«دفنَّا الماضي»: حفريات في تخلُّق جنسٍ أدبي
عَرفَ الأدبُ المغربيُّ الحديث، شأن آدابٍ عربيةٍ أخرى، ما يُمكِن تسميتُه ووصفُه،
في
آنٍ، بإشكالية ظهور وتبلوُر الأجناس الأدبية الحديثة، وضمنها الأنواع الصغرى المتفرِّعة
عنها، ومن هذه الأجناس نخصِّص القصة القصيرة والرواية.
وإنها لمضيعةٌ للوقت وجدلٌ عقيم، العودة إلى تلك المماحكات «النظرية» والتأريخية
التي سعت
عبثًا إلى محاولات إقامة تواصُلٍ نصي يعتمد تجسير التراث الحكائي العربي، بأنواعه، بالمتن
السردي الغربي المحدث؛
١ أي البحث عن عناصرَ خبرية، «روائية» متذرِّرة، يمكن أن تُعتمد أرضيةً ينهض
فوقها الإنتاجُ السرديُّ العربيُّ اللاحق. ونحن نرى، في التحليل الأخير، أن السبب الرئيس
في
تمطيط مثل هذا الجدل عاد ويعود إلى غياب المفهوم الصحيح للتحديث، والمبني أساسًا على
قاعدة
القطيعة، والتي بدون توفُّرها يصبح المفهوم نافلًا.
إن غياب، أو لنقُل تهافُت هذا المفهوم من جهة الوعي الجيد به، أدى إلى الابتعاد عن
مناط
التحليل المطلوب؛ أي إننا عِوَض نهتم في مجال الرواية بالظروف العامة والشروط المؤهلة
لتبلوُر هذا الجنس الأدبي، من ناحية، وتقصِّي الخصائص الفنية والمكوِّنات المُهندسة
لكتابتها من ناحيةٍ أخرى، انصَرَف نقدُنا وتاريخنا الأدبي إلى تسليط أضواءٍ مُشعَّة على
نصوص بعينها — وفي الأدب العربي بمصر تحديدًا — لكسب سبق و«براءة اختراع» هذه الكتابة،
وهو
ما حدث مع رواية «زينب» لمحمد هيكل،
٢ التي أسبَغ عليها تاريخُ الأدب طابعَ القداسة.
والحقُّ أن ما حدث في البيئة الأدبية المصرية له نظائرُ وأشباهٌ في بيئاتٍ أدبيةٍ
عربيةٍ
أخرى، ولم يقتصر على الكتابة السردية، بل امتد، كما نعلم جميعًا، إلى الشعر الذي هو ديوان
العرب، فتضاربَت الآراء — قُل العصبيات — بين الأسبق إلى طرح نموذج شعر التفعيلة
٣ في الأدب العربي الحديث، البيئة العراقية أم المصرية، أم بلاد الشام، نظير ما
جرى قبل ذلك بخصوص الرواية.
إن بوسع دارس الأدب العربي الحديث، الحصيف والبعيد عن التعصُّب القُطري، القولَ بأن
لكل
بيئةٍ أدبيةٍ عندنا «زينبَها» تستند إليها وتفخر بها، وتعتبرها دعامةً لبنائها الثقافي
(كذا) وإن كنا نجد في هذا خطلًا كبيرًا في الرأي، وتأويلًا مصدرُه الرغباتُ الذاتية لتمجيد
آدابٍ وطنية وليس في الرؤية الثقافية-الأدبية المتعالية على تذويت التاريخ. وفي الأدب
الحديث اعتمد أغلبُنا التأويلَ ذاته، ورحنا معشر الدارسين
٤ نروج ﻟ «زينبنا» واجدين ضالَّتَنا في النص الحكائي «الزاوية» للأديب الفقيه
التهامي الوزاني.
٥
لقد اعتبَرنا هذا النصَّ ممثلًا لأول روايةٍ تُكتَب في الأدب المغربي الحديث، ما
يجعل سنة
١٩٤٢م، تاريخ صدور جزئها الأول،
٦ فتحًا مبينًا في هذا الباب، وذلك قبل أن نتمكَّن — نحن الدارسين، دائمًا — من
الالتقاء حول القول الفصل في النموذج/النماذج، النثرية والشعرية المؤهلة لما هو حديث،
وحصر
الخصائص المائزة لها — نسبيًّا — بما يقطع مع الأخرى القديمة، أو التقليدية، أو ما شاكَل
من
هذه التسميات.
لا مندوحة من القول بأن عملية تعيين نصِّ الوزَّاني، وتوصيفه، تمَّت على قاعدة (فقهية
ولغوية) قياس الشاهد على الغائب، ونحن لا نعرف، في الحقيقة، أي غائب هو، أو بالأحرى سنبقى
متنازعين بين غائبٍ عربي «زينب» أو غربي (نص سردي مقدَّر في نموذجٍ كامل مفترض، قد يكون
لبلزاك، ستاندال، فلوبير أو غير هؤلاء …) فهل يمكن حقًّا تقريرُ أو ولادةُ جنسٍ أدبي
بأكمله
استنادًا إلى هذه الآلية، التي رغم نشأة حضورِ عاملِ التناظُر وعلاماتِ تكثيفِ خصائصِ
الجنس
تبقى اعتباطيةً ولا تاريخية، منفلتة من السياق.
