بناء المدينة روائيًّا: أعمال محمد زفزاف نموذجًا
لا بد من التصريح في مدخل هذه الدراسة بأن الموضوع الذي تُخصَّص له هذه الندوة
١ الكبرى ذو أهميةٍ بالغةٍ لاشتماله على المُكوِّن الرئيس للرواية الحديثة،
والرواية المعاصرة. إن هذا الجنس الأدبي، الخِصْب والصارم، استثمَر عَبْر تاريخه الطويل
إلى
اليوم، في مدى ثلاثة قرون على الأقل، تيمات عديدة (بين تراجيدية، وهزلية وساخرة، وتربوية
أو
لا تربوية، وثقافية وثقافية عاطفية) صَنعَت محتواه، وتدخَّلَت دائمًا في صياغة تشكُّلاته
البنائية وبلورة خصائصه الفنية، إلى الحد الذي اعتبره النقدُ الأدبيُّ المختص قد اكتمل
أو
كاد يكتمل،
٢ باعتبار أن هذه التيمات، وغيرها، عملَت ووظِّفَت فكريًّا وخلقيًّا ونفسيًّا في
الأطُر المادية الممكنة التي تحرَّكَت فيها الروايةُ شخصياتٍ وأحداثًا ومصائرَ وأزماتٍ
وعلى
صعيد القِيَم والتصوُّرات والوعي، أيضًا.
لكن الرواية، هذا «العالم النثري» المُعبِّر والواصف للعصر الحديث، في طبيعتِه الثانية،
ولتناقُضاتِ بحثِ الإنسان فيه، حسب نظراتٍ أولى للوكاش الشاب، لن تمتلك قدرةَ التعبير
هذه،
ولن تتحوَّل إلى النوع الملحمي الجديد إلا عندما ينتقل الإنسانُ للعيشِ والصراع، والإحساس،
والبحث عن مصيرٍ في محيط المدينة، وتصنع هذه بنياتِ المجتمعاتِ الجديدةِ وتعبيراتِها.
٣
لذا فإن هذا المكان الجديد، المغاير لأمكنةٍ أخرى، سيغدو قطب الرَّحى في الجنس الأدبي
الذي سيهيمن تدريجيًّا على الجغرافيا والإنتاجية التخييلية الأدبية، منذ منتصف القرنِ
التاسعَ عشر، وصولًا إلى العقد الأول من القرن الجديد، مكتسحًا في طريقه أشكالًا من التعبير
وألوانًا من التمثيلات والرؤى حتى ليكادُ يتحوَّل في آداب جميع الشعوب إلى الأداة الأولى
لتشخيص أوضاع الفرد والجماعة النفسية، والسلوكية والوجودية والمادية قبل ذلك، في المجتمعات
الحديثة.
٤ ونستطيع الوقوف من خلال هذا الجنس، دائمًا، على التبدُّلات الجذرية والتحوُّلات
النوعية للطبقات الاجتماعية والبِنيات الذهنية، ناقلًا لنا في مرآةِ نصوصِه السرديَّة
المتلوِّنة، المتبدِّلة بدورها، رؤى العالم المتميِّزة والمتجدِّدة.
