صاحب الأحاجي
أسرَّ له الشيطانُ قائلًا: «أوَتدري؟ حتى أفضل علماء الرياضيات في الكواكب الأخرى، وجميعها أكثرُ تقدمًا من كوكبك بكثير، لم يتَمكَّنوا من حلِّها. ويحي! ثَمة رجلٌ على زُحَل، يُشبه فطر عيش الغراب مُرتكزٌ على دعامات، يحلُّ المعادلات التفاضلية الجزئية ذِهنيًّا، وحتى هو قد كفَّ عن المحاولة.»
وُلِد بيير دو فيرما في العشرين من أغسطس عام ١٦٠١ في مدينة بومون دو لومانيه في جنوب غرب فرنسا. وكان أبو فيرما، دومينيك فيرما، تاجرَ جلودٍ ثريًّا؛ ومِن ثَمَّ فقد كان مِن حُسن حظِّ فيرما أنْ حَظِيَ بتعليم متميِّز في دير «ذا فرنسيسكان موناستري أوف جرانسِلف»، وتلا ذلك وقتٌ من العمل في جامعة تولوز. وما من دليلٍ يُشير إلى تمتعِ فيرما الشابِّ بأيِّ براعة مميزةٍ في الرياضيات.
وتحتَ وطأة ضغطِ عائلته، اتجه فيرما إلى العمل في الخدمة المدَنية، وفي عام ١٦٣١، عُيِّن عضوًا في برلمان تولوز، وقد كان عضوًا في «غرفة الالتماسات». أي إنه إذا أراد السكانُ المحليُّون تقديم التماسٍ إلى الملك بشأن أيِّ أمر من الأمور، فقد كان عليهم أولًا إقناعُ فيرما أو أحدِ شركائه بأهميَّةِ طلبهم. كان أعضاءُ البرلمان يوفِّرون حلقة الوصلِ الضروريةَ بين الإقليم وبين باريس. وإضافةً إلى إقامة الصِّلة بين السكان والملكيَّة، كان أعضاء البرلمان يتأكدون أيضًا من تنفيذِ المراسيم الملَكية التي تصدر من العاصمة في جميع الأقاليم. وقد كان فيرما عاملًا مدَنيًّا كُفئًا تؤكِّد كلُّ المعلومات أنه قد أدى واجباته بتفهُّمٍ ورحمة.
كانت بعضُ واجبات فيرما الإضافية تتضمَّن العمل في السلطة القضائية، وكان قد بلغ رُتبةً عالية تُؤهِّله للتعامل مع أخطر القضايا. ومن الروايات التي تُخبرنا عن عمله روايةُ عالمِ الرياضيات الإنجليزي السير كينلم ديجبي. كان ديجبي قد طلَب أن يلتقيَ فيرما، لكنه يُفصِح في رسالة لزميل مشترك هو جون واليس، أنَّ الفرنسيَّ كان منشغلًا بأمورٍ قضائية عاجلة، مما استبعدَ احتمالية اللقاء:
كان فيرما يتبادلُ الرسائل مع ديجبي وواليس بانتظام. وسنرى لاحقًا أنَّ هذه الرسائلَ لم تكن وُدِّيةً بدرجة كبيرة في معظم الأحيان، لكنها تُمِدنا ببعض الرُّؤى المهمةِ عن حياة فيرما، وفي ذلك حياته الأكاديمية.
ترقَّى فيرما سريعًا في مراتب الخدمة المدَنيَّة، وصار مِن نُخبة المجتمع مما يؤهِّله لاستخدامِ لفظ «دو» في اسمه. ولم تأتِ ترقيتُه نتيجةً لطموحه بالضرورة، بل كان أمرًا متعلقًا بالصحة. ذلك أنَّ الطاعونَ كان متفشيًّا في جميع أنحاء أوروبا، وقد ترقَّى الذين نجَوْا ليحلُّوا محلَّ هؤلاء الذين ماتوا. حتى فيرما نفسُه قد عانى نوبةً حادة من الطاعون عام ١٦٥٢، وكان مريضًا للغاية حتى إنَّ صديقه برنارد ميدون قد أعلنَ وفاته للعديد من الزملاء، غير أنه سرعان ما صحَّح نفسه بعد ذلك للهولندي نيكولاس هاينزيوس:
لقد أخبرتُك من قبلُ بوفاة فيرما. إنه لا يزال حيًّا، ولم يَعُد هناك مِن خوفٍ على صحته، بالرغم من أننا عدَدْناه بين الأموات قبل وقتٍ قليل. لم يَعُد الطاعون متفشيًّا بيننا.