يسكُت معظم دارسينا بعد ذلك، فلا يقولون شيئًا بتاتًا عن روايةٍ مكتوبة في أدبنا،
إلى أن
تظهر السيرة الذاتية لعبد المجيد بن جلون المُعَنوَنة «في الطفولة».
٧ بعد منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بقليل، بذا يكون قد مضى عقدٌ ونصفٌ من
الزمن على التحاق السيرة الثانية بالأولى، إذا نحن ركَّزنا، بالخصوص، على الطبيعة
السيرذاتية الغالبة لنص الوزاني.
مع «في الطفولة» سننخرط من جديدٍ في ترويجٍ آخر يُنافِس «الزاوية» حينًا في مرتبة
السبق
إلى الجنس الروائي، ويوازيها أو يسير في ركابها حينًا آخر، وهذا بطبيعة الحال دون أدنى
التفاتٍ للسياق الخصوصي لهذا الكتاب، وظروف التعلُّم الأدبي لصاحبه، ولا لما سبقَت الإشارةُ
إليه بشأن الشروط الموضوعية العامة المطلوبة للإنتاج الروائي، وفي إطارها ينمو ويتحقَّق
له
الحضور الفعلي. وما لنا لا نُعمِّم الاشتراطَ على الإبداعِ كله، ونتساءل متى يحقُّ لنا
أن
نُنتِجَ المفهومَ والتصوُّر النقديَّين اللذَين يضمنان الرؤية السليمة والمتكاملة لما
هو
أدبٌ حديث أو ليس كذلك، انطلاقًا من أن التحديث لا يتجزأ، كما لا يعرف الانقطاعاتِ
والبياضاتِ الكبرى؛ أي بوصفه صيرورةً إبداعيةً وثقافيةً وتاريخية؟
إن عبد المجيد بن جلون لهو أديبٌ من جيل الكاتب والروائي الذي يُعتبَر مناط هذا البحث،
وحول نتاجه السردي ستُركِّز هذه الدراسة وتصل إلى استخلاصاتها؛ نعني الأستاذ عبد الكريم
غلاب. وهما معًا نهَلَا من معينٍ واحد؛ فقد درَسا في القاهرة بكلية الآداب التي تخرَّجا
منها في فترةٍ متقاربة؛ أي في مطلع الخمسينيات، وكلاهما يُعتبَر ابنًا أصيلًا لمدرسة
الحركة
الوطنية، السلفية والفكرية والسياسية؛ ولذا فقد أصبحا عُمدتَين من بين عُمد حزب الاستقلال،
أبي الحركة الوطنية المغربية. وإن كان من الضروري لفتُ النظر إلى انفتاحٍ ثقافيٍّ أكبر
لابن
جلون على محيط الثقافة الغربية، كما تجلى ذلك في المذكِّرات الصحفية الطريفة التي واصَل
نَشْرها قرابةَ عقدَين (منذ منتصف العقد الستيني للقرن الماضي) في جريدة «العلم»
المغربية.
إننا إذ نَقرِن بين هذَين الاسمَين فلكي نصل إلى ما هو أهمُّ في نظرنا؛ أي إلى المجال
الفكري والأدبي الذي تحرَّكا فيه وأنتَجا ضمنه أعمالَهما الأولى، وهو مجالٌ يمكن أن يُوصَف،
بدون تردُّد، باتجاهه نحو اكتسابِ سماتِ التحديثِ ضمن المعركة الوطنية للبلاد لاسترجاع
الاستقلال واسترداد السيادة من نواحٍ شتَّى. والأدب هو أحد الإنتاجات الثقافية الكبرى
التي
أمكَنَها أن تظهَر ضمنه بقَدْر ما ساهمَت، أيضًا، في تشخيصه. ونظُن أنه لو أتيح لأصحابه
أن
ينصَرفوا له بكُل جوارحهم واستعدادهم لكان لكمِّه وقيمتِه شأنٌ آخر، غير أن وضعيةَ ووضعَ
الأديب في بيئتنا، آنذاك (خلال معركة الاستقلال)، واليوم، أيضًا (في معركة التقدم والتجديد
والتنمية)، دعت وتدعو إلى الانخراط في مساراتِ كفاحٍ عديدة، ليس الأدب والتحديث الأدبي
سوى
واحدٍ منها.
الحقُّ أن عبد الكريم غلاب سيُصبِح بفضل مؤهلاته وأدبه، وفي ظل القوة السياسية والذهنية
الثقافية التي إليها ينتسب، علمًا مفردًا في هذا المجال الذي يتأسَّس ويتجدَّد في آنٍ،
محافظًا، وملتصقًا بشخصيةٍ تاريخية وهويةٍ ثقافيةٍ معيَّنة (وطنية)، ونزَّاعًا لاكتسابِ
ملامحِ حِقبةٍ جديدة، ذاهبًا أو راغبًا في صياغة هذَين المنزعَين بواسطة الأداة الأدبية.