من المناسب لفتُ النظر، أو على الأقل التذكير، بأن مرجعيتنا — مرجعيتنا جميعًا — في
هذه
القراءة، كانت وتتواصل على الأغلب، غربية، والنظرية، بالتالي في الموضوع الذي نحن بصدده،
تتوازى مع النص المبدع، المُنتج للمدينة، المدينة الغربية على وجه التحديد، والتي سعَينا
بطرقٍ شتَّى إلى تقليدِ نموذجِها في المعمار والبِنيات والوظائف والسرد الأدبي ما يستدعي
في
هذا المضمار سؤالَين على الأقل؛ أولهما: هل نتحدث عن موضوعٍ واحد، أو متماثل، حين نتطرَّق
إلى المدينة هنا وهناك؛ أي في الرواية العربية سليلة الرواية الغربية؟ ثانيهما، وهو مِن
ضَربِه، أي مدينة هذه التي ترسمُها، تنتجُها، تصممُها وتعمرُها الرواية العربية ونعثُر
عليها فيها؟
ما من شك أن الإجابة عن أحد السؤالَين أو عنهما معًا، من شأنه أن يُوجِّه البحث في
هذا
الموضوع، ويُلزِمه بالحذر من الانسياق مع مسلماتٍ وأحكامٍ جاهزة، تخُص معطياتٍ ونصوصًا
قبْلية وغيرية. من باب الحذَر مثلًا أن نتساءل هل المدينةُ موجودةٌ في الرواية العربية
أصلًا؛ وبالتالي أي مدينةٍ هذه التي سأتقصَّى موضوعَها وعالمَها في رواية محمد
زفزاف؟
من غير أن نُسهِب في فرز وتفكيك العناصر الثاوية وراء السؤالَين، سنُبادِر إلى الإقرار
بأن المدينة ليست معمارًا وأحجارًا وحدهما، بل هي بالإضافة إلى ذلك سيرورةٌ تاريخية؛
عناوينها ومقتضياتها ثقافةٌ مخصوصةٌ بها وعلاقاتٌ مدينيةٌ مشترطةٌ معها، ونمط عيش وإنتاج
مقترنان بهذا التحديد الحضري والاجتماعي، الذي يعود بدوره فيُنتِج التعبير الأدبي الأنسب
له. في بداية التأسيس الفني للرواية بالمغرب كتب عبد الكريم غلاب «دفنَّا الماضي» (١٩٦٦م)
فجاءت منسجمةً في انعكاساتِها وتشخيصِها مع صورة المدينة العربية التقليدية (فاس)، وفي
الفترة نفسها تقريبًا أصدر عبد الله العروي روايته الأولى «الغربة» حيث ظهرَت المدينة
اغترابًا مزدوجًا بين وفي «أنا» وطنيةٍ أصلية (بلدة أزمور، مسقط رأس الكاتب) و«أنا +
الآخر»
غربية (باريس، منبع الثقافة والصحو الفكري والوجودي). وتَلاهما مبارك ربيع في روايته
«الريح
الشتوية» الذي رسَم عملية النزوح القَروي الأوَّلي إلى المدينة الحديثة (الاستعمارية)
وهي
الدار البيضاء، واندراج القرويين في أول عملية تبتلُر (الانتقال من الخدمة في الحقول
إلى
الخدمة في المعامل، ويقابله انقلاب في الوضع من مُزارِع إلى عامل) دون أن تُراهن الرواية
على المسح السردي والوصفي للمسافة الممتدة من بداية تفتُّت البِنية القَروية والاستتباب
التدريجي للبنية المدينية.
والواقع أن الروائي المغربي ألفَى نفسه في وضعِ مفارقةٍ مؤدَّاه وجودُه في المدينة
واغترابُه عنها في آنٍ واحد، وهو حالٌ من التمزُّق نجَم عنه، في الأقل، اضطرابٌ في الوعي
بالمكان، وتأخُّر بالتالي في التعبير عنه، ما يفسِّر تأخُّر نضج النص السردي الطويل في
أدب
المغرب الحديث، خاصةً بالنسبة لكُتاب كان إدراكُهم الفني للوازمِ تكوينِ هذا النصِّ
متواضعًا بعدُ، وفهمُهم للحالة الروائية ألصق بالواقعية الحرفية منه إلى الاقتراب من
النزعة
التخييلية مدماك الحالة.
ومحمد زفزاف كان من هذا الرعيل ومختلفًا عنه، ولقد عَرفَ بعد ترحُّلٍ وتربُّصٍ كيف
يختَط
مساره ويبني المدينة في رواياته؛ ذلك البناء الذي سنتوقَّف عند أجلى معالمه، وأقرب
مسالكه.
فهو، بعد أن رحل إلى غرب مزاجه ونزواته، عابرًا البوغاز ليحُط قريبًا من «طريفة»
عند ساحل
«طوري مولينوس». ليس هو بالضبط وإنما محمدٌ الآخر، شخصيته التي سوف «تؤلِّه» «محمدوس»،
ليعبَّ الملذَّات، ويحرق جسده الأسمر بالأجساد البيضاء (الشقراء) المشتهاة، ترك بطله
(=
أناه، الأعلى) مدينةً يشعُر فيها بفقدان إنسانيته، وبالحرمان، (ما يشبه الخصاء) وسيطرة
فئةٍ
واحدةٍ على كل الامتيازات ليرحل إلى شمال «مدن» هي «عالمٌ مسحورٌ رائع».
