I
يختتم نص «الخبز الحافي»
٢ لمؤلفه الكاتب الراحل محمد شكري إيقاعيًّا ﺑ «جناز»
Requim، وتعريفه حسب قاموس
Robert الفرنسي أنه صلاة «غناء أو مغنَّاة للموتى
أو ترتيل موسيقي في الصلاة على الموتى، حسب الطقوس الكاثوليكية» وهو ما يُمكِن تشخيصُه
وتبيُّن توزيعه كما يلي:
(١) في الصفحتَين الأخيرتيَن للكتاب (٢٨٧–٢٨٨) يبدو نهايةُ رحلةٍ طويلةٍ من مغامرات
السارد-الشخص أو هو الشخصية محمد شكري (نسبة إلى قبيلة بني شكر في جبال الريف)، بتحقيق
منعطفٍ حاسمٍ في حياته متمثلًا في الانتقال من طنجة إلى مدينة العرائش جنوبها، بعبارةٍ
أخرى في إحداثِ قطيعةٍ مع مرحلة الجهل والأمية التي طالت في حياة السارد إلى أوْجٍ من
المراهقة، والانتقال إلى فضاء القراءة والكتابة؛ أي بالدخول في مرحلة التعلُّم المدرسي
بانتظام، فهو سيحرص على تحريك وعينا بهذا التحوُّل عندما يُعلِمُنا بتوجُّهه إلى
المقبرة حيث يُوجَد قبر أخيه (الذي أزهق أبوه رُوحَه خنقًا بين يدَيه وهو في سني
الطفولة، وهي الحادثة التي ستخلق عند شكري القطيعةَ مع الأبِ خاصة، والعالمِ العائليِّ
عامة، ليعيش حياتَه كلها بدون اقتران، خلا طنجة التي لم يكن يغادرها إلا لمامًا
وللضرورة القصوى). في المقبرة سيطلب من الشخص،
٣ وهو حسن، المتعلم، أن يقرأ القرآن ترحُّمًا على أخيه الضحية، وسيُجيبه:
«سأقرأ عليه سورة يس»، بعدها «أخذ يقرأ» (ص٢٢٨).
(٢) ينتهي النص دلاليًّا بإعلان التوبة (Le
repentir)، أو بتعبيرٍ يشي بالإحساس بها، وهي شعورٌ ديني، ونزوعٌ تتدخل
كما تتداخل فيه قوى الخير والشر بالانتصار والتطلع للأولى، والتنصُّل من الأخيرة وإبداء
الأسف لاعتناقها سابقًا. جاء في قاموس مختار الصحاح للرازي: «التوبة: الرجوع عن الذنب»،
ومعنى الذنب ارتكاب إثم بجريرةٍ دالةٍ دينيًّا؛ قال تعالى: فَإِن
تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وقال تعالى: فَإِن
تَابُوا [أي المشركين] وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (سورة التوبة: ١١).
يكتب السارد-الشخص: «فجأةً فكَّرتُ. لكن، لماذا هذه القراءة على قبر أخي المجهول؟
إنه
لم يذنب (…) تذكَّرتُ قول الشيخ الذي دفنه: «أخوك الآن مع الملائكة» أخي صار ملاكًا،
وأنا؟ سأكون شيطانًا، هذا لا ريب فيه» (٢٢٨). ليس هذا التحصيل، ثم الإقرار بهذا
الاستخلاص سوى توكيدٍ للمطمَح الممنوع، فما فات (الملائكية) هو المرغوم حقًّا، وليس ما
بقي أو سيأتي (الشيطنة، النزعة الشيطانية) التي يكفي تسميتُها أو الجهرُ بها لإدانتها
والرغبة في التنصُّل منها، وهذه الرغبة هي بالذات منحى التوبة (Le sens
du repentir).
(٣) ينتهي النص أدبيًّا (أي خطابًا، على مستوى التلفُّظ) بالتلميح بخطابٍ مضمر: ما
بات يُروَّج له بمصطلح المسكوت عنه، وهو جهيرٌ في آن، يُفصِح عنه الفوات (الحسرة)
والملفوظ هو: «لقد فاتَني أن أكونَ ملاكًا»، يتخلَّله خطابان هما: «آه، لقد فاتني (…)»
وإذن، سأصير شيئًا آخر … سأصير شيطانًا [مذنبًا]، وسأقضي حياتي، سأعيشها [خطيئة الحياة
(Le péché)] لأُكفِّر عن هذا الذنب [«الصغار إذا
ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين» ص٢٢٨، يصيرون كُتابًا].
