فاضل يوسف: الرواية الأخرى١
إنها المرة الأولى التي أقتربُ فيها من أعمال الروائي يوسف فاضل من باب الكتابة، أو بالأحرى محاولة الكتابة عنها. لقد تهيَّبتُ ذلك مرتَين: في الأولى؛ أي خلال العقد الثمانيني حين أصدر أولى رواياته «الخنازير»، ١٩٨٢م، ثم «أغمات»، ١٩٨٩م. وفي المرة الثانية؛ أي عقب إصداره لعملَين أساسَين في إنتاجه السردي (بالنظر إلى أنه يكتب المسرحية بصورةٍ متوازية، أيضًا) هما: «سلستينا»، ١٩٩٢م، ﻓ «ملك اليهود»، ١٩٩٥م، وصولًا أخيرًا إلى عمله البديع «حشیش»، ٢٠٠٢م. إن مناوشة كتابة وهي في بَدْء تكوينها غالبًا ما يُوقِع في الزلَل بطريقةٍ ما، سواء بالتحمُّس لها حدًّا بعيدًا أو بالتجنِّي عليها نقدًا وتنقيصًا فيما هي تحبو بعدُ، ولا شيء يَضير كاتبًا واعدًا أن يتأخر الاحتفاءُ بما كتب؛ لأن الموهبةَ الحقيقيةَ لا تُخطئ موعدها أبدًا.
علاوةً على ما سبق ينبغي أن أعترف بأن ثمَّة سببًا باعثًا على التهيُّب أقدَر من سابقَيه أجدُه في الارتباط المباشر للسرد الفني لفاضل بالنبع المباشر الذي تستقي منه الرواية عادةً هُويتَها في كونها صدامًا بين الأنا ومحيطها، وسعيًا متوهمًا، على الأغلب، لملاحقة قيمٍ وعوالمَ هلكَت أو قَيدَ التراجُع. إن خاصيةً مماثلةً تقرِن صاحبها بالمجرى العام، والطويل للرواية وليس بأي سياقٍ خصوصي؛ أي أدبٍ محلي، كما اعتاد نقدُنا الأدبي أن يفعل من غيرِ كبيرِ تمحيص. في هذه الحالة يحتاج القارئ المحترف — في عرفنا هو الناقد — إلى خَرقِ تلك الأطُر الثابتة التي احتوت سردياتِ الأدبِ المغربي الحديث ونظمَته تحقيبًا وتياراتٍ وخصائص، بناءً على تطوُّره الذاتي المحض تارة، أو في علاقته بالتأثيرات المشرقية تحديدًا. وما من شكٍّ أن منحى القراءة والتقويم هذا إذ يُنسِّب القيمة الإبداعية للعمل الأدبي فإنه في الوقت نفسه يحرمُها من التفاعُل مع الإنجاز العام للأدب الروائي ككل؛ هي صورةٌ تسود النقد الأدبي العربي الذي قلَّما ينظر أبعدَ من أرنبة نصوصه. أجل، إن من يعرف كيف يقرأ النصوصَ الروائيةَ المعلاة لا بد سيُجابَه بهذه الخاصية المركزية، ويخضع بالتالي لإملاءاتها.
في هذا السبيل نُسجِّل أن هنالك ناظمًا مركزيًّا يكاد يضبط كل تلك النصوص وهي تلتف حوله بلا انفصام، بما يعني أن هناك روايةً مفكَّرًا فيها، ويمكن أن نطمئن كذلك على بنائها وَفْق تصوُّرٍ محدَّد. ما يفيد بطبيعة الحال أننا ننأى، سواء عن رواية التعلُّم البسيطة، أو عن أخرى لا تبتعد عنها قصيًّا وإن سعَت إلى التشكُّل الواقعي الناضج. يتمثل لنا هذا الناظم في صُنع العالَم الروائي ووَضعِه، كلًّا أو جزءًا، في دائرة الانهيار والتلَف، لا بنظرةٍ إسقاطيةٍ أو من منطلَقٍ فكريٍّ مُتفلسِف بتصنُّع، وإنما ضمن رؤيةٍ واقعيةٍ متجددةٍ هي مزيجٌ من الواقع والحُلم ونتاجُ تفاعلٍ حيٍّ بينهما. وبطبيعة الحال فإن هذا لا يتأتَّى إلا بوجود الكمال وحصول الانتهاء اللذَين يعقبُهما الضمورُ والتفكُّك، ذلك القانون الطبيعي الذي يحكُم الحياةَ والكائنات، ويُرى متموجًا على مدار الأزمنة والأعمال فيما نُطلِق عليه حوادثَ الدهر ومصائرَ الإنسان. إنه مُنطلَق الرواية أيضًا التي لا تُولد من فراغ أو بمجرَّد تخطيطٍ ذهنيٍّ بل تصدُر عن رؤيةٍ كليةٍ منبثقةٍ من فَهمٍ متفاوتٍ للوجود، من جهة، كما تأتي من الرافد الذاتي العميق المتعالق بسابقه، من جهةٍ أخرى. على أن من مفارقات الرواية حاجتَها إلى إعادة بناء المنهار وتقوية الضامر حتى ولو عمدَت إلى تقديمه تالفًا ومتفسخًا، لكن بالشكل الذي يضمن تماسُكَه في النهاية؛ فلا فن بدون هذا الصنيع المتماسك، المتآزر الذي يُنجَز في بناء.
إن لكل كاتب، لكل روائي اختياراته الفنية التي تُسوِّغ الرؤية، وقبل ذلك تُبلوِرها ليُصبِح بمقدور القارئ لا استجلاؤها وحسب، بل والاندراج في دائرتها إحساسًا وإدراكًا. بيد أن الواقعية المُنجَزة سلفًا وفق خطوطِ طولِ التاريخِ وخطوطِ عرضِ الشخصيةِ المنسجمة، المسطَّحة، لن تُنجِب إلا سردَ التماثُلِ والاجترارِ بعيدًا عن منحى التركيب، الناجم أصلًا عن التفكيك، ومنزع القطيعة بين الإنسان — الشخصية — ومحيطه. لقد تَنبَّه يوسف فاضل باكرًا لهذا، وعلى ضوئه عمل وأصبح روائيًّا بحق. وهذا ما يحتاج منا إلى بيان.
(١) في الرواية
«ملك اليهود» هي العمل الأمثل، في نظرنا، لتشخيص هذه العناصر، ولإجلاء أي روايةٍ أخرى دَوَّنَها فاضل يوسف في سجل الرواية بالمغرب، ومنها إلى الرواية عامة. إنها من سطور البداية تمنَح قارئَها خطًّ توجُّهِها، وإلى حدٍّ ما لعبة كتابتها، في اللحظة نفسها التي تظل فيها متباعدةً بقصديةٍ عنيدةٍ وماكرة؛ أي حسب الفنية التي يريدها لها صاحبها، فنية الهدم والتأسيس ثم التأسيس والهدم، وهكذا دوالَيك. أليس أدَل على ذلك هذه الصورة ترسمُ وحدَها نهاية عهدٍ كاملٍ هو في الحقيقة نذيرٌ بأفول حياة الإنسان ومرحلة وتاريخ، بطبيعة الحال، هو ما يعطيهما وجاهتَهما كما يُلبسُهما بإشكالية القطيعة والتلَف، في صميم المعنى الروائي؛ اقرأ معي الفقرة-المقطع التالي: «ظل الباشا يتضاءل حتى بدا أنه بعد مدة لن يبقى منه شيء، ثم فجأةً كف عن التضاؤل. وصَل إلى حدِّه الأقصى. وفمه لم يعُد ينزل منه غيرُ صوتٍ يشبه خيطَ ماءٍ يصبُّ في غير حوضه. كما لو كان وصل إلى حدِّه الأقصى. يجلس بين الوسائد يشحذ رؤاه التي تكوَّمَت فوق سنواته الطويلة. متكئ على عكَّازة أحلامٍ صارت خلفه. أولادُه خذَلوه. كما ينبغي أن يحدث. أولاده الذين خذلوه يركبون السيارة. يذهبون مع اليهوديات. أو يهربون. يهربون أحفادهم وصغارهم ويختفون.»