٥ ليست مدينة زفزاف الأولى بنايات، ولا شوارع مبهرة، ولا نسَقًا من العيش
منظَّمًا؛ أي كل ما يختلفُ عن نسَق الأرض الملعونة، وإنما هي باختصارٍ شديد، جسدٌ يتحلَّب
له ريقه؛ هي شهوةٌ حارقه (نزعةٌ أبيقوريةٌ طافحة) تجاه المرأة (سوز)، التي هي بشرية،
وقارَّة، ومدينةٌ مطلقة.
الحق أن زفزاف سرعان ما سيعبُر مرحلة «النزوة» هذه، التي كانت بمثابةِ تفريغٍ للمكبوت،
وتصفيةِ حسابٍ عاجلةٍ مع وضعٍ تحكمه «الأقلية البيضاء» (كناية عن البورجوازية، في المدن
المغربية الكبرى، والدار البيضاء حيث عاش الكاتب، تحديدًا). وسوف يُقدِّم التصُّور والتصوير
اللذَين رآهما مناسبَين للمدينة، إزاء وضعِ المفارَقَة المشار إليه، وذلك ضمن عملية بناء
النص السردي في الأدب الحديث بالمغرب لنَلحَظ تلازُمًا بين البناءَين. ولسوف يكون هذا
القاص
والروائي المتفرد سبَّاقًا إلى إدراك أن هناك عالمَين متمايزَين؛ واحد هو الواقع أو الواقع
المركَّب بالأحرى. والثاني هو النصُّ أو النصُّ المتعدد، هو ما يلد الأول ليمنَحه ملامحَه
ويخُصَّه بسجاياه، ما يتطابق تمامًا مع العُرف الفني القاضي بأن «الفضاء الروائي هو أصلًا
فضاءٌ لغويٌّ مصنوعٌ كليًّا».
٦ ومعناه، من نحوٍ آخر، وباستعارة عبارة لوتمان، فإنه «لا يُوجد فضاء [أقول
مدينة] معطاة لنا حقًّا؛ إذ علينا نحن أن نُنتِجَه بأنفسنا
٧ باعتبار أنه «تُولد في الأدب تركيباتٌ لكلماتٍ متخيَّلة من طرَف مَن يكتُبها.»
٨
هذا ما سعى زفزاف إلى صنعه، وقد فَطِن للمفارقة، ونتيجة وضعٍ شخصيٍّ واقعيٍّ يتميز
بانتماء الكاتب أصلًا إلى حيٍّ من أحياء الصفيح (حزام الفقر) الواقعة في ضاحية مدينة
القنيطرة، وانتقاله المُسترسِل إلى هذه المدينة، وإلى أخرى أرحبَ منها وأهم؛ أي الدار
البيضاء، سيعمل فيها ويعيش ليبقى مغتربًا عنها في الآنِ عينه. سيُسهِم هذا الاشتراطُ
مع ما
يمتلكُه الكاتب من تمييزٍ حصيفٍ بين ما ينتمي إلى الواقع صِرفًا، والأنسب للمعادلة السردية
الفنية، في صنع التصوُّر الخصوصي لطوبوغرافية المدينة، والرؤية عنها، وشخصياتها وعلائقها
المادية والسيكولوجية، وتوليد القيم الأيديولوجية والرمزية عَبْر خطابٍ جهیرٍ لا يتردد
في
التعرية والإدانة؛ هو ذاتُه الخطاب الذي سيسود أغلبَ النصوص السردية الواقعية لحِقبتَي
الستينيات والسبعينيات.
لنحاول تفصيل القول في هذه العناصر:
= يذهب الروائيون عادةً إلى المدن واصفين، ومُجزِّئين الأماكن والمساحات الملائمة؛
حيث
يتمُّ الفِعل وتتحرَّك الشخوص، ويُعمد غالبًا إلى تنظيم الفضاء الروائي وَفقًا لتوظيفاتٍ
مدبَّرة.
٩ ولعل أقلَّ ما يمكنُ تعيينُه كعلامةٍ أولى في تدشين هذا الفضاء — مسرح الأحداث
— هو الاسم، بدءًا إن شئنا، وعلى سبيل المثال، من «زقاق المدق»، و«قصر الشوق»، «القاهرة
الجديدة» (نجيب محفوظ) وصولًا إلى «لا أحد ينام في الإسكندرية» لإبراهيم عبد المجيد.