وبما أن الأدب تعبيرٌ ذاتي بالدرجة الأولى فسيحتاج إلى تكييف، إذا كان ولا بد من أن يضمنَ
أصالة خِلقتِه الجمالية، فسيُوجِّهه إلى الوجهة المرغوبة منه عَبْر توظيف التيمة/التيمات
الاجتماعية-الوطنية-الإصلاحية، المنسجمة، من قبلُ ومن بعدُ، مع رؤيةِ طبقةٍ اجتماعيةٍ
محدَّدة تعتبر نفسَها صانعةً للتاريخ، ومسئولة عن بلوَرة الحاضر ونمذَجة المستقبل.
إن كتاب «سبعة أبواب»
٨ يُمثِّل هذا التصوُّر بشكلٍ جيد؛ فعلى الرغم من غياب الميثاق التجنيسي على
غِلافه، أو بجهارة بين طيَّاته، فإنه كتابٌ يندرج ضمن فن السيرة الذاتية ويمتَح من عناصرِ
تكوينها؛ أي إنه تعبيرٌ الذاتُ فيه هي المتلفظُ وملفوظُها هو قوامُها ومضمونُها، وكل
ذلك
يَرِد في سياق الذكريات، لكنه سياقٌ يريد أن يتحول إلى موضوع، إلى قضية، ﻓ «هذه الذكريات
تُصوِّر تجربةً حيةً عاشها الكاتب فعلًا، وهي تجربة السجن ستة أشهر رهن التحقيق، بتهمة
الدعوة إلى الإخلال بالأمن، أيام قيادة الملك محمد الخامس التيارَ الوطنيَّ ضد الاستعمار
الفرنسي.»
٩ لقد كتب عبد المجيد بن جلون «في الطفولة»، والتي امتدَّت في الحقيقة إلى سني
الشباب الأولى، ليرسم عالَم نفسه وتربيته وأهله وبيئته بمعالمها وتقاليدها، وجاء الموضوع
الوطني واحدًا من أبعادها أو امتداداتها. فيما كُتبَت «سبعة أبواب» لترسم إحدى صُور الوطنية
المغربية والمقاومة للاستعمار، عَبْر ذاتٍ كبتت فيها ذاتيتها لترتبط بموضوع خارجها، في
تأويلٍ أبعَد، ما لنا لا نقول إنها تقلب العلاقة رأسًا على عقب بتحقيق التماهي التام
بين
الموضوع والذات، ولا سيما إذا كان الكاتبُ نفسُه قادرًا على التساؤل عن وجود هذه الأخيرة
أصلًا؟ الكاتب الذي يجتمع الأدب عنده في مثلث تعريفات؛ كونه: «انعكاس المشاعر الإنسانية
التي يحسُّها الأديب في صورة فنٍّ من فنون القول»؛
١٠ كونه «ليس انعزالا ولا انكماشًا مع النفس والمشاعر الخاصة، وليس له مجال في
البرج العاجي المنفرد»؛
١١ وفي التحليل الأخير فهو أدب كفاح: «ملتصق بواقع الكفاح، وبشخصيات المكافحين،
وبالأفكار والآراء والمذهب الذي يترسَّمه المكافح، ويسير على ضوئه المكافحون.»
١٢
إن التعريفاتِ السالفةَ وأخرى غيرها، يُمكِن التماسُها في أكثر من مصدرٍ من مصادر
دراسة
الأدب المغربي الحديث،
١٣ تُمثِّل إحدى أهم وأبرز البراديغمات المحدَّدة لهذا الأدب، المكوِّنة لنظريةٍ
فيه لو شئنا أن نفعل. وتأتي «سبعة أبواب» الصادرة بعد عقدٍ من الزمن على استقلال البلاد
تتويجًا لخطٍّ ومضمونٍ أدبيَّين اشتَغَلا على امتداد المرحلة الاستعمارية؛ حيث ارتبط
الأديب، حامل القلم الفقيه، بقضية التحرير، وسوف يصبح هو نفسه مَن يُسخِّر فنَّ القول
لأهداف ما بعد الاستقلال، أهداف بناء الدولة الوطنية، ومحاربة التخلُّف والاستغلال، والدفاع
عن الكرامة والديمقراطية. إنه المضمون والموضوع والتيمة والرسالة والبراديغم الأشمل الذي
يثوي في أدبنا، وفي الإنتاج السردي، خصوصًا من مطلع العقد الستيني وحتى الثمانيني، مكرِّسًا
العضوية المباشرة للكاتب في عملية التغيير الاجتماعي، ولاقتران الأدب بهذه العملية،
ولتفتُّح ونماء الأجناس الأدبية الحديثة بالعلاقة مع التعبير عن الواقع.
في سنة ١٩٦٦م، سيُصدِر الأستاذ عبد الكريم غلاب روايته الأولى، إذا اتفقنا أن «سبعة
أبواب» هي لونٌ من السرد السيرذاتي قبل كل شيء، الرواية «دفنَّا الماضي»
١٤ ستصدُر في مرحلةِ غليانٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ كبيرٍ في المغرب، ويوازيه على
الصعيد الثقافي بحث وعمل من أجل نشر قيمٍ جديدةٍ تُنافِس تلك التي سادت لدى روَّاد ومعلِّمي
الحركة الوطنية،
١٥ إن لم تكن قد سعت إلى الانقلاب عليها وتعويضها بما يتناسب مع مفهوم عملٍ
ثقافيٍّ ذي مضمونٍ طبقيٍّ مناهضٍ لمفهوم البورجوازية الوطنية التقليدية.