هنا كل شيء. هنا القصة وأبطالها — الفاعلون. حدثيَّتها المتبدِّدة. مصائرُها المختصَرة في رؤية التلاشي. وخلافا للروائي التقليدي الذي يرسمُ مسارَ الرواية على السنن العدي المتصاعد، والأفقي، يأتي فاضل إلى «ذنَبها» وليس إلى نهايتها؛ لأن النهاية هي في الحقيقة منتهاها أو بغيتُها التي تكتمل بها رؤيتُها، نعني مدار الخطاب الروائي ودلالته بمدلوله. وكما أن لكل شيءٍ نهايةً فإن له بالطبع بدايتَه، على أنها ليست ظاهرةً ولا متيسرةً كما هو الحال مع الأمور العادية وإنما مُضمَرة، وإن شئنا التحذلُق اصطلاحيًّا قلنا إنها تقيم في بياض النص (المحكي)، وهو البياض الممتلئ بتاريخٍ غائب، قل مغيَّب ما دام مَن يلعب في التاريخ هو الفاعل الأول. وهي اصطلاحًا كتابةٌ تناصِّيَّة ومُتناصُّها ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهن المتلقي، أو يتم استحضاره من ذاكرةٍ ثقافيةٍ مدرَّبة، عارفةٍ بالرموز خاصةً وفجواتِ التلفُّظ ذي الصبغةِ المرجعية محدودة، وهي بدورها مرموزةٌ انسجامًا مع الطابع الإيحائي الذي يسود النصَّ برُمَّته. يكفي أن ينطق السارد باسم «الباشا»، هذا الاسم «الأيقونة» لتشغيل آلية التلقي كما ينبغي لها، وتضَعُنا في الشروط التي يستدل بها لولوجِ عالَم الرواية والعيشِ والتنقُّل في فضائها.
يتعلَّق الأمر بالباشا التهامي لكلاوي (١٨٧٥–١٩٥٦م)، باشا مراكش الشهير، الذي كان من كبار المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي في المغرب، ودعم سياسته التي من وجوهها تنحيةُ السلطان الوطني محمد الخامس، وقد تمَّ له بموجبِ ذلك نشرُ هيمنةٍ كاسحةٍ في جنوب البلاد، وخاصةً مراكشَ وأطرافَها؛ حيث توفَّرَت له إقطاعاتٌ هائلة وشيَّد قصورًا وبيوتًا باذخة، حتى صار مضرِبَ الأمثال في المال والجاه والسطوة. وقد دالت دولتُه هو وخلَفه عند مجيء الاستقلال، وإن ظلَّت هيبتُه ساريةَ المفعولِ عند أهل مراكشَ زمنًا، والحكايات تلو الحكايات تتناسَل عن فترة باشويَّته التي فاقت الشأن السلطاني، وكانت محبوكة بأوثق العُرَى مع المحتل والقبائل المطوَّعة بكل الوسائل. تترك «ملك اليهود» زمنَ الصولةِ والمجدِ الباشوي وراءها؛ لأنه ليس لا موضوعها ولا رؤيتها، وتلتقطُ خيطَ التاريخ من الهاويةِ عامدةً إلى نقلِه مؤقتًا إلى الحافة تبعثُه على صعيد السَّرد، ربما لكي يكونَ عبرةً لمن يعتبر، أو لاستخلاصِ فلسفةٍ ما من الحياة، أو لغايةٍ ما أخرى في نفس الكاتب. والحقُّ أنها لا تتردَّد في الجهر بخطابِ العِبْرة متخلِّلًا السردَ في صيغةِ سنادٍ عِبْروي، وإليكم بعضه: «(…) فصيلة الباشوات انقَرضَت. آخذة في الانقراض (…) الفصيلة النقية سائرة إلى اندثار. ها كُم ذاك الرجل الذي يُدعى بوحمارة، اسمه الجلالي الزرهوني. ظل مُحاصِرًا فاس لسنوات، كأنما ليلعب بها. كان بإمكانه أن يكون أكثر من باشا (…). أمسك به السلطان مولاي حفيظ وأخَضَعه لتعذيبٍ مُعَدٍّ بعناية. وظل لأربعة أشهُر يُراقِب تدَهوُره. يُناوِله دواءً خاصًّا كلما بدَر من جهة الجسَد وهَن، ولكي يستمر الجسد يتذوَّق تفكُّكَه بأناة، قطرةً قطرة، على نفس الوتيرة الوئيدة. عندما سأله عبد الحفيظ عن الطريقة متفاخرًا أنها من ابتداعه، قال له بوحمارة كنتُ سأفعلُ بكَ نفسَ الشيء لو كنتُ مكانك» (ص١٠١–١٠٢). إنه علاوةً عن هذا السناد فثمَّة «تكنيك» الحَكْي ذاتُه الذي نراه في تمام الانسجام مع خطة السلطان في التعذيب، إن لم يكن التكنيك القصصي المعتمد في جزءٍ منه مستوحًى بذكاء من مهارة تعذيب الجسَد وتفكيكه بأناة. يبقى الأهم هنا هو التعبير بملفوضاتٍ مقتضَبةٍ ومشحونةٍ بقوة الإيحاء عن مسلسل الانقراض الذي تَسبَح فيه الرواية برُمَّتها، وهذا ما نستخلصه من بعض الأمثلة:
«الباشا الذي أمامي ليس هو الباشا الذي كان …» (ص١١). يقول «الصنطور» وهو أحد خدَمه، ومن أتباعه.
«منذ أيام والباشا ملتصقٌ بنافذتِه يُحدِّق في البعيد كأنما يتعقَّب سِر السحاب، وهذا أمرٌ جديد» (ص١٢).
«وماذا قالت الفزَّاعة؟ هذه فعلةُ البدو. فعلةُ الرحامنة. وحدهم الرحامنة تنزُّ هذه الأفكار. يأتون حتى دارِ الباشا ويُضرِمون النار في حيواناتهم. لم يعودوا يخافون لأن الفرنسيين ذاهبون. (…) انقَضَّ على الباشا سحرُ أيامِه الغابرة فقال أسرجوا البغلة. (…) واعتقَد الجميعُ أنه ذاهبٌ لتأديب الرحامنة إنما على بغلة. مثل هذا لم يحدُث من قبلُ» (ص٣٠).