أما زفزاف فيكسر القاعدة، عامدًا إلى كسر المتعيِّن وتعويضه بالعلامة السيميائية،
فإذا
وَرَد الاسم فاعتباطًا، ولتُلصَق به نعوتٌ وأحكامٌ عامة، فلا يظهر مؤسسًا كما ينبغي له
في
الرواية بل نتيجة. إن روايات «أرصفة وجدران»
١٠ «بيضة الديك»،
١١ و«الحي الخلفي»،
١٢ تعمل ثَلاثتُها وَفْق هذا الاتجاه. تجري وقائعها في مدينة الدار البيضاء، لكن
الاسم في حد ذاته لا يتجاوز دور الرسم الأيقوني «في الدار البيضاء يُحبون المال والفسق»؛
١٣ «الدار البيضاء كبيرة، ويُمكِنُني أن أضيعَ فيها.»
١٤
يُعزى ذلك إلى أن زفزاف يُفكِّر منذ البداية في بناء المدينة روائيًّا، بالمعمار
والمواصفات، بالدَّوالِّ القادرة على إنتاج المدلولات التي تُمثِّل رؤيته للعالم، وهي
اقتناعاتٌ فكريةٌ وأيديولوجيةٌ ووجودية.
= تُبنى المدينة روائيًّا خارجَ أيِّ مكانٍ يستحق الاسم، في منطقةٍ غُفل؛ ومن ثم
ينعدم
العنوان (التعيين والدوال) ويصبح مشغولًا بالدلالة «الحي الخلفي» مسبقًا — أي الدوني،
الواقع المكان والأحياء الطبيعية — ما تلبث أن تُفكَّك في دوالَّ صغرى في جُملةِ تمثيلاتٍ
من قبيلِ سكان يعيشون في «جُحورٍ مظلمة» أو يتكوَّمون في «مجموعة من أكواخ الصفيح الواطئة
المتربة»، هؤلاء «الذين جاءوا إلى الدار البيضاء مُتشعبِطين في عربةٍ أو شاحنةٍ أو مشيًا
على الأقدام، وناموا في الشوارع الخلفية والأزِقَّة والحدائقِ العموميةِ والإسطبلات».
١٥
= تُبنى المدينة روائيًّا على قاعدتَي التعارُض والإحالة المتبادَلة: القاعدة الأولى
تمثل، طوبوغرافيًّا — وهو كما نعلم، واقعُ جُل الحواضرِ الكبرى في العالم الثالث، مع
كل
الكليشيهاتِ التي يستتبعُها رسمُ التعارُض — زوجَ الهامشِ والمركز، وقيميًّا زوج الفقر
والغنى. والقاعدة الثانية تُمثِّل زوج الظهور والخفاء، يلتقيان معًا حول محور مدن الغياب؛
إما لأنها لا تُطال، لوقوعها في أحياء تعيشُ فيها عائلاتٌ مُوسِرة وطبقةٌ مرفَّهة، فإذا
ذهبَت إليها شخصيات الرواية فهي لا تظهَر لأنها تتسلَّل إليها ليلًا للسرقة أو النبش
في
النُّقايات؛ وإما لأن مدنًا، كهذه، محجوبةٌ عن الأنظار في هامشيَّتها، منبوذةٌ في فَقرها
وطُفَيليَّتها، ببشَرها النازح على المدينة الأصلية الكبيرة أو المُنتفِخة.
= تُبنى المدينة روائيًّا عند زفزاف، انطلاقًا من صَوغ أو ترتيب لتفضيةٍ سردية، تلك
التي
وجَدَت توجيهَها الأبلغَ فيما سمَّاه باشلار ﺑ «شعرية الفضاء»، وهو ما أطلَق عليه
«السيكولوجيا النسَقية لمواقعِ حياتنا الحميمية»،
١٦ ويُمكِن مقاربتُها من خلال القيم الرمزية المحايثة لمنظورِ السارد أو شخصياتِه
أو أمكنةِ إقامتِهم وتحرُّكِهم. في الروايات المذكورة للكاتب، وفي أخرى، يجري استثمار
الفضاء، عَبْر هذه المقاربة، والمدينة ليست شيئًا سوى بؤرها ونتوءاتها؛
أمكنة ضيقة – فاسدة – مختنقة – مُعتِمة.
غُرف صغيرة – هواء فاسد – زنازن – عُلَب ليل.
حانات – مخافر شرطة – غُرف فوق السطوح.
شبه مطبخ ينام فيه اثنان – سقف زنك فيه ثقوب.
كل هذه العلامات تصُوغ براديغم العَوَز والحرمان، المخصَّص لفضاءِ مدينةِ الهامشِ
(الحي
الخلفي).