ورأت «دفنَّا الماضي» النور، أيضًا — وهو ما يعنينا أساسًا — في فترةٍ لم يكن فيها
للمجال
الأدبي أي وجودٍ أو تميُّزٍ حقيقي، بل إن المجال الثقافي إجمالًا كان وسيستمر تابعًا
مدةً
طويلة، وملحقًا بالمجال السياسي والأيديولوجي ورؤيتهما الجاهزة والأشمل. ونستطيع القول
الآن
— وقد أصبح بيننا وذلك التاريخ مسافةٌ كافية تتيح التأمل والموضوعية — بأنَّ ما صدر من
نصوصٍ إبداعيةٍ مؤسِّسة في تلك الفترة عَرفَ غربةً لا تُحتمَل، بسبب شبه انعدامٍ لبيئةٍ
أدبية تفترض أنها ينبغي أن تتكون على الأقل من: (١) حضور وعي بموروثٍ أدبي. (٢) وجود
إنتاجٍ
منتظم. (٣) وجود دليلٍ ثقافي أو أكثر مع أنساقٍ محدَّدة. (٤) وجود المؤسسة أو
المحفل-المحافل يُعتبَر الأدب نشاطًا مركزيًّا لها، وتقوم بإعادة إنتاجِه وتقويمِه عَبْر
متلقِّين محترِفين، لا هواةٍ أو وصاةٍ سياسيين أو معلِّقين عابرين.
١٦ (٥) وجود سوقٍ لتداوُل الكتاب عامة والإبداع على وجه الخصوص.
ظهَرَت «دفنَّا الماضي» لتُصبِح أول روايةٍ فنيةٍ جديرةٍ بالتسمية في تاريخ الأدب
المغربي
الحديث، باعتبار ما قبلَها، وما بعدَها.
فبالنسبة لما قبلها، نعني «الزاوية» و«في الطفولة»، ونصوصًا أخرى أرادت أن تنتسب
عَنوةً
إلى الرواية وليس فيها إلا أمشاجٌ من تكوينها وهجنةٌ لخصائصها الفنية،
١٧ بالإضافة إلى «سبعة أبواب» نفسها. إن قسمًا من هذه الأعمال يُمثِّل سردًا
للذات، وبَوحًا وجدانيًّا، جاء على صورةٍ حسنةٍ من التعبير، وأحيانًا مستوفيًا لبعض ما
يتطلبه القص الفني، لكن أصحابها لم ينتجوا شيئًا بعدها، ولا رأينا أن نصوصًا أخرى جاورَتْها
أو جاءت سريعًا لتلتحق بها. أما القسم الآخر فهو تقليدٌ لجنس الرواية، كما قرأه أفرادٌ
لهم
نصيبٌ من التعليم، وتصوَّروه قابلًا لاستعراض الخبر، وقَص الحكاية، وعَرض أحوال الذات
والعائلة والمجتمع عرضًا عشوائيًّا، وكيفما اتفق؛ أي دون درايةٍ بما يتطلبه هذا الجنس
الأدبي، وقبل ذلك من غير الوعي بما نُسمِّيه ضرورته، ما يؤهل كتابةً وشكلًا على غيرهما
لرصد
الواقع وضبط إيقاع الحياة الإنسانية.
وبالنسبة لما بعد «دفنَّا الماضي» فإننا واجدون هنا كثيرًا مما يُغذِّي طرحنا، بما
هو ذو
صلةٍ بالصيرورة الزمنية للإبداع الروائي، أو له علاقةٌ بالتواتُر شبه المنتظم منذئذٍ
لكتابة
الرواية، أو ما يخُص حيويةَ المجالِ الأدبي وبدايةَ تحدُّد أطرافه. نقول هذا دون أن يعني
الأمر بروز الظاهرة الروائية القابلة للتشخيص والفَرز من النواحي المطلوبة كُلها أو جُلها؛
فإن لذلك أجلًا مقدَّرًا لما بعد عقدَين من الزمن الذي نحن بصدده؛ لنشرح الآن هذا التقويم
العام:
نلاحظ، أولًا، أنه منذ «دفنَّا الماضي» لم يعُد صُدورُ الرواية شيئا غريبًا تمامًا
على
المحيط الأدبي، وإن ظل شأنًا نادرًا أو محدودًا، من جهة الشيوع، قياسًا بالقصة القصيرة
التي
تكفَّلَت الصحافة بنشرها وتعميمها ما أمكَن، وخاصةً في ملاحقها الثقافية.
هكذا صدَرَت تباعًا الأعمال التالية:
-
«الغربة» لعبد الله العروي (١٩٧١م).
-
«المرأة والوردة» للراحل محمد زفزاف (١٩٧٢م).
-
«الطيبون» لمبارك ربيع (١٩٧٢م).