تتوازى هذه الإيحاءات وتتداخل مع الإشارات التي تشغل موقع المعلم أو الأيقونة الزمنية محدِّدةً بذلك تاريخيةَ المحكيِّ بطريقةٍ شبهِ اعتباطيةٍ لإبعاد أي «شبهة» أو نزعةٍ تأريخيةٍ عن الرواية، وبقائها مشدودةً أكثر من أي منزعٍ آخرَ إلى ناظمها المركزي، المعلَن سلفا؛ منها: «(…) لم يعودوا يخافون [الرحامنة]؛ لأن الفرنسيين ذاهبون. ولن يتركوا وراءَهم سوى حفنة من السينغاليين» (ص٣٠).
«السينغاليون يعمُرون الأزقَّة والحانات، والثكنات والأسواق» (ن).
«الباشا الذي هرَب عنه الفرنسيس وتركوه مع حفنةٍ من السينغاليين يبرطمون» (٦٦). واضحٌ بالنسبة لنا نحن المغاربة أن التاريخَ المُومَأ إليه يشير إلى الفترة الواقعة قُبَيل نهاية الاستعمار وإعلان استقلال البلاد، مما آذن ببداية انهيارِ مجدِ الباشواتِ والقوَّاد المتعاونين، مع ما يستتبع ذلك من زوالِ سلطتِهم وما يتمتَّعون به من بأسٍ في الحياة العامة، ولا غرو أن الباشا لكلاوي كان رمزَ هؤلاء جميعًا، وأعتاهم في كل النواحي، حتى إن السلطةَ الاستعماريةَ فاوضَت من أجل مصيره هو وعائلته بكيفيةٍ حاسمة. ولم يبدُ روائيُّنا منشغلًا البتة بهذه الخلفية، ولا بمسلسل الأحداثِ المنضويةِ فيها إلا من حيث تضيء، من هنا أو من هناك، التيمة الأساس لعمله؛ أي رؤيا الانقراض والزوال التي تَلحَقُ البشَر والأشياءَ كضربٍ من الحتميةِ أو القدَرية، أو بفعلِ عواملَ تاريخيةٍ ماديةٍ بعينها.
لتشخيص هذه الرؤيا يَعمِد الكاتب، فضلًا عن الخلفية المذكورة، إلى استحضارِ مجموعةٍ من الوحدات القادرة على صُنع بنية الأفول، باعتبارها الحدثيةَ الوحيدةَ الممكنةَ لروايةٍ لا تُعنى أساسًا بالفعل بقَدْر احتفالها بانعكاساته وأصدائه، ولِمَ لا نقولُ أشلاءه ووضعَه وهو في حال النزع الأخير طالما أن الأشياء تأتي على هذه الشاكلة تمامًا؟ وهي تعيِّن القوة أولًا؛ فالباشا، كما يقول الصنطور، «عنده خيلٌ كثير. كل ما عند الباشا كثير. الباشا عنده ستٌّ وثلاثون امرأة.»
أولى هذه الوحدات فُتورُ الهمةِ الجنسيةِ للباشا، صاحب الحريم، الذي يُحب الصغيرات، والذي لم يتبقَّ له من عِشْرة النساء غيرُ الحسرات، هو الذي وهَن وهُن ما زلن يرتعدن فرَقًا منه، لا يعرفن أي تراجعٍ منه، هكذا فهن «يَخفن من العجوز فزَّاع الطيور. يَخفن من هدير أيامه الفائتة. دويُّ أيامه الفائتة يُخيفُهن لأن عقلَهن صغير. عقلُهن صغير ولا يرى أن العجوز فزَّاع الطيور يمشي ويلتفتُ كواحدٍ ضاع منه شي [عُضوه، همَّته]، كواحدٍ ضاع ويخبطُ في دروب أيامه الفائتة، على غير هدًى» (ص ٢٠). هكذا غدا في واقعٍ تزيده مخيِّلة الصنطور اشتعالًا، وتفتكُ به انتقامًا، وهو الخادم الذي غبَطه حتى الموت على كل تلك النساء. وتجتهد بنت الرابعة عشرة في دغدغتِه وإثارتِه لكن عبثًا «كلثوم تُمسِّد ساقيه. أناملهُا الغضة تتحرك فوق الجلد المبعثَر. جلد الساقَين والفخذَين. كل هذا لا يُحرِّكه (…) فكَّر أنها في الرابعة عشرة، وأنها قريبةٌ منه. حتى لكأن رائحة قَرنفُلها من رائحته. فكرةُ أن كل هذا أمامه ولا يُحرِّكه جعلَته كواحدٍ يبكي في مخيِّلته (…) يمرِّر يده على الشعر. لا يرتعش فيه شيء» (ص ١١٢).
= رؤيا الصنطور: سيلعب هذا الخادم الذي سينقاد إلى الخرف والهذيان بتوازٍ مع الباشا المجلَّل بسنواته التسعين (ص٤٢)؛ سيلعب دورًا واقعيًّا في الإرهاص بزمن الزوال، وحُلميًّا في توسيعِ مدارِه وجعلِه يأخذ بعدًا شبه أسطوري بحكم الظواهر اللاعقلانية التي تحيط ببعض شخصيات القصة وهو من أبرزِها، تمثل امتدادًا لشخصية الباشا. يرسمُ خط انحداره المتواصل وتعميق أزمتِه بلا هوادة. إنه مرصَد حدوث التضاؤل، تجاه فحولةِ خصمِه، أولًا، ثم تجاه تضعضُع قوَّته كلًّا، وهو ما سيأتيه عَبْر حُمَّى الهذيان والكوابيس تتطيَّر منها زوجتُه فيما تغدو عنده هو وتيرةً متصاعدة في شكل رؤيا استشرافية: «الصنطور يرى أشياء. الأشياء التي يرى شغلَته يقول ولا يقول لنفسه سوى واش شفتي؟ واش شفتي اللي كنشوف؟» (ص٥٥)؛ «الصنطور يرى أشياء لا تراها فاطمة» (ص٥٧)؛ «أصوات. أصوات كالنبوءات استمرَّت تأتيه» (ص٦٢)؛ «والصنطور الذي أصبح آخر، بأهوائه ورؤاه» لم يعُد يفعل شيئًا سوى توقُّع السقوط الوشيك لخصمه، يقضي أيامه «يُراقِب نبوءاته، يرصُد وقوعَها منذ ظهر الميَلان على هيئة الباشا. ويتوقَّع سقوطَه بسقوطِه أو مرضه (…) الأصوات هي التي تقول. يسمعُها وإذا كل الكوارث متوقَّعة» (ص٦٥).
وفيما يبدو الصنطور منخرطًا، عضوًا فاعلًا في جوقةِ تشييعِ موكبِ المجد الباشوي، يحرص الكاتب على تفريعِ جدولٍ خاصٍّ به من مجرى الرواية (الرؤيا) العام زيادةً في توسيعِ مدارِها وتعديدِ مناطِ اهتمامها، من نحو، ولكي يشحنَها أكثر بطاقة الحُلم، قل الأسطورة، حتى ولو اتخذَت صورةَ الخُرافة والشعودة؛ فهي في النهاية انزياح عن الواقع، من نحوٍ آخر، ينسجم مع مظاهرَ طقوسيةٍ عديدةٍ سائدةٍ في المجتمعات التقليدية (= مراكش المحافِظة وثقافتها قبل وإبَّان زمان لكلاوي) تتسم بالغرابة؛ حتى ليُمكِن القولُ إن الغرابةَ اللونُ الذي يصطبغ به هذا العمل الروائي، الذي بوقوفه على مدماك الواقع ليُعَد من بين أعمالٍ قليلةٍ حقًّا تُحلِّق بها الكتابةُ السرديةُ في بيئتنا الأدبية في أفقِ التخييلِ الصحيح.
