صورة جيل أدبي: كما رأيتُه
هذه المادة في أصلها حوارٌ أجراه معنا الصحفي الأديب لحسن العسبي لفائدة الملحق الثقافي لجريدة «الاتحاد» الإمارتية (١٠ / ٠٩ / ١٩٩٨م)، وقد طرحتُ فيه أسئلةً دقيقةً ومنهجية، ورسَم واضعُها بفهم المطلع على كثيرٍ من الخلفيات أفقًا واسعًا للحديث يستدعي إعادةَ بناءِ الواقع الثقافي والأدبي في المغرب والعالم العربي عامة، ويحفزُ على ضبطِ مفاهيمَ نقديةٍ تُستخدم عادةً إما لترصيف حقل الثقافة أو لتقويم العمل أو لمساءلة الكاتب في علاقته بمواجده وكيفية تدبير الشأن الإبداعي. لقد تبيَّن لي وأنا أعيد قراءة الحوار، بعد مُضيِّ أزيدَ من عقدٍ زمني على الانتهاء منه، أن قضاياه أخذًا وردًّا، إثارةً وحفرًا، ما تزال حيَّة، وموضوعة في حالتَي التساؤل والإجابة الممكنة في أفقِ ترهينٍ دائم. إننا بعد هذا نعتبرُ إلحاقَ هذا الحوارِ بمادة الكتاب الكبرى بمثابة توثيقٍ وتوكيدٍ وتكملةٍ لكثيرٍ مما فيه من شئون الإبداع والدرس الأدبي والثقافي في بلادنا يُنبِّه إلى سياقاتٍ وعلامات أساس لها، تكون قراءتُها ناقصةً جدًّا بدون الاطلاع عليها.
(١) لنبدأ من البدايات … الأستاذ أحمد المديني … لنسألكم عمَّا يميِّز ذاكرتكم … كيف تشكَّلَت إنسانيًّا وأدبيًّا وفكريًّا؟!
(٢) مما يسجَّل في المشهد الأدبي والثقافي المغربي خلال الخمس سنوات الأخيرة أنك، أستاذ أحمد، تكاد تكون الروائي المغربي الوحيد الذي لا يزال يداوم على اقتراف «متعة» إصدار إبداعٍ روائيٍّ بشكلٍ متواصل (رواية كل سنة ونصف تقريبًا). وآخر أعمالكم رواية «مدينة براقش» …
كيف تصرفون هذه المتعة في يومِكم الذي أعلم أنه ضاجٌّ أصلًا بمسئولياتٍ أكاديمية وصحفية؟! أي كيف تقتنصون كل الزخم اللازم لأجلِ إمتاعِ قُرائكم بأعمالٍ روائيةٍ متواصلة؟!
(٣) اعتبارًا للظرفية التاريخية والمجتمعية (مغرب ما بعد الاستقلال) التي أنتجَت ثقافة جيلكم الأدبية. كيف تُعيدون الآن قراءةَ تلك الظرفيةِ وكل الإرث الأدبي الذي تركَتْه في سجل الأدب المغربي والعربي؟!
(٤) السؤال الأدبي المغربي، ألا يعيش الآن مرحلةً انتقاليةً جديدة، لها خصوصيَّتها، التي تجعل إبستميتَه الخاصة جزءًا من سؤال الفكر العربي الراهن … ثم ألا ترَونَ أن هذه الخصوصية كامنةٌ — مرةً أخرى — في سؤال الهوية؟ (أقصد الهوية اللغوية — النصية — الثقافية).
(٥) اعتبارًا، لاجتهاداتكم في مجال النقد الأدبي (التعريف بعددٍ من المدارس الأدبية وترجمة أعمال منظِّرين كبارٍ للأدب الحديث في الغرب)، ألا تتفقون معي أن «مربط الفرس»، كما يُقال، بالنسبة للأدب العربي الحديث، كامنٌ في عدم تحقيقِ تراكُمٍ معرفي وأكاديمي يؤسِّس لنظريةِ أدبٍ عربية … أي إن الأدب عندنا ما يزال مشروعًا معرفيًّا مؤجلًا لم يتحقق بعدُ؟!
(٦) إذا ما انتقلنا إلى رواياتكم، نجد أن تمَّة اشتغالًا باذخًا على اللغة، حتى لتكاد تكون هي المهيمن الأساسي في فضاء رواياتكم؛ أي إنها العنصر الأساس في هذا الفضاء (مثلًا روايات: «وردة للوقت المغربي» – «الجنازة» – «حكاية وهم» – «مدينة براقش») … اعتبارًا لواقع المقروئية في المغرب وفي عالمنا، أليس تمَّة من «غربة» قد تُعانيها إبداعاتُكم في التواصُل مع القارئ المغربي الذي تربَّى على تقبُّل البسيط (تركيب – بلاغة – تخييل … إلخ) … وأقصد البسيط هنا في مقابل المركَّب … علمًا أن هذا الإشكال ينسحب على باقي مجالات الإبداع العربي، وتعاني منه خصوصًا الإبداعاتُ التشكيليةُ وبعضُ الإبداعاتِ المسرحيةِ والتجارب الشعرية!
