاص. لا بل إننا نفهم الأمر على نحوٍ مغاير للمعتاد عندما نقَدِّر، وهو أمرٌ مرجَّح عند الكُتاب الراسخين، بأن كل واحدٍ منهم يطوِّر العمل الأدبي من خلال منجَزه الشخصي، ثم يُعيد التدقيقَ في هذا الأخير وغربلته، ومن ثَم نقله إلى مدارٍ مختلف وعلى منوالٍ تغتني به التجربة أداءً في جنسها ومحيطها؛ هذا ولا شك مُستحسَن يتغذى به فهم الأدب إضمارًا؛ أي من غير أن يمتلك وَضْع الخطاب النقدي ولا أدواتِه وسماتِه المباشرة، ولو امتلَكَها لازدوَج أو لأتلف شخصيتَه فأصبح مادةً من طراز، لا هو إنشائي ولا تقريري، أو تهجَّن.
نحن نريد أن نحقِّق طموحًا آخر يتجاوز هذا الطرح الثنائي في تضادِّه الشكلي، ذاك الذي يصنع الموضوع الأدبي، والدراسة الأدبية في كلِّيتِهما المترابطة، ووَحدتِهما المنسجمة؛ الطموح ذاته الذي من خلاله يبلُغ به الأدب، أدبُ أمةٍ ما، أو جماعةٍ بعينها، شأنَ تكوينِه وتشكُّله في مراتبِ النضج المطلوبة له. إنه يتمثل في السعي إلى الاعترافِ بالإبداع الأدبي كمًّا موجودًا وخصائصَ نوعيةً مائزة، وفي الوقت نفسه وضعه محطَّ سؤالٍ من شأنه أن يختبر هذه الخصائص التي تُعتمَد لتسويغ النتاج عامة، وذلك عَبْر طرح وسائط القراءة والتقويم والتصنيف. نظن أن هذا إنما يتم بعمليةِ مراجعةٍ للإبداع المعني، حافرةٍ لمقدِّماته ومحفِّزةٍ لاستشرافاته؛ أي بالتفكير في مسارِ أو مساراتِ الكتابة بأصولِ اشتغالها، وليس بالضرورة نقدها بأي طريقةٍ تقليديةٍ كانت، دعْكَ من تأريخِها ووصفِها. إنها أهمُّ عمليةٍ يمكن وينبغي أن يخضع لها الإنتاج الثقافي حين يشرَع الدارسون في إعداد مُحصلاتٍ أُولى له، ومن ثَم تصنيفه في مرحلَ وتيارات؛ أي إلحاقه بالزمن والتاريخ الأدبي. يعزِّز هذا التوجُّه اقتناعُ أو إحساسُ الفاعل الأدبي بأنه أكمَل في مساره دورةً وانتقل إلى أخرى؛ أي خرق القاعدة — النواميس الفنية المتواضَع عليها — ورغم التجديد، وهو الإبداع الذي إن رسخ واتصل فسيقنِّن قاعدةً أخرى، وهكذا. وفي الأحوال كلها فإننا سنبحث وسنتساءل عن أي مقياس، أي ضوابط معيارية يمكن اعتمادها في تسمية إنتاجٍ أدبيٍّ ما، ولرصد ما يعتريه من تحوُّلاتٍ رؤيوية وبنيوية. ثم ما الذي يجعلنا نقول بلا حرجٍ ولا شططٍ إن كتابةً (أدبية) في محيطٍ اجتماعي وثقافي بعينه هي كذلك بالفعل، وتتوفَّر على موضوعها فتنضَم أو تندرج في مقولة الأدب، بلا قواعدَ مؤقَّتة أو حدودٍ جغرافيةٍ مفترَضة، من قبيل ما تختَص به عمومًا الآداب الوطنية.
لوضع هذه الأفكار والتصورات في إطارٍ عملي، اختباري، يحسُن بنا الانتقال من العموم إلى الخصوص، ووَصْل النظري أو التنظيري بمرجعيته النصية. وفي حالتنا فاهتمامنا مُنصَب على كتابة، على مادةٍ لغويةٍ كلاميةٍ منضوية في التقسيم الموضوع للعلوم والمعارف، كما هو الشأن عند ابن خلدون، مثلًا، في خانة «علم الأدب»؛ بناءً على توصيفاتٍ لغوية وأسلوبية وبنائية وغيرها، والتي وضِعَت باللغة العربية — ولِمَ لا بالفرنسية، أيضًا — في بلاد المغرب في عصرنا الحديث هذا، وبذا فهي جزءٌ من الأدب العربي، ومتنٌ حيٌّ في عناوينه وتمثيلاته، علاوةً عمَّا يمكن أن تختَص به كتعبيرٍ عن وسطٍ اجتماعي وإنساني بذاته.
لقد مضى قرنٌ ونيِّفٌ على ما دُوِّن عندنا في سجل الأدب الحديث، وتوافَق الباحثون على دمغه بهذه الصفة، متوزِّعًا على الفنون أو الأجناس الأدبية المعلومة له، ومتقلبًا بين مضامينَ وأساليبَ وألوانٍ في التعبير مختلفة، ينحو جُلُّها إلى الانتسابِ لعصرِها وقولِ همومِ ناسه ومطامحهم، في القوالب التي يُقال دائمًا إنها جديدةٌ ومتجددةٌ وبنتُ زمانها. وهذا تقريرٌ عام فقط من شأنِه أن يُسلِّم لما يليه. أولُه أهميةُ التنبيه إلى أن خمسة أو ستة عقود في حياة أدب بيئةٍ ما هي فترةٌ زمنيةٌ محدودة نسبيًّا لتبلور القول الأدبي الحديث والأفكار النقدية في مجاله، الذي يحتاج من بين أمورٍ عديدة، إلى تربيةٍ جيلية وثقافةٍ أدبية ذاتَي طبيعةٍ مغايرة لما هو سابقٌ عليهما. نعم، إن هنالك انعطافاتٍ وتحولاتٍ جذرية يعرفها الإنتاج الأدبي والثقافي عامةً في ظرفٍ محدود، ومن الحركات الأدبية ما ينبثقُ في عقد أو عقدَين ويسِم مرحلةً بأكملها، على غِرار المرحلة التي أنتِجَت وبرزَت فيها أهم الأعمال والمصنَّفات، من كل الأصناف، الممثلة للكلاسيكية في تاريخ الأدب الفرنسي، والواقعة تحديدًا بين ١٦٦٠–١٦٨٠م وإن كانت، بطبيعة الحال، لا تشمل كل الأدب الكلاسيكي.