وإضافةً إلى المخاطر الصحية في فرنسا خلال القرن السابع عشر، كان على فيرما أن ينجوَ من المخاطر السياسية. لقد جاء تعيينُه في برلمان تولوز بعد ثلاث سنوات فقط من ترقيةِ الكاردينال ريشيليو إلى منصب رئيس وزراء فرنسا. كان ذلك عصرَ التآمُر والمكائد، وكان على كلِّ المشتركين في إدارة الدولة، حتى وإن كان ذلك على مستوى الحكومة المحلِّية، أن يحرصوا على عدم التورُّط في مكائد الكاردينال. وقد تبنَّى فيرما استراتيجيةَ تأديةِ واجباته بكفاءةٍ دون لفتِ الأنظار إليه. لم يكن لديه طموحٌ سياسيٌّ عظيم، وقد بذَل قُصارى جهده ليتجنَّب الشِّجار الوحشي في البرلمان. وبدلًا من ذلك، وجَّه جميع طاقته المتبقية للرياضيات، وفي الوقت الذي لم يكن يُصدر فيه أحكامَ الإعدام بالحرق على الكهَّان، كرَّس فيرما نفسه لهوايته. لقد كان فيرما هاويًا حقيقيًّا للدراسة الأكاديمية، حتى إنَّ إي تي بيل قد أطلق عليه اسم «أمير الهواة». غير أنَّ مَواهبه كانت عظيمةً للغاية، حتى إنَّ جوليان كوليدج حين كتبَ كتابه الذي يتحدثُ عن الهُواة العِظام في الرياضيَّات، «رياضيات الهواة العظام»، قد استثناه من كتابِه إذ رأى «أنه كان عظيمًا للغاية لدرجة أنه يجب أن يرد ضِمن المحترفين.»
في بداية القرن السابع عشر، كانت الرياضياتُ لا تزالُ تتعافى من العصور المظلِمة، ولم تكن من الموضوعات التي تحظى باحترامٍ كبير. وكان الأمر نفسُه ينطبق على علماء الرياضيات إذ لم يكونوا يحظَوْن بالكثير من الاحترام، وكان الكثيرون منهم يُضطَرُّون إلى تمويل دراساتهم؛ فلم يتمكَّن جاليليو على سبيل المثال من دراسة الرياضيات في جامعة بيزا، واضطُرَّ إلى السعي إلى التعليم الخاص. والحقُّ أنَّ المؤسسةَ الوحيدة التي كانت تُشجِّع علماء الرياضيات بقوةٍ في أوروبا، هي جامعة أوكسفورد التي أسَّسَت منصب سافيل للهندسة عام ١٦١٩. ويحقُّ لنا القولُ إنَّ معظم علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر كانوا هواة، غير أنَّ فيرما كان حالةً استثنائية. كان يعيش بعيدًا عن باريس؛ ومِن ثَمَّ فقد كان معزولًا عن مجتمع علماء الرياضيات الصغير الذي كان موجودًا بالفعل وتضمَّنَ بعضَ الشخصيات البارزة مثل باسكال وجاسندي وروفربال وبوجراند، والأبرز من بينهم، وهو الأبُ مارين ميرسين.
لم يُسهِم الأبُ مارين ميرسين في نظرية الأعداد إلا بإسهاماتٍ صغيرة، ومع ذلك يمكن القولُ إنَّ الدور الذي أدَّاه في رياضيات القرن السابع عشر، كان أهم مِن أيِّ دور قد أدَّاه زملاؤه الذين كانوا يحظَوْن بقدرٍ أكبر من التقدير. بعد انضمامه في عام ١٦١١ إلى طائفة الرهبان الرومان الكاثوليك التي أسَّسها القديس فرانسيس باولا، درَس ميرسين الرياضيات، ودرَّسها بعد ذلك لغيره من الرُّهبان والراهبات في دير الطائفةِ في مدينة نيفير. وبعد ذلك بثماني سنوات، انتقل إلى باريس لينضمَّ إلى دير «مينيمز دو لانوسياد» بالقرب من ميدان بالاس رويال، وهو نقطةُ تجمُّعٍ معتادةٌ للمفكِّرين. وقد التقى ميرسين غيره من علماء الرياضيات في باريس بالطبع، غير أنه قد حزن من تردُّدِهم في التحدُّث إليه أو بعضهم إلى بعض.
