مدخل لأدب التجريب: لعبة «الشبابيك» في مكانٍ آخر
إن الأمر يخُص التذكير بماضٍ بدأ يبهتُ في الأذهان لسببٍ غامض، وكأن التحديث هبةٌ نزلَت من السماء، وضرورة استرجاعِ لحظاتٍ ومحطاتٍ حاسمةٍ في التبلور النصي للإبداع السردي الحديث في تربتنا الأدبية، وخصوصًا ظهورَ النص المحدث، المطور لكتابة العتبات والتكوُّن البدئي. ونحن نعني قصصًا بدأَت تصدُر بكثيرٍ من التقطُّع في الأركان الثقافية لبعض الصحف الوطنية راسمةً منحنًى جديدًا في التصور النوعي لجنس القصة القصيرة، وغرضيَّتها، ومادتها أصلًا، فطريقة أو طرق الصوغ المعتمَدة فيها، وإجمالًا بداية «انتهاك» ما يمثِّل هُويَّتها الواقعية بتجلِّياتها المختلفة، كما تلاحقَت منذ منتصف العقد الأربعيني، في مطالع ظهور الأدب المغربي الحديث، وصولًا إلى مطالع العقد السبعيني، الذي سيشهَد ما يُمكِن أن نصطلح على تسميته ببروز أدب المنعطف، والذي يُعَد الإبداعُ السرديُّ مَعلَمه الأبرز.
لقد كانت القصةُ القصيرة، وكل ما هو مكتوبٌ بنسيج السرد الفني أو على مَحمَله، تتوخَّى عرضَ حكايةٍ منظَّمة، منظَّمة متناظرة المقاطيع، بلا أبعادٍ أو نتوءات، تُوضَع في حدودٍ غرضيةٍ قبلية، وبغيةَ إبلاغ رسالةٍ قصديةٍ أو ملتوية، ذات محمولٍ أخلاقيٍّ أو تبشيريٍّ أو سياسيٍّ وطني، أو اجتماعيٍّ منتقد، وأحيانًا وفي النادر، يُشَم منه نفَسٌ ذاتي. لقد كان السرد عمومًا مسألةَ موضوع، وأداةً من بين أدواتٍ أخرى لتيسير سبل النقد والإصلاح، بل والدعوة إلى التغيير في حدٍّ أقصى. وهو بذلك، أيضًا، كان تعبيرًا ولكن من حيث إنه منقادٌ إلى تعبيرٍ أعلى منه، عنوانُه الضميرُ الوطنيُّ العام، والقيم الكبرى الممثِّلة لروح أمة ووجدانها وسيادتها ونهج خلاصها.
من الطبيعي، والحالة هذه، ألا يكون المرادُ من الفن عند القصِّ أو في القص، إلا أقله، حتى ولو تسربلَت الكتابة عندئذٍ بلبوسٍ ومقاساتٍ معيَّنة لتُوحيَ بالفن وتكتسبَ بعض إهابه. وإن من الحق أن تقول إنها — أي الكتابة السردية — لم تكن خلوًا من ذلك الأثَر، ولا عزلاء من جهة الميسم الفني؛ لأن أصحابها وجَّهوا يَراعَهم بقوة الأشياء نحو هذه الاتجاه فكان لا بد من أن يُراعُوا دليله، وأن يقتفوا الأثَر الصحيح للعثور على ضالَّتهم فيه، فيتحصَّل لديهم ما تيسَّر من الفن يُطرِّز الرسالة ومضمون اللوحة المرسومة، وفي الوقت نفسه يأتي مظهرًا على ما وصل إليه جنسٌ أدبي ما فتئ يتأسَّس، ويتخذ له أبنيةً وألوانًا.
إن غلبة الموضوع لا ينجُم عنها انقياد الكاتب أو القاص للمدلول أكثَر من عنايته بالدالِّ أو تطويعه له، بل وإلى جانب ذلك تغليبه للنمط على كل خصوصي، وللعام العمومي جدًّا على أي ذاتيٍّ مُحتمَل. ومعناه أن الذات ملغاةٌ وليست في واردِ أيِّ كاتب، يكاد الاحتفاء بها يمثِّل ضربًا من البدعة التي تمسُّ قداسة الدفاع عن الأخلاق والقيم الفاضلة والوطنية الكبرى، وتتعارض بالطبع لاحقًا مع مفهوم الالتزام الطبقي المُلزِم للأدباء جميعًا، من وحي أيديولوجيةٍ دوغمائيةٍ ومسطَّحة، على غِرارِ ما ساد في الحقبة الستينية كلها، وما بعدها بقليل، ولم يجعل من الأدب أكثر من ذيلٍ للسياسة أو لواحدٍ من حساباتها المختلفة.