«لقد فاتني أن أكون ملاكًا»، في الزمن الماضي، طبعًا. إنها جملة، رغم امتلائها
بالمعنى فإنها تشكو من نقصان، بما أنها تُلوِّح بخطى زمنٍ آخرَ آتٍ، سيأتي، لا بد سيأتي
بعد أن تم التمهيد له، متمثلًا في الانتقال الأول إلى العرائش لولوج سلك التعليم لأوَّل
مرة، بمعنى فكِّ الحروف وخطِّها أيضًا. من وراء ذلك القراءةُ والفهمُ اللذان سيُمكِّنان
من الانتصار على شخص «عبد المالك»، ذاك القوَّال والدَّعي، بحكم تعلُّمه. فيما يأخذ
الانتقال الثاني شكل بُغْية التحوُّل إلى كاتب، أي شخصٍ يحظى بالاحترام، وهاكم الدليل:
«عام٦٠ [١٩٦٠م] كنتُ أرتاد مقهى كونتننتال
Continental
في تطوان (…) أرى كل يوم شخصًا محاطًا بكثير من التقدير. حين استفسرتُ عنه قيل لي إنه
الكاتب المغربي محمد الصباغ (…) منذُ تلكَ اللحظةِ بدأتُ أفكِّر كيف يُمكِن لي أن أصير
كاتبًا.»
٤
فهل صار صاحبُنا كما نشَد ذلك كاتبًا، أو بناءً على الميثاق التجنيسي لعناوين بعض
كُتبه روائيًّا، وإذا أقرَرْنا بهذا تلقائيًّا أو اعتباطًا أو إجرائيًّا، بمصطلح
الأيام، فكيف تم له بلوغُ هذه النِّشْدة؟
نظُن أن صُلب ما يرمي إليه حديثنا قصدُه الإجابةُ عن هذه القضية عامة، وعلى هذا
السؤال الأخير تحديدًا.
II
(١) في خاتمة الكلمة التقديمية ﻟ «الخبز الحافي» يكتب محمد شكري، على سبيل التوضيح
لما ورد في فِقرةٍ سابقة: «أقول: يُخرِج الحي من الميت. يخرج الحيَّ من النَّتِن ومن
المتحلِّل. يُخرِجه من المتخَم والمنهار. يُخرِجه من بطونِ الجائعين ومن صُلب
المتعيِّشين على الخبز الحافي.»
٥
تُقرِّبنا هذه العبارات الميتانصيَّة؛ أي الواقعة خارج ما هو سردي، وأخرى غيرها
لقُراء متلقِّين، من المساحة التي نريد أن نرسمَها ونتخدَها مجالًا للقراءة، والتي
ينبغي التماسُها في معناها العاري؛ أي منخولة ومنزَّهة عن كل تأويل. والحقيقة أن
بإمكاننا اعتبارَ كلِّ هذا المجال ميتانصيًّا فيما لو نظرنا إلى النص الأم من منظور
تمثيله الوفي للحياة الشخصية التي عاشَها هذا الشخص الذي سيصبح مؤلفًا لكلام «أدبي» هو
بمثابة «تأويل بعدي لمسار [هذه] الحياة».
بشرحٍ بسيطٍ للمفردات يكون الحيُّ هو الكتابة (ذلك الكلام) والميتُ هو ما فات وإن
صار
مكتوبًا.
الحي هو ما تقرؤه من نتَن تلك الحياة، وهو يخرج [حسب الاستعارة القرآنية] أي يلدُه
من
رحم، من صلب الجياع، جائع [شخص م. ش] عاش وكبر على هذا الخبز الحافي؛ أي بالمعنى
المغربي الدارج خلو من الإدام، وهو معلوم للحاجة والإملاق. جاء في «الصحاح»: الإدام ما
يُؤتدَم به. تقول منه أدَم الخبزَ باللحمِ من باب ضرب.
(٢) إن لنا أن ننقل أو ننتقل بالعنوان المعطى «الخبز الحافي» من مستوى الدلالة العامة
أو التدلال (
La significance)؛ أي ما يترتَّب
ويُستخلَص من المضمون، ومن جريان الأحداث والوقائع التي عاشها وتقلَّب فيها صاحب السيرة
بكل ما حفلَت به من بؤس ونتانة وتحلُّل، أو ما اعتُبِر عند البعض بمثابة «حياة استثنائية»؛
٦ أقول، ننتقل من هذا إلى المستوى الآخر، الشريك بلا انفصال؛ أي أداة عرض أو
حكي عالَم تلك الدلالة ومكوِّناتها الحياتية الكبرى.
