سياقات محمد برَّادة: عن الذاكرة الثقافية الأدبية للمغرب
مِمَّ تتشكَّل الذاكرةُ الأدبيةُ والثقافية عامة، في ثقافةِ بلدٍ ما؟ من حصيلة الإنتاج المعطى كلًّا، المتواتر حقبًا، أم من مجموعة لحظاتٍ مكثَّفةٍ ونادرة، ذات رمزيةٍ عالية، أم من الإسهامات والمبادرات الإيجابية لأفرادٍ يُوجَدون في تمفصلاتٍ زمنيةٍ حاسمة، وينخرطون في توليدِ وعيٍ أكبر من أعمارهم — هو ما يُسمَّى ببساطةٍ رؤيةً للعالم — ليصبحوا هم الكلي لجماعتهم، لأوطانهم؟
هذه بعض أسئلة تثب أمامي في حقل عمرٍ تاريخي، سياسي وفكري وإبداعي، مغربيًّا وعربيًّا، بات مكتملًا بنتائجه وخصوصياته، ويصل منه اليوم للأجيال الرائدة — من تبقى أو نجا من أعلامها — تجميعُ شتاتِ حضورها القديم لدحضِ إحساسِ التلاشي، وبالأخص للدفاع مجددًا عن مشروعيةِ فعلٍ تاريخي، متعدِّد التكوين والأبعاد، إذا كان قد تعرَّض للتدمير من كل النواحي، فإن أقطابه وأبناءه يرفضون فكرةَ موته — موتهم — فيواصلون رغم عوادي الدهر الاحتماءَ به، وذلك باسترجاعه، سواء نصًّا أو حنينًا، وحتى نقدًا وتثريبًا، والانطلاقَ منه، أيضًا، نحو الحُلم عَبْر مراقي التحوُّلات والتبدُّلات، الموضوعية والشخصية، لإنقاذ الذات من وَهْدة التلاشي … ربما الكتابة إكسيرها الوحيد والمستحيل في آنٍ.
أعتبر هذه الأسئلة، والتساؤلات، وما تشير إليه صراحةً أو تنطوي عليه ضمنًا من معانٍ وإحالات، عتبةً ضروريةً وأنا عند مدخل الكتابَين المرجعيَّين اللذَين أصدَرَهما الناقد والباحث الأديب المغربي محمد برَّادة، (م. وزارة الثقافة، ٢٠٠٣م، بالرباط)، ويحملان العنوانَين التاليَين: «سياقات ثقافية»، و«فضاءات روائية»، والأول منهما تحديدًا، تسعى هذه الورقة إلى الاختصاص به، وأعتبر، أيضًا، أن صدور الكتاب الأول ينبغي أن يُعَد، سواء من قِبَل جيلي الذي تفجَّر طموحُه وهوسُه من نهاية الستينيات المنصرمة، أو الجيل أو الأجيال الخليط الحاليَّة في بلادنا، كيفما كانت ثقافتُها الأدبية وبأي خصالٍ اتسمَت أخلاقُها؛ أقول ينبغي أن يُعَد، بالنسبة إلينا نحن المغاربة، وأبناء المغرب العربي عامة، مناسبةً طيبة، وفرصةً مواتية للالتفات إلى ماضينا بالالتفاف حوله كزمنية حيَّة باعتبارها حاضرةً تكوينًا وإدراكًا ووجدانًا في عقل وقلب الجيل الثقافي الذي يُنتِج الثقافة الأدبية في بلادنا، ويُواصِل اجتراحَ آفاقِ التجربة الإبداعية الخلَّاقة منذ ثلاثة عقودٍ خلَت وما تلاها.
ومن الناحية الأخلاقية البحت، فإن الوقوف الهادئ والمناسب عند كتاب «سياقات ثقافية» — وهو ما لم يشهَدْه المحفل الثقافي بالمغرب بالشكل المطلوب، من أسف — لا يجوز أن يُنظَر إليه ضربًا من الاعتراف بفضل عَلم، والوفاء فقط لحق جيلٍ رائد، مؤسِّس مفاهيم وحارثٍ لحقول من الفكر والإبداع نرفُل فيها اليوم بحرية ويسر لا يُنكَران؛ فنحن، خلافًا لما يتصوَّر الصُّغَراء، لا نتخذ موقف الخيانة والجحود من الأفراد، حين نفعل، ولكن حيالَ تاريخنا وأنفسنا بالدرجة الأولى، دليل تجذُّرنا في الحاضر، وإننا بامتلاكهما، ووعينا الناضج بهما، نقتدر على استشراف أيِّ مستقبلٍ ممكنٍ يؤهل لاستنباتِ مفاهيمَ وتجاربَ ورؤًى أخرى، لا تنفكُّ تُبرِز طاقاتِ الأجيال اللاحقة في الإبداعِ وصوغِ أشكالٍ متجدِّدةٍ للحياة، تُنظِّم نسَقًا آخر إلى جانب وفي السياقات الثقافية التي صنعها الرواد والمؤسسون، ونحن أيضًا، بعدهم، بحُكْم تمثُّلِنا لأفقهم، ومواصلتِنا، حين نواصل، مشروعَهم سواء بتطويره أو بتغييره.