هكذا، فلن تُفلِت من فاضل يوسف فرصةُ كونِ مراكش هي فضاء للحكاية بامتياز، وساحتها الشهيرة أمس واليوم «ساحة جامع الفنا» تتصادى فيها الحكايات والأساطير، وتتناسل من فمٍ لأذن، ومن راويةٍ لآخر. هذا التقليد السلسبيل في مدينة الحكاية، والتي يقصدُها الناس من كل فجٍّ عميقٍ يجدُ موقعَه في «ملك اليهود» نسقًا ورؤيا بما يجعل جسد المدينة (= مراكش) وجسد النص (= ملك …) يلتقيان في تقاطُب الواقع والحُلم بتآلفٍ تام. هكذا سيُصبِح الصنطور، الخادم، المعتوه، ظِلَّ الباشا في الخرف وراصِدَ وقوعه الوشيك، سيدًا ذا كراماتٍ وصيت. سوف يتحوَّل، والتحوُّل يُعطي نقلةً للرواية من مسلك الواقعية إلى جوِّ التخييل. سيختفي عن الأنظار ويتنقَّل في مغامرات (صنيع البطل في الرواية الشطارية، وهو لا يخلو من ملامحَ له). اختفى الصنطور عن أهله «ونزلَت لحيته على صدره، وشردَت عيناه» (ص١٢٩). شوهد وهو «يُطلِق لحيتَه تتبعُه قطةٌ سوداء (١٢٨)، ويتصوَّر نفسه وكأنه نبيٌّ يقود بشرًا تائهًا، جائعًا بسيقانٍ مجروحة. بشر جديد هو «أشكال من العدم تتقدم نحو التشكُّل» (١٣٢). هؤلاء سيتقدَّمهم الصنطور المتحول (= المنحدر والآفل طبعًا نحو الخُرافة) «محاصَرًا بنبوءاتهم وحكاياتهم الخارقة (…) قلَعوا الأشجارَ وصنَعوا عصيًّا ورماحًا وتقدَّموا مهلِّلين. انضَم إليهم العميان، والمجذومون الطامعون في لحمٍ آدميٍّ طريٍّ كي يبرءوا، وكل مُعوِزي الجنوب المُجدِب، يحملون فتياتٍ مشلولات ويضعونها قُدَّام الصنطور الجالس على ركبتَيه. يضع يدَه اليمني على مواضع الداء ويتمتم: ببب. للﻟ … ثم يُتابِع سَيرَه مجلَّلًا بلحيته وبأخبار القطة السوداء» (ص١٣٢).
وسواء كان هو صاحب القطة السوداء التي هي حيوانٌ غريب لم يُرَ مثلُه أو شخصًا آخر، فالمهم هو إخصابُها تربةَ الرواية وكيانَ الشخصيةِ الأمِ ببذور المحكيِّ الشفوي، المصعِّد لإيقاع الغرابة فيما يمُتُّ إلى الواقع بأكثر من صلة، هاك «الرجل صاحب اللثام» وهناك هذا الرجل من أولاد سعيد الذي اسمه بن عبد الله، المدعو بونوالة بسبب كوخ الجريد الذي وجدوه فيه» (١٣٤)، له بدَورِه كراماتٌ وتحوُّلات، وهم جميعًا، سواء كانوا من بنات خيال ورؤى الصنطور أو جزءًا من أطياف الحكي التي تتسكَّع وترقُص مع الثعابين على ضرب الدفوف في ساحة جامع الفناء، فإنهم جزءٌ من محيط الباشا الذي يمثل دائمًا قُطبَ الرحى فيه؛ حيث يدور اللعب، ويبدو الهواء مشبعًا بالأسطورة؛ هنا علينا أن ننظُر إلى شخصية الصنطور باعتبارها البُعد الجامح لسيده، فكأنهما واحد؛ لأنهما باتا يريان ما لا يُرى ويتحسَّسانه: ما فات وصار بددًا (= المجد والسطوة) وما هو آت (= الموت الوشيك والعتَه أو الزوال). كما أنهما معًا منغمسان في الحكاية كسياقٍ محكي؛ أي منقوعٍ بالخيال، ومحكومٍ بواقعٍ عجائبي وهو واقعيٌّ صرف. هكذا إذا كان الصنطور قد تحوَّل، أي تأسطَر، فإن صورة الباشا مرسومة في الرواية رسمًا أسطوريًّا، في مظهر اغترابها عن حياة كانت فيها ولها، وفي بُعد نوعية العلائق المنسوجة معها وردود الفعل تجاهها. وأخيرًا لا بُد أن نُضيف بأنها، على مستوى التلقي البَعدي، أصبحَت مندرجةً ومتشكلةً في المخيالِ الشعبي ومتناميةً بعشراتِ الأوصاف، وهذا منتهى الخيال.
= ومن بابٍ مفارقٍ تأتي وحدة السيارة كغزوٍ مباغتٍ وكاسحٍ من خارجٍ لتهُزَّ أركانَ محيطٍ راكد، مستسلمٍ لقدَريةٍ مشئومة، وتُنذِر بتفكُّكه ماديًّا، بل ولتضرب في الصميم رؤيتَه للعالم، وهي ثقافتُه الماضوية التي هزَّها الهلَع أمام دهشةِ الاختراعاتِ الحديثة، الآتية طبعًا من خارجها، وتقتحم بعنفٍ مجالها (الطريق العام والمعتقد، أيضًا) في شكل «زوبعة الضجيج والغُبار والدُّخان» (ص٥). رغم أن الأجنبي موجودٌ في هيئة الفرنسيين المستعمرين، وسلاحهم الفعَّال، والسينما التي يرتادها البعض، والسينغاليين المجنَّدين من بلدهم عَنوةً لتطويع «الأهالي»؛ رغم هذا كله سيكون للسيارة-الطوطم وضعُ الأيقونةِ الثانيةِ في الرواية، لتعلن، بشكلٍ مفارق؛ أي وهي علامة الحداثة والتقدم، عن بداية تصدُّعِ القديم، وتضاؤلِ معتقداتِه، تضاؤل الباشا، والانحدارِ نحو الأفولِ كما تنحدرُ الشمسُ إلى الغروب.
الأنكى من هذا أن الاختراعَ المارقَ يقتحم عالمه على يدِ واحدٍ من صُلبه، من ابنه هو زيادة في مكر القدَر؛ ﻓ «ها هي سيارة عبد المالك تسير حتى فوق الشجر»، وإنَّ «عويل مُحرِّكها يضربُ أسس أيامه حتى وهو لا يراه» (ص٢٢). ليتوالى انهيار الأسس؛ أي رؤية العالم لدى «هؤلاء البدو الذين جاءوا ليرَوا السيارة. جاءوا من مسفيوة. من تاحنَّاوت. من أوريكا. من اثنَين أغمات. مكثوا يراقبونها لمدة أيام. سيارةٌ سوداءُ من نوع أولدزموبيل. دابةٌ هائلةٌ تعبُر تحت السور داخلةً خارجةً على امتداد النهار. مرةً من باب دكالة. ومرةً من باب أغمات. والبدو بين هذا الباب وذاك الباب محتارون (…) في كل مرة يستعدُّون لأن تفاجئهم. تُدغدِع مخيِّلتَهم أماراتُ الذعر والدهشة (…) دخانُها الأرجوانيُّ يزرع دوائرَ غامضةً في أذهانهم البدوية» (ص٢٣–٢٤).