نضيف إليها الرواية الثانية لغلاب؛
إنها أربعة أعمال ليس أكثر، لكنها، على قلَّتها، كافيةٌ لإثارة الانتباه إلى أن الكتابة
الروائية كانت آخذةً في حفر مجراها في تربة أدب المغرب، بانتظامٍ وإخصابٍ أيضًا؛ فالعناوين
أعلاه كانت قد تجاوزَت مرحلةَ التعلُّم البدئية للسرد الفني، وراحت تتمكَّن تدريجًا من
أهلية التعبير الروائي. وهي مجتمعة اختطَّت لنفسها المسار الذي ينطلق من الأنا ليذهب
إلى
المجموع، وكذلك إلى «الآخر» ثم يعود ليرتدَّ نحو هذه اﻟ «أنا»، في جدل تحتاج إليه الرواية،
ويُعتبَر مدماكًا لها، وهذه قضيةٌ تتطلَّب شرحًا يطول، ليس هذا مجاله.
إن العقد السبعيني هو فعلًا الحِقْبة التي ستشهد الانطلاقَ الصحيحَ لإنتاج الرواية
في
المغرب، ومع ما أشرنا إليه أو أغفلناه لتهافُته الفني. وإن كنا مُضطَرين إلى ضرورة تنسيب
هذا التوصيف، وذلك في إطار الاشتراطات العامة لتبلوُر الأدب المغربي الحديث ككل، ونظُن
أن
الرواية هي أصعبُ جنسٍ في مضماره، الشيء الذي يزيد، ثانيًا، من أهمية «دفنَّا الماضي»
ووجودها في ريادة ما يُمكِن أن يُمثِّل نصًّا روائيًّا مستوعبًا لخصائص الجنس من ناحية،
ونتاجًا يحتضنُ العوالمَ والشخوصَ والحوافزَ المطلوبة له، والإوالياتِ القرينةَ
بديناميته.
إن الرواياتِ الواردةَ أعلاه لغير غلاب، المنشورة في العقد السبعيني، وأخرى مما تلاها،
أيضًا، تُعبِّر بهذا القَدْر أو ذاك عن جُملة صُور من حياة مؤلفيها. وإذا كنا لا ننسبها
صراحةً إلى السيرة الذاتية لعدم رجحان العناصر المؤهِّلة لهذا النوع فيها،
١٨ رغم ذلك، تحتفي أيَّما احتفاءٍ بخطاب البَوح ذاك عن الشخصي، وترسمُ علاماتٍ
تُحيل كثيرًا إلى شخصية مؤلفها، وأهم من هذا وذاك أنها إجمالًا تدفَع شخصياتها في مساراتٍ
ذاتية، هي مصيره يحكيه كمُحصلة، وليس كبحث ضرورة كما تتطلب الرواية، أو على الأقل في
وجهٍ
من الوجوه البارزة التي تُعرف بها.
١٩ أضِف إلى هذا أن التخييل ليس هو بنية التكوين الأساس لها، بمعنى أن خطابَها
ومركَز التوتُّر والبحث فيها ليس مطروحًا على صعيد المحتمل بالدرجة الأولى، بل الحادث
أو
الواقع المُتحقِّق.
ونظن، ثالثًا، وآخرًا، وليس أخيرًا، بأن المسألة رهينةٌ بمعرفة ما هي الرواية، لا
من حيث
التعريف؛ فإن التعريفات تتفاوَت وتُنسَّب بالعلاقة مع الأعمال التي تُحيل إليها وتستلهم
منها، لكن جمهرة الدارسين والنقاد والمتذوِّقين، أيضًا، يلتقون، في النهاية، حول الخطوط
المائزة الغالبة، التي يتحدَّد في سياجها ما هو من جنس الرواية وما هو دونه. سنقدِّم
لكم
هذا التعيين الذي نضعُه من وحي تحصيلِ ومتابعةِ نظريتَين طويلتَين، ومن تجربةٍ كتابيةٍ
خاصة:
الرواية مشروع حياةٍ أخرى لم نَعِشها، لن نعيشها، قد نعيشها، قد نعجز عن أن
نعيشها. وهي لا تُوجد حقًّا إلا كمشروع حياة؛ أي كتخييل، مع كل ما تعنيه وتحتمله
هذه الكلمة-المفتاح، في الكتابة السردية، من واقعٍ يرتفع عن شروط واقعه، يلتصق به
ويُحايِثه ويتعالى عليه فيما هو مستوعبٌ له وأكثر في آنٍ.
٢٠
إنه، ولا شك، تعريفٌ تقريبي، اختباري وإجرائي، ونعتقد أنه ينسجم في نواحٍ معيَّنة
مع
«دفنَّا الماضي»، التي نعُدُّها رائدة للإنتاج الروائي في الأدب المغربي الحديث، ونُحب
أن
نضيف إلى ذلك عناصرَ أخرى تبدو أكثر رجحانًا في هذا العمل، وتؤكِّد انتسابه إلى الجنسِ
الأدبيِّ المعنيِّ بامتياز، كما تُعزِّز مصداقية الريادة، أيضًا.
