الخروج عن النص
نص الخروج١
سنعتبرها صُدفةً «شبهَ مدبَّرة» أن ينطلق موسم أصيلة الثقافي مع نهايات العقد السبعيني، أو عند عتبة العقد الثمانيني؛ أي بالتقريب في تزامنٍ وبتوازٍ مع انطلاقاتٍ عديدة بات المغرب وقتئذٍ، مهيَّأً لها؛ أي لم تكن ممكنةً قبلئذٍ. فإن وُجدَت، فقد وُلدَت إما مجهَضةً أو بالقيصرية، أو سرعان ما انتهت إلى الانقلاب على نفسها أو الانقلاب عليها، كما هو الشأن تماما مع مجلة «أنفاس» الأولى، الطليعية والحدَاثية بتبكير (أي منذ نهاية الستينيات)، والتي يُعَد الفنان الكبير محمد المليحي من مُرسِّخي أعمدة مشروعها الأدبي والتشكيلي إلى جانب محمد شبعة، عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري؛ هذا المشروع الذي أتيح لي الإسهامُ فيه ببعض الكلمات والأخيلة، وحرَّضَني مبكرًا على الخروج عن النص.
المليحي نفسُه هو من سيضع يدَه بيد صديقِه وابنِ بلدتِه التاريخي محمد بن عيسى لينصبا الحجَر الأساس لهذا البيت الذي نرتَع اليوم في الذكرى الخامسة والعشرين لبهائه. أعني أنهما معًا، بعد أن ورَدا من نبعٍ واحد، قرَّرا المُضي في طريقٍ مشترك مهادها الثقافة، وأفقُهما كما تصوَّراه التنمية. لقد كانت هذه إحدى السبل المتاحة، والممكنة، هل أقول أيضًا الميسورة في الزمن الملتهب والمُوجِع الذي كنا نعيشه آنذاك، وألقَت بمشروع «أنفاس» الأول والثاني، إلى خبر كان، كما ألقت بأخواتها إلى الجحيم والزنازن والمنافي، وكذا إلى بعض الاختيارات البراغماتية واللعوب يعرفها أصحابها … ونعرفهم (!).
لو جاز لنا اختزالُ صورة المغرب في نهايات العقد السبعيني لرصَدنا الملامحَ الكبرى التالية:
(١) رسوخ قواعد المؤسَّسة الحاكمة بعد اختياراتٍ سياسية، وحبكاتٍ انتخابية، واحتقاناتٍ شعبية، وممارساتٍ أمنيةٍ ماحقة، وهزاتٍ عسكريةٍ فوق تربة تظل تمور بتكوينات.
(٢) استمرار ارتباك هذه المؤسسة في التذبذب بين السيطرة على الواقع بالقبضة الحديدية، أو فتح الأفق لرياح تغييرٍ محتشم، بما من شأنه أن يؤدِّي إلى الإقرار التدريجي لدولة القانون والمؤسسات تماشيًا مع ظروفٍ وأسبابٍ مركَّبة، ورغم المقاومة الشديدة لسدنة دولة الإقطاع والرسملة المتوحِّشة، وتكميم أفواه دعاةِ الدولةِ الأمةِ بتشكيلاتها وتعابيرها المعلومة.
(٣) الانعطاف الحاسم في استراتيجية المعارضة التاريخية اليسارية، بإعلانها، بدءًا من المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (١٩٧٥م)، اعتمادَ النضالِ السياسيِّ وَفْق أدبياتٍ محدَّدة الوسيلةَ الوحيدةَ لإقرار الديمقراطية، ما عنَى نفضَ اليدِ من الخطَط الانقلابية وأي أسلوبٍ للتآمر والعنف اللذَين طالما اتُّهِمَت بهما هذه المعارضة وأدَّت ثمنَهما غاليًا، هي وفصائل أخرى متعدِّدة المشارب السياسية. إعلانٌ وسلوكٌ سيُمهِّدان الطريق لمصالحةٍ قسريةٍ بين الغُرماء ويصبح حجَر الزاوية المرغوب لبناء التناوب.
(٤) الاختيار العشوائي والمقرَّر في الآن عَينِه، لبرامجَ وخطَطٍ اقتصادية، خاصة وشمولية، تعتمد مَغْرَبة الثروة الوطنية ورسملَتها في خوصَصَتها في الوقت نفسه؛ اختياراتٌ ومخطَّطاتٌ ظاهرُها ليبرالي بأهدافٍ تنمويةٍ محدَّدة ونتائجُها مُزرِية في صورة الاتساعِ المريعِ للفوارق بين الفئات الاجتماعية، واحتكارِ الثروة الوطنية، وتعميقِ أسبابِ التخلف وعوائقِ التنمية.