هذا غيضٌ من فيضِ ما ينبغي استحضارُه ونحن على عتبة المجموعة القصصية «الشبابيك»، خاصةً في مرحلةٍ من تاريخ الأدب المغربي المعاصر والمحدث، اختلطَت فيها المفاهيم، وتضبَّبَت الرؤى أو ضاعت تقريبًا. وتَلِفَت المقاييس في المعالجة النقدية التي راحت تعتبر الخواطر والكلام المرسل على عواهنه إما شعرًا أو قصًّا، وخاصةً قصًّا، يُقال عنه إنه يجترح تجربةَ تخطِّي حدود الأنواع الأدبية، أو صهرها في بوتقةٍ نصيةٍ واحدة (كذا)! وهكذا بضربةِ لازب. والحال أنَّ من يتأمل أو يقرأ بأناةٍ تاريخَ وتطوُّر النصِّ القصصيِّ في الأدب المغربي سيلاحظ كيف أن تجربة كهاته — بدون أن تتخذ أي تسميةٍ مزعومةٍ بلا سند — كانت تُرسي دعائمها بتُؤَدة من خلالِ تفكيكِ الإوالياتِ التقليديةِ للقصِّ الواقعيِّ المُتناسِب مع تنضيدٍ اجتماعيٍّ محدَّد، وضبط إوالياتٍ مغايرة أنسب ليس لرصدِ ووصفِ الحالاتِ الخارجية، بل وللبَوح بمكنون الذات، وإطلاق العِنان لمخزون المتخيَّل المكبوح.
هكذا حين نصل في سِفر كتابة التازي إلى مجموعة «الشبابيك» فإننا سنجد هذا القاص قد احترف التجريب بصفةٍ نهائية، والتجريب هنا لا بمعنى الحذلقة الفنية أو الاطراح الأخرق لقوالبَ وصيغٍ جاهزة و«متبذلة»، بل يعني جوهريًّا ربطَ علاقةٍ فوق واقعية مع المُعطَى اليومي، والتفاعل الحي مع الزمني عَبْر الزمنية، واعتبار الفرد مركزًا وليس محيطه هو القضية، وتبديد مفهوم أي مركزيةٍ من أي نوع، قائمةٍ أو مفترَضةٍ لصالح الجزئي-الجزئيات والنادر العبقري؛ أي حيث مصدَر الخلَل وموضع تشكل المفارقة؛ وقبل هذا وبعد ذاك انفساح مساحة الحُلم التجريبية هي هذا كله، ومعها ممارسة اللعب الفني الموظِّف لكل الأدوات بوعيٍ ويشبه مقامرةً في آنٍ واحد، وهو ما يُولد في كل حينٍ «سردًا» خارج النَّسَق حتى لانسقيَّتة هي نسقُه الوحيدُ الممكن.
إن مجموعة «الشبابيك» هي بمثابة مختبرٍ آخرَ لهذا النهج، والقصص المتضمَّنة فيها، لو صَحَّ تجنيسُها كذلك، تصنع كل واحدةٍ منها نسقًا ينقُض ما قبله فما بعده، ولكنها في الآن عينِه بمثابة جداولَ تؤلِّف وتصُبُّ في المجرى المتحرِّك لكاتبها، فلنختبرها عن كتَب:
= في قصة «حديقة الأرواح» فإن السرد ينهض على تقنية توالُد وتوليد الصور والقصة أو محكيُّها هو صورٌ موَّلدة بتعاقب. ثم القصة ومحكيُّها صورٌ مستعادةٌ بتقاطُع وتداخُل. والقصة كذلك عَنقَدَةُ الصور وضفرُها.
لا يهم هنا ماذا يحدث، ولكن كيف يحدث ما لا يحدث. الكيف يُحيل على الكاميرا، العدَسة التي تلتقط الصور، تصوِّرها وهي تحدث لحظة، لحظة؛ كل شيء يتحدَّد بما يحدث صورة في صُورٍ متوهَّمة أساسًا، وكأنها تحدُث فعلًا ولا شيء من ذلك.
= في قصة «أسطورة الشمال» يكون التذكُّر هو إيقاع السرد بواسطة تداعي الذكرى واسترجاعها، كأن ما تحكيه القصة يحدُث للمرة الأولى، ثم مرتَين، ثم إلى ما لا نهاية حتى يعود إلى أصله؛ أي يصير ذكرى من جديد، ما ينجُم عنه تجريدُ الزمن، المفضي بدوره إلى زمنٍ آخر.
وإذا كان الزمن عمومًا يحتاج إلى مكان، وعلى الأغلب يقترن به فإن «أسطورة الشمال» تؤكِّد هذا المبدأ إنما ذلك التأكيد الرامي إلى «تسفيهه» بنقضه واتخاذه مجرَّد مطيةٍ لتحرُّكٍ مطلَق في فضاء التخييل. وهكذا يصبح تشخيص المكان ثم إلغاؤه أو تبديده معلمًا آخر من معالم المغايرة في رؤيةٍ قصصيةٍ قوامُها تشظِّي عناصرِها التي تحتاج في النهاية إلى إعادة تركيب بواسطة التلقي الواعي والمتخيل الذي سيسعى للقبض على الأشياء، كما سيحاول الانزلاق فوق سطحِ زمنٍ ينساب، ومعه تنساب حفنةٌ من الذكريات في مكانٍ ما من الشمال. هذا الانسياب في حد ذاته هو الحكاية، وهو «لسان الحال المبتور».