لنتقدَّم إلى الجوهر بالعَرض المفصَّل، ولنسجِّل في البداية أن كتاب «سياقات ثقافية» هو أضمومةُ مقالات، موزَّعة، كما عيَّنها المؤلف، بين «المواقف»، «المداخلات»، و«المرافئ». فيها ما هو مذَيَّل بتاريخ كتابته أو نشره، وفيها بدون، وغُفل كلها من حيث نُشرَت، وإجمالًا مواد موضوعة ومخصوصة بحالات وقضايا متراوحة بين مطالح السبعينيات ومداخل القرن الجديد، مقالات هي في الحقيقة، وفي كثيرٍ من عناصرها وانشغالاتها، لسانُ حالِ جيلٍ بأكمله، وضَع على عاتقه بناءَ النهضة الثقافية للمغرب المستقل، واعتنَق مبادئ العدالة والتحرُّر والتقدُّم لهذه الغاية، ولا شك أن موقع الريادة والرسالة التبشيرية لأصحابها لمما يُعطيها أكبر الأهمية.
علينا أن نذكُر ونتذكَّر بأن الأستاذ محمد برادة، ينتمي إلى الرعيل الثاني من مغاربة الحركة الوطنية (بأبعادها الأيديولوجية العقيدية والسياسية والثقافية) الذي انتقل إلى المشرق العربي، وبالتحديد إلى أرض الكنانة، التي كان قد تأسَّسَ فيها منذ سنة ١٩٤٨م مكتبُ المغرب العربي، وعَرفَت نزوحَ بطلِ حربِ الريف المجاهد عبد الكريم الخطابي، وزعيم الاستقلال علال الفاسي، ثم الوافدين الأُوَل من الطلبة للدراسة في جامعة القاهرة أبرزهم بين الأدباء عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب؛ هذا الأخير الذي يُعَد رائدَ الرواية في البيئة الأدبية بالمغرب. وقد قام هذان الأدبيان إلى جانبِ آخرين بدورٍ تحديثيٍّ أوَّل للحركة الفكرية والأدبية بالمغرب بَرزَت منه ملامحُ مشعَّة في مجلة «رسالة المغرب» خلال مرحلة الاستعمار، وإلى قُبَيل الاستقلال في ١٩٥٦م. سيتلوهم رعيلٌ ثانٍ وِجهتُه المشرقُ دائمًا مصر وسوريا، وسيكون محمد برادة من الذين سيقصدون القاهرة سنة ١٩٥٥م. من هذا التاريخ سينشَدُّ إليها بعُرًى لن تنفصِم، وهو ما سجَّله بحفاوةٍ في مذكِّراتٍ محكيةٍ في کتابٍ بعنوان «مثل صيف لن يتكرر»، وهناك سيقضي سنواتِ الدراسةِ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، التي سيحصل منها على الإجازة، ويقفلُ بعدها عائدًا إلى بلاده سنة ١٩٦٠م.
