صاحب الجلالة المعرِّي
قلت في ختام الفصل السابق: «إن شيمةً واحدةً في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلًا لتغيرت فلسفته جميعًا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرًا من سقط الزند وكثيرًا من اللزوميات …»
فما هي تلك الشيمة؟
هي السمت والوقار، أو هي كما نقول في لغة العصر الحاضر أدب البيئة وأصول «اللياقة».
وهذه الشيمة في الواقع وازع قوي عظيم الهيمنة على جميع النفوس، وإن عدها بعضهم ثانية أو ثالثة أو رابعة في ترتيب الزواجر الأخلاقية والنفعية؛ لاعتقادهم أن الزواجر إنما تفعل في الطباع فعلها على مقدار ما يحيط بها من ضجيج وطنين، أو على مقدار ما لها من أسماء وعناوين، لا على مقدار بواعثها من الطبع ومن قوانين الاجتماع.
إن جميع الزواجر والأوامر والنواهي لا تُخرج دانقًا ولا سحتوتًا من كنز المرأة العجوز الذي تجمعه من الدوانيق والسحاتيت، ليكون لها بعد وفاتها مشهد «يليق» ويجري مع العرف الشائع بين البيوت.
وإن الرجل ليُقدم على جميع المحظورات غير حافل بالعقاب أو سوء المآب، حاشا المحظور الذي «يسقطه» في نظر الناس ويخل بقواعد المروءة في البيئة التي هو منها، فذلك حد لا يتخطاه إلا وقد تخطى قبله جميع الحدود واجترأ على جميع المنكرات.
وإن الخمر والزنا والسرقة لفي درجة واحدة من التحريم في بعض الشرائع السماوية، ولكن الناس يجانبونها أو يستبيحونها على حسب نصيبها من الزراية في البيئات التي يعيشون بينها، ونعني بها بيئة المعيشة وبيئة المعاشرة وبيئة التفكير. وربما وجد من الناس من يباهي ببعض تلك المحظورات في بعض بيئاته، وإن كانت في بيئات أخرى مجلبة العار والمذمة والنفور.
وربما استخف المرء أو المرأة بكل منكور وممنوع، إلا أن يزف بنته أو بنتها مثلًا في شوار أقل من الشوار المصطلح عليه، مع أنه غير ممنوع في دين ولا في قانون ولا في شرع معقول، ولكنه ممنوع في أدب البيئة أو أدب اللياقة … فهو إذن أصعب الممنوعات.
•••
والخلاعة هي غاية السقوط عند العرب أو عند المتكلمين باللغة العربية، وإنما الأصل في الخليع أنه الرجل الذي يخلعه أهله ويبرأون منه، فهو من ثَمَّ يجلب على نفسه أكبر العار، وإن لم يقارف شيئًا من معاصي الدين والقانون على حسب العرف الحديث.
وإنهم ليجدون متسعًا من القول في كل عاصٍ، وكل جارم، وكل آثم، إلا الخليع فلا متسع فيه من القول بعد الخلاعة. وما عسى أن يقول القائل في خليع؟ تلك غاية الغايات وقصارى الموبقات، فلا ملامة ولا عتاب!
المعري مثَل من الأمثلة البالغة على سلطان البيئة أو على سلطان أدب «اللياقة» وأدب العرف والتقاليد.
فهذا الحكيم الذي عرض على فكره كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم يقبل منها إلا ما ارتضاه برهانه، ولم يتَّخِذ له إمامًا غير العقل في صبحه ومسائه، هو بعد هذا كله أسير «أدب اللياقة» يمنعه هذا الأدب ما ليس يمنعه شرع ولا فلسفة ولا عقيدة، وهذا القائل:
هو هو الذي يأبى أن يدخل الوليد على النساء بعد بلوغه العاشرة، ويأبى أن تذهب المرأة إلى الحمام، ويخشى على عِرضها أن تخرج إلى الحج فلا يعده فريضة على عُجَّز النساء ولا العذارى!
ذلك هو «السمت اللائق» بالمرأة في شريعة البيئة؛ فالسيدة الحَصان تنجبها الأسرة الوقور لن تكون إلا على هذه الصفة، ومتى وصلنا إلى السمت اللائق أو إلى أدب اللياقة فأبو العلاء وسائر أبناء البيئة سواء، والفيلسوف الذي قال:
لا يعنيه من إمامة العقل هنا إلا ما يعني قعائد البيوت وعجائز الأمهات والجدات، ذوات البنات يلتمسن الأزواج في ستر وحشمة وصيان!
•••
ولعلنا تسهَّلنا بعض التسهُّل إذ قلنا: إن أبا العلاء وسائر أبناء البيئة سواء … فإنه لأشد تحرُّجًا من كثيرين، وإنه ليحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، وإنه ليحسب الوقار جمالًا لا يدانيه جمال في الرجال، فإن حذر من الشيخوخة آفة فإنما يحذر أن يدركه الخرف:
وإذا رثى أباه في صباه وهو يتخيل موقف الحشر ورهبة القيامة وزحام العطاش على الحوض فليس ينسى أن يسأل عن ذلك الأب:
فكأنه يقف بالدين والفلسفة عند باب العقل، ثم يقف بالعقل عند باب الوقار أو أدب اللياقة، ثم لا يسأل هذا السلطان الجائر سؤالًا واحدًا من تلك الأسئلة التي كان يشنها من كل جانب على جميع السلاطين وجميع الدولات وجميع الأحكام، ولو أنه سأل وأباح نفسه الجواب الصريح لما أخذها بكل تلك الصرامة ولا أحال عليها كل تلك القيود.
