المستشرقون
هؤلاء الذين استغربت أمرهم يا مولاي، هم من سميناهم نحن بالمستشرقين! وهم أناس لم يسمع بهم الأستاذ لأنهم نشأوا أول نشأتهم في عصره، فكان أقدمهم يتعلم العربية والحكمة على عرب المغرب يوم كان الأستاذ يُملي دروسه القيمة في المعرة قبل عشرة قرون، وكانوا قسيسين ورهبانًا يدرسون علوم العرب ليفقهوا أسرار القرآن ويستعدوا لها بالحجة والبرهان، ثم شاع أمر الدولة المسيحية وأمر الخلاف على الأناجيل بين حبرها الأعظم ومن خرجوا عليه واعتزلوه. فمن ثَمَّ كثرت طوائفهم في بلاد الجرمان ولا يزالون أكثر ما يكونون بين هؤلاء القوم، ولا سيما وهم قوم مشغوفون باللغات والبحث في الأصل واللهجات. فهذا علة ما استغربه الأستاذ من شيوع الاستعراب هنا حيث نحن الآن مقيمون، وأنهم من أجل هذا يحومون حول هذا الورد ويغتنمون هذه السانحة، ولا يريدون أن يعبر بهم حكيم المعرة دون أن يوسعوه حفاوة وسؤالًا ويتخذوا من كلامه بيانًا يعتصمون به ودعاية يدعون إليها. فإن شاء الأستاذ أن يصابرهم ويستقصي خبرهم فله الرأي الأعلى فيما يشاء.
ذلك كان حديث التلميذ لأستاذه بعد رحلة ليست بالقصيرة قضياها في بلاد الجرمان، ولقيا فيها فئات من المستشرقين سمعوا بِرَهِينِ المحبسين فزاروه واستزاروه، وسألوه وأجابوه، وعجب أبو العلاء من شأنهم في بلاد الغرب فسأل تلميذه عنهم على سبيل الاستطلاع أو على سبيل القصاص، لكثرة ما أطال عليه من سؤال، وكثرة ما التمس عنده من فائدة، وكثرة ما كلفه من تجوال.
فلما أنبأه التلميذ نبأهم قال أبو العلاء:
ثم قال:
وجعل يردد: أين؟ أين؟
ثم عاد يقول: هيهات! هيهات!
هذه فئة عهدنا لها أشباهًا بين رهبان زماننا، يدرسون العلم دراسة رهبان ولا يزالون رهبانًا في كل ما يدرسون. فهم يحجون إلى العلم من طريق الدين، وقَلَّمَا يعرفون العربية إلا بلسان أعجم ونفوس أشد عجمة، وأقربهم إلى البصر بها من كان للعلم قصده وكانت له في لغة قومه قدم، وهم جامعون ومحيطون، دأبهم كدأب كل محيط يقف عند الأطراف ولا ينفذ منها إلى القلب، ولهم على ذلك ما استحقوا من جزاء وثناء.
•••
ثم قال: ومن هؤلاء الذين تسألني أو تأمرني أن ألقاهم الساعة؟
قال التلميذ: أستغفر الله يا مولاي، فالأمر والرأي لك، وإنما هو اقتراح أو رجاء، وأنت ما ترضاه من قبول أو إباء.
هؤلاء الصحفيون يسألون، وقد عرفت طريقتهم في السؤال، فإن أذنت لقيتهم جميعًا مرة واحدة وأفضيت لهم بخبر ما هم مستخبرون، فلا نجاة منهم قبل أن نرحل من هذه الديار.
إننا نستقبل منك في بلاد الجرمان رجلًا من أهل الشمال وإن كان مولده في الجنوب، وعقلًا من عقول الآريين وإن كان منسوبًا إلى الساميين، وشاهدًا جديدًا على صدق علم الأجناس الذي كشف لنا حقيقة النبوغ ودخيلة المزايا والأخلاق بين الشعوب. فلا فضل ولا عبقرية ولا ارتقاء في الآداب والفنون، ولا في العقائد والأخلاق إلا أن يكون مردها جميعًا إلى أبناء الشمال، وإن خفيت مصادر النسب واختلفت مواقع الميلاد.