يتيح لنا السردُ العربيُّ الحديثُ نماذجَ متعددةً لتأثيرات وصول الاختراعات الجديدة (= الغرب) إلى المجتمعات التقليدية (= الشرق) أو ما اصطُلح على تسميته ﺑ «صدمة الحداثة»؛ نجدها مثلًا في تراثنا القصصي بالمغرب عند أحمد بناني في قصته «حتى الطيور في حَيْرة» بمناسبة دخول جهاز الراديو، وأمثلة أخرى منها عند يحيى حقي في «قنديل أم هاشم»، وعند علي الدوعاجي في «جولة حول حانات البحر المتوسط»، مما تكرَّر لدى القصَّاصين والروائيين العرب والأفارقة حدًّا انقلبَت فيه المعالجة إلى فولكلوريةٍ قصدُها تسويقُ العجائبي أو ما قد يروق القارئ الغربي كهيئة عجائبية؛ هذه ذاتُها التي ستصبح في السرد المعني صورةً نمطية. أما هنا فهي موظَّفة توظيفًا عضويًّا، وموقعُها تأسيسيٌّ لا تكميلي للمعنى والرؤيا اللذَين قلنا إن وحداتٍ عدةً تتضافر لصوغهما، بل إن الصورة في هذا السياق تَكسِر الصدمة في تلقِّيها المعتاد فتغدو حركتُها اتجاهَين؛ إن الاختراع الحديث (السيارة)، والذي يتقدَّم كحقيقةٍ معياريةٍ جديدةٍ في الواقع، من طينةٍ ماديةٍ بحت على النقيض من طينة السَّنَن الثقافي والمخيالي السائدَين لينقلب بدَوره وهمًا آخر ليُفقِده السَّنَن طبيعتَه ويُدخِله في الرؤية الغامضة والمؤسطرة التي تقودُ حياةَ أناسِ هذا المحيط، والبدو الموصوفين منهم بخاصة، وإلا فانظر معي، مرةً أخرى، تلويناتٍ إضافيةً من الصورة تذهب أبعد منها: «(…) جاءوا من كل النواحي. ماشين. ليلًا ونهارًا ماشين. على الأقدام. على ظهور الدَّواب. على عرباتٍ عرجاءَ غابت ببغالها وحميرها تحت كتل الآدميين (…) كما لو كانوا ذاهبين إلى موسم مولاي إبراهيم. بزادِهِم وخوفِهِم ودهشتِهِم ذاهبون ليرَوا المعجزة. ليَروا المصيبة. إلى أحسنَ من مولاي إبراهيم هم ذاهبون. إلى ما هو أهوَل. ذاهبون ليرَوا دابةً لا تتعب. تعدو وتعدو ولا تتعَب. الإنسان يتعَب. الحيوان يتعَب. وكل ما خلق الله. إلا هذه الدابة فهي لا تتوقف (…). سيارةٌ ضخمةٌ سوداء. تتبعُها غيمةُ غُبار. في توجُّس يقتحمون الغَيمة. يختفون. يُبتلَعون. ثم يظهرون عندما تبتعدُ الغيمة والسيارة. كما لو كانوا خارجين من أحلامهم في أذهانهم نفسُ الغَيمة الغامضة» (ص٢٤).
وكما يبدو الباشا شخصيةً تطفو وتغور، حسبَ مواقع تقديمِها، وتأمُّلاتِها، وحركتِها المحدودة، آخذةً تارةً هيئة قامة، وإن مترجرجةً من إعياء، وأخرى انعكاس ظلٍّ بل ظلال لها وعليها ما حولها؛ كذلك شخصية ابنه عبد المالك، النوتة الأولى في معزوفة الانقراض التي تبدأ من المقطع رقم (١)، والنوتة الأخيرة التي تنتهي به، أيضًا، في المقطع (٦٠)؛ ففي مسافة الامتداد والتباعُد هذه تحضُر الشخصية وتغيبُ بإرادة السارد، إمَّا حضورًا مشخصًا أو موحيًا وكنائيًّا؛ فهو كذلك قامة، وإن مُخلخَلةً غير سويَّة، وخفاء بحكم الغياب الذي يثوي فيه، المتمثل في التهالُكِ على الشهوات والملذَّات (جنس + خمر + سيارة)، وكذا في الانسلاخِ من المحيط العربي الإسلامي والانخراطِ في المحيط اليهودي (بقضاء جزء من حياته في الملَّاح أو الغيتو، والعيش إلى جانبِ اليهودي عطاييل وزوجتِه ويُعاشِر مرةً مرةً ابنتَهما راشا)، كواحدةٍ من علامات التفسُّخ التي تعتري عالَم الباشا وتدفعُه إلى هاوية الزوال، وما أكثَرَها!
عبد المالك، سليل الباشا يهوي من علٍ متهتكًا في الحانات والمواخير، مرافقًا للجنود والسينغاليين المحقورين، هم السود وأبوه يتحكَّم في العبيد، ولسوف يرتكب الفعلةَ النكراء، باقتناء السيارةِ التي ستروع كل ما حولها ﺑ «عويل محرِّكها يضرب أسسَ أيامه [الباشا]» (ص٢٢). وسوف يُوجِّه أكبر طعنةٍ لأبيه، لا لأنه مات، بل لكونه مات غيلة، ميتةً تافهةً حين وُجِد طافيًا في صهريجٍ بعد أن اختنَق من أثَر رفسِ جنودٍ سكاری بعثَر مالَه على شربهم فعبَثوا به من شدة الثَّمَل، مثل أي شيء؛ فإن «عبد المالك قد ثقُل إلى حدٍّ غيرِ معقول، ابتعَدا عنه فسقط بكامل طوله (…) ركَلاه وجرَّاه حتى الجدار. أسنداه عليه فمال. وتمدَّد على التراب (…) صَعِد [أحدُهما] فوق ظهر عبد المالك وأخذ يرفسُه كأنما يدُك التراب» (ص٨٧). ولأن موته يُسقِط لواءَ مستقبلِ السلالةِ بعد أن سقطَت مظلَّته من يد العبد وهو يخوضُ حركتَه لتأديبِ قبيلةِ الرحامنة. ولأنه يرى غدَه يُوارَى الترابَ أمامه وإلا فمن هؤلاء؟» رجالٌ منفوشو الشعر واللحى منكَبُّون على قدورٍ هائلةٍ يُطبخ فيها ماءُ غسل الميت. دخانٌ كثيفٌ وماءٌ كثيرٌ وأعوادٌ في حجم الشجر يفوق جثةً هشةً نحيلةً كجثة عبد المالك» (ص١٧٧). ليبقى الباشا وحده وكلُّ شيءٍ هادرٌ حوله ومنقلب؛ الفرنسيون الذين كانوا له سندًا وكان لهم عونًا دولتُهم بدأَت تدول، والبدو والمقاومون يضربون أسُس البناء القديم، والفوضى والحرائق واللصوص والأجانب المجنَّدون، وهو يعي ولا يعي؛ فإن جسَدَه ينسحبُ منه ولا يرغب في بذل أي مجهودٍ لملاحقتِه؛ لأنه قد مات قبل أن يخسر معاركه الأخيرة.