- مرجعه إلى تربية الأسرة: فقد كان أبوه وأمه من ذوي الوجاهة والصلاح، وكان آل أبيه يتوارثون القضاء في بلده ويعيشون بين الناس كما يعيش رجال الدين ورجال الحكم على شعائر المروءة والتعفُّف والأنَفة من غشيان مواقع الشبهات، وعلى الهيبة التي لا غنى عنها لمن يسوسون الرعية باسم الله واسم السلطان.
- ومرجعه إلى الخليقة العربية: فقد كان أبو العلاء عربي النجر عربي الطبيعة، يفهم أن العِرض قوام الشرف والعزة، وأن الابتذال هو الهوان الذي ما بعده هوان، وأن الرجل الذي يجترئ عليه المجترئ بمذمة أو سخرية هو حمى مستباح، وأن من لا حياء له لا حياة له ولا خير فيه، وأن السنَّة ما سنَّه الآباء وجرى عليه العرف وسارت به الأمثال وحسنت به القدوة.
- ومرجعه إلى فقد بصره: فإن الضرير قد يصيبه السخر والملام لأمور يواقعها البصير ولا من يسخر به أو يلومه، وإن البصير قد يمارس من الشهوات ما يأمن الفضيحة فيه، لأمانه من أن يطَّلع عليه أحد غيره، وليس ذلك في مقدور الضرير؛ فإما الفضيحة والعار وإما الزهد والوقار.
- ومرجعه إلى كبريائه وعزَّة نفسه: فإن الأعمى قد تهون عليه الفضيحة في سبيل الشهوة، إلا أن تكون له كبرياء
تأبى له المهانة والابتذال، فيهون عليه فقدُ الشهوات واقتناء
الكرامة.
ولقد رأينا أن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها، فإما الملك وإما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين، فلا يحسبن أحد أن «فكرة الملك» عارضة في ذهنه كما يعرض الخاطر في خلد الشاعر، فإن «للمجد الدنيوي» لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان. فسرعان ما يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور، وله في ذلك أبيات تعد بالعشرات منها:
لا ملك لي وأرى الدنيا تحاصرنيوما حججت وقد لاقيت إحصاراومنها:
ما سرني بقناعة أوتيتهافي العيش ملكَا غالبٍ وذمارومنها:
لو شاء ربي لصاغني ملكًاأو ملكًا، ليس يعجز القدر!ومنها:
وزهدني في هضبة المجد خبرتيبأن قرارات الرجال وُهودومنها:
لا كانت الدنيا فليس يسرنيأني خليفتها ولا محمودهاومنها:
محمودنا الله والمسعود خائفهفعد عن ذكر محمود ومسعودملكان لو أنني خيرت ملكهماوعود صلب، أشار العقل بالعودومنها:
ما سرني أني إمام زمانهتُلقى إليَّ من الأمور مقالدومنها:
أسر إن كنت محمودًا على ضعتيولا أسر بأني الملك محمودوقد أعجبه أن يراه راءٍ في الكرى يلبس تاجًا فقال:
رآني في الكرى رجل كأنيمن الذهب اتخذت غشاء راسيقلنسوة خصصت بها نضارًاكهرمز أو كملك أولي خراسفقلت معبِّرا: ذهب ذهابيوتلك نباهة لي في اندراسيولعل الرائي هو أبو العلاء نفسه قد أظهر له المنام ما أخفاه العقل الباطن من نوازع الكبرياء، أو لعله صاحب خبيث قد استطلع طلعه وعرف شموخ طبعه فرأى المنام حقًّا أو لفَّقه له ليغنم رضاه.
وكأنه لما فاته التاج وسوس له «عقله الباطن» في المنام فرأى تلك الرؤيا، ووسوس له في اليقظة فقال في المفاضلة بين تاج الملك وتاج الزاهد:
والتاج تقوى الله لا ما رصعواليكون زينًا للأمير الفاتحوأمثال هذه الأبيات وعشرات مثلها لا تبدر من رجل يمزح حين يقول: كن في الدنيا كثيرًا أو قليلًا، فإما مليكًا أو راهبًا … ثم تدركه الأنفة أن يأكل من رزق غيره مع الرهبان فيقول:
ويعجبني فعل الذين ترهَّبواسوى أكلهم كد النفوس الشحائحكلا! ذلك الرجل قد تغلغلت الأنفة في أعماق طبعه، فما هي عنده كلمة مجاز أو كلمة مزاح أو شطحة خيال.
تلك مراجع شتى لعادة السمت أو «أدب اللياقة» في خلائق أبي العلاء.
ومرجع آخر نضيفه إليها ولا نحسبه قليل الأثر في تكوين تلك العادة: أنه كان ضعيف البنية ضعيف الخوالج الجسدية؛ فلم تغلبه شهوات اللحم والدم ولم يعسر عليه ضبطها في عنان السمت مدى تلك السنين الطوال.
على هذه المراجع جميعها قام «أدب اللياقة» في خلائق أبي العلاء، أو قامت تلك الشيمة التي قلنا إنها لو تغيرت قليلًا لخرج أبو العلاء رجلًا آخر: مَنْ يقرأه لا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود. ترى هل كان تغييرها من المستطاع؟
وماذا كان المعري صانعًا لو قدر على تغييرها؟