ولو لم تكن أيها الرجل العظيم من سلالة الآريين لما اتصل الروح بينك وبين الهند فرأيت ما رآه البوذيون وحرمت ما يحرمون، وأبحت ما يبيحون، فأنت الناهي عن أكل الحيوان وجناه حيث تقول:
وأنت الناصح بإحراق الموتى وإن عجبت منه حيث تقول:
وأنت المنكر كل ما ذهب إليه البشر إلا مذهب الهند حيث تقول:
ولاح على الرجل أنه منطلق في تحيته إلى غير نهاية؛ فلم يمهله أبو العلاء حتى يأتي على شواهده وأمثاله ويستطرد إلى نتائجه وغاياته. ومال إلى تلميذه ورسوله يقول وكأنه يُسَارُّهُ: أين يذهب عن هذا الثرثارة قولي: «وغسل الوجوه ببول البقر» أليس لأهل الهند فيه نصيب؟ ثم قاطع الصحفي الخطيب قائلًا: ماذا تعني بساميين وآريين وأهل شمال وأهل جنوب؟
فأسرع التلميذ يجيبه قبل إجابة الصحفي: «إنهم يا مولاي يعتقدون اليوم في بلاد الجرمان أن البشر جنسان: جنس مخلوق للسيادة والحكم، وجنس مخلوق للطاعة والتسخير. وإن أهل السيادة منبتهم في الشمال ثم انحدروا منه إلى الهند، فهم المعروفون بالهنديين الآريين، وأن أهل الطاعة والتسخير منبتهم في الجنوب فهم الساميون أبناء سام أو الحاميون أبناء حام، ومن شاكلهم في السحنة والسواد، وأنه ما من نابغ عظيم إلا وهو مردود إلى أهل الشمال في معدنه وعنصره القريب، وإن ظهر بين أبناء الجنوب. ولعل شبهتهم في انتمائك إلى الشماليين يا مولاي، إنك مولود على مدرجة الصقالبة والروم …»
فانتفض أبو العلاء انتفاضة العربي المسبوب في نسبه وصاح بالتلميذ: ويح الرجل! ماذا عساه أن يريد مني بعد هذا التخليط؟ قل له إن كان لا يسمع مني. قل له أنا القائل:
وذلك حسبه من جواب.
•••
ثم هجم صحفي آخر يبدو عليه الاغتباط بما سمع من زجر زميله، وأقبل يقول: تحية الإخوان إلى العربي العظيم، أنا ابن من أبناء سام.
فهم أبو العلاء بالنهوض وهو يكاتم السخط والضجر، وقال: أما فرغنا بعدُ من سام وحام؟ من هذا يا بني؟ وهو يوجه السؤال إلى التلميذ الحائر بين أستاذه وبين طلاب الزيارة والسؤال، من صحفيين ومستشرقين ومستطلعين، فبادر الصحفي الآخر إلى جواب أبي العلاء، وتلطَّف في تسكين غضبه والترفيه في ضجره، وأنبأه أنه من أبناء إسرائيل، وأنهم والعرب أبناء عمومة، وأنه يريك منه كلمة الفصل في خصومة الآريين والساميين، وأنها قلما تنفع في بلاد الجرمان وقلما يجسر على نشرها بينهم أو نشر كلام يخالف ما يروجونه من أقوالهم، ولكنه يبعث بها خفية إلى أناس يذيعونها في الخافقين، ويعتزون بها في خصومة الجنسين، وفي كل خصومة بين طرفين، أحدهما آل إسرائيل!
وهنا أدركت أبا العلاء فكاهته المطبوعة وسخره من (تزاحم الأضداد) على قديم الأجداد، أو على ميراث المال والعتاد، وهم يلهجون بميراث الآباء والأولاد، وقال وقد تهيأ للمسير وتلميذه يعتذر بموعد القطار ووشك الرحلة وخوف التأخير: يا أخي، تلك خصومة لا يفصل فيها غير الله! أنتم شعب الله المختار في القديم، والجرمان شعب الله المختار في الحديث، فاسألوه ولا تسألوني أيكما صاحب الحظوة الآن؟