ويبرُز الأمر الثاني في أن معشر الدارسين والكُتاب على السواء يعتبرون أن أدبَنا حقَّق، بعبارتهم «تراكمًا» هامًّا؛ أي كمًّا من النصوص في جميع الفنون معتبرًا، وارتقى في مدراجِ نضجٍ وتطوُّر لا يُستهان بها، وهي لا تقلُّ عن مثيلاتِها في سُلَّم القِيَم والخصائص التعبيرية الفارزة للأدب العربي المعاصر، بل لعلها تمتلكُ ملامحَ خصوصيةً أنضَج وأجوَد. وبحكم هذا الرأي فإن الأدب المغربي الحديث والمعاصر قد تمثَّل في نماذج أساس منه — وهي ما ينبغي أن يُعتمَد وليس كل إصدارٍ محسوبٍ على الأدب — وتتلمَذ على الأدب العربي في المشرق، الذي يبلُغ في حداثته الآن قرابة قرن. من هنا فإن فتوةَ الابن وتواضُعَ تجربته، ومحدوديةَ الكم في النهاية نقائص، لو عددناها، يعوِّضها رسوخُ قدم الأب وحنكتُه المشهود بها.
وكيفما كانت وجاهةُ الاعتبارَين السابقَين وقوةُ الحُجَّة فيهما، فإن هنالك إقرارًا موضوعيًّا بالوجود النصِّي الكامل للأدبِ المغربيِّ الحديث بخصائصَ متمايزة، مَرَّ بأطوار، وله في فن القول إبداعاتٌ منسَّقة وأعلامٌ بارزون. أما وقد تقرَّر هذا، ونحن نسجل أزيدَ من نصف قرنٍ على عُمر هذا الأدب الذي زُرعَت بذوره الحديثة مع منتصف أربعينيات القرن الماضي، ألا يجُدر بنا أن نتوقَّف قليلًا فنَعمِد إلى خلخلة ونفضِ ما له مظهرُ الثوابت والبدهيَّات، ويرقى في الذهن أحيانًا إلى مرتبة اليقين. إن أيَّ ثقافةٍ تنزع نحو الاستقرار في قواعدَ مقرَّرة وقوالبَ مكتملة لتحتاجُ إلى من يضرب جدرانها بقوة ليَختبرَ مدى تماسُكِها، وكذلك الشأنُ حين تعلو في جنباتها أصواتٌ تنطق بخطابِ رفضِ السائد والتمرُّد على ما أنتَج السلَف، والنظر إلى كل ما وما لا ينتسب إلى «الحداثة» (؟!)، هكذا بدون تجديد، طللًا وتُراثًا عفَّى عليه الدهر؛ مثلُ هذا الطرح أو الصَّرع — الذي غالبًا ما يُسمَع متهافتًا بطريقةٍ دهانيةٍ هذيانية، منفلتة من أي حذَرٍ منهجيٍّ أو تحوُّطٍ موضوعي، دعْكَ من فقر الزاد المعرفي، بمعنى أنها بلا نسق — لَمِن شأنه أن يُعيدَنا من جديد إلى دوائرِ أسئلةٍ مغفَلة، في صميمها جدارة الموضوع الأصلي، بأسُسِه ومكوِّناته، حتى يُقبل أو يُشجب، ولكي يصبح الانتقال إلى الفروع والامتدادات، بل والقطائع، مُسوَّغًا.
إنها دعوةٌ أشبه ما تكون بذلك «الغربال» القديم والمُحكَم الذي صنَعه الناقد العربي اللبناني الحصيف ميخائيل نعيمة لأدب زمانه، وحَسنًا فعَل، أو بالميزان يُعيَّر به القيمةُ والموازين، ومنه في تراثنا أمثلةٌ عدةٌ محمودة. ورُبَّ قائل، وهو يأخذ بما في مسألة فتوة تجربتنا كمًّا ونوعًا، إنها دعوةٌ مبكِّرة تستبق بما قبلها ما سيأتي بعدها، وبالتالي يحسُن تأجيلُها إلى أن تشبَّ هذه الكتابة تمامًا عن الطوق، والأفضل أن تبلُغ الدرجة الأرقى بأن ترتحل في الزمن وتتثبَّت في العقول والنفوس كجزءٍ منها وقد صارت كلاسيكية. لا اعتراض لنا على ما نراه رأيًا سديدًا؛ فرغم ما يبدو من تطرُّف أو صرامةٍ في نوع المساءلات التي تَروم، إلا أن غرضَنا هو مواصلةُ وضعِ لبناتٍ أخرى في قراءة وفهم ودعم أعمال أدبنا الحديث، نسند بها ما أنجزناه في الماضي من نواحيه الإيجابية والصائبة، ونُصحِّح نواحيَ أخرى لم يتوفَّر لنا فيها النظر الثاقب، وبينهما نستشرف الأفق، مع غيرنا، بتأملاتٍ نقديةِ في خريطة هذا الأدب وثقافته تُوسِّع أطرافها، وتُعدِّد مشاربها، وتُرافِق برَويَّةٍ ويقظةٍ النُّموَّ البطيء والأكيد في كل تجربةٍ خلَّاقة.
نحتاج إلى مراجعة المناهج والطرائق التي اعتمَدناها وأقرَرنا بها تصنيفَ إنتاجنا الأدبي وتحقيبَه، وعقب ذلك تقويمَه وتوزيعَه؛ فسواء بالنسبة للمقالات والأحاديث والتعليقات الأولى التي تناثَرَت بين الصحائف والمجلات قُبَيل الاستقلال وبعده على امتداد العقد الستيني الماضي، والتي حفَل أغلبُها بملاحظاتٍ انطباعيةٍ عامة تُبرِز الخصائص العامة لأسلوب الكتابة والمواضيع والأغراض المقصودة فيها، والأهداف المتوخَّاة منها، المرسومة في الاتجاه الواقعي الملتزم بكيفيةٍ قطعية، وسواء بالنسبة للأطاريح والدراسات المتخصِّصة والأبحاث النقدية بعامة، فإن الاتجاه الذي غلَب عليها هو الشمولية والوصف والتوزيع — توزيع المادة الأدبية إلى تياراتٍ حسب المواضيع والقضايا التي انصرفَت إليها.
لقد اعتُبرَت هذه المقارباتُ أكثر ملاءمةً من غيرها إن لم نقُل إن الدارسين ومَن هم في مقام النقاد لم يكن بوُسعِهم الذهابُ أبعدَ من هذه المرتبة من مراتب قراءة النصوص ومرافقِها. وحين سيَحمَى وطيسُ النقد فإن حماسَ ممارسيه وأدواتِ عملهم ستقدَح بالدرجة الأولى بزناد ما هو أيديولوجيٌّ وسياسيٌّ تحريضيٌّ ما مثل خطاطة نقدٍ أدبي ساد في العقد السبعيني تَوزَّع بين واقعيةٍ أدبيةٍ مدرسية، وماركسياتٍ مُبتذَلة وعلمِ اجتماعٍ أدبيٍّ غولدماني أو بنيويةٍ تكوينية في بداية تعلُّمها. أما النصوص بوصفها الشعر والنثر، القصة القصيرة، أو الرواية، أو غيرها فتنسجُها يراعة كاتب، وتُنشِئها بصياغة الأساليب الأدبية، وأنهُجها، وإرهافاتِها التعبيرية، وانفصالِها أو انزياحاتِها المُحتمَلة عن السياقات الواقعية الواردة؛ أي اعتماد المجاز والخيال والتخييل بدائل؛ نقول إن النظر النقدي تنكَّب هذه المسالكَ تاركًا النصوص في عزلة تكوُّنها الإبداعي توتُّر تعبيرها المباشر غالبًا، التلميحي نادرًا، عن المعيش.