(١) لكي أجيب بما يكفي من التحديد والوضوح على سؤالك هذا، أنا في حاجة إلى كتابة مذكِّراتي أو تدوين سيرتي الذاتية من جوانبها المختلفة، وهو ما أصِرُّ على استبعاده في الوقت الراهن لأني رغم نزوحي القَسْري إلى الكهولة، ما زلتُ متشبتًا بشبابي، الذي يسمح لي بمزيدٍ من التشكُّل، كما نقول، إنسانيًّا وأدبيًّا وفكريًّا.
على كلٍّ لنعتبر كيفيةَ صياغةِ السؤالِ مسألةً إجرائيةً لاستدراجي للحديث عني أنا، كيف كنتُ وما صرتُ إليه، ولا شك أن ما يعنيك أساسًا هو وضع الكاتب المغربي، العربي الذي أزعُمُه لنفسي أو ترشِّحني له جملةُ أعمالٍ أدبية. والحق أن العناصر الثلاثة تتداخل عندي، تتفاعَل ولا تنفصِل، وهي في الآن عَينِه مستقلةٌ بذاتها ذلك الاستقلالَ الذي سمَح لصاحبها بأكبرِ فُسحةٍ من الحرية حتى لا يُصبِح سجينَ قيودٍ هو واضعُها. التداخُل مصدره أن ما تعيشُه أو أعيشُه على المستوى الإنساني، الذاتي صرفًا، تقبع في قلبه أو تنبع منه تلك الزهرة الأدبية، تلك الرغبة في التعبير عن الوجود من قلب الإنساني بطريقةٍ ما، مختلفة حتمًا، بوهم إمكان النظر والإحساس كأنكَ ستُضيف الى ما حولك نكهةً غير موجودة، أو ستقول ما لم يقُله أحدٌ قبلك وكأن الإنسانَ لن يحتمل الحياة والاستمرار في العيش إلا بكلامٍ آخرَ يخفِّف عن الجرح. ثم إن ما تكتُبه أدبيًّا، وما تنخرط فيه فكريًّا يُملي عليك بكيفيةٍ تلقائيةٍ سيرةً معيَّنة أو توجيهًا يؤثِّر في مسلكِ ونهجِ حياتك، وتوليد أحاسيسك، وتخصيب النواة التي بُذرَت في كيانك الداخلي في غفلةٍ عنك تمامًا … ثم إن العناصرَ ذاتَها مستقلة استقلالًا شبه تام؛ فقد ألفيتُني، ودائمًا بتلقائية، أفصلُ فصلًا حادًّا بين ما هو خصوصيٌّ في حياتي عما هو من قبيلِ نشاطي الأدبي أو أبحاثي النظرية؛ فأنا أميل إلى أنَّ حياة الكاتب تخصُّه وحده، وليس عليه أن يُقحِمَها في سواها، كما ليس على الناس الإلحاحُ في هذا البابِ أو التهويلُ من هذا الشأن. أجَل هناك كُتابٌ ضوضائيون يمشون في الأرض مرحًا، وهم يخلطون الحابل بالنابل، والإعلامُ السهلُ يشجِّع ويستهلك هذا النوع من الصفاقة ليبيع إثاراتٍ رخيصة. في حين أن ما عند الكاتب الحقيقي غيرُ قابلٍ للبيع لأنه سرٌّ مكنون، وفي حرزٍ حريز، هي النار التي يقبسُ منها كلما جلس إلى أوراقه أو سكينته أو دهشته الدائمة.
ومع هذا لا أخفيك، وأقول لك بلا أدنى تواضُعٍ زائف، مستخدمًا عبارةً لبودلير بأن «عندي من الذكريات كما لو أني عشتُ ألف عام»؛ أي إني عشتُ حياةً وأواصِلُها متوفزة، غنية، مهووسة بالرغبات، والشهوات، والحب، والخرق المستمر، والافتتان بالحياة، والرفض، والتمرُّد على كل جاهز ويقين، متنقلًا في الأماكن والقارَّات والعواصم لكن مستقرًّا دائمًا في هُويةٍ تتنامى وتغتني، ومبادئ لا أتزحزح قيدَ أنمُلة عن الإيمان بها تشرَّبَتها بالتدريج والاحتكاك بالحياة، حياة شعبي وطني وأمتي والبشرية التي تقلَّبَت غيرَ قليلٍ في جنباتها وبعض تجاربها مادية أو فكرية أو مذهبية. ليس عندي ما أندَم عليه، وكل شيءٍ أمامي لأكسبه. لا أقصد ماديًّا ولكن روحيًّا. وأنا على درجةٍ كبرى من الغِنى من هذه الناحية، أما أموالي فلا أسعَد إلا بإتلافها لجعل الحياة متشعشعةً أمامي وفي داخلي. تربَّيتُ في أسرة علم وبذل وورع وحُب للزهو أيضًا ورثتُه كله لأضيف إليه طاقة التمرُّد ومعانقة المختلف، وهي الطاقة التي تُسعِدني باستمرار، وبدونها لن أواصلَ لا العيش ولا الكتابة، كما لا أرى لهذه الأخيرة من معنًى، ولا للفكر من مفهوم، إذا انقطعا عن مرارة هذه الطاقة. هذا ولن أذكُر لك شيئًا مما شكَّل ذاكرتي الثقافية فهي ذاكرتي ولكل قارئ أن يلتمسها، إذا شاء، ولكن ثِق بأني عشتُ حتى الآن ألف عام من القراءة والكتابة والعشق والحزن والبحث عن أملٍ لأمتي، وللإنسان أينما وُجد.