عودة تتزامن مع دخول المغرب المستقل مرحلة التأزم المتمثلة في انفراط عقد التنظيم السياسي للحركة الوطنية (حزب الاستقلال)، صاحب أطروحة عودة الملك المنفي واسترجاع السيادة المغصوبة من المستعمر الفرنسي، وتقاسُم الحكم مع العرش بأيديولوجيةٍ وطنيةٍ وبورجوازيةٍ صاعدة، كما يتمثل التأزم في بروزِ نقيضِ الأطروحة، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ليُعلِن أيديولوجية الدفاع عن المحرومين، والساعين إلى التحرُّر من قبضةٍ للحكم شرسةٍ أكثر فأكثر، ومن تسلُّط الاستعمار الجديد، ومع الارتباط بشعارات القومية العربية واليسار العالمي، الاشتراكي والشيوعي. سينخرط الشاب برادة — الذي سيعمل بعض الوقت بالإذاعة الوطنية قبل أن يلتحق بسلك التعليم — في معمعِ صراعٍ بدا في أوَّله، هو العائدُ توًّا من مصر الناصرية، مشتعلًا بأوارِ معاركِ بناءِ الدولةِ الوطنية، والقضاء على الإقطاع، وتدبير التسيير الاشتراكي للقطاع العام، وكسب رهان التأميم في خِضَم إعلان صوت الوحدة العربية من الخليج إلى المحيط، في مواجهة إسرائيل وحلفائها. وفي المغرب، كانت المعركةُ الوطنيةُ الجديدةُ لسنوات الاستقلال الأولى في مستهلها، بين نظامٍ ملكيٍّ يرسِّخ سلطته بالقبضة الحديدية، قبضة الجنرال أوفقير، وتزوير الانتخابات، والرمي بالخصوم في أتون المعتقلات أو دفعهم إلى المنافي، وبين قوًى صاعدةٍ ترومُ بناء مجتمعٍ جديدٍ قائمٍ على أسُس العدالة الاجتماعية والديمقراطية في ظل ملكيةٍ دستوريةٍ حقيقية، إن لم يكن بالانتفاض عليها كلية.
وعلى الرغم من أن المبادرةَ الكبرى كانت في يدِ السياسة، وبيدِ السياسيين، إلا أن المثقفين، ومنهم زمرة الأدباءِ الصاعدين والمرتبطين بالتيارات التقدُّمية اليسارية، اندمَجوا في غمرة النضال، بل وقادوه من مواقعَ تهزُّ قلاعَ الثقافتَين الموسومتَين بالرجعية والمحافظة، فكان برادة، الذي انتمى إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ممن سيخوضون السِّجال ضدَّهما بضراوة، ويتصدَّى في الصحف القليلة المتاحة، وباستعمال أكثَر من اسمٍ مستعار، وهو ما أظهَره في بدايته مساجلًا بالدرجة الأولى، وهي نعرةٌ ستطبع مواقفه بعض الوقت، كما ستطبع جملةً لا بأسَ بها من أوراقه الأولى في النقد الأدبي، وفي التوجيه الأيديولوجي للأدب والثقافة عامةً من خلالِ منابرَ محدَّدة، قبل أن يبلُغ أشُدَّه، انطلاقًا من الثمانينيات، في فهم الأدب محتوًى وشكلًا، وأداةً ورسالةً بكيفيةٍ فنيةٍ ومتفتِّحةٍ تتعدَّى الدورَ التبشيريَّ أو الالتزامَ السطحيَّ العابر.
لقد استنفد هذا الدور جهدًا كبيرًا من طاقة الناقد الشاب في العقدَين الستيني والسبعيني، وهو ما لم يكن ليُسعِفه ليُشخِّص الوضع الأدبي التام والاعتباري الذي سيظل يطمح إليه، ولا ليُنجِز أعمالًا تُوازي هذا الطموح، خلا قصصٍ أولى سيتناساها، وترجماتٍ لنصوص كان أهمها كتاب بارت الرائد، «الكتابة في درجة الصفر». لا يُعزى هذا إلى طراوةِ العمرِ والتجربة، ولا متطلباتِ العملِ السياسيِّ وحدها، كما ليس مردُّه ما يُنعَت به المغاربة في تاريخهم الثقافي والفقهي بأنهم رجالُ مشافهةٍ وبذل في مجالس العلم، وهو صحيح، أكثر منهم ميلًا إلى الكتابة والتدوين؛ فهي جميعًا أسبابٌ وجيهةٌ بقَدْر ما إن صاحبَنا ورفاقَ دربِه من الرعيل الثاني التحقوا بالجامعة المغربية الفتيَّة في منتصف الستينيات، معيدين وأساتذةً مساعدين، مكلَّفين في كلية الآداب، بمدينة فاس، أولًا، ثم الرباط بعدها، بتدريس الأدب الحديث، إلى جانب أساتذةٍ كبار من المشرق كانوا جميعًا يدرِّسون ويلقِّنون الأدب الكلاسيكي في مختلف عصوره، نظمًا ونثرًا ونقدًا وبلاغة ونحوًا وفقهَ لغة.