لن نعود إلى الثَّلب الذي مسَّ نقدَنا الأدبي وما في بابه من هذه الناحية؛ فقد تكرَّر إلى حد أنه أمسى حكمًا جاهزًا، وبِتْنا نسمعُ بعضَ المتأخرين في البيئة الأدبية، أدباءَ ومعلقين ومن في مدارهم، تتهافَت على ألسنتهم وفي أوراقهم أقوالٌ قطعية تُلغي نقدَ عقودٍ سابقة، وتتشدَّق بمصطلحاتٍ ومفاهيمَ مجزَّأة من سياقٍ ثقافيٍّ بعينه ما كانت لتُوجَد أصلًا لولا خطواتُ الروَّاد وجهودهم التأسيسية. هذه التي اعتَبرَت الأدب مؤسسةً ثقافيةً اجتماعيةً وسياسيةً وطنية، نعم اللغةُ وسيلةُ قولها، والفصاحةُ والجزالة وحسن السبك ومحسِّنات وطرز البلاغة أرديتُها القشيبة، لكن الإصلاح والتبشير بقِيَم التغيير والتجديد والحرية والعدالة هي مرتكزاتُها، ليس لشيءٍ ولا لثقافةٍ قيامٌ ولا نهوضٌ بدونها، ولا فكَّر الكتاب ولا تخيَّلوا وتصوَّروا نصوصَهم بتاتًا بانفصال عن هذه القيم. وبذا فهي مدرسةُ وعيٍ متكاملة بين ما هو نصِّيٌّ إبداعيٌّ ونقديٌّ مُرافِقٌ أو مُوجِّه.
حين اتجه الباحثون والنقَّاد إلى دراسة ومواكبة من طبيعةِ نقدٍ ذي تخصيصٍ فني يتقصَّى التكوين الداخلي والبنائي للعمل الأدبي، فإنهم وضعوا النصوص تحت مِبضَع مناهج ومقارباتٍ معيارية تُسائِل الدوالَّ أولًا وأخيرًا تقريبًا، وترسمُ مماثلاتٍ أو تقاطعاتٍ وتضارباتٍ بينها وبين صيغ ومقاييس معيارية موضوعها الأدبية، التي هي عند هؤلاء الدارسين والمتأدِّبة الجدُد أنساقٌ شكليةٌ يُعيَّر بها أيُّ نص، مع نوع من التسليم سلفًا بأن ما هو قيد القراءة والتفكيك أدب، وهو ما يؤدِّي من بين نتائجَ أخرى، إلى جعلِ جميعِ النصوصِ متماثلة، ويكاد يُلغي تخلُّقَها بصفة الانتماء إلى الأدب.
هكذا بإمكاننا أن نخلُص إلى أن دراسةَ وتقويمَ وتصنيفَ أدبِ المغرب عمليةٌ بدأَت دائمًا من نقطةِ انطلاقٍ سابقةٍ عليه. في مرحلةٍ أولى، هناك أجناسٌ أدبيةٌ حديثةٌ ذات قواعدَ وقوالبَ تمثَّلَت في نتاجاتٍ أدبيةٍ غربيةٍ وعربيةٍ مشرقية، ونظمها النقد ونسَّقها بين قراءته لها وتطويعه وتحديده لما اعتبَره الناقدُ القاعدةَ والطريقةَ لكتابة القصة القصيرة والرواية وقصيدة التفعيلة أو الحرة إلى غير هذا، وفي نهاية المطاف كان على نصوصٍ أخرى لاحقة أن تُنجِز حسب السنن، ليقول النقدُ أو الدرسُ إنها تنتمي إلى الأدب الحديث.
وفي مرحلةٍ ثانيةٍ كُتبَت نصوصٌ وصفَها النقاد والدارسون بالتطوُّر والجدَّة واجتراح النموذج الحداثي. هذا الوصفُ نفسُه يخونُ أصحابَه حين يكشف بلا أي التواءٍ أن مرجعيتهم، لا النص الموضوع في البيئة الأدبية المغربية، ولكن آخر، غربيًّا على الأغلب، بات مُحكَم الضوابط والتنزيل، ويغيبُ كرةً أخرى سؤالُ الأدب.
في المرحلتَين كلتَيهما فإن ما حدث ولم ينقطع هو إقصاءٌ للأدب؛ إما بإحلالِ منظومةٍ من المفاهيم والمحدِّدات الموضوعية، أو (الخارج-أدبية) محلَّ الأدبِ نفسه، ولتنوبَ عنه في التسمية والتعيين والدلالة والوظيفة، فكان أن كيَّفه لوظيفتِها هي واستولَت على حقله. وإما أن الإقصاء تَم بسكوت القراءة والقُراء المُحترفِين عمَّا يُعتبَر من صميم الأدب، به يكون أو لا يكون.
ونحن إن حاولنا، بواسطة القراءة الصحيحة، التي تتطلَّب أدواتِها، أن نبحث عمَّا تغيَّر جذريًّا بين الأدب القديم في تراثنا وما نُدرِجه في تصنيف الأدب الحديث، فسنجد التغيُّر قد لَحِق أساسًا الأغراضَ التي انقلبَت إلى مواضيعَ ومضامين، والأنواعَ أو الأجناسَ التي إما تفكَّكَت أو اتسعَت أو استجدَّت ضمنَها قوالبُ وأشكالٌ أخرى، مع تغييراتٍ ملحوظة في أساليبها نثرًا وموسيقاها وعروضها شعرًا، وأخرى من مجمل ما استقاه أدباؤنا شعراءَ وناثرين من سجلات الأدب الغربي الحديث في مظاهر تطوُّره المستجدَّة ابتداءً من منتصف القرنِ التاسعَ عشَر، بل وقبل ذلك بالنسبة لبعض الأنواع كالدراما على وجه التحديد. لكن المفهوم في الحالتَين سيظل واحدًا تقريبًا، ولن يُدرِك الدارسون والمنتجون معًا، أن مفهوم حداثة الأدب يرتبط ببنيةٍ مركَّبة شكلُها النوعي، الأجناسي واللغوي، مُتَماهٍ في مضمونها لو صحَّ الاسم، الذي هو مصدر وجوده؛ نعني قيمة الفرد وذاته وهي تُقال في الطراز الأدبي. ولا نرى في غير الدراسات الجامعية وكتب تاريخ الأدب العام التي اعتمدَت منهج الوصف والتأريخ والتصنيف العَسْفي على قاعدة الموضوع المشترك والحِقبة الواحدة؛ لا نرى في قراءة أدبنا الحديث، مشرقًا ومغربًا، استخلاصًا قريبًا من التركيب، فيما سيحسم التعريف، كما ذكَرنا، من وجهَي هذا الميسم الشكلي والقصد الغرضي؛ حيث ستُهيمِن تيمة الواقعية على أدبٍ بأكمله.