(٥) ولعلَّ من المفارِق بين هذا كله أن يظهر ملمح الثقافة أو المكوِّن الثقافي — مزيج أكثر من عنصر ولون ونزوع — الأشد بروزًا، ومصهر اصطدام المَنازِع الأيديولوجية، والتوتُّرات الاجتماعية، والتطلُّعات نحو تغيير الأفكار والانفتاح على الثقافات، والرعشات الأولى لتوجُّه النخبة نحو المشروع الحداثي في بنيتَيه، وصولًا إلى ما بات مُتبنًّى رسميًّا تحت تسمية الطموح لإرساء المجتمع الحداثي الديمقراطي.
منذ نهاية العقد السبعيني ستشرع السياقاتُ الثقافيةُ الكبرى للمغرب الحديث والمعاصر في التبلوُر فكريًّا ومفاهميًّا، وإبداعًا، وستَنخرِط النُّخَب المتعدِّدة في إنتاج أنساقها الخاصة، سواء منها المنتسبة إلى التمثيلات السياسية والأيديولوجية المكرَّسة بثقافة الحركة الوطنية التأصيلية، وحفيدتها الديمقراطية التحديثية، أو الوليدة توًّا، مستنسخةً لنموذجٍ مهجَّن عن غربها الخاص، أو لثقافةِ الروافدِ الجديدةِ بين شرقٍ وغرب، بين فكرٍ وسياسة، التي ستؤسِّس أرضية المجتمع المدني.
لنُجدِّد التأكيد في هذه المناسبة بأن إنتاجَ الثقافة، والاشتغالَ بالمعرفة، والعكوفَ الجِدِّي على مادة الفن والإبداع عامة، سيُصبِح شاغلًا مركزيًّا لبعض الأفراد والجماعات إلى جانب وبمعزلٍ عن الهيئات السياسية، رسميةً ومعارضة، تلك التي لا تَحفِل بتاتًا بالعمل الثقافي، ولا قدَّمَت عنه أي تصوُّر في مؤتمراتها وأدبياتها الحزبية. ومن مطلع القرن الثمانيني سيُصبِح من الضروري الانتباهُ إلى هذا الحقل الثقافي الذي يسعى للتميُّز، تشغل فيه الجامعةُ والمبادراتُ الفرديةُ قطب الرحى، حتى وهو يعيش وسيستمر لسنواتٍ هامشيًّا، ليس في فعله، ولكن في نظر وضعٍ حاكمٍ يتخبَّط في مخططاتِ إصلاحٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ فاشلة، وكذلك داخل مجتمعٍ تنهَشُه الأمية ويأسِرُه التخلُّف.
والحق أنه منذ هذه الفترة سيُشرع، بشكلٍ عمدٍ ومنهجيٍّ ومُفعَمٍ بالحماس، في الخروج من نص التقاطبات الموروثة تاريخيًّا، ثم المفروضة بعد استقلالِ البلاد، وأخرى مُبرَمة علنًا وإضمارًا، ومنها الانفصال عن الأيديولوجيات المُحكَمة الإغلاق، حاملةً مزعَم الخلاصِ من منطقِ هيمنةٍ واحدة، ترفُض الوجودَ لغيرها وهي تُبوِّق بالديمقراطية، وتتسامح مع التعدُّدية شعارًا، شريطةَ ألا تُخِل بالمبدأ «المقدَّس» للمركزية الديمقراطية (أي انضبِط أولًا، ثم اعترِض وناقِش ربما في العالم الآخر)!
هكذا، فإننا، نحن الذين خرجنا من رحم هذا المحيط، ورددنا طويلًا مزاميره، نحن وسوانا، قطعنا وما نزال حبل السُّرَّة، ورفعنا أصواتنا جهارًا تصطلي بذَوب قلوبنا، وبنبراتٍ مجروحةٍ ومنتفضةٍ في آن، ولا يكاد العالم يتسع لرغباتنا؛ النص السلفي (أعني سلفية الحركة الوطنية) وهو منَّا بات وراءنا، والنص الإصلاحي سمج صار عبئًا علينا، والنص الثالث، ذاك التغييري ذو مسمياتٍ شتى أضحى أضيقَ من أن يستوعبَ قاماتِنا ويحتوي جموحَنا، جموحنا دائمًا أمامنا.