لم يكن تدريس الأدب الحديث آنذاك مبذولًا كما في أيامنا هذه، ولا أدواته وطرائقه ميسرة، دعك من مصادره ومراجعه، والعقول والأذواق التي يتوجه إليها. كان مهمةً شاقة على عاتق الزمرة المعنيَّة، وبرادة، كما ذكرنا في قلبها في أول الدرب العلمي، وهم مطالبون أيضًا، بل أساسًا بإعداد الشهادات العليا كي يتم ترسيمُهم أساتذةً في الجامعة، فأي ورطة هذه؟! هو ذا جيلٌ أو بعضُ نُخبة جيل، وجد نفسه يُعلِّم وهو يتعلم، مع كل أخطاءِ ومشاقِّ مراسٍ كهذا، ولقد كُلَّف أفرادُه، وهم في طراوة العمر، ومحدودية الخبرة، بتكوين مَن سيصبحون بدورهم مُكوِّنين؛ أي مدرِّسين بالتعليم الثانوي، وسواء بوعي أو بتغافلٍ مقصود فإن مهمَّتهم تمثَّلَت في تبليغ نظرياتٍ ومقولاتٍ طازجة عن الأدب الحديث قد ضرب بجذوره عميقًا في الثقافة العربية بالمغرب، وبالتالي فإن مهمَّة التشييد بدَت على درجةٍ قصوى من الصعوبة.
إنها خلفيةٌ أساسٌ لحياة مؤلف، واضع تلك المقالات المؤسِّسة، وصاحب المواقف المساجلة الحامية، المجموعة الآن في كتاب «سياقات ثقافية». لقد كان زرعُ الأدب الحديث، والدفاعُ عن مقوِّماته عند محمد برادة جزءًا من تدريسه بدءًا من منتصف الستينيات في كلية الآداب بفاس العامرة آنئذٍ، إلى حين ارتحالِه إلى باريس لإعداد شهادة الدكتوراه عن مفهوم النقد الأدبي عند محمد مندور ورؤية العالم التي يصدُر عنها، فقدَّم مع هذا البحث الجامعي الرصين إحدى الإسهامات الأولى والمُحكَمة في فهم وتطبيق منهج البنيوية التكوينية، كما تصوَّرها لوسيان غولدمان، ضمن المقاربة الشمولية لعلم اجتماع الأدب، وحين سيعود الأستاذ برادة من جديد في منتصف السبعينيات إلى كلية الآداب بالرباط، فسيراه طلبتُه ومريدوه، وزملاؤه، أيضًا، في إهاب أستاذٍ بدأ فعلًا ينضج أكاديميًّا، ويتفتح أدبيًّا … كل ذلك وهو يزداد ضراوةً كمُساجلٍ في الحقلَين الثقافي والأدبي، كلما اقتضى الأمر ذلك.
الكتابة باعتبارها الفوضى الوحيدة الممكنة
يبدو محمد برادة، وهو يضع مقدمة كتابه «سياقات ثقافية» كمن يريد الاعتذار عن صنيعٍ مُستهجَن؛ أي الجمع المتأخر الذي يقوم به کُتاب ودارسون راسخون لمقالاتٍ ونصوصٍ كتبوها في أوقاتٍ متفرقةٍ من أعمارهم؛ ولذلك يُعلِن مسبقًا أنها «نصوصٌ كُتبَت منذ السبعينيات». وخشيةَ تعرُّضها للتلف؛ أي عدم الصمود للزمن، يسوِّغها بكونها «محطات ومرافئ قد تُفيد من يهتمُّون بتحليل الخطاب الثقافي المغربي في مراحل تكوُّنه وتنوُّعه وامتداداته» (ص٥).
ومن أجل تزكيةٍ أكثَر لنصوص الماضي يرى أنها «وُلدَت في إطار المثاقفة (التفاعُل مع الآخر) الذي طبَع التشييد الثقافي الواعي بالمغرب والعالم العربي» (ن). ولتحيينها وإبعادِ شبهةِ القِدَم أو الرثاثة عنها يُسجِّل لحظةَ نقدٍ تاريخانية بقوله أو بإقراره بأن «الأسئلة المطروحة منذ السبعينيات (مناط زمنية الكتاب على العموم) تظل دومًا بحاجةٍ إلى المزيد من التأمل وتعميق التحليل» (ص٦).