نخلُص مما سبق إلى أن الأدبَين العربي والغربي كانا تجربةً مستقلة، قد أكمَلا دورةَ تأسيسٍ وتكوينٍ نصيٍّ ومفاهيمي، واستقَرَّا على نُظمٍ وأوضاعٍ تضبطُها معاييرُ وتحكُمها قواعد، وهي كلها صارت مثبَّتة في الأذهان والأذواق؛ أي صنعَت سَننَها الخاصَّ للتلقي؛ حيث يُعطي التلقي ذاتُه وجودًا آخر مستقلًّا وإضافيًّا للإنتاج الأدبي، ويحسم في التحاقه بالدورة الكلاسيكية، ولهذه شَرحُها الخصوصي.
بلغ الأدبُ العربيُّ القديم أوْجَ تكوينِه ونضجِه وتعدُّدِ مدارسِه وأذواقِه وأنواعِه في القرن الرابع الهجري وحتى الخامس، وأعطَته الأندلسُ ملامحَ أخرى أصفى وأرقَّ لبيئةٍ وطباعٍ مختلفة عن المشرق في النَّسَق والرونَق، وعاش هذا الأدب بعد ذلك أطوارَ انحدارٍ وُصفَت بالجمود، وعُقم المواهب، والوقوع في أسر المُصطنَع والمُزوَّق، بعد أن غلبَت العُجْمة، وفسدَت الذائقة، وساد التطبُّع والتصنُّع على الطبع، وتفكَّك النسيجُ الثقافيُّ والأدبيُّ المتين — في توازٍ مع تفكُّك الخلافة وتبعثُر أطرافها، وتفرُّق أعلامها شذَر مذَر — ما اصطُلح عليه أخيرًا بالانحطاط، الذي يُجمِع مؤرِّخو ودارسو الثقافة العربية باستمرارِ زمنِه إلى العقود الأخيرة من القرنِ التاسعَ عشر، التي شَهدَت تباشيرَ وجهودَ نهضةٍ واستنارةٍ عربيةٍ جديدة، من مصر وبلاد الشام.
أما الأدب الغربي — وهي تسميةٌ إجرائيةٌ فقط — والذي نعني به الآداب الأوروبية منذ عهودها العريقة في الثقافتَين والحضارتَين اليونانية والرومانية إلى أفولهما، مع دخول أوروبا ما يُسمَّى بالعصور الوسطى، فقد كان أكمَل دورةَ تكوينه بالأعمال الملحمية والغنائية الكبرى، وبالبويطيقات (أرسطو، هوراس، سيسرون … إلخ.) التي قعَّدَت أجناسَه، وضبطَت موازينَه اللغويةَ والحكائيةَ والمحاكاتيةَ والخطابية، راسمةً نهجًا سار عليه الشعراءُ والخطباءُ عهودًا إلى حد الذبول والجمود. ومع استئناف النهضة الأوروبية في القرنِ الخامسَ عشرَ الميلادي، وانطلاقِ عهدِ الإنسانيين سيتمُّ تجديدُ الصلة بالأعمال الذهبية، وتُستمَدُّ من ثرائها ورُوحها وقواعدها أنماطُ وألوانُ التجديد، الذي سيُثمِر في مختلف الآداب الأوروبية، ووَفْق شروطٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ متمايزة، مدارسَ فكريةً وتياراتٍ أدبيةً ستتبلور تباعًا، من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وعقلية عقلانية ثم رمزية، وصعدًا بين القرنَين السابعَ عشرَ والتاسعَ عشَر، إلى أن ينفتح العالَم الغربي، وكان قد عَرفَ ثورتَه الصناعيةَ الأولى وانخرَط في توسُّعِه وفتوحاتِه الاستعمارية، على أمواجِ الحداثةِ العصريةِ في مطالعِ القرن العشرين التي سيخرُج منها ماردُ التغيير، من فُوَّهة الحربَين، ليقلب كل شيءٍ رأسًا على عَقِب، والأدبُ في المقدمة.
إن هناك قرونًا من التباعُد بين الثقافتَين والأدبَين العربي والغربي في عمليةِ استئنافِ الدورة الحيوية للإبداع وإعادةِ الاعتبارِ للجمال كقيمة أساسٍ لهذا الإبداع. وسينجُم عن ذلك نتائجُ باهرة، بل مفارقةٌ نكتفي منها بواحدةٍ ما أقوى دلالتها؛ فمن حيث أعاد الأوربيون الحياة إلى شرايين الأدب، وأدبهم، من دمائهم القديمة، ثم واصلوا على هدًى من تطوُّرِ واقعِهم وتبدُّلاتِ تاريخِهم وأنماطِ عيشِهم، راح أدبنا، خلافًا للنزعة السلفية الأولى المعتمَدة للنهضة، ينحو نحوًا آخر تمامًا أو يكاد. أجل، لاحظنا الفحولة الشعرية المستنهضة للبارودي وشوقي وحافظ إبراهيم، في مصر مثلًا، وشيوخ النثر المُرسَل، شذَّبوا من زعانفِ المحسِّناتِ اللفظيةِ المثقلة ورُعافِ التمحُّل والمسكوك، ليعودوا بالقول الأدبي العربي إلى طبعِه السَّمْح ونبعِه الزاخرِ في القرون الثلاثة الأولى. لكنها لم تكُن إلا مرحلةً وجيزةً أو انتقالية، على ما ذُكِر؛ لأن نزعة الالتفات جهةَ الغربِ لم تترك مظهرًا ماديًّا ولا تعبيرًا ومُكوِّنًا رمزيًّا إلا وجذَبَته. هكذا راحت الصلة تنقطع تدريجيًّا مع الأجناس والقوالب والوسائط والبلاغة والمعجم الذي صَبَّ فيه العربُ أنفُسَهم أدبيًّا لينتقلوا إلى استعارة واستعمال متعلم للأشكال والأنواع الأدبية لغيرهم، في الشعر والنثر اللذَين قطَعا مع تقاليدهما المتوارَثة والمتراكَمة عَبْر العهود، وراحا ينضويان عقدًا بعد عقد على امتداد القرن الماضي تحت لواءِ ما أصبح يُعرَف بالعصري أو الحديث أو المحدَث أو الجديد الذي صارت له ألوية.
