وفد
نقلت الصحف من أنباء سورية أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر حكيمها وحكيم العرب أبي العلاء، وأنها تعد العدة من اليوم للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، فإن الأمد لا يزال بعيدًا بيننا وبين ذكرى وفاته، إلا إذا كان الغرض التقريب لا التحقيق، ولا حاجة إلى ذاك لقرب ذكرى الميلاد.
•••
تمثلتُ مندوبي الحكومة السورية يحملون قرارها إلى شيخ المعرة، ويبلغونه أنه سيبنون تابوتًا على قبره، وأنهم سيدعون علماء المشرق والمغرب إلى موطنه للاحتفال بذكرى ميلاده. فماذا يقول؟ وماذا يقولون؟
إن الشيخ ليتململ في مضجعه بعد أن استراح فيه مئات السنين، وإنه ليخاطب جدثه اليوم كما خاطبه وهو في قيد الحياة وقيد المحبسين:
ثم يسأل متثاقلًا: من أنتم؟ وماذا تبغون؟ فلا يُعلمونه من هم وماذا يبغون حتى يتهاتف قائلًا: أتبنون لي تابوتًا؟ أما قرأتم أو سمعتم قولي:
فيحار الجماعة، ولا يدرون بماذا يجيبون. ولكنهم حريصون على إقامة التابوت، وعلى تمجيد الرجل وتشريف مدفنه وتشريف ذكره، وسيكون بينهم ولا ريب أناس ممن عركوا السياسة وحذقوا أساليب الخطاب والتدرج في المجاملة والإرضاء، فيقول قائل منهم: أيأبى مولانا الكرامة والتشريف؟!
فيجيب الشيخ:
ثم يقول:
ثم يقول كما قال من قبل:
فيُلهم أحدهم أن يراجعه ببيت من كلامه، وأن يذكره أنه ليس بميت وإنما هو حي خالد، أوليس هو القائل:
فيأنس أبو العلاء إلى ما سمع، ويعجبه أن يُروَى له شعره بعد مئات السنين، ويسألهم: وماذا تريدون الآن من جمع الجموع حول هذا التابوت الذي تبنونه؟ أتراكم تمدحونني وأنا القائل:
فيجيبه أريب كَيِّسٌ من القوم يعرف كيف يتسلل إلى كمين الرضى من سريرة الشيخ، ويقول له: بل نثني على أنفسنا وعلى بلادنا بما أنجبتْ من فضلك وأحيت من ذكرك وحفظت من أثرك، فإنما يعيبنا ولا يعيبك أن ننسى هذا ونتمادى في نسيانه، ولن يضيرك أن نكف عن مديحك وأنت القائل عرفانًا بقدرك:
ولكنه يضيرنا كل الضير أن يثني عليك الغرباءُ ونحن سكوت، وأن يمدح الناس من ملل الأرض حكماءهم وشعراءهم ولا نمدحك ونُشيد بمناقبك وسجاياك.
وكأنما يطلق ألسنتهم إصغاء الشيخ وارتياحه وما يعهدونه فيه من حب الصراحة والفكاهة، فيقول منهم قائل: ثم ماذا يخيفك اليوم من المديح، وقصاراك من خوفه أن تحسب أنك سخت في باطن الأرض؟! لقد أصبح الخيال حقًّا والحسبان واقعًا، وجربت بطن الثرى مئات السنين؛ فلا ضير عليك اليوم أن تسمع من المديح الدواوين والأسفار!
•••
فيضحك الشيخ ويتفسَّح للحديث ويجري معهم في مجراهم فيقول: لا يغرنَّكم يا أبنائي أنني أزهد في المديح وأنني أسكن إلى الزهد فيه وفي المجد والسلطان، فما أبرئ نفسي من كبرياء، وما أزعم أنني اخترت العزلة والفاقة عن صغر في المطامع أو قناعة بالحظ الوضيع، ولكنني لا أرى لأحد عيشًا في هذه الدنيا إلا أن يسودها أو يستخف بها ويعرض عنها:
وما أتيح لي أن أصبح مليكًا في المعاشر، فأصبحت باختياري راهبًا متبتِّلًا أُعرِض عن الدنيا ولا أريها أنها هي التي أعرضت عني وبخست من حقي!