من هذه العناصر أن الرواية تلتفت إلى الماضي، عائدةً إلى وقائعه وزمنيَّته، إلى ظلال
الحياة فيه، والمصائر والصراعات التي انعقدَت وشجرَت في كنفه وانعطافاته، قطعًا هي غير
التاريخ وإن اتخذَته مرجعًا وسندًا، أهمية الماضي تعود إلى التمام والاكتمال، فإن وُجِد
نقصٌ فالعيب في العمل لا في الزمن، فإن كُتبَت الرواية عن الحاضر، أو عن حاضرٍ قريب،
فلكي
تُلحِقَه بأمس ليُصبِح ذا وجودٍ ماضوي. لقد كان هذا أول ما انشغلَت به رواية غلاب بجعلها
عائلة (سيرة) الحاج محمد التهامي هي الخط الطولي للعمل، ومن عالَم هذه العائلة، بثقافتها،
وتقاليدها، وطقوسها، وأوهامها، ونمَط عيشها وسلوكها صورة طبقةٍ اجتماعيةٍ كاملة، بسنَنِها
المعلومةِ الخاصةِ بجيل، بل أجيالٍ محافظةٍ متشبِّتة بتربيتِها العتيقة، ومُناهِضة، بالطبع،
لأي طارئ أو تجديد.
والتفاتُ الرواية إلى الماضي يتم بإعادة فتح كتابة وقراءة صفحاته، عَبْر أحداثٍ وأشخاصٍ
ومصائرَ متعدِّدة تكتسب أهميتَها لا بالسرد والوصف وحدَهما، ولكن بوضعها في منعطف الصراع
والتحوُّل. إن عنوان رواية غلاب يبدو شبه منافٍ لهذه الخاصة الأساس بسبب نبرته التقريرية،
بل وخطابيته الفجة، المرتهنة، ولا شك، بمذهبية (= أيديولوجية) المؤلف الإصلاحية الوطنية،
والاستقلالية بالمعنى الحزبي، لكننا، إن تغاضَينا عن هذه المثالب، فسنتبيَّن كيف استطاع
الروائي المغربي الرائد أن يتخذ من أسرة الحاج التهامي نموذجًا لصراعٍ اجتماعيٍّ وقيميٍّ
كامل، ومعتركًا لصدام بين زمنٍ (تاريخ) آیل حتمًا إلى الزوال وزمنٍ آخر ينبجسُ من ماضيه،
ترى فيه شخصية «عبد الرحمن» وهي تنتفضُ ضد رتابة التقاليد لتخلخُل القيم المُهيمِنة على
العائلة، وتُواجِه سلطةَ الأبِ الماحقة، المرادفة لسلطة الأجداد كلهم.
وسنرى هذه الشخصية تفرضُ إرادتَها تدريجيًّا، مفكَّكة الضوابطِ الراسخة، واضعةً مكانَها
بدائل من العالم الجديد الذي تنتمي إليه، هذه التي ستُمثِّل قيمُها حلبةَ الصراعِ في
قلب
الرواية والتاريخ معًا، لتُنجِز بذلك مهمةَ من سمَّاهم المؤلف في مدخل روايته ﺑ «جيل
القنطرة»؛ فباختيارِه للمدرسة الغربية، ودفعِه لأخيه الأصغر في النهجِ نفسِه، وباعتناقه
لمبادئ المساواة التي ستُعيد الاعتبار لياسمين (الزوجة الثانية الأمة للأب) وابنها محمود،
سيأتي الإنجاز الأكبر لشخصية عبد الرحمن في مسعاه الناجحِ لإخراجِ أسرة التهامي من مُتحَف
التاريخ، بل وكل سكان حي المخفية (=المخفية هي الحيُّ الذي تسكُن فيه الأسرة وتدور فيه
كثيرٌ من وقائع القصة، وربما كانت تُوازي إحدى الأحياء-العناوين الكبرى عند نجيب محفوظ
مثل
«قصر الشوق» أو «السكرية») وتلقيحهم برؤيةٍ جديدة للعالم، ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسية،
وهي
بعدُ في حالة كمون وبالتزامه المباشر، أيضًا بالقضية الوطنية، والتحاقِه بصَف الوطنيين،
والتضحياتِ التي تحمَّلها هو وجيلُه، نخبة العقد الخمسيني وما قبلَها بقليل. استطاعت
هذه
الشخصيةُ كذلك تكثيفَ خصالِ المجموعة الوطنية، ومن خلالها تحديدًا، أفعالًا وأقوالًا،
بلوَر
غلاب خطابَه الأيديولوجي، الصانع لرؤية عالَم طبقتِه الاجتماعية. إن الرواية شكلٌ فنيٌّ
ما
في ذلك شك، ولكنه شكلٌ مصنوعٌ كوعاء، لاحتواء الإنسان والمجتمع والتاريخ، ولتتفاعل العناصر
الثلاثة وتتلاقح بما يصنع النكهة التي يريدها الكاتب لها، وبتأثيرٍ من الرؤية الصانعة
لها.
إن غلاب ليس كاتبًا ساذجًا، ولا اتخذ من التعبير الأدبي عامة، والروائي تحديدًا، أداةً
لصياغةِ الجمال ورصدِ أنماطِ الصراعِ في الحياة فحسب، بل ولكي يأتي هذا الرصد بمثابة
شهادةٍ
عن الواقع وتأويلٍ له تأويلًا مدروسًا وموجَّهًا حتى لو كان التعامُل الأقوى للروائي
ينبغي
أن يتم أو يُفترَض أن يتم مع المُتخيَّل.