فماذا لو حوَّلنا عنوان الكتاب، ناقلينه من مضمونه إلى اسمه، صانعين بذلك أيقونةً
واحدة يمكن الإحالةُ إليها وتكليمُها في آنٍ واحد. وسنبقى أوفياءَ دائمًا لمراد
المؤلِّف، تعلَّق الأمر بما أفصَح عنه أو بما هو كامن في لا وعيه، منبِّهين إلى أننا
لا
نعني بتاتًا بكل ما هو ذو طبيعةٍ استعراضية (= تهريجية) أو سجالية (= نعني خارج حقل
الأدب) حول هذا الكتاب .
بعبارةٍ أخرى سنُسمي حديثنا وحديثه «الكتابة الحافية». بغية تفسيرِ وتفكيكِ عناصرِ
هذه التسمية اسمحوا لنا أن نُحيل مرةً أخرى إلى القاموس؛ فهو عمدةٌ لا مناص منها لكل
من
يسير على هدى: جاء في معجم «مقاييس اللغة» لأبي الحسين أحمد بن فارس
٧ في مادة «حفي»: «الحاء والفاء وما بعدهما مُعتلٌّ ثلاثة أصول: المنع،
واستقصاء السؤال، والحفاء خلاف الانتعال،
٨ فالأول: قولهم حفَوتُ الرجل من كل شيء إذا منعتُه. وأما الأصل الثاني:
فقولهم حفيتُ إليه في الوصية بالغتُ، وتحفَّيتُ به: بالغتً في إكرامه. والأصل الثالث:
الحفَا مقصور، ومصدره الحافي. ويُقال: حَفِي الفرسُ: انسجَح حافرُه. وأحفى الرجل:
حفِیَت دابتُه. قال الكسائي: حافٍ بيِّن الحِفية والحِفاية. وقد حَفِي يحفَى، وهو الذي
لا خُفٌّ في رجلَيه ولا نعل.»
٩ وهو ما يقابله في العامية المغربية الحفيان.
وباستعارةٍ واستعانةٍ سريعةٍ من معاني القاموس فإن الكتابة الحافية هي تلك العارية،
المجرَّدة من الوشي وغيره «من غير وثار ولا غلائلَ رومانسية» بلغة قارئٍ محترف.
١٠
هذا وصف. توصيفٌ وتعيينٌ لا تقويم، نريده بعيدًا عن حكم القيمة، وإلا فسنزُجُّ بهذا
الحديث في المهاترة، ومن قَبيلها ما يعمد إلى خلط الذات (المؤلف وسلوكه الشخصي أو أسلوب
حياته) بالموضوع (كتابته)، أي بتذويت ما لا يقبل هذا التورُّم، ما نعتبره يقع خارج
مساحة الجد الأدبي، كما يخلط بين النص وصاحبه إلى درجةٍ تَمنعُ من صُنع وتكوين المتن
المطلوب للقراءة.
هو وصف لا شأن له بتعابيرَ رخوة، وغير نقدية، اختصَّت بكتابةِ محمد شكري، واستعملَت
مفرداتٍ غائمة ورجراجة من قبيل «الشفافية» و«التعرية» و«الفضح» و«الجرأة» والهامش على
المعيش، ومثلها كثير.
١١
حين نَسِم كتابةً ما بأنها عاريةٌ ومجرَّدة من الوَشْي، فإن هذا يفيد أو يوحي بأكثر
من فهم، كقولنا:
-
(أ)
إما أنها هزيلة تشكو من نحول، فقيرة، غير مدثَّرة بالكسوة الأدبية
بتلويناتها، مفتقرة إلى أسلوبها … إلخ.
-
(ب)
وإما أنها مقدودةٌ من صخر بحيث تُعيِّن ولا تُوحي، لا تريد أو لا تقصد
لأن تُوحي. بلاغتُها الخاصة في التعيين. مشذَّبة متخفِّفة من كل استعارةٍ
تعوقُ أو تتوسَّط لنقل المعنى والخطاب معًا.
-
(جـ)
ومن الضرب السابق أن يكون ذلك أسلوبًا خاصًّا بكاتب، كخاصيةٍ من خصائص
واستراتيجية كتابةٍ سرديةٍ تُعنى بالوصف وقول الأشياء حافة، وتحتفي بواسطة
العين بما يقع تحت العين في نوعٍ من الخرق الذي وقف عنده «بورديو» في رصده
للكتابة التي تتخطى الرقابات المهيمنة وتحديدًا موضوع الجنس.