ما من شك أن السبَّاقين، بحكمِ عاملِ التباعُد المذكور وعواملَ أخرى، هم روَّاد الحديث والجديد والحداثة إلى ما يليه؛ لأنهم أصحابُه وزَّعوا بذوره في تربتهم، واستنبَتوها في بيئة عيشهم، ومنهجهم ورؤاهم وتصوُّراتهم جاءت تحمل؛ ولذلك فهم مع أدبهم مستقرُّون في هذه الحداثة، راسخو القدَم فيها، يُولَدون فيها ومن رمادها يُبعثون، وكل من حدَّث وجدَّد من كل صقع، وخاصةً من الصقع العربي، فبها حدَّث وبهم يلحق ليكون … أو لا يكون. في مقابل هذا، ورغم انصرام قرابة قرنٍ على سير أدبنا فوق سكة التحديث والتماسِ وسائط التعبير الأدبي فيه، فإن أدباءنا ونقَّادنا ودارسينا يبدُون، ولذلكَ أكثر من شاهد سنُضمِره، كما لو أنهم يُواصِلون تمرينًا طويلًا وشاقًّا لا ينتهي، أيًّا تعدَّدَت النماذج في أعمالهم، واختَمرَت ناضجةً وَفْق معاييرَ معيَّنة، وتنوَّعَت تجاربُ المُبدِعين كل واحدٍ يُراود خيالًا وأفقًا وهاجسًا يُريده جديدًا ويحسبه بلا نظير. وأكثر ما تزداد المشقَّة عند من يتكلف دخولَ قالبِ غيره والاستواءَ فيه مهما كلفه ذلك، ومن هنا غلبة التقليد وبعض وزره. وكذلك من يشُق عليه امتلاكُ الأداةِ فيَكسِرها من سوء استعمال زاعمًا تجديدًا له دائمًا ما قبله ليكون له طواعيةً ما بعده، فكيف إذا زاد النقاد والدارسون الطين بِلَّة إذا ما نظروا إلى جُل ما دوَّنه ويُدوِّنه الأدباءُ العربُ المحدَثون، على أنه قبساتٌ لا أكثر من نارٍ بعيدة؛ هذا يستعير الشكل وذاك التقنية، وآخرُ القاموس أو الصور أو الرؤية، ثم إن هؤلاء النقاد أنفسهم، وهم لا يرَون في أدبنا الحديث إلا عيناتٍ وتنويعاتٍ على «الأولمب» الغربي في مختلف تعبيراته ونعوته؛ أي عموا عن كل قَدْرٍ من أصالةٍ وجدَّةٍ مخصوصةٍ به، لم تخرج أعمالهم عن نسَق التقليد لمناهج وأدوات النقد الأدبي الغربي، يتقلَّبون في فصولها، ويتمرَّنون على مساطرها، وقليلٌ منهم عرف كيف يقرأ النص الإبداعي في ذاته، ويتوسَّل إلى تذوقه وفهمه وتأويله في أصله وإيحائه بلا إسقاطٍ عَسْفي ولا رطاناتٍ اصطلاحيةٍ متعالمة. والحاصل بين هذا وذاك؛ أي بين تطليقٍ لتقاليدَ راسخة في التراث والتحاقٍ أو التماسٍ لأشكالٍ وصيغٍ هي جماعُ تقاليدَ غيريةٍ حديثة، بدا الأدب العربي الحديث، والمعاصر أيضًا، والمتن المغربي منه، ويبدو، كما لو أنه في طَورِ التعلُّم، لم يَكسِب رهانَ حداثته، رغم تدافُع التيارات والأسماء والشقشقة الشعارية. يبدو على الخصوص كما لو أنه كتابةٌ عارضةٌ قابلةٌ للمَحْو بسرعة، بلا أعمدةٍ مركوزة ولا رمزيةٍ مرقونة ولا امتداداتٍ وتقاليد بين ماضٍ ومستقبل؛ أي تفوتُه الفرصةُ الضرورية التي لا غنى عنها لكل أدبٍ عظيم، فرصة كلاسيكيًّا.
وإذن، فالأدب، والإبداع، بصفةٍ عامة. ينتقل إلى ديمومة التحوُّل عندما يدخل في القالب الكلاسيكي، الذي تُكسِّره العلاقةُ التأويليةُ باستمرار. ورغم أن المحلِّل الهيرمينوطيقي لا يُفصِح عن جميع نواياه، إلا أنه يدعونا ضمنًا إلى الانتباه لما هو أصيلٌ وقادرٌ على امتلاك شروط الاستمرار؛ أي مخاطبة ومساءلة الإنسان (المتلقي) وتحفيزه وتحويله في كل الأزمنة. يبدو كايزر وستينر هما اللذان تجمَع بينهما ثقافةٌ مشتركة، وكأنهما ذوا نزعةٍ مثالية بتخصيصهما للإبداع المتعالي، البديع في تكوينه، واللانهائي، ولكن الأمر غير ذلك تمامًا؛ لكونهما يحتكمان إلى نواظمَ ونماذجَ ومفاهيمَ لا إلى مطلق.
اعتمادُنا المرجعيات السابقة، وتقديرُنا للكلاسيكية، باستنادها إلى أقانيمَ عُليا مُحكَمة، وبوصفها مرجعيةً تقع في الذروة، وهي المجرى الصحيح والضروري لكل قنوات الأدب، وباعتبارها، أيضًا، النصَّ الكليَّ المتجدد من ذاته، اللانهائي، المنبعث كلما قاربه الفهم والتأويل؛ أقول باعتمادنا ما سلف وغيره مما هو منطوٍ فيه نبدو وكأننا نضع شروطًا تعجيزيةً ونخبويةً جدًّا لما هو أدبٌ صرفٌ وما دونه. لكن الأمر ليس كذلك، لأن ما عنَاه غيرُنا ونعنيه أيضًا هو أن الأدب لا يُوجد إلا بتواتُر أعماله، واستقرار مادَّته، التي تدُل على شحذ أدواته، وتخصيص عالمه، وضبط علاماته الأسلوبية والبلاغية. وأيضًا، وأيضًا، وهو هامٌّ جدًّا عندما يكتسب صفةَ خطاب متكلم باسم أو ببعضِ زمنيةٍ إنسانية. ويتوفَّر منتجُه على وضع معبِّر عن قيمٍ ومُثلٍ حقيقية أو نسبية أو محتكمة بصيغٍ وسجلاتٍ أكثر من عادية؛ أي شعرية، هي ذاتها ما يمثِّل حلقةً في سلسلة الإبداع الإنساني الطويل والجميل.
مرةً أخرى نُحب التأكيد بأن هذا الطرح ليس مثاليًّا؛ أي لا يَنطلِق بالضرورة من وجودِ نصوصٍ عُليا وأخرى دنيا أو مبتذَلة نقيضٍ لها، الأولى تخترق الأزمنة لتبقى أبدأ تحتكم إليها الأذواق وتلتمسها الأفهام، وما عداها ما نلبث أن نَلفِظه كالنواة. نحن نفهم أن هناك أدبًا ولا في كل الأزمنة. وكيفما بلغَت تعدُّدية الضوابط، واختلاف الأذواق والمقاييس، ونسبية التقويمات والأحكام، فلا جرَم هناك جامعٌ مشترك. إن تاريخ الأدب، وضمنه تاريخ النقد والتيارات الأدبية، بمقوِّماتها ونوازعها المختلفة عَبْر العصور، هو الفيصل في نهاية المطاف، فإن وقَع حَيفٌ ووقَع طمسٌ لأعمال وأعلام يُحييها الوعي والحفر النقدي من العدَم، فإنما يؤكِّد أن تاريخ الأدب إذا غفَل أحيانًا فإنه لا ينسى أبدًا ما يظل ينبض، يدقُّ بابه، رغم تباعُد الأزمنة. نحن، إذن، نحتكم إلى هذا التاريخ، إلى الأذواق والنماذج والضوابط والتصوُّرات المقررة فيه — ومعلومٌ أنها تتنامى وتتجدَّد عَبْر العصور، روحُها لا تفنَى وإن لحِق البِلى أرديتَها الخارجية — وهي المُعتمَدة لتوصيف الكلاسيكية؛ أي للقول الأدبي ولتوفُّر شرط الأدبية.