= وعدا الميتة العبثية لعبد المالك فإن الرواية لا تُعنى بالموت إلا كحالةٍ معنويةٍ مرادفة وسندٍ لرؤيا الأفول، تتنقَّل وتُعدي بكيفيةٍ مواربة، ويكون التقلُّب فوق جمرها أقسى من جُرعتِها الأخيرة؛ أي أشبه بتعذيب السلطان مولاي حفيظ للمتمرد بوحمارة الخارج عن طاعته. وبما أن الرواية اختارت، اختار كاتبها وساردها، رسمَ الإيحاء ومساحةَ ظلال المجاز التي تُغطِّي مكعَّبات الشمس، فإنها اختارت، أيضًا، رسمَ انسحابِ رُوحِ المجد والسطوة وقوة الجسد لشخصية الباشا كمهيمنةٍ كبرى، بعباراتٍ تُبقي على التفاوُت قائمًا وتُعلي من نبرة اللايقين، بما يزيدُ من تكثيف جو الالتباس الذي غمرَت فيه مختلف الشخصيات، وتعدَّدَت كما تبعثَرَت ظلاله نزواتها وأحاسيسها، ولأنها، بعد هذا وذاك، مبنيةٌ كرؤيا حُلمية، وتريد إغراء القُراء بملاحقتها كما حاول البدو ملاحقة الغبار، غبار سيارة عبد المالك التي هجَمَت على سكينة الزمن الماضي، ما لنا لا نقول كذلك على سكونية الرواية الواقعية التقليدية التي تتواتر وتتحقَّب وتتحدَّد شكلًا وتتغضَّن معنًى، وفيما هي تكتسي بالأحداث والشخوص والمرامي فصلًا بعد آخر لا نراها بعينٍ أخرى تنضو عنها أيَّ ثوبٍ حتى تَعْرى بالكامل، ينطفئ عندئذٍ، إغراءُ السفن. أما الباشا فقد مات «وهو عارف بموته. كما الجميع. لم يمُت بعدُ. سيموتُ بعد أربعين يومًا. الروح تغادر قبل أربعين يومًا (…) لا يعرف بعقله، جزءٌ من حواسِّه يعرف ولكنه يستمرُّ يتصرَّف كواحدٍ لا يعرف (…). أيامٌ معلَّقة. لا هي من الماضي ولا هي من الآتي، ويكون خلالها كأنما شخصٌ حلَّ محلَّه. يتكلم كلامًا يشبه كلامه القديم إنما ليس هو» (٧٧).
في المقطع الستين وقُبَيل الأخير، والشمس تبدو وهي تجنح إلى المغيب (شمس الحياة) تصل الرواية أو تُريد إلى ذروتها بتسنُّم أعلى اللايقين، وذلك لترسُّخ الناظم المركزي للنص أعمقَ ما يكون، ولخدمة الهدف «الاستراتيجي» لمحكيِّ رهانِ مؤلِّفه في التصوُّر والنسج وخطة التأليف أن تتجلَّى وتتبلورَ رؤيا الأفول مسلسلًا لا فكرةً يقينية، فنًّا وتخييلًا لا تيمةً معتنَقةً بطريقةٍ مبتسَرة.
(٢) المبنى
ما كنا سنضع هذا العنوان، ونلجأ إلى التقسيم لولا أن «ملك اليهود» تستدعي ذلك بإلحاح، بالنظر لتوفُّرها على جملةِ خصائصَ كتابيةٍ وتركيبيةٍ من التهاونِ عدمُ حصرها وتمييزها مفردة. هذا رغم عدم ارتياحنا للتجزيء في عملية التقويم للنصوص ذات الطبيعة التركيبية؛ أي التي يُعَد بناؤها الفني وطيدَ الصلة بل متشابكًا مع مضمونها أو رؤيتها المصوغة ومعناها المبثوت، كما يوجه هذا تلقائيًّا صناعة الكاتب.
وقد دأَب نقادٌ عديدون، وقُراء نصوص، على القول بأن الشكلَ والمضمونَ وجهان لعملةٍ واحدة، والفصل بينهما يُخِل بقراءة العمل الأدبي على ضوء مقتضياته المخصوصة. وهذا، في عرفنا، كلامٌ عام يجري على الألسنة بآليةٍ مقلقة، وغالبًا دونَ تمحيص، وإلا فهل ينطبق على جميع الأعمال ليصبح مسلَّمًا به، لا قاعدةً نقديةً مفترضةً أو مقرَّرة بدون تسويغ. هل ينطبق هذا التصوُّر على جميع النصوص كيفما رامت وأيَّ سربالٍ اتخذَت؟ هل نأخذ بهذا المبدأ لدى قراءتنا ودراستنا للرواية الواقعية، تاريخية، واجتماعية وإنسانية عامة، تلك التي مقصدُها الجوهري قضيةٌ تُثيرها أو حالةٌ ترصُدها أو خطابٌ برؤيةٍ محدَّدة تسعى لإبلاغه، كما لو أننا نقرأ روايةً تخترق قشرة الواقع، وتنشُد الغوصَ تحت أرضية المُعطَى، لا تملكُ أن تقرِّر حقيقة ولا أن تحصُر يقينًا على أي مستوًى، بل همُّها آخرُ يتكوَّن وينجلي، إن انجلى، في أطوارِ كتابتِها، ومراحلِ تبلوُر شخصياتِها وهي تُنتِج خطابَها وتخوضُ مصائرَها الملتبسة؟
إن أكبر قسم من الرواية العربية، والمغربية ضِمنَها بالطبع، لهو ذو مياسمَ حكائية، وصفية وتقريرية بالدرجة الأولى، وهَمُّ كُتابها واقعيةُ الأدب لا أدبيةُ الواقع، وبين الحدَّين بونٌ شاسعٌ في مفهومِ السردِ الفنيِّ خاصةً والإبداعِ الأدبيِّ عامة. ونظن أن الأدب الذي يُكتَب تحت ضغط الغرَض وطائلةِ الحاجةِ الظرفية، وبتأثيرٍ أو تأطيرٍ مباشرٍ وغيرِ مباشرٍ لنزعةٍ قَبْلية، وبغايةٍ تعليمية، يأتي مبناه مهلهلًا، والتخصيصُ الأدبي فيه ناقصًا، والأسلوبُ الذي يحتاج إليه كلُّ أديبٍ لكتابته مُشوَّها أو منعدمًا، علمًا بأنه لا تُوجَد في الحياة أو النفس الإنسانية مادَّةٌ أدبيةٌ وأخرى دونها، بطابعٍ مختلف. إن حِسَّ الكاتب، الذي ليس شيئًا قابلًا للتعريف سلفًا، ربما هو الموهبة، والمنظورُ الذي يمتلكُه إزاء المادة. وطريقةُ تشكيله لملامحها غير المرئية قبل ذلك، ما يحسم في هذا الشأن، رغم أن العمل الأدبي، الجيِّد، تتعدَّد أنسجتُه وتتمازَج محاليلُه، وتتدخَّل نوعية تلقِّيه في إنجازه أكثر من مرة.