(٢) أودُّ أن تعلم بخصوص الشطر الأول من هذا السؤال، أن انتظام الصدور عندي لا يخضع ضرورةً لبرنمجةٍ دقيقةٍ حتى لو رغبتُ في ذلك. إنني أنصرِف إلى كتابةِ عملٍ واحدٍ أو عدة أعمال في زمنٍ متجاور، وحين يكتمل لها النضجُ وحسنُ الترتيب، من منظوري، أبدأ في البحث لها عن دار النشر المناسبة، وغالبًا ما يتمُّ عندي هذا ببطء وشبه لامبالاة. ذلك إلى ما هو عليه حالُ دور النشر العربية، ولاعتقادٍ عندي بمثابة اليقين أن ما يستحق النشر حقًّا لا يخاف عليه صاحبه من مرور الزمن؛ فأنا أكتب في زمنٍ مفتوحٍ وممتدٍّ لا لظرفٍ محدَّد بعينه، علمًا بأني أستقي قصصي وسردي عمومًا من وقائعَ وأحداثٍ محدَّدة.
ومن ناحية تعدُّد انشغالاتي ومعها ما تنصرِف إليه من كتاباتٍ فمَرَدُّ ذلك إلى أكثر من اعتبار، ولي أن أوجز الوضعية كالتالي: إن مسئوليتي في التدريس الجامعي هي النتيجة الطبيعية لدراسةٍ طويلةٍ واهتمامٍ منتظمٍ بجملة من قضايا النقد ونظرية الأدب العربي والأجنبي والعلوم الإنسانية عامة. وهو شأنٌ لا ينقطع عندي متابعةً وكتابةً وتدريسًا، هذا التدريس الذي هو مصدرُ الرزقِ الأول؛ فالأدب، كما تعلم، لا يُطعِم إلا قليلًا في بلادنا. والإبداع القصصي والروائي شاغلي الأول، أحاول من خلاله توسيعَ رقعةِ العالمِ الخيالية، وهو الدربُ الوحيدُ الذي أمشي فيه فإن زغتُ عنه قليلًا فإلى الكتابة الصحفية التي تظل عندي موسومةً بالطابع الأدبي الجدي والجميل؛ أي غير النزِق ولا المُستخِف، ولا العارض كذلك ما أمكن. وإن بدا لك في هذا كثرةً فهو عندي واحدٌ تصهرُه الرؤية الواحدة التي تتوزَّع في سبائكَ مختلفةٍ بمنطق البلاغة العربية؛ أي لكل مقامٍ مقال. مما لا شك فيه بعد هذا أن الروايةَ عملٌ شاقٌّ وطويل، ولك أن تصرِف فيه من الجهد والنفس والتخيُّل والبناء والإدراك الفكري والحسي الشيءَ الطويل، وهو ما حاولتُ أن أفعله فيما تيسَّر لي منها إلى الآن. وقد بتُّ أعي جيدًا بأننا في أدبنا العربي نحتاجُ إلى دعَم صَرح الجنس الأدبي أكثر من جهد إقامته، وإعادة تقويمه بنصوصٍ قادرةٍ على الامتداد في الزمن لتجاوُز العَرَضي، ورصدِ أعمقِ ما في حياة الإنسان والمجتمع، وَفْق صيغٍ فنيةٍ تملكُ من الفخامة والإقناع ما يليق.