حين وصل الأبُ ميرسين إلى باريس، كان عازمًا على مُحاربة روحِ السرِّية وحاول تشجيعَ علماء الرياضيات على تبادلِ أفكارهم وإضافة بعضهم إلى أعمال بعض. كان الراهب يُنظم اجتماعاتٍ تُجرى بصورةٍ منتظِمة، وقد شكَّلت جماعتُه لاحقًا أساسَ الأكاديمية الفرَنسية. وحين كان أحدُهم يرفض الحضورَ، كان ميرسين ينقل للمجموعة ما يستطيعُ بإعلان الأوراق والرسائل، حتى إن كانت قد أُرسِلت إليه سرًّا. لم يكن ذلك بالسلوك الأخلاقي من أحد رجال الدِّين، لكنه كان يُبرِّره بأنَّ تبادُلَ المعلومات سيُفيد علماءَ الرياضيات والبشرية. وقد أدَّت تصرفاتُ الإعلان تلك بطبيعة الحال إلى جدالاتٍ حامية بين الراهب حسَنِ النِّية وبين الكَتومين غير المتعاونين، وأدَّت في نهاية المطاف إلى تدمير علاقته بديكارت التي استمرَّت منذ كان الرجلان يدرسان معًا في كلية الجيزويت. كان ميرسين قد كشَف عن بعض الكتابات الفلسفية لديكارت، والتي كان من شأنها أن تُسيءَ إلى الكنيسة، بالرغم من ذلك، يُذكَر للرجل أنه قد دافع عن ديكارت ضدَّ الهجمات اللاهوتية، مثلما كان قد فعل ذلك من قبل بالفعل في حالة جاليليو. ففي عصر كان يُهيمن فيه الدِّين والسحر، وقف ميرسين مدافعًا عن التفكيرِ العقلاني.
سافر ميرسين في جميع أنحاء فرَنسا وغيرِها من المناطق الأبعد، وراح ينشر أنباءَ أحدثِ الاكتشافات. وكان قد حرَص في أسفاره على الالتقاء ببيير دو فيرما، ويبدو بالفعل أنه كان الرياضيَّ الوحيدَ الذي يتصل به فيرما على نحوٍ منتظم. ولا بد أنَّ تأثير ميرسين على «أمير الهواة» كان ثانيَ أكبرِ تأثير بعد كتاب «أريثميتيكا»، وهو كتابٌ في الرياضيات يعود تاريخُه إلى اليونانيِّين القدماء وكان الرفيقَ الدائمَ لفيرما. وحتى حين لم يكن ميريسين يستطيعُ السفر، كان يُحافظ على علاقته مع فيرما وغيرِه عن طريقِ تبادل الكثيرِ من الرسائل. فبعد وفاة ميرسين، وُجِدت غرفته ممتلئة بالرسائل من ثمانية وسبعين من المراسلين المختلِفين.
وبالرغم من تشجيع الأب ميرسين، أصرَّ فيرما على رفضِ الإعلان عن بَراهينه. لم يكن النشرُ والتقديرُ يَعْنيان شيئًا بالنسبة إليه، وكان قانعًا فحسب بسروره المحضِ النابعِ من قدرته على ابتكارِ مبرهنات جديدةٍ دون إزعاج. بالرغم من ذلك، فقد كان العبقريُّ الانطوائي الخجول يتمتعُ بمسحةٍ من الخبث، وعند اجتماعها مع تكتُّمه، كانت تعني أنه حين يتواصل مع غيره من علماء الرياضيات في بعض الأوقات، فإنَّه لم يكن يتواصل معهم إلا لِيَغيظهم. كان يكتبُ خطابات يورد فيها أحدثَ مبرهانته دون ذكرِ البرهان المصاحبِ لها، ثم يتحدَّى مُعاصريه لإيجاد البرهان. وحقيقة أنه لم يكن يُفصح أبدًا عن براهينه قد سبَّبَت قدرًا كبيرًا من الإحباط. لقد كان رينيه ديكارت يدعو فيرما «بالمتشدق»، وكان الإنجليزي جون واليس يُشير إليه بلقَب «ذلك الفرَنسي اللعين». ومن سوء حظِّ الإنجليز أنَّ فيرما كان يستمتعُ على وجه التحديد بالعبَث مع أبناء عُمومته على الضفة الأخرى من القناة.