والحق أن «ملك اليهود» تسمح لنا بهذا الاستطراد؛ إذ فضلًا عن شذوذها عن التيار السردي الواقعي، المسيد، وانضمامها بحكم «الشيطنة» الخاصة لكاتبها، إلى سرب المغرِّدين الذاتيين الذين لا يُفْشون الأسرار ولكن يتسارُّون بها من لسان إلى قلب، فإنها تتمثل مفهوم المبنى تمامًا، وتُلزم بالأخذ به مفردًا، وإن إفرادًا مؤقتًا، من نواحي العرض، والوصف، والأسلوب، واللغة، وتركيب الحبكة بعد صنعها، وتوشيج الشخصية-الشخصيات بالزمان والمكان والحدث في عروةٍ واحدة، بليغة النسج، محكَمة الربط، وغيره. حين تتم قراءة الرواية، وقد سبَحْنا في مجراها من النبع عودًا إلى النبع، سنُدرِك أن معناها، لو صح ذلك تسمية، هو ما سوَّغ وجلَّى مبناها، وأن هذا لحمةُ ذاك وسَداه.
ولعل أوَّل ما يَلفِت الانتباهَ في بناء الرواية تقصُّد الكاتب إلى تشييدها في مقاطع بلغَت واحدًا وستين مقطعًا، إذا ما لاحظنا تفاوُتَها في الطول فهي عمومًا مقتضَبة لا تتعدى الصفحتَين ونصفًا وقليلًا أكثر، من الكتاب ذي القطع المتوسط. هكذا تختلف عن التوزيع التقليدي للرواية في فصول، المعمول به على الأغلب في السرد الروائي. وهي تتشيَّد مثل عمارة طبقةً فوق طبقةٍ مع فارقٍ واحدٍ وهو أن تصاعُد الطوابق لا يعني بالضرورة تتابُعها رقميًّا؛ لأنها لا تفضي إلى بعضِها شأنَ المعهود في أي بناء.
إنه بناءُ تجزيءٍ لا ترتيب. الترتيب يتوافق مع السرد التقليدي المُشتغِل بحكايةٍ تتطور طبيعيًّا بحسب قانون الوحدات الثلاث. وإحداث أيِّ إرباكٍ فيه لا يمسُّ بجوهره، وإنما يُنوِّع طريقةَ العرضِ فيه؛ ولذلك فإن كثيرًا مما يُوسَم بروائيةٍ متطوِّرة أو محدَّدة في أدبنا أو عند غيرنا هو مصادرةٌ على المطلوب؛ لأن أي تجديدٍ لا يمسُّ العناصرَ الشكليةَ وحدها، بل هو تلك القطيعة الضرورية التي تقلب تصوُّر العلاقة بين الإنسان وذاته وبينهما ومحيطه في سلسلة لا تنقطع من التساؤلاتِ الاستبطانية — من هنا أهمية المونولوغ الداخلي، مثلًا — وإعادةِ النظرِ في التوافقاتِ الاجتماعيةِ والخلقية، وتبديد مفهوم الكمال في الفن والمثال في الكائن وفي الحياة معًا، بطرحِ مفهومِ البحثِ المتواصلِ في نقصٍ وحَيرة لا ينتهيان. كل تجربةٍ جديدةٍ هي بنتُ نقصانٍ مفترَض وسؤالٍ ملحاح عن يقينٍ مفتقَد أو كسر ليقينياتٍ وأخلاقيات، وقيم وأساليب، في الفن طبعًا، مُبدَّهة حدَّ السذاجة، يُنمِّط الحياة والتعبير. مثل الفرخ تضرب التجربةُ الجديدةُ قشرةَ التنميطِ وتُطِل أولًا، بحذَر على الخارج، ثم تقفز شيئًا فشيئًا لتكشف هذا الخارج بدهشتها الخاصة إلى أن تطير بجناحَيها.
يعمد فاضل يوسف، سليل هذه التجربة، إلى تجزيء المروي والمرئي والمضمَر، أيضًا، صانعًا على مستوى الشكل بنيةَ التفكيكِ التي تتوارى وتندغم في التصوُّر الشمولي (للعمل الكبرى) مع بنية الأفول، المرصودة سابقًا على مستوى ما سمَّيناه بالمعنى تجوزًا. فعلٌ ينتُج عنه تغييرٌ في الوظائف المعهودة من السرد. هنا ليس الغرضُ منه تقديمَ أحداثٍ تقع أو يُمكِن أن تقع، بل تأتي من خلال وبأداة الوصف الذي يبدو كأنه يستقل في رسم شخوصٍ أو تأثيث فضاء فيما هو جزء من حدثيةٍ سرديةٍ اختار الكاتب استخدامَها على هذه الشاكلة، وهو ما نقرؤه في أوَّل جُملةٍ من أول مقطع إشعارًا بأننا بصدَد قراءةِ قصةٍ غيرِ تقليدية:
«غبار. غبار سيارة عبد المالك ينشُر فوق السور غيومه، الباشا عند نافذته يدقِّق النظر في رؤاه؛ النهار يجُرُّ طَرفَه الأخير» (ص٥). ثم «ترك [عبد المالك] السيارة تحت العريشة. صريرُ حديدِ محرِّكِها بقي يَصرُّ في رأسه. رأسه المحلِّق في الأعالي. المدوخة في رأسه ريح ليست كالريح (…) صريرٌ وريحٌ وأمواجٌ ورمل (…) البشَر حوله ضئيل، هش. والجدران كالحَصَى. الكائنات حوله ضئيلةٌ وهشَّة وتتحرَّك في رعونةٍ على حافةِ حُميَّا انسيابِه المُجلجِل» (ص٧).
إننا أمام صور من شأنها، في مدخل الرواية، أن تمهِّد للحدث/الأحداث (للقصة) التي لا شك ينتظرها القارئ، ولن تأتي متعاقبةً إذا أتت، وإنما ستتضعَّف بالإيحاءات كإرساليةٍ غيرِ مباشرة تعيِّن مادةَ الحكي وتُفيد بدلالتِه بواسطة مرسلٍ مجازي. يعرف الكاتب المجرِّب أن الجملة الإنشائية-الاسمية، بوصفيَّتها وشحنتِها الرمزية المكثَّفة ليست هي السرد بمعناه المخصوص؛ ولذلك يعودُ بوعيٍ إلى الجمل الفعلية، الإخبارية والتقريرية، كجُملٍ محمَّلةٍ بوظائفَ وبرامجَ محدَّدة. ثم يستمرُّ النصُّ متراوحًا بين النسقَين وإن انشَدَّ أكثر إلى جاذبية التعبير بالصورة، بطرفَيها المعيِّن والموحي، الأليَق بأزمة الانهيار التي يعيشها الباشا، وتشترك فيها شخصياتُ وعناصرُ المحيطِ كلها في تفسُّخٍ مريع؛ لذلك فإن المقاطع هي بمثابة أمشاجٍ لرداء زمن الباشا الذي يتفسخ (= وهو تاريخٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ وثقافي)، ومن شأن الرواية أن تغوصَ في موضوعها، أن تستقرَّ في قرارته كلما ذوَّتَت هذا التاريخ، وأزَّمَته بإعطائه هويةً ذاتيةً إشكالية، وإن بدت ملامحُها ظاهرةً للعيان.