بعبارةٍ أخرى فالأمر يتعلق مباشرةً بالواقعية، بمفهومٍ معيَّن للواقعية، وبعلاقتها
مع
التاريخ، وخاصة حين تجري مقاربتُه روائيًّا؛ لنعد إلى الأذهان بأن الكاتب المغربي وُجد
في
وضعٍ تطلب منه إنجاز أكثر من مهمة؛ أي أن يكتُب الرواية، ويقدِّم شهادة عن الواقع، ويُسهِم
في العمل السياسي، وأن يُعيد، بطريقةٍ ما، كتابةَ التاريخ. وغلاب — الإطار النشيط في
حزب
الاستقلال — يُعيد كتابة تاريخ الحركة الوطنية التي هو عضوٌ فيها؛ ولذلك يعتبر التاريخ
مسلسلًا إيجابيًّا؛ أي إن كل ما يقع هو الحُجة على التحوُّلات التي ستحدُث، الواقعية
عنده
هي بالضبط الوفاء للتاريخ، لننظر إليه كيف يُقدِّم عمله: «هذه الرواية [دفنَّا الماضي]
هي
انبعاثٌ لرواسبَ عديدةٍ من فترة المخاض في المغرب، هي فترةٌ عاشَها شعبُ بلادي بكل وعيِه
وتفتُّحِه على العالم الجديد.» إننا إذن إزاء عمل يندرج، في إحدى مراتب قراءته، ضمن خانة
أو
مرتبة «رواية الأطروحة» التي يمكن تعريفُها بكونها «رواية واقعية» (قائمة على استطيقا
المحتمل والتمثيل) تُعلِن عن نفسها للقارئ أساسًا كحاملة لمعلومةٍ ميَّالة للكشف عن حقيقة
مذهبٍ سياسيٍّ أو فلسفي أو علميٍّ أو ديني،
٢١ هي مرتبةٌ تُرصد مرةً أخرى في روايةٍ لاحقة لغلاب «لمعلم علي»
٢٢ حيث نجد نشاط النخبة يمتد إلى مجموع الفضاء الاجتماعي، وتطبعُه هذه بتأثير
مبادئها ومذهبيتها.
هنا يحقُّ لنا أن نتساءل: من الذي قام بالدفن وسوَّغه، الأطروحة أم الرواية، مذهبية
المؤلف والتصوُّر الخصوصي لنمطٍ معين للواقعية أم الواقعية المنبثقة من جدل الحياة، تبنيها
وتقيم كيانَها موهبةُ الروائي وهو يصنع من العلاقات الداخلية والإواليات الحية والأمزجة
البشرية عالمًا كاملًا ينبض بقوَّته الخاصة؟ وباستعارتنا لرأيٍ حصيفٍ للوكاش نقول معه
بأنه
«ينبغي على الكاتب أن يعرف كيف يعكس، وبإدراكٍ بشري، ما هو مركزيٌّ أو محيطي، بما يجعل
الصورة التي يُقدِّم مكفولةً في مجرى التاريخ نفسه.»
٢٣
ونحن نلتمسُ له العُذر في انتهاجِ هذه الطريقة من بين طرائقِ صُنع الرواية وصَوغها؛
ذلك
أن عملًا موقعُه الريادة، وبمعنًى ما البداية الكبيرة الصعبة، ويُنتَج في فترةٍ انعتقَت
فيها البلاد من الاستعمار السياسي، وتسعى فيها النخبُ الاجتماعيةُ والثقافيةُ إلى رياداتٍ
أخرى، مع ما يجُرُّه ذلك من تناحراتٍ حتمية ومزاعمَ قصوى؛ إن هذا العمل، والحالة هذه،
لا
يُمكِن إلا أن يصطبغ بالشمولية، ومن ضمنها التعميم وتسييد النمط. من هنا، أيضًا، يُصادر
الواقع من منظورِ واقعيةٍ مقنَّنة ومجزَّأة عمادُها الوصف، وتغليب المعالجة الوثائقية
والتركيز على المظهر الخارجي للفضاء والشخصيات، وغياب المقاربةِ السيكولوجيةِ للشخصيات
وهيمنة وجهةِ نظرٍ واحدة؛ أي الوضع الانفرادي لسارد «واحد أحد»، ساردٍ عليمٍ ومتسلط:
إن
الشخصية المركزية لعبد الرحمن مسرودةٌ من خارج، ومواقفه وأحاسيسه تُفصِح عنها إرادةُ
السارد
وحده، هو المتكفِّل بها وجميعُ المسافات ملغيَّة.
٢٤ والحقيقة أنها هيمنة المؤلف الذي يكسو مقاساتٍ جاهزة بلبوس كتابة «روائية»
مستعادة؛ أي مُستنسَخة، وهو ما يتناسب تمامًا مع رواية الأطروحة، إنما علينا أن ننتبه
بأنه
ليست الأطروحة ما يُتلِف رواية ولكن أحادية صوتها، وفقرها في الدلالات الكامنة.