وإضافةً إلى سُروره المستمَدِّ من إزعاج زملائه، كان لعادة فيرما في ذِكر المسألة دون ذكرِ حلِّها دوافعُ عمَلية. وأول هذه الدوافع أنَّ تلك العادةَ كانت تعني أنه لم يكن مضطرًّا لإهدار الوقت في تقديم شرحٍ كامل لأساليبه، بل كان يستطيعُ الانتقال إلى انتصاره التالي. وإضافةً إلى ذلك، لم يكن عليه أن يُعانيَ من تصيُّد الأخطاء النابع من الغيرة. فالبراهين تُدرَس فورَ نشرها وتصير مادةً لجدالٍ يشترك فيه كلُّ فرد وأيُّ فرد يعرف أيَّ شيء عن الموضوع. وحين ألحَّ عليه بليز باسكال في نشر بعض أعماله، أجابه المنعزِل: «إنني لا أرغب في أن يظهر اسمي على أيِّ شيء من أعمالي يُرى أنه جديرٌ بالنشر.» لقد كان فيرما عبقريًّا كتومًا ضحَّى بالشهرة لئلا تُزعجه الأسئلةُ التافهة من ناقديه.
وقد كانت هذه الرسائلُ المتبادَلة مع باسكال، هي المناسَبةَ الوحيدةَ التي ناقش فيها فيرما أفكاره مع أيِّ شخص بخلاف ميرسين، بخصوص ابتكارِ فرعٍ جديد تمامًا في الرياضيات، وهو نظرية الاحتمالات. لقد تعرَّف ناسك الرياضيات على الموضوع من خلال باسكال؛ ولهذا فقد شعَر بواجبه في الإبقاء على الحوار بالرغم من حبِّه للعزلة. ومعًا، اكتشف فيرما وباسكال البراهينَ الأولى واليقينياتِ المؤكدةَ في نظرية الاحتمالات التي هي موضوعٌ يتَّسِم في جوهره بانعدام اليقين. وقد كان ما أثار اهتمام باسكال بالموضوع هو مقامرٌ باريسيٌّ محترف، هو أنطوان جومبو «شيفالييه دو مير»، الذي كان قد طرَح معضلةً بشأن أحدِ ألعاب الحظِّ التي تُدعى «بوينتس». وتنطوي هذه اللعبةُ على الفوز بنقاطٍ من رمية حجَر النرد، وأول لاعب يفوز بعددٍ محدد من النقاط، يكون هو الفائزَ وينال الجائزة نقودًا.
كان جومبو منهمكًا في لُعبة نقاطٍ مع زميل مُقامر له حين اضطُرَّا إلى التوقفِ عن اللعبة في منتصفِها بسبب موعدٍ مهم. وكانت المعضِلة التي طرأَت هي ما يُمكن فِعلُه بشأن نقود الجائزة. كان الحلُّ الأبسط ليتمثَّلَ في إعطاء نقود الجائزة إلى المنافس الذي حاز على العدد الأكبر من النقاط، لكن جومبو قد سأل باسكال عمَّا إذا كانت هناك طريقةٌ أكثرُ عدلًا لتقسيم النقود. كان على باسكال أن يحسبَ احتمالاتِ فوز كلِّ لاعب إن كانت اللعبةُ قد استمرَّت، وبافتراض أنَّ كِلا اللاعبَين كانا يتمتَّعان بفرصةٍ متساوية في الفوز بنقاطٍ تالية. ويمكنُ حينَها تقسيمُ نقود الجائزة وفقًا لهذه الاحتمالات المحسوبة.