١٢
كل واحدة من هذه الاقتراضات تنطلق، ولا شك، من فهمٍ معيَّن، مسبق، وتستدعي تحليلًا
مختصًّا بذاته يبدأ من النص متوسلًا باستراتيجية كتابته، حين تكون موجودة، طبعًا، أو
حاضرةً بوعي. والذي نعنيه هنا هو الوعي الفني، وسأترك للقارئ، وهو نابهٌ سلفًا، أن
يستحضر من عنده كيف يتكوَّن هذا الوعي لدى الفنان أو الكاتب، ومتى يتوفَّر في المقاربة
النصية. وبالمقابل سأطلب من هذا القارئ نفسه، وأنا بصدد إنجاز حفور فيما أسميتُه
بالكتابة الحافية، أن يسترجع أمامه النص بتساوق مع «أسباب النزول»؛ فعسانا، عندئذٍ، أن
نتوصل إلى حصر الفَرضية الأليَق بحديثنا وليس بالضرورة الأصوب.
إن النص الذي نتحدث عنه، هذه المرة، موجود لدينا مخطوطًا — مرقونًا — أي قبل نشره،
بالعربية طبعًا، بعدة سنوات، وما يعنينا ليس سنة النشر بل زمن الكتابة — ربما قال آخرون
زمن الرواية؛ أي الرواية الشفوية، تلك التي تلقَّاها المترجم الأمريكي، والناقل أيضًا
«بول بوولز» — وهو زمنٌ يتوازى أو لا يبعُد كثيرًا عن الفترة نفسها التي كان فيها محمد
شكري يُشيِّد بنيان تكوينه اللغوي والأدبي بالعربية. إن مقهى سنترال، بالسوق الداخل في
طنجة، هي «الكلية» التي انتظَم شكري في مدرجاتها أو قاعتها مُسوَّرًا ذات اليمين وذات
الشمال بعامودَين عاليَين من الكتب من كل أصناف الإبداع والمعرفة، ونظن أن الرجل اختار
له طريقةً موازيةً في التعلُّم، نعني الكتابة عن ذاته ورواية نفسه بنفسه. لقد كانت
مادَّتُه جاهزةً محتقنةً مثيرة، ولم تكن هامشيةً كما تصور البعض
١٣ وهو شائع أحيانًا شيوعًا مبتذلًا بناءً على سناداتٍ سوقية، بل هي مادةٌ
مستقاةٌ من غميس الحياة الطبيعية السفلى لمدينة طنجة، ليست هي المغرب ضرورة، كما أن لها
ما يشبهها ويمُتُّ إليها بقرابة ذوق أدبياته عامةً في كتاباتٍ مماثلة، منها ما هو
معروفٌ ومتداوَلٌ مثلًا، عن الشرادي.
١٤
إن هذه المادة هي المهماز بكل نتوءاتها وما بها من محتوًى، وهي التجربة التي ينقلها
بوولز، وقدَّمها صنيعُ صاحبها موصوفة، معيَّنة، في غنًى عن أية جمالية، وهل كان بوولز
يَحفِل بأية لغةٍ أو أسلوبٍ وهو صاحبُ إحدى أهم الروايات في منتصف القرن الماضي، نعني
«شاي في الصحراء»، إضافةً إلى قصصه الذكية ومعزوفاته الرفيعة.
باختصار، إننا أمام حياة — مادة حياة — تتوسَّل الكتابة، لغةً وتراكيب، وتخيلاتٍ
أحيانًا، وصيغًا، وطرائقَ حكيٍ أو سرد لنَقْلِها إلى متلقٍّ، مستمعًا كان أو
قارئًا.
وهو ما يعني كذلك أن الميثاق التجنيسي للعمل اعتباطيٌّ أكثر من كونه خاضعًا لضبطٍ
أجناسيٍّ محكم. ورغم ذلك فعلَينا ألا نتعامل مع هذه الناحية بخفة، ولا أن نُثقِل كاهلها
كذلك. ويبقى مهمًّا تأمُّل الحاجة للتجنيس (رواية، سيرة روائية، سيرة ذاتية، أو غير
ذلك) عند شخصٍ عرف مبكرًا أن الأدب هو أفضلُ ما اختُرع لمكافحة الشقاء، كما يقول ماريو
فارغاس يوصا.
