بساط الريح
قال الشيخ: الحمد لله استطعنا وفعلنا.
قال الرسول: إن الفضول ذميم في كل شيء يا مولاي إلا في طلب العلم والسؤال عنه. أفيأذن لي أستاذنا في سؤال؟
قال الشيخ: أحسبك تسألني عما استطعت وفعلت؟
قال الرسول: نعم. هو ذاك!
فصمت الشيخ قليلًا كمن يستحضر نغمًا بعيدًا أو كلامًا منسيًّا ثم أنشد:
هذا الذي استطعناه وفعلناه: عودة إلى الوطن وزيارة للمعرة في هذا الحشر الذي حشرتمونا إليه.
فأخذتِ الرسول شيطنة التلاميذ في كل سن وفي كل مقام، وراح يقول لأبي العلاء: ومع هذا أنت القائل:
فأدار الشيخ رأسه ناحية وزمَّ شفتيه قليلًا ثم أجابه: نعم! ليتني هامد لا أقوم. أما وقد قمت فأي مكان أحق بالحنين من:
بل أصبح جسمي من ترابها، واختلط فوق صعيدها وبين أحشائها. هذه هي المعرة! نعم هذه هي المعرة عرفتها وما كدت أعرف غيرها؛ فالحمد لله على البعث فيها.
فهجم التلميذ بسؤال جديد، وعوَّل على الإكثار من السؤال؛ إذ لا محيص من مساءلة الشيخ وإن ضجر بعض الأحيان، فربما كان ضجر الإجابة خيرًا من ضجر السكوت سنوات، ريثما يعقد الاحتفال ويجتمع المقبلون إلى المعرة لتحية حكيمها في ذكراه.
قال التلميذ في سؤاله الجديد: أليس من عجبٍ هذا الحب للمعرة ممَّن عاف الدنيا بأسرها؟
فأجاب الشيخ في غير ضجر ولا تأفُّف، كأنه كان يتوقع سؤالًا كهذا من تلميذ: «ما أكثر عجب الناس مما لا عجب فيه! إنما يحب الوطن الصغير من يعاف الوطن الكبير، ومن كره الدنيا كره التقلب فيها وكره السعي وراءها في نواحيها؛ فإلى أي منقلب يصير غير المكان الذي لا عناء فيه يتجشمه، ولا جديد فيه يفجأه بما يسوءه، ولا يزال فيه قريبًا من عهد صباه قبل أن يذوق مرارة العيش ويمتحن ببلواه؟ وما أحرى من اتخذ في المعرة محبسًا لا يفارقه أن يتخذ في الدنيا بأسرها محبسًا هو هذه القرية ولو فعل غير ذلك لعجبتم منه، فاعجبوا واخلقوا العجائب فلعلكم تستروحون الحياة ببعض ما تعجبون له، ولعلكم أطفال القدر يضحك منكم حين تسألون ثم يضحك منكم حين تقنعون بالجواب، أوتحسبون أنكم في غنى عن السؤال؟ يا بني سل ما بدا لك. فقد سألتُ الغيب كثيرًا وسألني الناس كثيرًا، وعالجت السؤال في الدنيا والآخرة، فلا أدري ماذا أصنع إن لم أكن سائلًا أو مجيبًا لسائل، وما أخالك ساكتًا لو دعوتك إلى السكوت، فتكلم مأذونًا فأنتم أزهد الخلق في مباح وأرغبهم في ممنوع، وقد يريحني الإذن لك أضعاف ما يريحني الإعراض عنك، فلو صدقني من قبلك حين قلت لهم إنني أجهل ما يجهلون لطمعت في تصديقك إياي حين ألوذ بالصمت أو أقر بالغباء.»