هذه مدينةُ محمد زفزاف الحقيقية والمتخيَّلة، يذهبُ الساردُ ليلًا كي يصفَها ويحكيَها
أوانَ احتجابها عن الأنظار، في الحُفَر، والحانات، وبيوت الدعارة، والزوايا التي يجتمع
فيها
البحَّارة والمشرَّدون، واللصوص، والمحجوبة في النهار لأنها عالمٌ لا ينهضُ إلا في الليل،
وفي النهار يستثني من الظهور بحكم موقعه الخلفي، في حزام المدينة الحديثة الأخرى الرأسمالية
والصناعية. وفي كلتا الحالتَين ينبني الفضاء الروائي بواسطة طبقة من الأمكنة، هي التي
يُسمِّيها فليب هامون ﺑ «الأماكن السبرنطيقية؛ حيث تُخزَّن المعلومة، وتُرسَل، وتُتبادَل
وتأخذ شكلها».
١٧
تبدو مدينةُ زفزاف، للوهلة الأولى، وهي تتخلَّق وجودًا قبليًّا، ماديًّا بالطبع،
ولكنه
وجودٌ غيرُ شرعي، المعلوم ببناءٍ عشوائيٍّ خارج المدار الحضري (القانوني): «(…) بعيدًا
عن
هذه البنايات تكوَّنَت مجموعةٌ من أكواخ الصفيح الواطئة المتربة» يقطنُها «الذين جاءوا
إلى
الدار البيضاء مُتشعبِطين في عربة أو شاحنة، أو مشيًا على الأقدام»،
١٨ يسكُنها بشرٌ غيرُ شرعي «(…) فكما وُلِدوا في البادية بدون هُويةٍ وبدون عِلمٍ
من الدولة فهم يفعلون نفس الشيء، في الضواحي أو في أماكنَ أخرى مثل الذباب والصراصير
والزنابير، وهم بدون هُوية دائمًا إلا وقت الانتخابات؛ إذ يخرجون كجرذانٍ قاموا ليقولوا
بصوتٍ واحد «هم»، وبعد ذلك يعودون إلى جحورهم المظلمة.»
١٩
هذا الوجود الغفل والمهمَّش؛ حيث شروط الاعتراف ملغاة، وعلى رأسها الهُوية، هو الفضاء
الأثير لدى زفزاف منذ رواية «أرصفة وجدران» (١٩٧٤م) التي ليس لبطلها بومهدي أيُّ ارتباطٍ
بواقعه المعيش رغم انشداده القَسْري إليه، وحيثُ نراه فيه ضائعًا في متاهة النفس، غير
مقتنعٍ بالمُناخ الطلابي في الكلية، ولا يجد الاستقرار في ذاتٍ لم تحُزْ بعدُ فرديَّتَها،
وتتخبَّط في مشاعرَ وجودية؛ ذات في اللامكان واللازمان.
٢٠
وإذن، فإن زفزاف يشيد مدينتَه الروائيةَ في هذا اللامكان بالضبط. وسكانها هم من اللابشر،
ونمطُ عيشِهم هو اللاعيش، المُخِل بالقواعد والأخلاق المرعية. وهويتهم هي اللاهوية،
وأبطالها لصوص، وحمالون، وعمال موسميون، وقوَّادون، وبنات ليل، وخائبون، وخائبات من كل
نوع.
من السهل وسمها دلاليًّا بالمدينة الضد، لكن الروائي لا يعترفُ بغيرها؛ ولذلك تبقى المدينة
الحديثة، الاستعمارية، العصرية، بثقافتها التمدينية، وعلاقاتها المركنتلية، هي الضد،
والسبب
هو أن المنظور أن رؤية العالم لدى الكاتب، سواء تحُفُّ بالنص السردي أو تتبلور كنسَقٍ
خطابي، هما اللذان يُبئران الفضاءَ المرصودَ لتُكثِّفه شخصياتٌ من جنسه تُكيِّف ثقافتَه
وتُنمِّط عيشه.