فعلًا، إننا أمام تعدُّد في الحكايات لا حكايةٍ واحدة، أو قل إن هذه تتشظى إلى محكياتٍ صغرى لا من حيث عناصرها الخبرية، ولكن في خطابها أو ما تُوحي به. ثم إنها تتقاطع في بؤرة الرؤية وليس الخبر، فتُقاطِعها، من نحوٍ آخر، من حيث إنها تصُب في مجرى شخصيةٍ واحدة (إنها على الأقل توهَّمْنا بأنها مُفرَدة) ساردةٍ ومتأملةٍ وفاحصةٍ للعواقب. وفي النهاية يُراد مزجُ كل شيء للخروج بمحلول منسجم.
خاصيةٌ تتجدَّد وترسخ في نسيج السرد وبنائه «شخصية تبحث عن أكثر من مؤلف»؛ حيث أنا هو (آخر) اسمه رضوان، يُعبِّر عن تضايقه من أشياء وأحوالٍ كثيرةٍ حوله. هكذا تسردُ الأنا أناها بوسيط، لكن ما تسرد؟ من أجل العثور على جوابٍ متوهَّم يُلقي إليك بالطُّعم، بالغواية، فيما اللعبة في مكانٍ آخر.
نظن أن الوصول إلى هذا المكان، وتعيين موقعه الحقيقي، أو النسبي، داخل خريطة السرد الفني أبلغُ عندنا من الملاحظات والتشخيصات السابقة كلها. ونظن كذلك أنه ليس بوسعنا القيام بذلك على الوجه الكامل من الوضوح والتفصيل؛ لأننا عندئذٍ سندخل حقل إعادة التجنيس الأدبي كله، وما اختص منه بموقع النص الأدبي السردي المكتوب في المغرب على غرارِ نصوصٍ عربيةٍ أحرى وأجدر. مثل هذا الدخول يتطلب منا التزامَ الحذَر، والتسلُّحَ بأكبر قدْرٍ من النصوص، وطرحَ كثيرٍ من التمهيدات كمقدماتٍ مطلوبةٍ للوصول إلى بعض الاستخلاصات، ومن جملتها فيما نحن بصدده: تبديد بعض «خدَع» محمد عز الدين التازي الذي يوهمنا في المجموعة، بكتابة قصص، في نصوصٍ منفصلة، بعناوينَ مستقلة. لكن لا شيء يُلزِمنا باتباع هذا الدليل؛ ذلك أنه فضلًا عن أن تجنيس الأغلفة يمكن أن يكون اعتباطيًّا أو اتفاقيًّا لإبرام ميثاقٍ مفترَض، أو لاعتبارات السوق نفسها؛ فضلًا عن هذا وذلك بوسعنا إنجازُه قراءةً مختلفة، هي جزءٌ من التلقي والتأويل، وجزءٌ أيضًا من كَسْر الأطُر التقليدية للمراسيم النقدية القائمة على «بروتوكولات» ثابتة لا تتزحزح.
مختصر نظرنا أن «قصص الشبابيك» هي نصوص قصصية-حكائية، تُسلِس القياد لبعضها، لا فيما تحكيه بالضرورة، ولكن في الفضاء العام الذي تتحرَّك فيه شخوصها، والهواجس التي تستبدُّ بها، والمواد الحُلمية التي تعمُرها أو الاستيهامات العامة السابحة فيها، ما يصنع في النهاية رؤيةً مشتركةً موزَّعةً بتدرجٍ وعَنونةٍ مختلفة لتصوغَ ما نعتبره نصًّا واحدًا. وسواء قصد الكاتب إلى ذاك أو لم يقصد، خطَّط له أو التحق به من غير قصد، فإننا مع «الشبابيك» أمام تجنيس آخر، ولستُ أنا من سيُلحِق المجموعة بجنس/رواية مثلًا. ورب سائل، إذا لم تكن هذه النصوص قصصًا قصيرة ولا تتجنَّس بالضرورة رواية، فماذا تكون يا تُرى فنًّا؟ جوابُنا أن هنا لُعبتَها، ذلك اللعب الذي يحتفظ بسرِّه، وسحرِه في كونه يلعب في هذه السيرورة النصية التي تتشكَّل، إلى أن تستنفدَ طاقتَها ببلوغ كمالها أو اكتمالها؛ أي الحدود العليا لتجنيسها، وهكذا.