ليکن معلومًا أيضًا أن عَرْضَنا لجملةٍ من المفاهيم والأفكار المفاتيح في نظرية الأدب، واختيارنا لأنساقٍ نظريةٍ بعينها تُكرِّس مفهومًا للأدب دون غيره، وكذا وقوفنا القصدي عند نزعة الكلاسيكية، بحسب الشرح المعطى لها، إما وفق أقانيمَ تاريخيةٍ مضبوطة، أو بأوسعَ وأشمل؛ حيث تتدخَّل الثقافة الشمولية الهيرمينوطيقية والذوق الإنساني المتفتِّح؛ ما هذا العرضُ إلا المَعْبر الضروري للوصول إلى أدبنا الحديث، أدبنا نحن، سواء في المشرق أو المغرب، والذي قلنا عنه سابقًا إن دراسته — الدراسات حوله — تقلَّبَت بين نزوعاتٍ ومناهجَ ورؤًى متعددة، كثيرٌ منها تاريخي ونظري وقليلٌ جدًّا تحليليٌّ تطبيقي. وللقول بأن هذا الأدب رغم كمِّه المعبِّر، وخصائصِه الفنية المائزة، وتحدُّد وتجدُّد أجناسه وتيماته ومضامينه وتبلوُر تياراتٍ ومفاهيمَ نقديةٍ محكمة نسبيًّا عَبْر مختلف حِقَب إنتاجه، ما تزال عملياتُ تلقِّيه قلقة، ومكامنُ الجودة والأصالة الإبداعية فيه غير محصورةٍ بعدُ، فضلًا عن الارتباك النقدي في منظور التعاطي مع التجارب والانزياحات الأجناسية القائمة فيه. لا يُعفي من هذه الملاحظة أو يخفِّف من بلواها وجودُ كثيرٍ من الكلام عن التجديد والحداثة والتجريب، في الشعر والسرد معًا، من غير أن تعتمد دائمًا المصطلحات والأدوات-المفاتيح المناسبة والدقيقة. وما هو، في الحقيقة، إلا كلامُ تشويشٍ وزيادة في الالتباس. وإذا كان هذا حال الأدب العربي الحديث والمعاصر عامة، الممتدة جذورُه إلى مطالع القرن الماضي، فكيف بأدبنا المغربي ذي العمر الفتي نسبيًّا، والذي ما تزال تتلاطم في بحره نصوصٌ تتراوح بين مراحل التعلُّم والتمرُّن على اكتساب أدوات التمثيل القصصي والروائي، ونقل صيغ التعبير الشعري ما بعد العمودي، بفروعه، ونصوصٌ أخرى امتلكَت تلك الأدوات ثم طوَّعَتها لتصنع منها ما يُلبي رغبات أصحابها ويرسم خصائص فنهم وينقل روح موهبتهم، وطبعًا فإن على هؤلاء المُعوَّل أكثر من غيرهم.
نُعنى بما هو ناضجٌ ونسَقيٌّ في تصوُّره وعمله، وبما هو مؤسِّس للإبداع الأدبي بالمغرب، ويمتلك قدرة أن يفضي إلى غيره. ونعتبر أن أدبنا تحقَّقَت له إبداعيتُه وتتواصَل لتدخل في السبائك المُنضَّدة، والقوالب المُحكَمة، والتعبيرات الفخمة التي تصنع في الأخير المجرى العظيم للكلاسيكية الخلَّاقة. ولا يُمكِن لأي أدبٍ أن يتحوَّل إلى رافدٍ خصوصي إلا إذا عرف من أين يأتي ليعرف بعد ذلك أين يذهَب ويصُب.
إن أدبَنا، بهذا المعنى، لا تبرُز خصائصه أو تُحصَى، ولا تُستَوفى أغراضُه وموادُّه، كما لا تُقبَس نارُه منه وحده؛ أي في حدود النص المعطى للقارئ للتو، بل في النصِّ السُّلالي ذي المحتد العريق، حين يظهر بالطبع أنه ذو قربى به. النص المتسلسل عَبْر الحِقَب الثقافية الأدبية المختلفة، التي مرَّت بها البشرية، والذي عبَّر في كل حِقبةٍ عن هويةٍ معيَّنة للإنسان، في علاقته بالوجود، واختص في كل وقت بصيغٍ جماليةٍ لهذا التعبير. نصٌّ ذو طبيعةٍ تلاقُحية، شأنه شأن مُبدِعه، ولولا ذلك لانقَطَع؛ ولذلك فإن أي إبداعٍ حق، البديع أو الجميل بصيغة كايزر، المنفتح على تعدُّد التأويل والمُنفلِت منه في كل حين، بنظرة ستينر، ليس منشؤه فيه بقَدْر ما يُلتمَس في تاريخه السُّلالي حيث مصدرُ تغذيته الأولى، ومن هناك استرفد بطاقة التولُّد الدافع لامتلاك طاقة التوالُد بعد ذلك. كل روايةٍ عظيمة، أو لنقُل بصفةٍ أقلَّ إثارة، إنسانية ومُفحِمة، هي روايةُ جميع الأزمنة، لا الزمن الثقافي-الإبداعي ولا الاجتماعي التاريخي الذي شهد ظهورها في وسطٍ بعينه وحده. من هنا فإن على مؤرخ الأدب أن يكون حذرًا، فلا يحيط الإنتاج الأدبي لأمةٍ ما بسياجاتٍ مغلقة، صارمة التحديد زمنيًّا؛ إما من نزعةٍ تأريخيةٍ تقليدية، سانكرونية، أو بحافز إبراز وإعلاء أدبٍ قوميٍّ ما.
نحن مدعُوُّون بناءً على هذا الفهم إلى كسر الحواجز الزمنية والتحقيبية التي وضعناها، دارسين ونُقادًا وباحثين جامعيين، المحفوفة بنشأة وتطوُّر الأجناس وتكوُّن الخصائص الجمالية، من كل لون، في أدبنا الحديث، لكي يُربط التمرحُل وأطوار وسمات النضج والجدَّة والأصالة بالسياق العام، المتفاعِل والمتشابِك للآداب. وربما لا تجوز التفرقة، منذ الآن، إلا بالخصوصيات البيئية، طبيعية واجتماعية وخيالية أو ثقافية، وبما هو من صميم الإضافة التأصيلية الضرورية لكل أديبٍ على حدة. أما عدَاه فهو خطوطٌ وملامحُ مشتركة، ومعاييرُ من المهارة والحذق؛ أي طرق أداء وإنشاء وبناء تستلزم، في كل لغة، الانسجام والكمال والجمال.