واضطرب الرسول لا يدري أهذا ترخيص في السؤال أم نهي عنه، وانقباض من الشيخ أم تبسُّط وانطلاق، وإنه لكذلك إذ عاد الشيخ يتكلم كأنما قد سرت في نفسه حرارة الثورة على الناس، وإنها لحرارة ترضي صاحبها عمن يثيرها ساعة تسخطه عليه، كما يعدو الجواد فزعًا فيشعر بنشاط العدو وجفلة الفزع في آنٍ، وأبو العلاء ثائر يرضيه الإعراب عن ثورة نفسه ولا يرضيه طول الكتمان لطباعه. فعاد يقول: ألا تنبئني يا بني ماذا تظنون حين تسألون رجلًا متهمًا بالعلم فيعجز عن الجواب أو يأباه؟ أتحسبون الغيب سلطانًا يجتبي بأسراره الحاشية المقربين؟ أتحسبون من يصحبه مطَّلِعًا لا محالة على كل أمره فلا يخفي شيئًا إلا اتهمتموه بالضن أو الدهاء والروغان؟ إن كان هذا ما تحسبون يا بني فالغيب ليس بسلطان، والعلماء ليسوا بحاشية سلطان، وأحرى أن يكون العالم كالمدلِج في الظلام يحمل مصباحه على قدر ضيائه فهو يرى ما هناك ولكنه لن يرى ما ليس هناك. فإن سألتم فاسألوا عمَّا يجوز علمه أو ما يجوز وجوده حيث يراه المدلج وحيث يقع عليه شعاع المصباح. أما ما وراء ذلك فالعلماء والجهلاء فيه كما قلت لكم قريب من قريب.
فتنفس التلميذ الصعداء، وعلم أنها غضبة ليست من غضبات الجفاء والنقمة، وقال وهو يتلعثم: لقد علمت ما لم أسأل عنه، فما أسعدني بقربك أيها الحكيم سائلًا وغير سائل، وسترى أيها الحكيم أنني لن أسألك إلا عمَّا هو في علمك ولن أطلب منك إلا ما هو عندك. فهل أحسب الشيخ آذنًا في هذه الساعة بسؤال، أو أعفيه حتى يأذن ويستريح إلى الجواب.
فتبسم أبو العلاء وقد راجع نفسه واسترجع حلمه وأناته، والتفت إلى تلميذه ملاطفًا وهو يقول: إن كنت قد تعودت مني ما رأيت وفهمت أنني لا أغضب منك ولا عليك فنحن على وفاق. ولك إذن أن تسأل ولي أن أجيبك أو أغضب كما غضبت منذ هنيهة، ولا حرج علينا معًا في هذا ولا في ذاك.
قال التلميذ: جزاء الله خيرًا يا مولاي في غضبك ورضاك، فما قول الأستاذ في اقتراح لا يشق عليه أن يجيبه؟ ما قوله في رحلة بين آفاق الأرض ثم تعود إلى قريته العزيزة في موعد الوفود؟
فاعتدل أبو العلاء في مجلسه وهو يقول: أوتدعوني إلى الرحلة وما فرغنا بعد من الكلام على الوطن والقبوع فيه؟ إنك لا تضيع فرصتك يا بني، وإنك لسريع الهجوم.
فلم يحجم التلميذ ولم يتردد، بل راح يقول: إن يومك يا مولاي غير أمسِك، وإن المعرة اليوم لعلى مسافة ساعات من بغداد، وإن الأرض كلها لتطوى الآن في أيام معدودات. فلو لم يكن في السفر إلا تجربة هذه العجيبة المستحدَثة في زماننا لكان ذلك شفيعي في اقتراحه وشفيع الشيخ حفظه الله في قبوله.
فطال إنصات الشيخ كالمستريب المتوجس، وخطر له أن الفتى يغرر به ولا يصدُقه المقال، ثم سأل في صوت خفيض: ماذا تقول؟ المعرة على مسيرة ساعات من بغداد! والأرض كلها تطوى في أيام معدودات؟! هل عادت المعجزات؟ وهل رجع بساط الريح؟ هل أصدقك والعقل أولى بتصديق؟
قال التلميذ: ما على الشيخ إلا أن يقبل الساعة وسيصدقني ويصدق العقل معًا بعد ساعات.
قال الشيخ: قبلت، فأين بساط الريح؟ وأين سليمان بن داود؟
ثم مضى التلميذ يشرح للشيخ ما يريده، والشيخ مقبل عليه ظاهر العجب من كلامه، حتى فرغ من شرحه وهما على اتفاق أن يجوبا بقاع الأرض في مشرقها ومغربها، وأن يشهدا الأجيال التي لم يشهدها أبو العلاء ولم يسمع بخبرها، وأن يتعلم كلاهما من صاحبه ما عنده من علم، ويتخذه دليلًا له فيما يجهل؛ فلا حرج من سؤال ولا حرج من جواب، وسنسمع — بعدُ — ما قال أبو العلاء وما قيل له في كل مكان وصلا إليه.