(٣) أنا واحدٌ من أبناء جيل الاستقلال (حصل المغرب على استقلاله سنة ١٩٥٦م)؛ أي إن بدء التحاقي بالتعليم، بجميع أطواره جاء بعد هذه السنة، وفي خِضَم تكوين المدرسة المغربية الحديثة. ومن الطبيعي أن يشكو هذا التكوين من نواقصَ عديدة، وأن تطبَعه الخضرمة؛ أي التراوح بين معارفَ كلاسيكيةٍ من تراثنا ومناهجه، والمعارف الحديثة بمناهجها ومفاهيمها؛ إما الوافدة من الغرب مباشرة، أو المنقولة إلينا عَبْر الوسيط العربي في المشرق. هكذا وجدنا أنفسنا — على الأقل فيما يخص من هذا الجيل — في مدرسةٍ مزدوجةِ اللغة وبالتالي مزدوجة التفكير والذهنية. ولم يكن من السهل بتاتًا أن تختار أو تحسمَ بسهولةٍ لأن هذا يقتضي التوفُّر على إرادةٍ وقرارٍ سياسيَّين وثقافيَّين حاسمَين وواضحَين مؤهلَين لدى نخبةٍ وطنية لم تنجح في السيطرة على زمام الاستقلال لفرضِ اختياراتِها، ولا نحن، وقد بدأنا نشبُّ تدريجيًّا عن الطوق، استطعنا أن نفعل لعدم توفُّرنا آنذاك على النضج والحس النقدي الكافيَين، اللذَين لا يتأتَّيان إلا بخبرةٍ ثقافيةٍ طويلة، والتعرُّض لِمحكِّ التجاربِ الاجتماعيةِ والمحنِ السياسيةِ التي امتُحنَّا فيها لاحقًا.
ولطرح القضية (= الإشكالية) بأكبر قَدْر من الوضوح ما أمكن لا بد من القول:
(١) إن مفهوم الجيل في هذا السياق ملتبسٌ ورجراج، وسيظل كذلك في زمنٍ لاحق، وأنا أميل إلى الأخذ به من زاوية السنين بالدرجة الأولى؛ ذلك أن في الجيل الواحد المزعوم من حيث التجانُس والهُويَّة اللسانية والثقافية أكثر من جيل؛ إما لتعدُّد المشارب الفكرية، وإما لتنوُّع مصادر التعليم والبيئة الخاصة، وإما بحسب الأوضاع المادية التي توفِّر هنا ما تحرم منه هناك، وليس أدل على ذلك من أن جيلنا نحن الذي يتصدَّر اليوم مقاليد الأمور، وله موقعٌ في كل الميادين مُتنازِع الاختصاصات، متعدِّد الانتماءات، مُختلِف اللسان والثقافة، مُتضارِب المصالح والمطامع، متصارعة فيه قوى اليمين وقوى اليسار.
(٢) إن جيلنا رضع حليبَ ثقافتَين، أصلية ووافدة، وهو في كلا الحالَين كان مغتربًا عنهما بحكم قِدَم الأولى أو بداية أفولها، وضعف الأولى مضمونًا وأدواتٍ من جهة أصولها وجانب التشكيك والحذَر منها؛ ولذلك فإنك إن خبرتَه وجدته مقسَّمًا؛ أي إما مشوبًا بالهجنة، أو تقليديًّا على شاكلة أجداده، أو شبه محدَث، آخذًا من الطرفَين أو مستوعبًا كما ينبغي، وهو نادرٌ حقًّا. هو تعدُّدٌ طبيعيٌّ بلا ريب، ابنُ مرحلته ومخلصٌ لها، وهو الذي شكَّل رغم كل شيء الأرضيةَ الحقيقيةَ للثقافة المغربية الحديثة اليوم، بميزاتها وشوائبها. ولعَمْري إنها أرضيةٌ لا يمكن الاستهانة بها، وهي مالكةُ مرجعياتٍ معلنة، وهي شرعيةٌ لا لقيط، ومتفتحةٌ لا مغلَقة بحُكْم أنها استطاعت أن تنجب أخلافًا وحفَدةً لهم أن يتحكَّموا في مصير هذه الثقافة أو يُغنوها، من جميع الجوانب، ما صَحَّ منهم العزم.
(٣) ونحن مثل نظائرَ لنا في البلدانِ العربية، وبلدانِ ما كان يُسمَّى بالعالم الثالث، الحديثة العهد بالاستقلال، إن نحن أخذنا مصطلح الجيل أخذًا إجرائيًّا، جيلُ قنطرة من جميع النواحي التي لا يتسع المجال للخوض فيها، بل لا عجب إذا قلنا إننا ونحن قنطرة عبَّدنا ونعبِّد طرقًا وأنهجًا عديدةً بعدها؛ فنحن الذين رسَّخنا دعائم الأدب الحديث، ووطَّدنا مفاهيمه، وأنتَجنا نصوصه المعبِّرة، واضعين في الميزان أصالةَ تُراتنا وإشراقَ لغتنا ومقتضياتِ تطوُّرها وغِناها. آخذين في الاعتبار بل ممتلكين قَدْر المواهب والثقافة أدواتِ التطوير والتجديد الذي أثمر أكثر من فاكهة، وإن أنتَ نظرتَ إلى الأدب المغربي المعاصر راهنًا فإنك واجدٌ أغنى ما فيه منسوجًا على يد جيل القنطرة، وكذلك الشأن في الفكر والعلوم الإنسانية عامة. مرجع ذلك إلى بلوغه أطوارًا من النضج كافية، وتخفُّفه من أحمال المغامرة السهلة وتمسُّكه بما هو رصينٌ ويمكث في الأرض روحًا وبذورًا. إن سجلَّ الأدب المغربي والعربي عامة هو سجلُّ هذا الجيل، ويبقى على الجيل أو الأجيال اللاحقة، التي من أسفٍ باتت تقيس نفسَها بالعقود، أن تُثبِت حقًّا أهليتَها، لا أقول للتفوُّق على من سبقَها بل وقبل ذلك لاستيعابِ وتمثُّل ما فات وتذويبِه بصورةٍ خلاقةٍ فيما هو آتٍ بلا عقوق ولا تنطُّع وشقشقة لا تُقدِّم أصحابها إلا في طريق الأوهام. إن الإيمان بتلاحُق الأجيال والرضاع والثقافات المنفتحة على بعضها شأن التجارب والإبداعات؛ هذا كله رصيدنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهذا ليس دفاعًا عن جيل بل عن حيويةٍ ثقافيةٍ وحداثتِها بلا شعاراتٍ رنَّانة.