لذلك — ولأسبابٍ عديدةٍ أخرى — سينهمك الجامعيون والباحثون المتنوِّرون، والمبدعون الجريئون، ومرتادو الآفاق الوعرة، في صوغِ نصٍّ ذي نسيجٍ مغاير، متشبعٍ بثقافة الشرق؛ أي التراث الأصيل، وفكرِ النهضةِ الحي، وروحِ الأمةِ العربيةِ المستقَى من طموحِها الوحدوي، والتحرُّري، والتنموي، ومنغمسٍ في ثقافة الغرب يستمد منها عقلانية التفكير وعلمية المناهج القارئة والمُؤَولة، القادرة على تنظيم المعرفة وبناء المفاهيم، ويرتبط — في غير ما قلقٍ وتعثُّر وتجريبية — بأصول تأسيس الحداثة في تصوُّراتها الفلسفية وسيروراتها التاريخية.
على امتداد العقدَين الأخيرَين ونيِّف كان المثقفون — باحثين وكُتابًا وفنانين ونشطاءَ في المجتمع المدني — يجتزئون المساحة الممكنة لوجودهم، والتي تُسمَّى الحقلَ الثقافي، وإن تكالَب الدخلاءُ والطفيليون من كل نوعٍ بين الحقول الأخرى الطاغية، وخاصةً السياسي الذي نعرف أي منقلبٍ آل إليه اليوم. راحوا يُغامرون ويُترجمون ويُجربون ويُؤَوِّلون ويُمَفهِمون، ويجترحون صياغاتٍ وتجاربَ لغوية وتخييلية في مُناخ الإخفاق العام، المتَّسِم بالخسارات الوطنية والهزائم القومية، والإحباطات الفردية أيضًا. وفي مجتمعٍ ليس فيه إلا الحاكم وحده، والعقيدة وحدها، والحزب وحده، والطغمة وحدها، والثقافة القسرية المُمْلاة وحدها، اقترح هذا النصُّ صيغةَ الذات، التي هي داءٌ وإكسيرٌ في آن، واحدة من جملة بدائل لا بديلًا واحدًا مستبدًّا. أردنا أن نقول أنفسنا، أن نتعلم كيف نقولها، أن نحلِّق بجناحَيها، أن نجعل الكتابة، وقد تكشَّفَت الملاذ الأخير، بيتَ أبي سفيان، بعد أن ضاع كلُّ أمان وأمل. لا بأس إننا نحن الخارجين رومانسيون، لكن أليس مصيرًا أفضل لنا من لو أننا بقينا سجناءَ تلك الماركسياتِ المبتذلة، التي قتلَت الفردَ ولم تُحْيِ الجماعة.
رفضنا استنساخَ أنفسنا، والمتاجرةَ في الحليب الذي فُطمنا عليه، ونرفُض تأبيد إغراء الأنا التي ليست نقيضًا للجموع، ولا عدوًّا للآخر، بل روحٌ فيه وسندٌ له، ومحاورٌ عنيدٌ له وشريكٌ راشدٌ بالمنادَدة.
ورغم أن الثكنات تُحاصِر جميع المجازر يُرى البيان وهو يطير يسحر الألباب، يستعيد مملكة الله بيضاءَ من جديد، يعمُرها بالشعراء والرواة، والروائيين، وصانعي الألوان والأمواج، الغُداةَ باكرًا حين يكون البحرُ يستشفُّ أوَّل مدٍّ وألطفَ موجة، وتترصَّع سماءٌ أصيلة، مثلًا، فيفيضُ العالم بألف سحابةٍ مدرار لتَهطِل بكل لغاتِ وثقافاتِ وحضاراتِ وجمالِ العالَم. أنظر إليها بامتنان وتردُّ نظرتي بعرفان …
حسنًا، فقد تفاعلنا، نحن الخارجين عن نصهم وسياقهم، كلٌّ بأسلوبه، وهوَسه، وخصاله الظاهرة والباطنة. ومنذ عقدَين ونيِّف ما فتئنا نحمل أجسادَنا ورقاعَنا في العَراء ليبصم فيها الزمن المتوهِّج بدمنا ما عشناه، وكابدناه، وكتبناه بتمرُّد وحُرقة. وبإحساس الساري في ليلٍ طويل، في كل مرة يرى الفجرَ يبزُغ … ولا يراه …