يلحق التجزيء أيضًا، بل وأساسًا، بنية الجملة. بنية مقطَّعة كجسَدٍ مفكَّك الأوصال. مفصولة عن الزمان فتُلغى آليتُها الفعلية، وعن المكان ليتقلَّص ارتباطُها بالفضاء العام أو آليَّتها الاسمية؛ هكذا تبدو جملةً مجانية، وعرَضية، بينما هي جوهرية: «صفرة الجير. صفرة لونه على الجدران تجعل الضوء خسيفًا. مربَّع ضوء الشمس وسط باحة الضوء أصفر. جلسَت اليهودية على حافة هذا المربَّع. متكئة على قطعةٍ من صفرة الجدار تفركُ في فراغ الفناء الذي أمامها سيرة الملاح …» (ص٣٣).
في مقطعٍ مقتضَب كهذا تتكرَّر كلمةُ أصفر أربعَ مرات، وهي سواء جاءت نحويًّا مبتدأً أو نعتًا فهي مفردة صفة تنوب عن الجملة السردية التقليدية ذات التحديد المقصدي، وهي عمليًّا تُلغيها، بتغيير وظيفتِها وتعويضِها كعلامةٍ سيميائيةٍ دالَّة على جو، ومعضِّدة لمعنى، وناقلة لخطاب. وكأداةٍ من أدوات استراتيجية السرد الأخرى في هذا العمل، هذه التي نرى التعبير بالصورة أنجعَها. والواقع أن فاضل يوسف، سواء في التوزيع المقطعي للرواية، أو في أسلوب السرد، أو من جهة درجة استخدام العنصر الوصفي وتأثيث الفضاء وشغله ماديًّا وبشريًّا بكثافةٍ وشاعرية، أو من ناحية البتر المتمادي لكل الزعانفِ الفائضةِ عن جسَد النص، في واقعيَّته وأدبيَّته الروائية؛ هذا كله وسواه كان يكتُب بالعين، ويسردُ بالعدسة. بذا جاءت «ملك اليهود» متخفِّفة إلا مما هو ضروري، ومن ذلك عبارات الحوار الخام فيها، لا أقلَّ ولا أكثر، وإذا نفضنا منها التعابير المجازية، والظلال المائسة القلقة؛ حيث تأوي روح الباشا مختنقةً بعد احتراقها بنار مجدها السابق، فإننا واجدون هيكلًا مقدودًا لسيناريو شريطٍ سينمائيٍّ لا يحتاج ليُصبِح جاهزًا إلا إلى إضافاتٍ تكميلية، وإلى إعادة ترتيب المقاطع — طبقات العمارة — المتداخلة فيها الأزمنة والأمكنة ليتيسَّر تلقِّيها من لدن الجمهور، وهذه ولا شك كتابةٌ أخرى.
من خصائص الرواية الواقعية، التقليدية، أعني المنسجمة في رؤيتها كيفما تأجَّج الصراع فيها وبلغَت درجاتُ التوتُّر السردي كتابيًّا، أن كاتبها يُقدِّم نصَّها للقارئ ناجزًا، يحسبُه مكتملًا من جميع النواحي وفي ذهنه طلَب نشدان الكمال. ثانيًا، وبما أن هذه الرواية إما تُكتَب على ضوء خطاطةٍ ذهنية، أو مَسُوقة في قصديةٍ وبنزعةٍ ملتزمة — وفي ذهنه وحده لا غيره — تجد طريقَها ملساء، وهي مطوَّعة ومشروحة؛ إما يرشد السارد إلا جميع مسالكها، وإما تُقرر أفكار ومشاعر شخصياتها بعد أن تكونَ أحداثُها على مقاسات الخريطة الاجتماعية التاريخية. أما الرواية الجديدة فهي تُخفي أكثر مما تَكشِف وتُقرأ وهي تشفُّ ولا تفضَح، ما غرضها الإبهار بالإبهام المستغلق في ذاته صنيعَ ذلك التنطُّع الذي ينتأ في نصوصٍ لم تستوِ بعدُ أدواتُ أصحابها ولا يقبضون كما ينبغي على الشيء الروائي؛ ذلك أنه شيءٌ مثل كرة تُرمى في ملعب، وينطلق اللعب/المنافسة لكسب رهانها، أحسب بين فرقة الكاتب، من جهة، وفرقة القارئ، من جهةٍ ثانية، والفوز هو المتعة التي يحصِّلها كل طرف. وعلى هذا الأساس تصبح الكتابة التي تُكتَب، زعمًا، من طرفٍ واحد عمليةً مزدوجةً طرفُها الثاني شريكٌ لا غنى عنه لإجلاءِ مناطقها الخفية والبَوحِ بخطابها المضمَر، وتركيبِ ما بدا، يبدو، مُجزَّءًا في التركيب ومتباعدًا زمنًا ومكانًا. هذا الشريك قارئٌ إيجابي، محفز نعم بحواسِّه القرائية (الذوق، الثقافة، المراس، اللعب … إلخ)، من غير شك، لكن هناك أدوات تحفيزٍ أقوى، في ظني، هي التي يُلقي بها الكاتب (اللاعب الأول) في ملعب الكتابة (يصيب، بعد ذلك، مرمى القارئ)، ذاتها أدوات السرد ومادته في كيف يعطي ويبقى. يُطِل ويتوارى. يقول ويزمُّ شفتَيه حتى لا يبقى إلا الصمت، أو كلماتٌ قليلةٌ صغيرة. وعباراتٌ كأن واضعها اقتناها من سوق (للكلام) نفدَت منه الكلمات؛ ومن ثَم يستخدمها بقَدْر الحاجة القصوى وكأنه ناسك؛ فهو يضفي عليها من روحه فتَشعُّ مثل قطرة زيتٍ تسطع بنورِ قنديلٍ ويستضيء بها فضاءُ النص الرحب. وكأنه نبيٌّ؛ فالكلمات على لسانه رسولية؛ فما يقول إلا ما يَلزَم أن يُقال، وبجمال. كذلك هي «ملك اليهود» لم تَستعِر هذه الخصائص بل أنجبَتها من رحم تُربة الأفول الخِصبة التي كانت تحرثُها، صنعَت بناءً حسنًا يليق بساكنه الذي زحف عليه زمنٌ جديد، وأجهز عليه يوسف فاضل بنثرٍ لا عهدَ للروايةِ العربيةِ به ليترك الباشا «بلا سلاح. وبجسد لم يظن في يوم من الأيام أنه سيكون جسده (…) جلدة مكرمشة. حافة. اصفرَّت. مصَّ التقحُّل ماءها. وازرورَقَت. ولم تعُد تُغري سوى بأن تُلقى في أقرب زبَّالة. ولِمَ لا يحشرونه في غرفةٍ سفليةٍ بعيدة. هذه رغبته الأخيرة (…) في هجعةٍ أخيرةٍ هادئة. متقوقعًا على نفسه. يُنصِت إلى شبه تعاقُب الأيام الذي ينقطع. ولا يهمُّه أن تمُر العاصفة أو لا تمُر وما قد تحصُده أولا تحصُده في طريقها. استرخت أساريرُه بعد توتُّر طال. وبدأَت العيون تنسحب. والأيادي. وضرب المطارق. وصَعدَت رائحةُ احتراق الأعواد في الأسفل؛ ما زالوا يغلون الماء [لغسل عبد المالك الميت]. هذا آخر ما راه؛ صورتُه وهي تُجاهِد في أن تضحك. قبل أن ينسحبَ ضوءُه شيئًا فشيئًا كنهرٍ جَفَّ قطرةً قطرة، بعد أن بلَغ مداه، إنما دون أن يحظى بشرفِ لمسِ طرفِ المحيط» (ص١٨٠).