(٤) هنا لا بأس بقليل من الشرح؛ فالمرجعية التي كانت تعني هذا الجيل هي بالأساس عربيةٌ إسلامية، تراثيةٌ ونهضوية، مشدودةٌ إلى المقومات العمادية للماضي ومنفتحةٌ على الزمن الجديد، إنها مضمونٌ لهُويةٍ موجودةٍ حتى ولو تعرَّضَت للاهتزاز والمساءلة المشكِّكة. وقد وجدَت نفسَها تُمتحَن وتُعيد النظر في مكوِّناتها بحُكْم المرجعيات الثقافية الجديدة للعصر، التي أدركَت الثقافاتِ والمجتمعاتِ العربية، وشرحُ هذا يطول. ومن الوهم القول بأننا انتقلنا إلى صوغ هُويةٍ جديدة بالمعنى الجامع، ولا أن المطلوب هو إحداثُ قطيعةٍ نهائيةٍ مع الموروث؛ فإعادةُ تملُّك التراث لا العبودية له مطلبٌ حيويٌّ لصنع السياق الفكري والتاريخي المتماسك والأساسي للثقافة العربية الإسلامية. إن أعمال المفكِّر المغربي محمد عابد الجابري مثلًا، حفَرَت حفرًا عميقًا في هذا الاتجاه، وهي تستثمر كثيرًا من مناهج ومفاهيم العلوم الإنسانية الحديثة. لقد أدرك الجابري، وهو المفكِّر الفذ في الثقافة العربية المعاصرة، بأن لا إمكانية لحداثةٍ فكريةٍ عربية، ولا سبيل لتجديد الهُوية وإعادة تأصيلها بدون ردمِ الهُوَّة التي تفصلنا نحن العرب عن ماضينا وتُراثنا في مكوِّناتِه الأم وأعمدتِه الصُّلبة. بجعل هذا الماضي مفهومًا، نحن الذين نملكُه وليس هو الذي يملكُنا، وبالتالي إعادة ربط الحلقات ربطًا محكمًا وعقلانيًّا يصنع التواصُلَ التاريخيَّ الذي نحن في حاجة إلى الوعي به بعد إعادة تركيبه. إن حداثة أية أمة لا يمكن أن تُصنَع بالاتكاء، فقط، على الحداثاتِ الفارضةِ نفسَها في العصر، أو باستلهامها نموذجًا سابقًا، قبسًا ينير الطريق، وهو الشيءُ الذي أظهَر فشلَه الذريع في جزءٍ كبيرٍ من مشروع النهضة العربية الذي انطلق منذ قرنٍ من الزمن ونيِّف، بل لا بد من توليدِ وشحذِ قدراتِ الذاتِ ومعرفة نحن بواسطة نحن — التي هي تراكُمٌ مركَّبٌ في التاريخ — والتسلح بأكثر من جهازٍ نقديٍّ بُغيةَ فهمِ هذه الذاتِ وتوجيهِها في المسارات الملائمة روحًا وعقلًا وإبداعًا. إن علاقة التوتُّر المستمرة مع «الآخر» الغربي ينبغي أن تُفضيَ إلى علاقةِ حداثةٍ متميزة، ولا أقول مستقلَّة وحدَها، تُثمِر الخصوصية والتفاعل المتواصل.