ويبقى المسوِّغ الذاتي، في نظرنا، الأبلغ في قول المؤلف، وهو بصدد ترتيب دفوعاته الأولى «(إنني) عشتُ قريبًا من الحقل الثقافي أثناء فترة التشييد الأوَّلي …» (ن)، وإذا بدا قولًا يشفُّ بتواضُعه فإن نبرة إعلان موقف الشهادة فيه عالية، وهي مطلوبةٌ جدًّا لحقبةٍ بات كلُّ من هبَّ ودبَّ يقول عنها ما يشاء، وصارت عُرضةً للعابثين والمهجَّنين الذين يُمعِنون في إلغاء الذاكرة، ولن أرطن بعقدة «قتل الأدب»، ليبقوا وحدَهم في حقل تاريخٍ أغبَر بلا روح، وبأجسادٍ من قش، تُرعبهم دائمًا عبارة «فترة التشييد الأوَّلي».
وبما أنه لا ناقد ولا قُراءة بدون منهج فإن محمد برادة يتحرَّى ويتقرَّى لمزيد من دحضِ وصمةِ تلفِ أو قِدَم بضاعته (= نصوصه)، من جهة، ولوضع القارئ دفعةً واحدةً في المكان المناسب للتلقي الذي يسمح بإدراكٍ كليٍّ لرؤية هذا الناقد، وذلك من خلال فهم الثقافة التي تعيش في عرفه «داخل مسافاتٍ متحوِّلة، ناتجة عن السياقات التي تصاغ فيها الإشكاليات وتتواجه الآراء والرؤيات» (ص٥)، وما من شك في أن الإحالة تعود هنا على المراحلِ والمواقفِ المستقاةِ منها أسبابُ الكتابة والاحتجاج والتبشير. لنُذكِّر من جديد أن المؤلف ارتأى تصنيفَ مادةِ كتابه في ثلاثة فروع هي «مواقف»، و«مداخلات»، و«مرافئ»، ونظن أن الفرع الأول هو الأكثر تعبيرًا عن الأسئلة والقضايا التي فكَّر فيها صاحبُها، والتي تُسجِّل كذلك مجموعةَ مفاهيمَ واقتناعاتٍ نظرية، ارتسمَت على الخط البياني لبناء الثقافة العربية المغربية، الحديثة والتقدُّمية، ابتداءً من الستينيات الفائتة.
لا نظن أن هناك اختلافًا في أن مواضيع الديمقراطية وثقافة التغيير، ومواصلة إحداث الانسجام المطلوب بين التفكير في التغيير وتحقيقه عمليًّا، وفي ربط العمل الإبداعي وكل إنتاجٍ ثقافيٍّ بهذا الهدف، ما يزال في جدول أعمال النخبة العربية المتنوِّرة. وإذا بتنا نُلاحِظ في السنوات الأخيرة تكاثُرًا مفرطا في مصطلحات وتسميات ما يتصل بهذا المدار بسبب تجدُّد مناهج وطرائق التفكير والتحلي فإن المضامين والمقاصد تكاد تبقى هي ذاتها، مع فارقٍ أساسٍ رغم كل شيء، وهو أن دُعاتَها فارقوا «غُلوَّهم» لو جاز القول، وطوَّعَهم الزمن وعرَكَهم الدهر فصاروا إنسانيين متفتِّحين وجماليين، وهذا بعضُ ما يطبع المسار العام لناقدنا الذي يشهد على نفسه بأنه تنقَّل بين محطتَين أساسَين في حياته؛ أدب التبشير وإسقاط الأفكار الجاهزة وأدب الحرية والإبداع (ص٢٨٩). وما من شكٍّ أنه مسارٌ فردي ولكنه في الآنِ عينِه يشتمل على خطواتٍ مشتركةٍ ترنُّ بإيقاعٍ من سُمي ﺑ «الموتور»، الذي وقد تفتَّح بعد الاستقلال، راح يتعلَّم ويصنع أبجديتَه ومعجمَ وجوده الذاتي والموضوعي.
