حكم وحكمة
كان أبو العلاء قد أقام في بلاد الإنجليز بضعة أيام، شَهِدَ في خلالها مجامع العلم والأدب ومعاهد الفن والرواية، وسمع الكثير من أنباء السياسة العالمية، وأنباء الأزمة التي أخرجت وزير الشئون الخارجية، وأعجبه نمط الحكم وانتظام الأمور بين الحكام والرعايا، فجلس يحاور تلميذه وتلميذه يحاوره، ويأبى التلميذ إلا أن البرلمان هو أساس هذا النظام وسبب هذا الاعتدال في تدبير الأحكام، ويأبى الحكيم إلا أن الأمة التي تنجب البرلمان تعرف الحكم الصالح بغير برلمان، فلو لم يكن فيها نواب وناخبون، لكان فيها الحكم كما ينبغي أن يكون، لأنها هي المرجع وهي الأساس، وكل ما عدا ذلك فهو صور وأشكال، يأخذها أناس وينبذها أناس.
قال التلميذ: بل الرأي هنا للكثرة من سواد الأمة، وما على الحكام إلا أن يطيعوا ما يأمر به هؤلاء.
قال أبو العلاء: وهل للكثرة من السواد رأي؟ إن الله يقول: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ويقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله.
قال التلميذ: ويقول: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ.
قال أبو العلاء: ونسيت أنه جل جلاله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ويقول: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
قال التلميذ: فماذا يسمي الشيخ هذه الحكومة التي يسمونها هنا بالحكومة النيابية؟
قال الحكيم: أسميها الحكومة النيابية واختلف ما شئت في معنى النيابة وفيمن ينوب وفيمن ينيب. فالرأي لأهل الرأي والحكم لأولي الحكم، والطاعة لمن يستطيعونها، ولا مشقة في الطاعة على سواد الناس إذا صلحت الأحوال وتقابلت الأهواء، فلا غلبة من هنا ولا هزيمة من هناك، ولا بأس من تبدُّل الأمور كلما اشتدت سطوة فريق واشتدت معها شكاية فريق.
•••
قال التلميذ: أكاد يا مولاي أن أتابعك في قولك وإن كنت تنظر إلى زمان غير زمانك، فالحق أننا هنا بين أمة توازنت جوانبها فقَلَّ فيها الجور وكثر فيها الاعتدال: إن طغى النبلاء صمد لهم كبار التجار، وإن تجبَّر العِلية أو تمرد السِّفلة صمد لهم أوساط الناس، وإن تحكم رجال الدين قابلَهم رجل العلم، وإن صال الجند والقادة في البر فهناك الجند والقادة في البحار؛ تقابل وتوازن لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا فصل فيه لتدبير فئة على فئة، وإنما هو من صنع الجغرافية ومن صنع التاريخ ومن صنع الفئات كافة، وما داموا على هذا فهم في صلاح دائم، وأخشى أنهم لا يدومون.
وإن التلميذ ليوشك أن يمضي في مقاله إذا بحاجب الباب يحمل إليه رسالة من وزير الشئون الخارجية المستقيل، وإذا بالوزير يطلب الإذن في مقابلة الحكيم، وإذا بالحكيم يسأل التلميذ ويعجب: ما خطب الرجل وهو في أزمات محرجات لا يفرغ فيها الساسة للأدب والأدباء ولا للشعر والشعراء؟ والتلميذ يشرح له بعض ما يعلم من شأن ذلك الوزير، ومن شئون سائر الوزراء في تلك البلاد.
قال التلميذ فيما قال: إنه يا مولاي يعرف اللغة الفارسية.
قال أبو العلاء: ولكني لا أعرفها.
قال التلميذ: أعلم ذلك، ولكنه يا مولاي قد اطَّلَع على شعر حكيم الفرس الخيام ويعنيه أن يلقى حكيم العرب أبا العلاء، وهو فيما يسحبه بعض أدباء الغرب أستاذ الشاعر الفارسي، وفاتح هذا الطريق في آداب المشرقيين.