ومع ذلك فإن «الخبز الحافي» لم تُكتَب لتنخرطَ في الزمن (السياق) الإبداعي والأجناسي
— العربي — رغم أهمية هذا البروتوكول بالنسبة لقُراءَ تقليديين وحديثي العهد بالأدب
بمفهومه المحدَث (La littérature)، ولِمَ لا نذهب إلى
القول بأن «الخبز …» لم تُكتَب (تُدوَّن، تُسجَّل، تُحكی، تروى … إلخ) لتنقل كل ذلك
الشقاء في محيط الشقاء؟ ألم يفعل بعضَ ذلك، بأناقةٍ لغويةٍ ورشاقةٍ أسلوبيةٍ أحمد عبد
السلام البقالي في مجموعته الرائدة «قصص من المغرب» ليُعَد من مهَرة واضعي فن القصة في
أدبنا؟
… وإنما كُتبت «الخبز …» لتكونَ ما هي عليه، بلغتها تلك، بأقوالها، وخطابها المُفتتَن
بعُريه، ﺑ «صفاقته» بعباراتها الخام، المتداولة في اليومي، وفي الثقافة الاجتماعية
واللغوية لشرائحَ بعينها، ليس أقل ولا أكثر. كُتبَت مستثمرةً القاموس الشعبي، الذي هو
مجموعُ الكلمات المُقْصاة من قواميس اللغة الشرعية، حسب بورديو، أو التي لا تظهر إلا
وهي مُلطَّخة بعلاماتِ استعمالٍ سلبي.
١٥
يتحقَّق ذلك عند شكري بالوسائط التالية:
(أ) خضوع الكتابة (الحوار) في النص للهجة الدارجة (التدريج)، عَبْر صياغةِ الفُصحى
أو
ليِّ عنقها حسب بنية الدارجة «كاد يعَضُّني كلبٌ ارتمى على ساقيَّ».
١٦
(ب) نحت مفرداتٍ هي مزيجٌ أو تركيبٌ بين الفصحى والعامية:
-
«ماذا يخصُّه هذا الرجل؟
-
-
«لم يَبقَ في الحساب إلا أنت.»
١٨
-
«أنا أتسخَّر لجيراننا.»
١٩
(ﺟ) إدراج العبارات العامية الرائجة في الحديث الشعبي، والذي على غِرار كل الملفوظاتِ
المنتسبةِ لعائلةٍ واحدة — عائلة الثقافة الشعبية — لا يتحدَّد إلا بالعلاقة وبالمجموع
المبنوذ من اللغة،
٢٠ في هذه العبارة مثلًا:
– «تمشي تخرا في ثيابها. تمشي تخرا هي وشبابها.»
٢١
ومن باب أولى وأحرى يجري الحوار كاملًا (حتى وهو معرَّب بين هلالَين) باللغة الأصلية
لواضع النص (
La langue maternelle) (لغة أو لهجة الريف
— الريفية — وهذا شأنٌ مبرَّر جدًّا)؛ لأن الطفل الذي يتكلمها لم يكن يعرف في زمنه سوى
«الريفية»، بينما أقرانُه في مدينة طنجة التي نزح إليها من تطوان مع أبوَيه يُعيِّرونه
بجهله للغة العربية؛ يقول عنه أحدهم: «هو ريفي، جا من بلاد الجوع والقتَّالة — ماكيعرفش
يتكلم العربية!»
٢٢
(د) لا يتناسب مع واقعٍ فَجٍّ، وحياةٍ شديدةِ الفظاظة، إلا قاموسُهما الناطق باسمهما،
الواصف لهما، المخترق لسنن الحشمة والأخلاق السائدة في المجتمع، لكن المعبِّر عمَّا
يعيشه الناس. صنف من الناس في كل آنٍ، دون الإحساس بحياءٍ هو متكلَّف عندهم؛ ولذلك
تنثال على ألسنتهم ببساطةٍ وعَفْويةٍ المسمَّياتُ الجنسيةُ عارية، ما دامت اللغة
وحدَها؛ أي خارج السياق، لا تعرف المحرَّم، ولا شأن لها بالسنن الأخلاقي والعقيدي
المُفترَض، خاصةً حين يتآزر الأمرُ مع رغبة شخصٍ في كتابةِ ذاتِه كما عَرفَها أو
بالطريقةِ التي يملكُ للتعبير عنها؛ أو لم يقل شكري بصدد اللغة: «إننا لا نكتُب بحثًا
عن جمال التعبير المحض، وإنما [بحثًا] عن نهاية الحقيقة في الحياة.»
٢٣
وعدا كل ما سبق، فقد كُتب نص «الخبز الحافي» بطريقة صاحبه؛ أي بجسَده، بحواسِّه
النافرة والمدرَّبة، ليصنع له نسقَه الخاصَّ لا نسقَ الأدبِ في زمنه ذاك؛ ولذا ثار سوءُ
تفاهُم حول هذا الكتاب الذي وصل إلى الساحة المغربية والعربية، والأجنبية، أيضًا،
بالحفاء المعلوم … وكتَبه مؤلِّفه لأنه ببساطةٍ فاتَه أن يكون ملاكًا.