أما من ناحية الإنتاج أو الإبداع الأدبي، والذي لا يمكن أن يُوصَف بأنه خالص؛ أي منفصل عن كل مسارٍ آخر، فإن مسألة الخصوصية تُعَد شأنًا معقدًا، وربما من الصعبِ القبضُ عليه. وهي بعد هذا وذاك تحتاج إلى تعريفٍ أو إعادةِ تحديد، فإذا كان الأمر هو أن يحتفل الإبداع ببيئته، ويصوِّر طباع شعبه، ويرصُد نفسياتِ وخلائقَ وأزماتِ وتطلُّعاتِ أمته، ومنه كذلك ما يصوغُ وجدانَها ومصائرَها الصغرى والكبرى، فإنني لا أشُك أن الأدب العربي، ومنه أدبُنا، حافلٌ به بدرجاتٍ متفاوتة، وهذه مناسبةٌ لأقول بأننا ما زلنا في حاجةٍ في هذ البابِ إلى زيادة إفاضةٍ وسَبرٍ وتعميقٍ للوصول إلى الجوهر العميق والدُّرَر الكامنة في أعماق الإنسان عندنا، لا القشور أو الظواهر والعوارض العابرة. والمشكلة كانت وما تزال في أن الخصوصية المنشودة، على مستوى المضامينِ أو رصدِ الواقع، خاضعةٌ على الأغلب لإملاءاتٍ وتصوراتٍ جاهزة، سابقةٍ عليها تحمل أكثر من اسم وتتخذ غير شعار. فهي إما السياسة، أو الأيديولوجيا، أو القوالب الجاهزة للثقافةِ الشعبوية، أو الإسقاطاتِ السريعةِ عن هذا الظرف أو ذاك.
ما من شك، أيضًا، في أن الالتباس الكامن في مفهوم الخصوصية لدى حديثنا عمَّا هو فكري أو هُويَّاتي ينسحبُ كذلك على الأدب؛ لأن هذا المفهوم على خلافِ ما يعتقدُ البعضُ ليس واضحًا كما ينبغي أو محسومًا فيه. وإننا لنُلاحِظ أن معالجتَه أو التعامُل معه يتمَّان كما لو مع شيءٍ جاهز، تامٍّ ومُنتهٍ، له بداياتٌ وأدرك نهاياته كيفما كانت طبيعتُها؛ أي كأنه تراث أو هو الماضي أو شيءٌ من الماضي، وأظن أن هذا بعضُ خَلْط، والخطأ الموجود في نظرتنا، وجانبٌ كبيرٌ من التحليلات المقدَّمة في مضمار المسألة الإشكالية المسمَّاة بالأصالة والمعاصرة. إننا نرى أن الخصوصية ليست حالةً قارَّةً وقَع البتُّ فيها بلا رجعة، وفي الزمن الحديث الذي يعجُّ بالتقلبات والتحولات المتسارعة على المستويات كافَّة، وحيث أصبحنا في مُنعطفِ انقلابٍ حضاريٍّ شامل، على الرغم من استمرار مظاهر الحضارات والتقاليد القديمة، فإن الخصوصية صيرورةٌ بالدرجة الأولى، وأرى أن الأدب العظيم هو القادر على الانخراط في وتيرة الصيرورة هذه، تعلَّق الأمر بالمضامين والدلالات والرؤى أم باللغات والأساليب والقوالب والأشكال والصيغ الفنية الدالَّة عليها. ما من شك أن كل لغةٍ تمتلكُ وسائلَ تبليغِها الخاصة، وبلاغتها المتشكِّلة عَبْر قرون، والمشبعة ﺑ «التعدُّد الصوتي» للذات والتقاليد، وأنماط السلوك والأمزجة، وخلاصات التجارب العامة والخاصة بين مختلف الطبقات، إضافةً إلى المخيال الشعبي المُتلبِّس لها، بهذا الشكل أو ذاك. هذا كله يصنع هُويةً تنتمي إلى الماضي حتى وهي مستمرةٌ في الحاضر. علينا فقط أن ننتبه إلى أن الحاضر بدَوره يصنع أو ينبغي أن يصنع هويةً أخرى بنتَ زمنِه والآفاق الواسعة التي يسبح فيها. وهذا ما يجعلني أميل دائمًا إلى القول بأن هويةَ أدبِ شعبٍ من الشعوب، وقيمته الفعلية، من أي نوع، لا تتجدَّد بارتكانه إلى محدوديةِ علاقتِه بمحيطِه الداخلي وحدها. كما أن الإيمان بلا خوفٍ بقوة التجديد، وفعالية التغيير وتيسُّر تحقيقها في الأصعدة الواقعة خارج الفكر والأدب من شأنه أن يضمن للإبداع إمكان تخطِّي هُويَّته التراثية، وقَدْح زناده بروح المستقبل؛ إن حركات التجديد الطليعية في مجال الآداب والفنون التي ظهرَت عند أممٍ أخرى كانت مسبوقةً ومؤطَّرة بثوراتٍ كبرى ذهنية واقتصادية وصناعية وسياسية-اجتماعية، ومن هنا الخطَل بل الشطَط التام في الكلام عن حداثةٍ إبداعيةٍ عربيةٍ ستبقى في نهاية المطاف حداثةَ تعبيراتٍ لمواهبَ فرديةٍ محدودةٍ تصل ولا تصل، يتبعها قطيعٌ من اللاغطين بشعارات «حداثية» مفهومة وغير مفهومة.