إن بناء المدينة روائيًّا عند زفزاف هو في الآن عينه توظيفٌ سردي لشخوصٍ جديدة، في
محيطٍ
غيرِ مألوف، على قاعدة التناغُم بين الفاعل ومحيطه المهمَّش (هي الشخصيات الوحيدة الأثيرة
عند زفزاف، وإن وُجِد غيرها، فهو امتدادٌ لها، وتجسيدٌ إضافيٌّ لقدراتها) بتآلف مع الهامش
يجمعها براديغم الهامش، الذي يعني من نحوٍ آخرَ الأسفلَ والحطَّة؛ فها الرواية تتغيَّر،
تغيِّر جلدها، وتنسخ مذهبَها؛ حيث تُقدِّم لنا فضاءٍ تخلو فيه الحياة وبحث الفرد من أيِّ
أفقٍ أخلاقيٍّ ومثالي. وإذا كان انتقال الرواية إلى المدينة، إلى الوسط الحضري، قد وضَع
حدًّا، عمومًا، لهذا البحث،
٢١ فإنه عند زفزاف يقيم نوعًا من الإبدال مع قيمِ جماعةٍ جديدة، قل مختلفة، كما
فعل شارل بوكوفسكي في الفترة نفسها، ومهَّد شارل ديكنز، من وقتٍ بعيد، وهو يهبط إلى القاع
في الأحياء الفقيرة والزوايا المُعتِمة.
ومن نحوٍ آخر، يعتبر وصف هذه الشخصيات، وإبراز أسلوب حياتها وأخلاقها الخصوصية، وصفًا
للمدنية الضد التي تُلغى أخرى قبالتَها، سابقة عليها. وفي المحصلة، فإن فيزيونومية الفضاء
تتطابق وتتكامل مع فيزيونومية الشخصية، وبالعكس.
٢٢
بهذا التوظيف كانت الرواية في أدب المغاربة تتجه إلى الأداء الفني الأليَق بجنسٍ
أدبي
يحتاج إلى توفُّر مجالٍ اجتماعيٍّ قابلٍ للتفضية الروائية، ويتخصص طبوغرافيًّا، وطباعًا،
وقيمًا وعلاقاتٍ باندراجه فيها. معلوم أن الأجناس الأدبية لا تُولَد ولا تتطور، كما لا
تفنَى، بمعزلٍ عن الشروط الموضوعية التي تتحكَّم في بيئةٍ بعينها، والرواية على الخصوص
لا
ترقى إلى الوضع المحسوم للنوع إلا وقد تحصَّلَت فيها وانتسبَت إليها الصفة الاجتماعوية
la sociabilité كموضوعٍ متميز، إضافةً إلى أن الرواية
هي الفنُّ الأولُ الذي يعني الإنسان بكيفيةٍ سوسيوتاريخيةٍ جهيرة.
وعلى مستوًى أخير — في حدود ورقتنا — فإن المدينة والفضاء المديني يشتغلان في رواية
زفزاف
على مستوًى آخر، هو تلقِّي القارئ حين يُعيد بناءهما؛ إما وهو يقطُن بالمكان أو يُلملِم
أطرافَه المبعثَرة مع الشخصياتِ المبعثرة، بدورها، فيما أمكن رسمُه من تخطيطاتها، ومن
خلال
سلوك ووقائع حياة الشخوص. والحق أن المتلقي الذي سيُنجِز هذا الفعل واحدٌ لا عدة؛ أي
لا بد
له من التماهي مع فضائه. إن الدار البيضاء المُفترَضَة في السرد التخييلي لزفزاف لهي
مدينةٌ
لا يمكن أن تُستعَاد واقعيًّا وتخييلًا إلا في تلقٍّ معيَّن؛ لأنه وهم تمامًا وجود كاتبٍ
أو
روائيٍّ لجميع الناس (القُراء).
وأخيرًا وليس آخرًا، إن المدينة والرواية في أعمال الراحل محمد زفزاف متبادلتا التأسيس
والتكوين ومتوازيتاه. وإذا كانت الرواية لا تستطيع أن تُشيد المدينة وتُقيم فضاءاتها
إلا
باللغة والتخييل، فإن ظهور المدينة الحديثة يبدو وكأنه شرطٌ لا مناص منه لكتابة الرواية؛
فلقد احتاج الأدب المغربي إلى زمنٍ لا بأس به لكي يتخلق فيه هذا الجنس الأدبي. ولا يُعزَى
ذلك إلى صعوبات التعلم، وضرورة صقل الموهبة وحدهمها، بل وإلى توفر الفضاء المديني، بمعضلاته
وأبطاله وتبلوُر علائقه المختلفة عن فضاءات الأدب، الأغراض الأخرى المعهودة، وهذه من
غير
شك، قضيةٌ نقديةٌ أخرى جديرة بالتأمل، ويسمح السرد الروائي لدى زفزاف بتطويرها في سياقٍ
أوسعَ مما نحن فيه.