في باب المواقف يتحرَّك هذا المعجم في صورة مقالاتٍ مساوقةٍ لتحوُّلاتٍ سياسيةٍ ملموسةٍ من قبيل انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي أعلَن التطوُّر الحاسم في تاريخ الاتحاد السابق عليه، مع تغيير استراتيجية اليسار المغربي انطلاقًا من ١٩٧٥م. في الستينيات كان للمثقَّف اليساري تبعيةٌ مطلقةٌ للقطب السياسي، يردِّد أقوالَه كالصدى، والأدب محمولٌ كالرَّجع أيضًا باسم مفهومٍ تبسيطيٍّ جدًّا للالتزام مُملًی کقانونٍ قَسْري، في ضوء هذه الخطوة فإن المثقَّف يريد أن ينحاز لدى معالجة الموضوع الثقافي إلى رؤيته الخاصة، وهذه تذهب أو تعتبر الثقافةَ في المقام الأول والمسألةَ السياسيةَ والاقتصاديةَ تليها. وعندئذٍ فإن الثقافة المعنية تلك التي «توظِّف المعرفةَ والخبرةَ لبلورة رؤيةٍ للعالم تستمدُّ جذورَها وحدودَها من طبقةٍ أو فئاتٍ اجتماعية تعمل وتصارع لكي تتبوَّأ مركزَ قيادةٍ المجتمعِ على أساسِ مشروعٍ سياسي اقتصادي ثقافي متكامل» (ص١٠)، واضح أننا، وإن وُجِدنا في منطقة العلاقة الجدلية بين البنيتَين الشهيرتَين، إلا أن الربط الميكانيكي بينهما مُستبعَد، وهو ما يرتقي بالتعريف عن تلك المقاربة التي أشاعَتْها واقعيةٌ اشتراكية وواقعيةٌ مبتذلة، ويقرِنه بالوعي؛ إذ من ثَم تُصبِح الثقافة فعلًا واعيًا يُعبِّر عن موقف، وعن اختيارٍ من جانب المثقفَّين المعنيِّين أيضًا بتحقيق التجانُس الأيديولوجي وسط الطبقة التي ينتَمون إليها أو يتبنَّون اختياراتها (ص١٠).
لنُلاحِظ أنه في مَهمَه العمى الأيديولوجي الذي كان ملزمًا بربط الثقافي بالسياسي يظهر هذا التعريف وهو ينقل الكتاب إلى لحظةٍ متطورة، وضمنه رؤية مقاربة العمل الأدبي التي كانت محكومةً بالتحريض والتوجيه والانعكاسية الصرف. كان المثقَّف اليساري خلال السبعينيات، فترة الغليان الكبرى لليسار بالمغرب، مُنشَدًّا بقوة إلى مصطلحات وأدوات التحليل الماركسي، وفي مقالات برادة تطفو واضحةً على السطح دون أن يَعْني ذلك بالضرورة أن مُستعملَها ينتمي إلى تيارها، فقول: سيرورة، اجتماعية، جدل، جدلية، سيرورة جدلية، صراع طبقي، هو بالأحرى تمركُس، ومن قَبيلِه تأكيدُ مقولة الصراع بين الفئات والطبقات كمقولةٍ مركزيةٍ في صنع القيم، وهكذا فالتاريخ الثقافي لكل أمةٍ هو تاريخُ صراعاتٍ بين طبقاتٍ سائدة وأخرى مناهضة لها (ص١٤) للانعتاق من الماركسية المتخشِّبة السائدة سيشحذ بعض قراءته على أدواتِ غرامشي الاصطلاحية الكبرى متمثلةً في مقولات المجتمع المدني، الهيمنة والكتلة التاريخية، التي كانت في واقعنا ذلك نظريةً وإجرائيةً في يد بعض المحلِّلين وتجريبيةً عند آخرين. شأنها شأن المنهجية العامة للوسيان غولدمان بسجلَّاتها الرؤيوية — كما استثمرها ناقدٌ آخر هو إدريس نقوري في مقالات ومساجلاتٍ معروفةٍ وقتها — وبأيقوناتها التي ستُشتهَر لاحقًا إلى جانب الحمولة البارتية والسيميائية عامة، عندما ستزدهر انطلاقًا من العقد الثمانيني، ولن ينشَدَّ إليها صاحبُنا الذي سيستمرُّ مراهنًا على أدب التحدي والوعي الممكن (…) لتجاوز الواقع القائم (كذا) (ص٤٤).
