حكم السيف
ألم أقل لك يا بني إنني لا أملك أن أرى رأيًا جديدًا ولا أن أحيا حياة جديدة؟
قصارى ما يملك المرء في هذه الدنيا عمر واحد يعلم فيه كل ما قُدر له من العلم ويعمل فيه كل ما وسعه من العمل؟ ويختبر فيه اختباره، ويستوفي منه أحواله وأطواره. فإذا قضاه فتلك حصته من الزمن لا حصة له بعدها، ولا نصيب له من أعمار الدنيا وراءها.
قال الرسول: والشهرة يا أستاذنا، أليست هي عمرًا متجددًا وحصة مزدادة؟
قال أبو العلاء: كلا يا بني الشهرة استطالة لعمر الشهير، فيها تكرار له وليس فيها تجديد لشيء منه. ختمت حصتي من الوقت فلا تنتظر مني قولًا غير ما قلتُ، أو رأيًا غير ما رأيت. ولو أطلعتني كل يوم من دنياك هذه على جديد.
•••
فأحس الرسول شيئًا من خيبة الرجاء، أوَلا يسمع من أبي العلاء كلمة فيها معنى من المعاني غير ما سطرته الأوراق وفرغ منه الحافظون والشُّرَّاح؟ لقد كان يحسب أنه ظافر بأبي علاء جديد، أو بطبعة منقَّحة من أبي العلاء القديم، فإذا به يسمع مرة بعد مرة أن أبا العلاء هو أبو العلاء، وأن حجاب الزمن قد هبط بعده، فلا منفذ من ورائه إلى علم غير ذلك العلم، ولا إلى حكمة غير تلك الحكمة. وأوشك أن يقتضب الرحلة لولا أنه استدرك وتدبر، فعلم أن مشاهدة الدنيا في صورة علائية أمر يستحق النظر ومعرفة تستحق العرفان، فانطلق يقول: إذن يا مولاي أنا أعلم رأيك في هذه الحكومات العسكرية التي تركنا بلادها، أو هذه الأمم التي يجرون على وتيرة لا يشذون عنها ونظام لا يهاودون فيه. أنت تحمدها بعض الحمد لأنك تقول:
وهذه الحكومات المجندة تحمي من الفوضى ولها نفع يعاش به في أزمان القلاقل، وهي تزعم ألا حرية للناس في قديم من الزمن أو حديث، ففي كل حكومة جور ومظلمة. والحكم هكذا يكون، أو لا فهو فتنة وظلم مكنون.
فأصغى أبو العلاء طويلًا. ثم قال: ولكني كما قلت هذا كذاك:
وهؤلاء الحاكمون يقولون إنهم معصومون وإنهم لا يحاسبون، وإنهم أرباب يدان لها بطاعة الساجدين الراكعين. فما أحمق هذا وما أحراه ألا يكون بين أناس يعقلون.
قال الرسول: الحق ما تقول مولاي، لولا أن الرعية تحب هؤلاء الحاكمين ولا تطيعهم إلا وهي راضية بما تطيع.
فلم يزد أبو العلاء على أن أعاد بيته القديم:
فعاد تلميذه يحاوره وكأنه ذو هوى في تعظيم مذاهب الحكم عند هؤلاء العسكريين، وقال فيما قال: إن هؤلاء القوم لا يخضعون على كره منهم، ولكنهم يخضعون لأنهم يؤمنون إيمان الحاكمين ويفكرون تفكيرهم ويريدون مرادهم ويفرحون بعظمتهم كأنها عظمة لهم فيها نصيب، وكأنهم شركاء في السيادة حين يخضعون لأولئك السادة.
قال أبو العلاء:
ذلك أدهى وأَمَرُّ، وليتهم فكروا وخالفوا وخضعوا مرغَمِين، فذلك أكرم لعقل الإنسان وأدنى إلى الرجاء في الخلاص، أما أن يسلب الإنسان الفكر حتى لا يفكر إلا بأمر حاكميه وعلى وفاق الهوى من رؤسائه، فذاك آلة من الآلات وحيوان من العجماوات، وليس بآدمي له عقل، والعقل إمام للآدميين أولى بالاتباع من كل إمام.
•••
قال أبو العلاء ذلك وزوى وجهه كأنه قَطَعَ القول وحسم الجدل، وقال ما لا رجعة فيه ولا مزيد عليه.
إلا أن التلميذ قد طاب له أن يسترسل في النقاش والسؤال فانثنى يقول: أولا تُغفر الطاعة من الرعية حتى لو أفلح الرعاة في سياسة الأمور وشاهد الناس فلاحهم آنة بعد أخرى، فعلموا أنهم راشدون وأنهم لا يخطئون، وأن خطأهم آمن في عقباه من خطأ الكثيرين؟
فسأل أبو العلاء: من القائل:
فأجاب التلميذ: كيف؟ إنك أنت قائل هذا يا مولاي!
قال أبو العلاء: ذلك فحوى كل جواب على كل سؤال من قبيل ما سألت. فلا تنظر يا بني إلى فلاح هؤلاء الساسة حين ينفذ أمرهم ويستقر سلطانهم وتمضي مشيئتهم. بل انظر إليهم حين يفشلون وحين يريدون فلا يقدرون. انظر إليهم يومئذٍ تعلم أنهم يخطئون كما يخطئ سائر الناس وأكثر مما يخطئ سائر الناس، بل تعلم أن الناس يرون لهم من الخطأ يومئذٍ أكثر مما صنعوه وأكثر مما يستطيعونه أو استطاعوه. ولا تنسَ أبدًا قول الحكيم القديم:
واذكر يا بني أن هؤلاء الجيوش المجندين يتعلمون الجبن حين يتعلمون ما تحسبه شجاعة، وإن أشجعهم لن يجرؤ على كلمة يُغضب بها سيده وصاحب أمره، وما بقي بعد ذلك من إقدام على القتال أو الشجار فهو إقدام اضطرار أو إقدام مخمور بحميَّا الضجيج والفخار.
وما أبرئ نفسي يا بني. لقد عرفت هذا الجبن وقلت فيه:
هؤلاء كلهم يا بني فارُّون من المنطق والكلام، جبناء يهربون من الميدان إلى السمت الذي تدعوه طاعة أو تدعوه شجاعة، وما هو من الطاعة والشجاعة إلا كالرجل وصورته في المرآة.
•••
قال التلميذ: وإجمال ذلك كله في كلمة واحدة يا مولاي.
قال أبو العلاء: إجمال ذلك كله يا بني في بيت واحد، وهو:
وانفض بذلك الجدال بين الشيخ وتلميذه، وهما قافلان من بلاد الحاكمين العسكريين.