٢٥
وتصمُد «دفنَّا الماضي»، رغم هذه الاختلالات، في ريادتها، التي ينبغي أن نُسجِّل
مظهرًا
آخر من مظاهر القوة فيها، والتي تحتاج إليها الرواية عمومًا لتنطلق كجنسٍ أدبي، نعني
الفضاء
المديني، الشمولي والمتعدِّد في آنٍ، وحيث يستطيع الكاتب أن يُنجِز الرصد الأفقي (على
مستوى
الزمان والمكان، الفضاء عامة) والعمودي (الخاص برسم الشخصية واستبطانها، وتعميق البحث
الذي
تسعى إليه، الذي يُشكِّل هُويَّتَها وبعضَ هُويَّة الرواية).
٢٦
لقد وجد غلَّاب ضالته في فاس، وفي فاس المدينة المكتملة عمرانيًّا وبشريًّا واجتماعيًّا
وثقافيًّا، وسياسيًّا أيضًا، باعتبارها المعقلَ الرئيسَ للحركة الوطنية، ومنها انبثقَت
أبرزُ شخصياتها، في فاس التاريخ والمجتمع والتقاليد وأسلوب العيش والشخصيات والأطياف
والمصائر ضمن المصير الكلى، وتأتي الرواية لتُبنى حول البحث عن الوحدة الكلية للواقع.
إن
واقعًا، مجتمعًا، وضعًا مكتملًا، تشكَّلَت أطرافُه، وتحدَّدَت امتداداتُه، وتمايَزَت
العلاقاتُ والرؤى فيه، وأصبح قابلًا لأن تتعدَّد فيه البنيات وتتداخل تداخُل الحقيقة
بالخيال، والوهم بالواقع. إن وضعًا كهذا لهو الملائم للرواية، وذلك ما فَهِمه غلاب، واهتَبل
فرصتَه قبل أن تتفكَّك تلك الوحدة الكلية، أو يصعُب بتاتًا إعادةُ تركيبها، وينقلب المجتمع
من جديد لا روائيًّا؛ أي مبعثرًا، منفلتًا، لا يسمح بالتجميع في أكثر شذراته، وبروقه،
ومفارقاته العارضة؛ أي الإمكانات التي تؤهِّل لإنتاج القصة القصيرة وتتألف فيها؛ ولذلك
فإن
المساحةَ الأوسعَ التي امتد فيها الأدب المغربي الحديث هي التي شغَل حيِّزَها هذا الجنسُ
الأخيرُ بجدارة. أجل لقد تتابَع إصدار الرواية، ببطء، طبعًا، لكنها جاءت جُلُّها غنائية
Lyrique ذات إيقاعٍ بَوْحيٍ ونشيدي، مطرَّزة بخيوطٍ
ملوَّنةٍ واضحةٍ للسيرة الذاتية، لشخصياتٍ تُراوِح مكانَها لا سيَر شخصياتٍ روائيةٍ حقيقيةٍ
تتحرك في الزمان والمكان، ولها مسارٌ طويلٌ ومؤشِّر حتى لو كان في الذهن، هذا المسار
هو
المجتمع الجديد الذي راح يُولَد ويتبلوَر، بعد الاستقلال، عَقدًا بعد عَقد، وأزمةً بعد
أخرى، وجيلًا بعد جيل وإلى جانب أجيال، مجتمع ممتد في فضاءاتٍ واضحة، ومعتركاتٍ مسماة،
فيها
قيمٌ تتفسَّخ وقيم تنهَض، بين أطرافٍ أو طبقاتٍ أو فئاتٍ تعيش أنواعًا من الصراع شتَّى.
وبالطبع فإنها العناصرُ الضرورية لصنع عالَم الرواية التي مناصَ لها بعد ذلك من الموهبة
والحنكة وطول المراس.
لقد كان غلاب محظوظًا حقًّا، فقد وجد بورجوازية — البورجوازية المدينية الفاسية —
جاهزة،
وفضاءه ناجزًا، وشخصياته وأبطاله حاضرين، ومعركتهم قد فُضَّت أو هكذا توهَّم، وصراعاتهم
في
الطريق إلى الحسم، والقالب الفني متوفرًا، ورؤية العالم التي ينبغي أن تحرِّك عالم الرواية
وتسيِّرها مبذولة، وكانت سيرة «سبعة أبواب» تمرينَه السردي الأول، فتهيأت له كل المواد
تقريبًا ليكتب عملًا غير مسبوق في أدب وطنه، ويرتاد طريقًا ستكون، وستستمر في ظننا، صعبةً
ما دامت الرواية في هذا الأدب تُواصِل تأسيسَها، وإن أمست مرفودةً بتجربةٍ لا يُستهان
بها،
وكُتابها يتمكَّنون تدريجيًّا من تمثُّل مفهوم الجنس الأدبي نصًّا وأفقًا وتعبيرًا،
وتخييلًا على وجه الخصوص، وإن من يُحاول أن يتتبَّع خُطى هذه الكتابة منذ «دفنَّا الماضي»
في منتصف العقد الستيني إلى آخر عمل.