قبل القرن السابع عشر، كانت قوانينُ الاحتمالات تُحدَّد وفقًا لحَدْس المقامرين وخبرتهم، غير أنَّ باسكال قد بدأ في تبادل الرسائل مع فيرما؛ بهدف اكتشاف القواعد الرياضية التي تصفُ قوانينَ الصدفة بدرجةٍ أكبرَ من الدقة. وبعد ذلك بثلاثةِ قرون، سيُعلِّق برتراند راسل على هذا التناقض قائلًا: «كيف نجرؤ على الحديث عن قوانين الصدفة؟ أوليست الصدفة هي نقيضَ أيِّ قانون؟»
حلل الفرنسي سؤال جومبو، وسرعان ما أدرك أنها مسألة بسيطة إلى حد كبير ويمكن حلها من خلال تحديد جميع نتائج اللعبة المحتملة على نحو دقيق وتعيين احتمال واحد لكل نتيجة منها. كان يمكن لكلٍّ من باسكال وفيرما أن يحلَّا معضلة جومبو على حِدَة، لكن تعاونهما قد سرَّع مِن اكتشاف الحل، وقادهما إلى استكشافٍ أعمقَ لأسئلةٍ أخرى أكثرَ دقةً وتعقيدًا تتعلق بالاحتمالات.
إنَّ مسائل الاحتمالات تكون مثيرةً للجدل في بعض الأحيان؛ لأنَّ الإجابةَ الرياضية، وهي الإجابة الحقيقيَّة، غالبًا ما تكون مُناقضة لما قد تفترضه البديهة. وربما يكون عجزُ البديهة في هذا الأمر أمرًا مفاجئًا؛ إذ إنَّ «بقاء الأنسب» قد طرَح ولا بد ضغطًا تطوريًّا قويًّا لصالح العقل القادر بطبيعته على تحليلِ مسائل الاحتمالات. يُمكننا تخيلُ أسلافِنا يترصَّدون غزالًا صغيرًا، ويُوازنون بين الهجومِ وعدم الهجوم. ما احتماليةُ وجود غزالٍ كبير بالجوار مستعد للدفاع عن صغيره، وجرح المعتدين عليه؟ وعلى الجانب الآخر، ما احتماليةُ توفُّرِ فرصةٍ أفضلَ للحصول على وجبةٍ من اللحم، إذا كان الحكم بشأنِ هذه الوجبة هو أنها خطرة للغاية؟ يجدر بموهبة تحليلِ الاحتمالات أن تكون في تركيبتنا الوراثية، غير أنَّ البديهةَ غالبًا ما تُضلِّلنا.
إنَّ إحدى مسائل الاحتمالات الأكثر تناقضًا مع البديهة تختصُّ باحتمالية تشارك يوم الميلاد. تخيل ملعب كرة قدم به ٢٣ فردًا هم اللاعبون والحكَم. فما احتماليةُ أن يشترك أيُّ شخصين من أولئك الأشخاص الثلاثة والعشرين في يومِ الميلاد نفسِه؟ إنَّ وجود ٢٣ فردًا و٣٦٥ من أيام الميلاد التي يُمكن الاختيار من بينها يجعل مِن تشاركِ أيِّ فردَين في يوم الميلاد نفسِه أمرًا مستبعَدًا بدرجةٍ كبيرة. وحين يُطلَب من الأفراد تعيينُ قيمةٍ لهذه الاحتمالية، فإنَّ معظمهم يُقدِّرونها بقيمة ١٠٪ على الأكثر. وحقيقة الأمر أنَّ الإجابة الفعلية هي أكثر من ٥٠٪، ومعنى هذا في ميزانِ الاحتمالات أنه من المرجَّح أن يوجد شخصان في الملعب يتشاركان يومَ الميلادِ نفسَه.
