زهدان
شتان زهد الهند وزهد نجد.
ذاك زهد السآمة من الوفر والإغراق والابتذال، وهذا زهد الأنفة في وجه الضنك والضرورة.
زهد الهند الذي اكتظ من صنوف المائدة حتى عافها وأعرض عنها.
وزهد نجد زهد الذي لم يرَ المائدة وأنف من مذلة الحاجة إليها.
•••
كان هذا حديث المعري لتلميذه وقد وصلا إلى جدة وقفلا من مدن الحجاز، بعد طواف طويل في الصين والهند وفارس والعراق.
وكان التلميذ يسأل أستاذه عن شظف النجديين من أتباع عبد الوهاب، إذ يحرِّمون على أنفسهم كل ما يعز عليهم وجوده في الصحراء النجدية. وهو ينتظر رأي المعري في هذا الشظف، وقد علم أنه أخذ نفسه بمثله أيام الحياة.
فلما قال المعري إن القوم في الصحراء يزهدون زهد الأنفة في وجه الضرورة فهم أن حكيم المعرة يستكبر أن يساويه في زهده مئات وألوف، وأحب أن يحسب القوم مضطرين غير مخيرين، أو مسوقين غير سائقين، فرجع إليه سائلًا: أفترى كل محتاج زاهدًا فيما يحتاج إليه، آنفًا من الإقرار بالحاجة والحرمان؟
قال الشيخ: كلا، إنما تفعل ذلك الأمم التي لها عزة وليست لها وفرة. فهي إذن تفرض على نفسها القناعة وتنفض عنها شعور المذلة، ولو ضعفت ولانت لجمعت على نفسه حرمان الفقر وحرمان الذل والاستكانة، فترى أنها محرومة وأنها دون من يستمتعون بالخير والبذخ والرفاهة، ولا ترى كما يرى هؤلاء النجديون أنهم محرومون وأنهم مع ذلك خير من المستمتعين.
قال التلميذ: لا غرو. إنني لأسمع المعري الهندي!
قال الشيخ: ويحك! هل عدنا إلى قديم هذه الدعوى؟ فمن ذاك المعري الذي ولد في الهند أو الهندي الذي ولد في المعرة؟
قال التلميذ: هو الذي قال:
أليس في بعض هذا ما ينسب الرجل إلى أمة الهند ودين البرهميين؟ ألست يا سيدي قد رضيت أن تهلك ولا يهلك فرُّوج من بنات الطير لتتداوى بالسليق من لحمه ومائه، وقلت لهم: «استضعفتموه فتداويتم به، ولو كان شبل أسد لما وصفتموه؟»
فجرى السخط في مجراه من قلب الشيخ الكظيم، ومن مجراه في قلبه أن ينقلب هزؤًا كلما أوشك أن ينفجر غضبًا. وقال: لو صح هذا لما بقيت أمة في الأرض إلا نُسِبْتُ إليها. ما لكم لا تصدقون أنها الفاقة وأنها الرحمة؟ أبلغ من سوء ظنكم بأنفسكم ألا تفرطوا في أكلة إلا خوفًا من غضب معبود؟ وماذا يضيرني من برهما إن غضب وما هو بصاحب نار ولا بصاحب نعيم؟ وما لي ولدين أناس يؤمنون بقداسة بعض الحيوان ونجاسة بعض الإنسان؟ ذلك لا يلمسونه من هيبة ووقاية وهذا لا يلمسونه من كبر وزراية! ويحك! أينسب إلى الهند من يحقن الدماء؟ فما قولكم في الحسام وهو من الهند في المعادن والأسماء؟
ثم قال: ماذا تقولون فيما قلت:
إنني إذن لمن أتباع صاحبكم نيتشه؟ أو من أتباع أصحابه الفاشيين؟ وما لك لا تحسب على إنكاري لزعم الهند حين أنقض ما يقولون:
وأشفق التلميذ أن تكون غضبة فسكون، وقد علم أن صاحبه أصعب ما يكون مراسًا إذا سكن بعد غضبة. فيومئذٍ لا كلام ولا حوار ولا جواب غير الوجوم والازدراء، ولكنه إذا انتقل من ثورة إلى ثورة أو تدرَّج من سخرية إلى فكاهة ففي استطالة الحديث معه رجاء.
قال التلميذ: أمن النسبة إلى الهند ينفر مولاي كل هذه النفرة؟ فمن قال إنه من الفرس كيف يجاب؟ ومن زعم أنه من المجوس ماذا يسمع من زجر وعقاب؟
قال المعري: يقال له صدقت وبررت، وإنه مع ذلك لعلى دينهم لأنه يعجب منهم إذ يقول:
فمن التقية أن ينكر الإنسان ما به يدين، وأن يكون نكرانه علامة اليقين. أليس كذاك؟
•••
وتلطَّف التلميذ اللبق في نقل الحديث إلى فارس والفرس وما كان فيه ما وما يكون، وتذاكر ما مر بهما ومرَّا به في تلك البلاد، فسرِّي عن الشيخ بعض ما اعتراه من غضب وامتعاض لنسبته إلى البراهمة والمجوس. وضحك الشيخ وتلميذه كثيرًا حين ذكرا ذلك الكرسي الذي كان يجلس عليه بعض الشاهات — عند قضاء الحاجة — فيعزف النشيد الملكي تحية للجالس عليه! وقال الشيخ: حسنًا صنع عاهل الفرس الجديد أعانه الله على ما تصدى له من خير وتهذيب. إنه أراح أمته من هذه المراسم وهذه التفخيمات التي أفسدت عليهم ما أفسدت، ونسوا كل شيء ليذكروها وحدها حتى حين ينسى الإنسان كل تفخيم وتبجيل. إن المراسم آفة هذه الأمة الطيبة الرَّضِيَّةِ، فلا أدب لهم ولا علم ولا دين ولا شريعة إلا وفيها آية المراسم ظاهرة، وتحية المراسم ناطقة، وديوان المراسم معقود ومشهود. ولئن خلصوا منها لقد خلصوا من قيود تحبس الرءوس قبل الأعضاء والأقدام.
•••
فسأل التلميذ: وماذا بقي منها فيستحب لهم الخلاص منه؟
قال المعري: إنهم يقتدون بالأمم الكبرى في أزيائها وشعائرها، وإن أخوف ما نخاف عليهم أن يحسبوا القوة والمنعة في هذه الأزياء وفي هذه الشعائر، فيتقيدوا بها من جديد ويخلصوا من تقليد إلى تقليد، ولئن هداهم عاهلهم السديد في مسعاهم المجيد، لقد بلغ بهم ما لم يبلغه الأكاسرة ولا الهرامزة الأولون.