وهكذا، فإن ما يرتقي في مدارك التملُّك الإبداعي، والتداول القِرائي والتأويلي، والاستشفاف للواقع والسريرة الإنسانيَّين، والاستشراف، بأي رؤيةٍ كانت، لأفقِ المصير الإنساني، عَبْر الوسائط الخصوصية جدًّا للكلام الأدبي، لهو أدبٌ يُنجِز تاريخيته، وبما أنه أصبح سجلًّا واقعيًّا ووجوديًّا وروحيًّا وذوقيًّا وجماليًّا للإنسان في زمنيةٍ محدَّدة، فقد صار ينتمي ويصُب في ذلك المجرى العميق، والطويل والمتواصل.
في ختام هذا الفرش، واستكمالًا لما سبق، أريد أن أسجِّل ملاحظتَين، كبيرتَين:
– أولاهما: تخص ما يُصطلَح على تسميته بالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، مقابل الأدب العربي. وليس لي ما أضيفُه لكثرة ما قيل في بابه، مما هو سجاليٌّ أو موضوعيٌّ أكاديمي. مدعاة تدخُّلي أنه على الرغم من مُضي نصف قرنٍ على ولادة هذا التعبير، في بلدان المغرب العربي عامة، هو العمر ذاته تقريبًا للعربي اللغة، فإن الحديث عنه في أوساطنا الثقافية ومحافلنا الأدبية والأكاديمية، أيضًا، ما يزال مأخوذًا على محمل التردُّد والتشكُّك أو عدم الاطمئنان، كأن صانعي هذه الكتابة يقترفون إثمًا ولن يجنوا إلا وبالًا. وغير صحيح أن الإواليات المتحكِّمة في البيئة الأدبية العربية هي المسئولة عن وضع «المنزلة بين المنزلتَين» التي يُوجَد عليها أدبُ زملائنا من كُتاب اللغة الفرنسية. لقد مضى عهد التشكيك والتشويش والتشنيع أحيانًا، موجهًا بدعاوى لم تكن من جنس الموضوع دائمًا؛ أي ليست من صميم البنية الثقافية، علمًا بأنْ لا أحد يتجاهل بأن نَقْل الأدب بلغةٍ ما هو تعبيرٌ أيديولوجي، أيضًا، أو قد لا يفلت من هذا البُعد.
رأيُنا أن المشتغلين بهذه الكتابة هم المهمومون الحقيقيون بالموضوع. إن لم أقُل بأنهم لم يعرفوا بعدُ كيف يُسَمُّون موضوعهم. ومشكلتُهم لا تكمُن في كونهم يكتبون بلغةٍ هي، في نهاية المطاف، أجنبيةٌ عن البلد الذي ينتمون إليه، مهما تكاثَرَت دعاوى التعدُّدية، من كل الأصناف، وتهجَّنَت الألسنة. أظُن أن أزمتَهم، والأزمة عمومًا هي الإحساس المستمر بالازدواجية حدَّ التناقُض، وهو إحساسٌ يتفاقَم عند البعض بضرورة تحدي اللغة الفرنسية في عُقر أساليبها وبلاغتها وعبقريتها، بعبقريةٍ تُضاهيها من لدُن هذا الذي قال زمنًا إنه لم يختَرها بحرية، ثم إنه منفيٌّ فيها، وأخيرًا، ربما، إنها أداةُ تعبيرِه بصَرف النظر عن أي مقتضًى كان.
سنصرف النظر عن هذه الاعتبارات لجداليَّتها، ولما تجرُّ مماحكاتٍ تقع خارج دائرة اهتمامنا المباشِر. لنقُل مباشرةً بأن السؤال الغائب، ربما المغيَّب، في نقاشٍ ما زال في أغلبه مبعثَرًا على عتبات اللسان، هو هل استطاع الأدب المغربي/المغاربي، المكتوب بالفرنسية أن يصل إلى الحد الذي يراه القائمون عليه مطلوبًا، في كمِّه ومستوياتِ تعبيره، ومهاراته المختلفة، بما يُظهِره قائمًا بذاته، ولسانًا لقوم ومجتمع، وعنوانًا لأدبية؟ وهل بإمكانه، بالتالي، أن يتحول إلى تراث؛ أي أن يصبح كلاسيكيًّا؟ أجل، عندما يُجيب على هذَين السؤالَين ستتبدَّد الأسئلة الثانوية. وحين سيعرف كيف يجعل قُراءَه ينظرون إليه ويقرءونه في مرآة الزمن والإبداع الإنساني؛ أي أن يُتوارث، بكل أقنوميَّة هذا التصور وشموليَّته وتاريخيَّته، فسوف يتحرَّر من موضوعه ليستغرق في ذاته وكيانيَّته، وسيكون قد تحرَّر ونسي جرح التاريخ (= الكولونيالي) ليتفرَّغ للولادات القادمة، وهي العسيرة دائمًا.
ثاني الملاحظتَين الكبريَين، تخُص الأدب العربي الحديث بالمغرب. كَمُّه لا يُستهان به قياسًا بالبيئة الثقافية عامة. ومخاضاتُه كانت وما تزال مُوجِعة، ومُعوِّقاتُ انطلاقه وتفتُّحه تعدَّدَت وتضاربَت فيها الأسباب، أيديولوجية وتربوية وفنية وذاتية أيضًا، وكلها مثبِّطة. كلها سبق أن وقفنا عندها في أعمالٍ لنا منشورة، ولن نعود إلى تفصيل القول في الانعكاساتِ المتباينةِ لمفاهيم ومقولات الأيديولوجيا والالتزام والواقع والواقعية على ظروفِ ولاداتِ الأدب المعني، ومراحلِ تبلوُره، ولا كيفية تلقِّي والتماسِ عناصرِ الشكل وجمالياتِ التعبيرِ على تخلُّق الأجناس الحديثة فيه؛ هذه، أيضًا، مسائلُ طُرقَت في مضانِّها، ويُستحسَن العودة إليها في عددٍ لا بأس به من الدراسات الجامعية القيِّمة بالخزانة المغربية، عربية وفرنسية.