والسبب في هذه الاحتمالية المرتفعة أنَّ الأهمَّ من عدد الأفراد هو عددُ الطرق التي يُمكن جمعُ الأفراد بها في أزواج؛ فحين نبحثُ عن يوم ميلادٍ مشترَك، علينا أن ننظر إلى الأشخاص أزواجًا لا أفرادًا. فعلى الرغم من وجود ٢٣ فردًا فقط في الملعب، فثمة ٢٥٣ زوجًا. على سبيل المثال، يمكن جمعُ الشخص الأول في زوجَين مع أيٍّ من الاثنين والعشرين شخصًا الآخَرين؛ مما يُشكِّل لنا في البداية ٢٢ زوجًا. بعد ذلك، يمكن جمعُ الشخص الثاني في زوجين مع أيٍّ من الواحد والعشرين شخصًا المتبقِّين (لقد حسَبْنا الشخص الثانيَ بالفعل في الأزواج المحتملة للشخص الأول؛ ولهذا فقد نقَص عددُ الأزواج المحتملة بمقدار واحد)؛ فيُصبح لدينا ٢١ زوجًا إضافيًّا. وبعد ذلك، يمكن جمعُ الشخص الثالث في زوجين مع أيٍّ من العشرين شخصًا المتبقِّين؛ فيصبح لدينا ٢٠ زوجًا إضافيًّا، ونستمرُّ على هذا المنوال إلى أن نصل في النهاية إلى ٢٥٣ زوجًا.
تبدو الحقيقة المتمثِّلة في أنَّ احتماليةَ تَشارُكِ شخصين ضمن مجموعةٍ تتألَّف من ٢٣ شخصًا في يومِ الميلاد نفسِه هي أكثرُ من ٥٠٪، خاطئةً وفقًا للبديهة، لكنها حقيقةُ رياضية لا مِراء فيها. والاحتمالات الغريبة مثل تلك الاحتمالية هي تحديدًا ما يعتمدُ عليه وُكلاء المراهنات والمقامرون لاستغلال الغافلين. في المرة التالية التي تكون فيها في حفلٍ به أكثرُ من ٢٣ شخصًا، قد ترغب في عقد رِهان على أنَّ شخصَين في هذا الحفل يتشاركانِ في يوم الميلاد نفسِه. ويجدر بك أن تُلاحظ أنَّ الاحتمالية في مجموعة تتكوَّن من ٢٣ شخصًا هي أكثرُ من ٥٠٪ فحسب، لكنها تزداد بسرعةٍ كبيرة مع زيادة حجم المجموعة. ومِن ثمَّ؛ إذا كان الجمع يضمُّ ٣٠ شخصًا، فستكون المراهنة على أنَّ شخصين منهم يتشاركان في يوم الميلاد نفسِه أمرًا يستحقُّ بالتأكيد.
لقد أسَّس باسكال وفيرما القواعدَ الأساسية التي تحكم جميعَ ألعاب الحظ، والتي يُمكن للمقامرين استخدامُها لتحديد الاستراتيجيات المثالية للَّعب والمراهنة. وعِلاوةً على ذلك، فإنَّ قوانينَ الاحتمالات هذه قد وجدَت تطبيقاتٍ لها في الكثير من المواقف التي تتنوَّع من التخمين بشأن سوق البورصة إلى تقدير احتمالية وقوعِ حادثٍ نووي. بل إنَّ باسكال كان مقتنعًا بإمكانية استخدامِ نظرياته لتبرير الإيمان بالإله. لقد ذكَر أنَّ «الإثارة التي يشعر بها المقامرُ عند وضع الرِّهان تُساوي مقدارَ ما يُمكن أن يفوز به مضروبًا في احتمالية فوزه.» وجادلَ بأنَّ الجائزة المحتملة المتمثِّلة في السعادة الأبدية ذاتُ قيمة لا متناهية، وأنَّ احتمالية دخول الجنة بعد اتباع حياةِ الفضيلة، مهما بلَغ قِصرُها، هي بالتأكيد منتهية. وبهذا، يُصبح الدِّين وفقًا لتعريف باسكال لعبة ذاتَ قدرٍ لا نهائي من الإثارة وهي لعبة تستحق الاشتراك فيها؛ إذ إنَّ ضربَ جائزةٍ لا متناهية في احتماليةٍ منتهية يُعطينا نتيجةً لا متناهية.
