في مصر
على مقربة من سيناء قال حكيم العربية لتلميذه كأنما هو الذي يقوده: هذه هي البادية!
قال التلميذ: أوَقد عرفتها؟ قال: كيف لا أعرفها. وإن الشمس لتتغير وما غيَّر الله البادية منذ خلقها، ولا يغيرها حتى يطويها مع الأرض والسماء!
قال التلميذ: فعلى اليمين بيت المقدس وعلى الشمال أرض مصر، فأيهما يؤثِر الأستاذ بالزيارة؟
وكان شيخنا قد سمع شيئًا عن متاعب فلسطين والشرق العربي، وسمع شيئًا عن عجائب مصر. فأنشد:
ثم قال: لا أدخل أرضًا يُجلى عنها العرب، فلندخل مصر آمنين.
قال التلميذ: إن أبيت أن تدخل أرضًا يُجلى العرب عنها فهلا بعثت إليهم بتحية أو نصيحة!
قال الشيخ: النصيحة لهم أن يصاولوا بالقوة والمال من يغلبونهم بالقوة والمال؛ فهم هم الظافرون، قصر الزمان أو طال.
وسأله التلميذ: ومن أين لهم بقوة ومال؟
قال: من العزم والإباء. من أبى ما هو فيه استمد العزم من إبائه، وجاءته القوة والثروة إلى موطئ قدميه.
قال التلميذ: وهبهم بلغوا منهما جهد الطاقة أفيبلغون منهما يا مولاي مبلغ الدول الكبار؟
فأجابه الشيخ: بل يبلغون منهما ما يتعب الدول الكبار، وحسبهم أن يتعبوها فيستريحوا، أو يرجعوا إلى حال خير من قبول الضياع والفناء.
•••
ودخلا مصر فقضيا أيامًا بين ترحيب وتسليم، وبين ربوع وآثار، وسأل الشيخ بلسان أبي الطيب الذي كان يتعصب له ويستعيد شواهده:
ثم أنشد:
ثم قال: أشهد وأنا بينهما أنهما لم يفنيا ولم يتبعا. فما أعظم يقين أبي الطيب بفعل الزمن ودولة الفناء!
قال التلميذ: ما هو بأعظم يقينًا بالزمن والفناء ودولته من القائل:
فرد عليه الشيخ خاشعًا وهو يجمجم بين شفتيه: نعم، وتهون الأعمار عند ذاك ويهون الخلود.
واسترسل التلميذ في نغمته الأولى فقال: هذا لحدٌ أبَى أن يصير لحدًا مرارًا، وأبى أن يضحك من تزاحم الأضداد.
قال الشيخ وهو في جَمْجَمَتِهِ الأولى: لقد دخله الأحياء فأبى أن يكون لحدًا مرة بله المرات، وضحك من صاحبه الأول قبل أن يضحك من أضداده. وإني والله لأسأل عن هذا الطور المشيد كما سألت عن الورقاء:
فما أدري هنا أهو عنوان غلبة الموت أم عنوان غلبة الحياة، إنما هو على الحالين عنوان شقاء الإنسان، وعبث الطغيان.
وعاود الشيخ وجومه على أشد ما يكون بين أطلال الفراعنة ومروج وادي النيل، وإنه ليروض نفسه على إقامة أيام إذ حانت له الطرفة التي سماها أعجب العجائب في بلاد العجائب، فانتوى الهجرة من قريب.
•••
كان ذلك في ناحية من الصحراء وقد تردد عليه رجل من كتاب الصحف فسأل الشيخ تلميذه: ماذا عساه يريد؟
قال التلميذ: إنه يعتذر.
قال: ومم الاعتذار؟
قال: إن الرجل لكاتب المقال الذي أطلعتك عليه تفكهة وعبرة يوم وصلنا إلى هذه الديار.
قال: تعني الرجل الذي نعى على حكومة هذا البلد أنها احتفلت بمن سمَّاه إمام الملحدين وشيخ الكافرين، وأنها من أجل ذلك خليقة بإغضاب المسلمين والمروق من حظيرة الدين.
قال التلميذ: هو بعينه.
فعجب الشيخ وسأل: وما اعتذاره اليوم؟
قال: اعتذاره أنه سيلقي عليك المقال الذي أعده للإنحاء على الحكومة لو أنها قصرت في لقائك، وأحجمت عن استقبالك. فهم خصوم الحكومة ينعون عليها كل ما تفعل ويقدحون في كل ما تنوي، فإن هي أكرمت وفادتك قالوا ما قد علمت، وإن هي قصرت في حفاوتها فهم قائلون ما ستسمعه الآن.
قال المعري: أحسبهم كانوا قائلين يومئذٍ إن هذه الحكومة تنكرت للعرب وآداب العرب، وقطعت ما بينها وبين لغة القرآن من سبب، وباعت نفسها للفرنجة، وحادت عن سواء المحجة، وغير ذلك ممَّا ينتظم في هذا النظام!
قال التلميذ: أحسنت يا مولاي. إنك اليوم لفي طليعة المرشحين للكتابة في الصحب السيارة، وعلى رأس المقدمين للخوض في غمار السياسة المصرية. هكذا كتبوا، وعلى هذا دأبوا، ولهذا أقبلوا يعتذرون وفي هذه اللجاجة تنقضي عليهم الأيام والسنون.
فردد المعري قوله القديم:
لكن هذا هو الطاعون الذي يحمد عنده كل وباء.
إلى المعرة يا بني فقد ختمنا المطاف، وشبعنا من المضيفين والأضياف.
وكان «كاتب هذه الأسطر» في محضر الفيلسوف فقال: إن أسوان تدعوك أن تجعل الأوبة من طريق الجنوب، وإن طالت المسالك واختلفت الدروب.
فدارت على لسان الفيلسوف نوبة الاستشهاد بكلامه القديم، وأجابه ببيت من لزومياته يذكر فيه أسوان إذ يقول:
لقد زرتك فيها قبل اليوم يا بني، فاحتسب دعوة اليوم في تلك الزيارات، وخلِّنا في عالم الفكر من هذه المجاملات والمصانعات. أما دعوتني فيها وأنت يافع تحسب أنك تكره الحياة لأنك مملوء اليدين بالحياة؟ أما دعوتني فيها وأنت فتى تثور وتحسب أنني معك حين تثور؟ أما دعوتني فيها وأنت كهل تصالح الدنيا لأنك أنفت من مخاصمة الدنيا؟ أما دعوتني فيها وأنت تزعم أنك تناقضني بإنكار الأحزان وما أنكرتها إلا ترفُّعًا عن الشعور بالحرمان؟ إنك دعوتني كثيرًا وإنني أجبتك كثيرًا، وإنني لألقاك حيث أنت خير لقاء، إنك لتلقاني وتسمعني حين تشاء.