قال أبو العلاء: أوَكثير من وزراء هذا البلد من يعنى بهذه المطالب؟
قال التلميذ: غير قليل؛ فمنهم من يكتب في الحكمة والعلوم، ومنهم من يكتب في نظام الشعوب وتدبير الممالك، ومنهم من يكتب في الخطابة والتاريخ، ومنهم من يكتب في الطير والسمك، ومنهم من يكتب في مشاهد الطبيعة ومحاسن الفنون، ومنهم من ينقد أهل الفن والأدب فيتفق له من صائب النقد ما ليس يتفق لرجال هذا المقام وفرسان هذا الميدان كما يقولون. أيذكر مولاي تلك الروايات التي شهدناها في معاهد التمثيل فأعجب الأستاذ ببعضها وسأل عن كاتبها؟
قال المعري: تعني الرجل المسمى «برناردشو»؟
قال التلميذ: إياه أعني.
•••
فعاد المعري يسأل: وما شأنه في هذا السياق؟ أهو وزير من أولئك الوزراء؟
فأجابه التلميذ: كلا بل هو أديب كتب عنه عشرات من الأدباء، فلا أذكر أن واحدًا منهم أصاب في نقده ما أصاب الوزير الذي قال في شخوص رواياته: «إنها تظهر في الحياة لا لما تعمل أو تكون، ومع هذا هي صالحة للحياة.»
قال أبو العلاء: صدقت يا بني فما أعرف لذلك الكاتب المقوال صفة أوجز ولا أصدق من هذه الصفة. فمن يكون الوزير القائل هذا؟ أهو زائرنا اليوم؟
قال التلميذ: ذاك يدعى شرشل وزائرنا يدعى إيدن، وكلاهما في ميدان الأدب ومناصب الحكم سواء، وإن كان هذا أدنى إلى المسالمة وذاك أدنى إلى الصرامة والنضال.
فأطرق المعري هنيهة ثم أدار وجهه إلى تلميذه وقد اطمأنَّ إلى حديثه، وقال له: «ما أحسب اشتغالهم بهذه المطالب إلا من الخير؛ فإن التفرغ للحكم — بل لعملٍ واحدٍ كائنًا ما كان — سبيل إلى العنت وضيق النظر وقلة السماحة، ومن تعددت مطالبه كان خليقًا أن يتسع أفقه للخصومة والخلاف، وأن يعود وهو أدنى إلى المودة والإنصاف.»
ثم هتف بالتلميذ: لقد أطلنا على الرجل لحظات الانتظار، فأسرِعْ! أسرِعْ إليه بالدعوة وبالاعتذار.
•••
ويطول سرد الحديث الذي جرى بين الحكيم والوزير، فحسبنا منه ما استطردا من السياسة وتدبير الشعوب؛ فقد أفاض الرجلان في مقاصد القول حتى استنفذا منها كل ما يخوضان فيه ويشاركان في مناحيه، وإنهما ليهمان بالافتراق إذ يقحم التلميذ سؤالًا كان من حقه أن يسأل لولا أن شغل عنه المتحدثان بأفانين الأدب والثقافة، ولعل التلميذ قد عز عليه أن يرى في سياسة العصر رأيًا لا يقره عليه شيخه وأستاذه، فاندفع يقول: ألا يسأل مولاي زائرنا الكريم فيما طرقناه من حديث الحكومة والبرلمان؟ فما ينبئنا مثل خبير؟
ووافق السؤال هوى من نفس الحكيم فأوجز الأمر للوزير وأنصت يترقب منه الجواب.
قال الوزير: سر التوفيق في حكومة هذه الأمة أن يتم فيها الأمر الجليل كما يتم الأمر الصغير، وليس فيها من يعتقد أنه يريده كل الإرادة أو يأباه كل الإباء، وإنهم قد أحسنوا الخصومة في الجد؛ فالغالب منهم والمغلوب في رياضة لا توغر الصدور ولا تحفظ القلوب.