فيقول قائل منهم: نعم أيها الإمام. لقد كررناك حتى فهمناك كما قلت في بعض شعرك:
فما تخفى علينا خافية من هواجس ضميرك ولا تغيب عنا خالجة من خوالج طبعك، وإنك لمناضلٌ مكبوح ومغامر محبوس، وإن نفس الزاهد منك لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير حكمه، ويأنف أن يموت حتف أنفه، وقد عشت هكذا في عالم الرأي آمرًا لا يأمرك الحاكمون، وأبيًّا لا يخضعك المغلوبون، وتمنيت يومًا:
وترددت بين القلم والسيف فقلت:
ويقول الشيخ مبتسمًا: لقد أحصيتم عليَّ فلتات اللسان وشوارد الأماني وشطحات الأوهام، وعملتم بوصيتي حين قلت:
ولكني كنت أوثر لو نسيتم بعضه ومنه هذا الذي ذكرتموه، فما أحسب إلا أنني حاذفه من جملة كلامي لو تمكن من تلك الأوراق التي حفظتموه فيها، فاحذفوه!
•••
ثم يخطر لبعض الحاضرين أنها فرصة لا تُضيَّع، فيسألونه: ألا نحمل إليك تلك الأوراق فنراجعك فيما تُغيِّر منها وما تأمر بمحوه، بعد أن تنظر في الدنيا نظرة وتطَّلع منها على ما استجد من حالها وتبدَّل من خلائق أهلها!
فإذا الشيخ يتجهم هنيهة وقد عاودته سوداؤه وانقباض صدره وذهب يقول: أما خلائق أهل الدنيا فإنما يتبدل الرأي فيها لمن يراهم على إحدى حالتين: فمن قال إنهم كانوا في غابر زمانهم أهل ورع وصلاح وأصحاب كرم وتقوى. ثم عدَت عليهم عوادي الزمن فصدوا عن سبيل الخير؛ فذلك خليقٌ أن يصف منهم شأنًا، ثم يعود بهم إلى شأن غير الذي وصف.
ومن قال إنهم اليوم جاهلون وغدًا يعلمون، وإنهم اليوم على عوج وغدًا يستقيمون، فذلك أيضًا خليقٌ بتبديل الرأي في الناس عصرًا بعد عصر وأمَّة بعد أمَّة.
وما أنا هذا أو ذاك؟ أنا قد بلوتهم فعلمت أنهم هكذا كانوا منذ كانوا:
ثم بلوتهم ورجوت صلاحهم واستأنفت الرجاء فيهم وعجبت من أمري معهم على شدة علمي بهم، وما زلت أستغرب من تلك الحال التي أحاولها وتحاولني:
حتى انتهيت إلى رأي لا يتبدل:
نعم ذاك الذي ما استطعته ولن تستطيعوه، ولكن:
وتذهبون في كل مذهب وتطمعون في كل مطمع، ثم تعلمون بعد خطأ لا تزالون ترجعون إليه أنه:
فهو داء عياء ليس له شفاء، وكنت أزعم أن الموت يبرئ الخلائق منه فهأنذا معكم لم أكد أشعر بظل الحياة حتى استرجعت من دائها كل ما كنت أشكوه وأعالجه وأرجو الغلبة عليه. كلا يا أبنائي: لا تحذفوا حرفًا مما كتبت في خلائق الناس، أو احذفوه كله فما هو بضائركم أن تجهلوه، وهو منا ومنكم في الصميم، وإنه لباقٍ في النفوس إن زال من الطروس.
تمثلت هذا الحديث بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة السورية إليه، وأخال أنني على صواب حين أزعم أن الشيخ في طليعة الحكماء الذين لا يغيرون ما قالوه في هذا المعنى بعد آلاف السنين، لأنه لم يؤمن بالنكسة بعد العلاج، ولم يؤمن بالتقدم والارتقاء، فيتطرق الخلاف من أحد البابين إلى مجمل ما قال. لكن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلًا لتغيرت فلسفته جميعًا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرًا من سقط الزند وكثيرًا من اللزوميات، ولخرج بديوان يقرأه القارئ فلا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود؛ لأن تغيير تلك الشيمة يخرجه خلقًا جديدًا لا يمت بقرابة ذهن ولا بآصرة نسب إلى ذلك الحكيم الذي عرفناه.