(٥) بدايةً لا أظن أن المشكلة — إن كان ثمَّة مشكلةً حقًّا في هذا الصدد — كامنةٌ في تحقيق ما تسميه ﺑ «تراكُم معرفي وأكاديمي …»، بل، وبالدرجة الأولى، في تحقيق التراكُم النصي المطلوب لأدبنا الحديث. ولبلورة هذا الاعتراض أبسُط أمامَكَ ما يلي: لننظر الأدب. إن لنا تراثًا معتبرًا في هذا المضمار يمكن تعيينُه والتمثيلُ له إن شئتَ من خلال عددٍ من العناوين الأساس: «العمدة» لابن قتيبة، «نقد الشعر» ثم «نقد النثر» لقدامة بن جعفر، ثم «العمدة» في الشعر للقيرواني، «أسرار البلاغة» للجرجاني و«منهاج البلغاء» لحازم القرطاجني؛ هذه المصنَّفات وكثيرٌ غيرها، وفي ضَربها، احتوت على محصلةٍ شاملةٍ عن طرائقِ فهمِ الأدب العربي القديم، شعرًا ونثرًا، ومقاربات قراءته وتقويمه، وإجمالًا ما يُمثِّل ثقافةَ القدماءِ النقديةَ في تذوُّق الأدب ومعالجته والحكم عليه. وهي ثقافةٌ نهضَت بالأساس على تراكُمٍ نصيٍّ خطير الأهمية ينطلق مما اصطُلح على تسميته ﺑ «العصر الجاهلي» الذي لا نعرف حقًّا حدودَه الزمنية، ولا كمَّ النصوص والمواد الأدبية المنتَجة فيه، وصعدًا مع الحِقَب الموالية المرافقة للعصر الإسلامي. علينا أن نُقدِّر على الأقل قرنَين من الزمن بل وأكثر لنبدأ في الاتصال بالكتب والرسائل التي أنتجَت نظراتٍ وتقويماتٍ مختلفةً عن الأدب، انطلاقًا من نصوصٍ تجمَّعَت، مخطوطة أو شفوية، وكذلك مما أمكن لأولئك النقاد والأدباء التزوُّد به من معارفِ وثقافاتِ الحضاراتِ المحيطية أو السابقة. هذا كله أنتج في النهاية ما أصبح اليوم موصوفًا بالأدب العربي القديم أو الكلاسيكي، وهي تسميةٌ تقوم على مبدأ القياس والتقابل؛ أي بالخصائص النوعية المائزة للأدب الحديث، لا كما شرعنا نحن العرب منذ الخطوات الجدية لحركة النهضة في تعلُّمه والتمرُّن عليه، وحسب، بل في مظاهره، وخاصياته المكتملة في الأدب الغربي.
هنا إن أردتَ نُمسِك رأسَ خيطٍ جديد، وعلينا أن نبدأ في عد حبات السبحة واحدةً، واحدة، ولحظةً لخطة. ومنطلق العد يبدأ، كالعادة، من المشرق العربي حيث ظهرَت (في مصر وبلاد الشام والعراق، أيضًا) أولى التجارب لكتابة وأساليب وأغراض وأجناس تسعى لتحسُّس روح زمانها، والتعبير بطرائقَ فنيةٍ مغايرة عن تلك التي سادت في «الأدب العربي الكلاسيكي». وبالإمكان القول إن تفاعلًا حيًّا تم بين الحاجة الداخلية للتعبير وبين التعرُّف على نماذجَ مغايرةٍ وافدةٍ من الخارج، من الأدب الغربي. وهو تفاعُل وتلاقُح من بدايته إلى امتداداته لا يتجاوز القرنَ الواحدَ بأكبر تقدير، من جهة، كما نلاحظ أنه أثمر الرصيد الأدبي الحديث والمعاصر المتوفِّر لدينا بينٍ شرق بلاد العرب ومغربها، من جهةٍ أخرى، وفي الحالتَين معًا نلاحظ أننا في وضعِ تعلُّمٍ مستمر، إبداعًا ونقدًا، وأننا فرَضْنا على أنفسنا الاستمرارَ في هذا الوضع لأسبابٍ عدَّة لا مجال لعرضها. ومن ضَربِه، أيضًا، أن المدارس أو التيارات الأدبية والنقدية التي واصلَت التبلور في محيطاتنا الثقافية تجاوبَت حينًا مع طباعٍ ذاتيةٍ وظروفٍ محليةٍ وأحيانًا كثيرةً نجمَت عن مثاقفاتٍ عارضةٍ أو تأثُّراتٍ متواصلةٍ أو متقطِّعة؛ ولذلك فإن دارس الأدب الحديث لا بد سيتنبَّه لتسارُع وتيرة التحوُّل والبلبلة في تلك التيارات، وإذا ما وجد لها مبررًا أو مسوِّغًا قرينًا بالواقع العام الذي تنتمي إليه فإن نظره سينشَدُّ أكثر إلى الروافدِ الخارجيةِ التي تصل، على الأغلب، بكيفيةٍ اعتباطية، وتُتبنَّى من زوايا انتقائية وغير