أجل طرقَت نظريًّا، وإن استمرَّت تأثيراتُ سلبيةِ فهمها، وإرباكات تأويلِها وتشخيصِها في النصوص، بشكلٍ متفاوت من أديب لآخر، وهذا بعض ما يسجنُ قسمًا من أدبنا في ربقة الموضوع من غير أن يكتب على السجية، ويُخيَّل إليَّ أن مصدر التفاوت راجعٌ إلى ملكاتِ الأفراد ونضجِهم في مضمارهم، أو ضموره طبعًا، وما ينبغي أن يُعتمَد لتقويمِ حصيلةِ أي أدب واعتبارِه هو الثمار الطيبة فيه، والأشجار التي تمُد جذورها وجذوعها عميقًا لا العيدان والأوراق الهشَّة، الذابلة، السريعة الكسر والتساقط؛ ومن ثَم، فالعبرة في الإبداع لبُّه ونكهتُه لا كمُّه ولا كثرةُ الناطقين باسمه أو اللائذين إلى ظله جرَّاء إذقاعِ الموهبة ولتحصيلِ وضعِ اعتباريٍّ زائف. وإذا كنا قد لاحظنا أن بعض اضطرابِ واقعِ الأدب المكتوب بالفرنسية اغترارُه باجتراحِ عبقريةٍ مضادةٍ للغة اشتغاله، فنستطيع أن نقول بثقة بأن بعض عوائق أدبنا العربي، هنا، الأخرى، انشدادُه المستلب، وانحباسُ أفقِ إنجازهِ ومنظورِه وتجدُّدِه في أفقِ الأدب العربي في المشرق. لا يتعلق الأمر بأي نعرةٍ إقليمية، بعد أن فات أوان ذلك واضمَحَل أثَره. ولا باستنباتِ خيوطٍ وروابطِ تأثيرٍ وتفاعُلٍ تاريخيةٍ معلومة، بين مشرق ومغرب، وإنما بتعيين أثَر، يكاد يُمثِّل عقدةَ نقص وعائقَ انطلاق.
نحن نرى أن عين الأديب في الديار المغربية لا ينبغي أن تقع على إبداع الأصقاع العربية المشرقية بنظرات الانشِداه والانجِذاب، الأحادي الجانب، بل يحتاج لأن يأخذه إليه جزءًا منه هو طرفٌ فيه ومكملٌ لرؤيته، ومتفاعلٌ معه، يصنعان بنيةَ إبداعٍ أدبيٍّ عربي بملامحَ متعدِّدة. ثم نرى، أيضًا، بأن الرؤية الأكمل والأوجب هي تلك التي يحتاج أدباؤنا إرسالَها في الأفق الإبداعي والثقافي الكوني — بصرف النظر عن اعترافه أو إنكاره لهم — وهذا رغم أنه لا يُوجد إبداعٌ أو أدبٌ كونيٌّ أو عالمي بالاصطلاح المدقق، والحامل لمضمونٍ محدَّد. والقصدُ هو الاندراجُ في سياقِ التقاليد الأدبية الكبرى والتحاورُ معها بالوقوف إلى جوارها، وأخذِ موقعٍ فيها، موقعٍ متفرِّد وخصوصي يغدو بعد ذلك جماعيًّا وعامًّا ومتداولًا ومستساغًا وتراثيًّا كلاسيكيًّا، في المحصلة المُثمِرة.
هي مسئولية الدارس والناقد، الذي يُفترَض امتلاكُه للوعي المزدوج، المعرفي والنصِّي، بإمكانه بواسطة مرجعياته مقروئيته إعادةُ إنتاجِ النص بدفعه نحو مساراتٍ أبعدَ من مكامنه. ألا يسجُنه، مثلًا، في بُعدٍ واحد، وألا يُقيِّده بمعاييرَ ثابتة ومفاهيمَ جامدة، ألا يحصُره في حدودِ نظرةٍ محلية، أن يعدِّد من مداخل قراءتِه وزوايا تقويمِه وتفسيرِه كلما أتِيحَ له ذلك. إن من المهم جدًّا أن يُعمِل النظر طويلًا، بالجهد المعرفي، وبمِراس القِراءة المحترِفة المتذوِّقة، ليضع النص في نصابِه، ويلتمَسه فيما يعطيه أولًا، وما يُوحي به ثانيًا، وما يسكُت عنه ثالثًا، وبعد ذلك له أن يُدخِلَه، كما يشاء، في الشبكة الإحالية، ويُخضِعَه لهذا المنهج أو تلك الاصطلاحية. بعد سنواتٍ طويلةٍ من التمرُّس، على أكثَرَ من مستوًى، بالقراءة النقدية للأدب العربي الحديث في المغرب، يتبيَّن لنا أن معالجةَ هذا الأدب في مُجمَلها قد ابتسرَتْه ووضعَتْه بين قوسَين، مع مقدِّماتٍ تعريفيةٍ ومتثاقفةٍ واستنتاجاتٍ متأخرة تُشنشِن بالمصطلحات ودلالاتُها محصورةٌ فيها، فيما يبقى المتنُ المنشودُ للدراسة في عزلةِ توحُّدِه الإبداعيةِ الأولى.
يحتاج الدارسُ والناقد، في ظننا، لكي يذهبَ إلى النص، ويجعلَه غرضه الأول، لا الثاني أو المتذرَّع به، أن يُرشِدَه، يتنادَد معه إن لم يُسلِس له القيادَ ليُدرِك رشدَه، فتقوم علاقتُه به على هذا الأساس، أولًا، وقبل كل شيء. وما من شك أنه مطلبٌ بعيد المنال إن لم يتوفَّر على تحقيقه مَن هو نفسُه راشد، بما يُظهِره حقًّا كفئًا للنص، وإلا فلن يُنتِج إلا القصور.
كفى، ما عاد الأدب المغربي الحديث والمتجدِّد، قاصرًا، في نماذجه الكبرى، وتمثيلاته الأبرز … هو إبداعٌ راشد، على تفاوُت مراحل انبناءاته ومدوناته والأعلام الناهضين به. قد يوحي ببقائه مشدودًا إلى تعلُّمٍ مستمر، ولكنه يؤكِّد أيضًا، وهو الأجدَر، بأنه شَبَّ عن الطوق، طالت سنابلُه ونضجَ زرعُه وأعطى، وحصلَت منه غلةٌ يأخذها جيلٌ عن جيلٍ ليستويَ بها عودُه ويرشُدَ قوله. وهو ذاهب بتُؤَدة وإن بإصرارٍ نحو تلك الكلاسيكية العريقة التي تتطلب دائمًا الأجيال. إنه اليقين الذي يثوي في قرارةِ موادِّ هذا الكتاب، وعلى هديه تُعالَج قضايا جوهرية، ويُعاد رسمُ معالمَ تمثيلية ودالَّة، لا جدال في قوَّتها وأهميَّتها، في السرد والشعر والنقد والرأي الثقافي النقدي. هذه كلها تصنع البنيانَ المتصاعِد لأدبنا، وقراءتُنا هي لدعمِه وصقلِ ملامحِه، والكشفِ عن مخابئ الغنى فيه ليُقرأ راشدًا، وهو يتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى سِجلٍّ صاغَ ويصُوغ وجدانَ أمة، وتضاريسَ مجتمع، ومساراتِ حياة، وتلاوينَ لغة وخيال، ينبغي أن يكونا منذورَين دومًا للجميل والعميق والأصيل.