فهمٌ ينبثق من موقفٍ آخر لدى الناقد، الذي ينطلق من رصد الأزمة (= أزمة شمولية)، وفحواها أن «ما كان واضحًا مسلَّمًا به لم يعُد كذلك»، مما يستدعي «مراجعةً نقديةً متعمقةً للإشكالية التي استَقطبَت جهودَ الأمة العربية منذ منتصف القرن الماضي»، كما خاطَب زملاءه في مؤتمر الأدباء العرب بدمشق (١٩٧٩م)، وهو ما يستوجب تحالفًا بين المثقَّفين ومختلف الفئات الكادحة والمهمَّشة لإيجاد سلطةٍ مضادة. إنه خطابُ المناضِل، كما نلحظ، أو المثقَّف العضوي، بتسمية غرامشي، سيعتنقه برادة مقومًا مركزيًّا، إضافةً إلى كونه خلفيةً للخطاب الأدبي. إن الأدب منذئذٍ، «كجزء من الأيديولوجيا لا يكتسب شرعيتَه إلا من خلال الجرأة على وضعِها موضعَ التساؤل» (ص٤٣)؛ تعبيرٌ واضحٌ عن نبذ التماهي المُفترَض عند الماركسيين والواقعيين أو دعاة الواقعية الاشتراكية بين مكوِّنَي، الواقع والفكر، مستوحاة من بيير ماشيري الذي يذهب إلى حد وجود تناقُضٍ بينهما، ما يعني أن ناقدَنا كان في نهاية السبعينيات قد قطع ومعه النقد الأدبي عندنا خطوةً نوعيةً أخرى. من هنا الإلحاح من جانبه على اعتبار أنَّ أهمية الثقافة تعود «إلى نوعية الأسئلة التي تطرحها، وإلى الإشكالية التي تصوغُها» (ص٦١)، ومعها فإن «مشروع الثقافة الغربية المضادة يتموضَع في أفقٍ منفتحٍ على كل التساؤلات» (ص٦١).
من مطلع الثمانينيات وصعدًا، سوف ينفتح الأدب في المغرب، تعبيرًا إبداعيًّا وتنظيرًا وتحليلًا، نقديَّين، على أغلب التيارات والمنهاجيات التي جدَّت في العلوم الإنسانية، وستتبلور على صعيد قراءة وتأويل المتون الأدبية، مقارباتٌ تتجه، إلى الخطاب الأدبي في ذاته لضبط إوالياته، وتفكيك مكوِّناته ورسم إشاريته. وستجري على ألسنة الدارسين من جامعيِّين ونقَّاد ذوي تكوينٍ أكاديميٍّ رصين، وفي مدوِّناتهم، مصطلحاتٌ وصيغٌ تُحدِث قطيعةً تدريجيةً مع مدارس ومناهج دراسة الأدب على نظام الأغراض والمُثل، وقاعدة الشكل والمضمون، أو ثنائيَّتهما، أو ارتكازًا على أرضية التحليل الجدلي والتفسير المادي للتاريخ. لن يعود بوسعِ مساجلِ أمسِ (كما كان زولا مساجلًا، وهذه إحدى النعوت الموضوعة تحت علامة الشارع الذي يحمل اسمه في باريس) أن يستمر في الحديث عن الأدب ودَور المثقف العضوي بالحوافز والأيديولوجية الممتلكتَين من قبلُ؛ فلقد تغيَّرَت مصادرُ ثقافته وتنوَّعَت، كما تبدَّل واقعه السياسي والاجتماعي وتقلَّصَت تلك الآمال العظام محليًّا وقوميًّا تحلُّ محلَّها التسويات والترضيات، ولا شيء أبدع مما هو كائن. ولا ينفتح عندئذٍ سوى أفقِ ملاذِ الأدبِ كحرية، ومع لذته استعادةُ طعم فاكهة الماضي منقوعةً بغميس التوبة، مرة، واعتناق شرعةٍ ثقافيةٍ مغايرة، مرةً أخرى، فالالتزام، ومنه السارتري انتفَت مذهبيَّته، والأيديولوجي خسفَت سلطتُه، والأدب يبرزُ وجوده عَبْر ذاتِ مبدعه من خلال لغته هو، من خلال وعيه المُلقى وسط التبدُّلات. في ملتقى القصة القصيرة العربية (مكناس، مارس ١٩٨٧م) سیستمع القصَّاصون العرب، والمغاربة في قلبهم، إلى محمد برادة وهو يتحدث بلسان حالهم وتجاربهم المعانقة للبعد الذاتي والتخيُّلي الفاره، واصفًا الواقع في القصة العربية بأنه «يعني أيضًا المحسوس والمتخيَّل والمتذكَّر، يعني الوقح والمألوف والمتطرف. ويعني الذات الموزَّعة المشتَّتة» (ص٨١)، داعيًا إلى التعامل مع النص كمجموعةٍ من العناصر والعلامات والصور والإيحاءات (ن).