منهجية على الإطلاق، يجعل أدبَنا أبعدَ ما يكون انسجامًا مع أنساقٍ محدَّدة، والأساليب والأفكار والمناهج فيه شديدة التموُّج، فإن أضيفت إلى هذا، وهو عامل من الأهمية بمكان، أن الوطن العربي في العصر الحديث لم تتهيأ له إلى حد الآن ظروفُ استقرارٍ حقيقيةٌ من النواحي كافة؛ الظاهرة الاستعمارية، التحرُّر الوطني، الاحتلال الصهيوني، بناء الدولة الوطنية، البحث عن النموذج الأمثل للخروج من التخلف، النضال من أجل الديمقراطية وتحقيق دولة الحق والقانون، الانقسامات والتناحُرات العربية؛ ثم التحدي الصهيوني المتواصل وأشكال الغزو الأجنبي المتعددة، وصولًا إلى التحديات الكبرى والحاسمة التي بدأَت ثقافة العولمة تجابهنا بها؛ هذه المعوِّقاتُ كلُّها وسواها من الأزمات والإكراهات ذات الطبيعة الاجتماعية والسياسية والثقافية، فضلًا عن عواملَ ذاتيةٍ محض، تجعل مفهوم الأدب الحديث عندنا بمختلف تجلياته خاضعًا لأكبر الاهتزازات، غير قارٍّ، زئبقيًّا، يستعصي على النمذجة المنهجية، وأغلبُ المقاربات التي نستخدمها لقراءته ينبغي أن تُؤخذ على سبيل الإجراء والنسبية أكثر من أي شيءٍ آخر. لا تعجَب بعد هذا إذا كان أدبُنا الحديث لم يُبلوِر نظريتَه المخصوصةَ به أو المنسجمةَ أكثر مع نصوصه ومُناخه.
(٦) أحتاج إلى إتمام التعريف الأخير الذي جازفتُ به في هذه العُجالة لأقدِّم بعض الإجابة على سؤالك الأخير، وهو ما لن أطيلَ فيه؛ لأن من يريد التعرُّف على رأيك من القُراء في أعمالك ينبغي أن يكون مطلعًا عليها؛ لأن نصوص الكاتب في النهاية أهمُّ بكثيرٍ من كل ما قد يقولُه على سبيل التنظير والتعليق وإلا لكان باحثًا أو ناقدًا أو كفى.
والحاصلُ أن الأدب عندي، وعند غيري، يبدأ باللغة وهذا من البدهيات، بل إن العالم كله لغة، وبواسطتها نُعبِّر ونَصِف ونُحلِّل ونُقارِن ونُعرِّف، وتُصوَّر الكائناتُ والأشياء. واللغة التي أتحدَّث عنها هي التي يبتدعُها الكاتب بنفسه حين يُدخِلها في لعبة علاقاتٍ واستعاراتٍ وقرائنَ غير مسبوقة، وتتوفر له بواسطتها قُدرةُ إعادةِ رسمِ المرئي واستبطانِ الداخلي. أما الرواية كما يزعُم بعض غُرمائي فهي عندي ليست لغة، بل عالمٌ وشخصياتٌ ومواقفُ وتجلياتٌ تُرسَم بلغةٍ قوية، مشحونة، شاعرية أحيانًا. زنادها مقدوحٌ دومًا باليومي والتاريخي والأسطوري. تارةً تراها كالمادة الخام، تارةً أخرى مختلفة اختلافًا وتاراتٍ تُحلِّق. وقلَّة من الكتاب والروائيين العرب وغير العرب يمتلكون لغتهم الخاصة التي بدونها لن يكونوا أدباءَ قَط، وإلا أيها السادة فأعطونا لغتكم وأسلوبكم وخيالكم لنرى بعد ذلك حدود التخييل وآفاقه.
أزعم أني كاتبٌ مجدِّد باستمرار، وهذا يُزعِج الذين يُقعِدهم إما عجزُهم أو عُقمُهم عند تكرارِ تجاربَ باهتة، وأساليبَ شاحبة، وتصويرٍ حَرفيٍّ بلا رُوحٍ ولا رُواء. وأفهم المركَّب بمعنى إعادةِ صوغِ وتركيبِ ما هو مبذولٌ وَفْق رؤيةٍ معيَّنة وبخيالٍ أنا صاحبُه، وباللغة الملائمة وإلا لكان الأدب مجرَّدَ تعليقٍ على ما هو معروف. وأنا لا أنبذُ البساطة بل التبسيط الذي يُضحل حياتَنا ووجودَنا في العالم وهو كثيرٌ لسوء الحظ. أما القارئ فتلك حكايةٌ أخرى، خاصة أن القُراء قطاعاتٌ وأذواقٌ وثقافات، والكاتب المبدع هو من يضَع قارئه، ولا أهمية هنا للعدد، وإلا لأصبحَت رواية القطارات … أعظم إبداع في العالم.
أما الغُربة يا عزيزي فهي القدَرُ الأوحدُ للكاتب، ومن لا غُربة له لا إبداعَ له، وإني لأرى غربتي تزداد، فأبشر.