لا حاجة إلى القول بأننا نتحرَّك هنا في سياقٍ ثقافيٍّ أدبيٍّ مختلف ستدشِّنه الثمانينيات، وينخرط فيه جيلٌ منخورٌ نفسيًّا ومعافًى تكوينًا ثقافيًّا، وإنْ مُنشطرًا في مثاقفته، وتجريبيًّا إلى حدٍّ بعيدٍ إبداعيًّا، يلي الجيل المُخضرَم الذي ينتمي إليه خرِّيج القاهرة وباريس معا؛ هذا الذي لا يرى في توالي العقود كبرًا أو شيخوخة بل، بالاصطلاح القانوني، حق استئنافٍ ونقضٍ وإبرام؛ فقد صار له بعد الطلبة الاتباع أنداد، ومدرجاتُ الجامعة أحيانًا عوان، وكان كل يقينٍ ينقلب إلى مجرَّد سديم، ومعه يرتدي الناقد جُبَّة الحكيم وهو يُهمهِم كالمصلي: «(…) إن الجوهري في كل نقد هو أن يحمل إلينا معرفة، أن يضيء لنا ما يُخفيه النصُّ أو يُدثِّره بالصمت أو يحتضنُ بذوره الأولى.» (ص٨٤). السياق أيضًا، لكل مقامٍ مقال، ولقد آن أوانُ القطيعة، وقولُ الحكمةِ مَطلعُها، فبقي بعد الانشغال بنظرية الأدب ومفاهيم الرؤية، وبوليفونية باختين، واصطلاحياتِ النقد الجديد ترجمةً وبحتًا، والمعاشرة العاشقة للدُّرَر (= النصوص) الفريدة؛ بقي بعد هذا وغيره أن تَصطليَ الحكمةُ المخبوءةُ بنار التجلي فتَرِد على هيئته، وليس أفضل من السرد لها مطيَّة، لا سيما إذا متَح رأسًا من الذات ولمَّ شتاتها، قُل بدا طوقَ نجاة؛ لقد كان: «كنتُ في حاجة إلى التقاء عزلتي» (ص٢٨٨)، وبدَت له: «بدَت لي الكتابة (الإبداعية) منذ الثمانينيات بمثابةِ طوقِ نجاةٍ لمواجهة انعدام الحرية …» (ن) ومن تَمَّ سيُسجِّل الناقد «براءة» انتسابِه إلى الكُتاب إلى جانب أهليته النقدية، بإصدار رواية «لعبة النسيان» و«الضوء الهارب» وقبلهما قصصه «سلخ الجلد»، وهذا سجلٌّ مختلف عن السياقات الثقافية التي ترسمُ في أكثر من وجهٍ خطَّ مسار ما عاشه الأدب العربي في المغرب الحديث من ولادةٍ صعبة ونضجٍ مضمون، واشتباكٍ بالمعضلات السياسية الاجتماعية؛ ذلك الاشتباك الذي أسقط في ميدانه كثيرًا من الضحايا بمثل ما نصَب العديدَ من الشهود والعنيدين، الذين وهم يدخلون الألفية الجديدة، ما زالوا مقتنعين، ولو وَهْمًا، بأن بإمكانهم أن يُواصِلوا الوجود والحُلم على حُطام الخرابِ الشاملِ لأمتهم، ولعالمٍ ظنوا أنهم كانوا ينتسبون إليه، الوجود بالأدب على الأقل.
وأخيرًا وليس آخرًا، هل رحل الناقد القديم نهائيًّا، وتخلى عن سلاح المنافحة عن تلك القيم والمبادئ … والمعارك الأخرى التي تبدر وكأننا خسرناها جميعًا، آباءً ومخضرَمين ومحدَثين متأخرين، بعد أن ابتهَجوا ونحن معهم بربحِ معركةِ التشييدِ الأولى؟ هذا من نوع الأسئلة التي تبقى معلقةً كالحبل على غارب الزمن، الزمن مطلقًا، فيما يبدو أن المعنيَّ بالأمرِ كأنه يستطيبُ الإقامة في مساحةٍ ملتبسةٍ (= هذا سياقٌ في صيرورة) هي ذاتُه، والسياج الذي لا ينطوي نهائيًّا حول ذاته، ما دام أعلن من مطلع الثمانينيات، أيضًا، إيمانه بالكتابة الأدبية الرافضة للتدجين والمتأبِّية عن كل تقنين وتوجيه، وأكَّد، بين اليقين والتسليم، بأن الكتابة هي «الفوضى الوحيدة الممكنة وسط السديم الذي صعقَتنا حقيقتُه ومشاهدُه العنيفةُ المتتالية» (ص١٨٧)، وأكيدٌ كذلك بأنها إقامةٌ لائقةٌ بهذا المحارب القديم.