وإضافةً إلى الاشتراك في تأسيس نظريةِ الاحتمالات، كان فيرما منخرطًا بشدة في تأسيس مجالٍ جديد في الرياضيات، وهو حساب التفاضل والتكامل. إنَّ التفاضُلَ والتكامل هو حسابُ معدَّل التغير في كميةٍ واحدة بالنسبةِ إلى كمية أخرى، ويُعرَف هذا المعدل باسم المشتقة. فعلى سبيل المثال، يُعرَف معدل تغيرِ المسافة بالنسبة إلى الزمن باسم السرعة المتَّجِهة فحسب. غالبًا ما يرى علماءُ الرياضيات أنَّ الكميات مجردةٌ وغير ملموسة، لكنَّ نتائجَ عمل فيرما قد تسببَت بعد ذلك في ثورةٍ في مجال العلوم. فرياضياتُ فيرما قد مكَّنَت العلماء من تحقيق فَهمٍ أفضلَ لمفهومِ السرعة المتجِهة، وعلاقتها بغيرها من الكميات الأساسية مثل التسارع: معدل تغيُّر السرعة المتجهة بالنسبة إلى الزمن.
ومن المجالات التي تأثرَت بحساب التفاضل والتكامل تأثرًا كبيرًا، علم الاقتصاد. التضخُّم هو معدلُ تغيرِ السعر، الذي يُعرَف بمشتقةِ السعر، وغالبًا ما يهتمُّ علماء الاقتصاد أيضًا بمعدَّل تغيرِ التضخُّم، وهو ما يُعرَف بالمشتقة الثانيةِ للسعر. تتردَّد هذه المصطلحات على ألسنةِ السياسيِّين بكثرة، وقد أشار عالمُ الرياضيات هوجو روسي ذاتَ مرة إلى ما يلي: «في خريف العام ١٩٧٢، أعلن الرئيس نيكسون أنَّ معدلَ زيادة التضخم آخذٌ في التناقص. وقد كانت هذه هي المرةَ الأولى التي يستخدم فيها رئيسٌ حاليٌّ مشتقةً ثالثة لزيادةِ فرصته في إعادة انتخابه.»
لقد ساد الاعتقادُ لقرونٍ طويلة بأنَّ إسحاق نيوتن هو مَن اكتشف حسابَ التفاضل والتكامل بمفردِه ودون أيِّ معرفةٍ بعمل فيرما، غير أنَّ لويس ترينشارد مور قد اكتشفَ عام ١٩٣٤ رسالةً وضعَت الأمورَ في نِصابها الصحيح، ومنحَت فيرما ما يستحقُّه من تقدير. فقد كتب نيوتن أنه وضع حسابَ التفاضل والتكامل بِناءً على «طريقة السيد فيرما في رسم المماسَّات.» ومنذ القرنِ السابع عشر، يُستخدَم حساب التفاضل والتكامل في وصفِ قوانين الجاذبية وقوانين الحركة التي وضَعها نيوتن، والتي تعتمد على المسافة والسرعة المتجِهة والتسارع.
كان اكتشافُ حسابِ التفاضل والتكامل ونظرية الاحتمالات أكثرَ من كافِيَين لِيَضمَنا لفيرما الشهرةَ في عالم الرياضيَّات، غير أنَّ إنجازَه الأعظم كان في مجالٍ آخرَ من مجالات الرياضيات. فبينما يُستخدَم حساب التفاضل والتكامل في إرسال الصواريخ إلى القمر، وبينما استَخدمَت شركاتُ التأمين نظريةَ الاحتمالات في تقييمِ المخاطر، كان حبُّ فيرما الأعظمُ لمجالٍ عديم الفائدة إلى حدٍّ كبير، وهو نظريةُ الأعداد. لقد كان فيرما مدفوعًا بهوَسِه لفهم خصائصِ الأعداد والعلاقات فيما بينَها. إنَّ هذا الموضوعَ هو الأكثرُ تجريدًا في فروع الرياضيَّات وأقدَمُها، وكان فيرما يضيفُ إلى هيكلٍ معرفي قد وصَل إليه من فيثاغورس.
(١) تطور نظرية الأعداد
بعد وفاة فيثاغورس، انتشر مفهومُ البرهان الرياضيِّ سريعًا في أرجاء العالم المتحضِّر، وبعد مرور قرنَين على حرقِ مدرسته، انتقل مركزُ دراسة الرياضيات من قروطون إلى مدينة الإسكندرية. في العام ٣٣٢ قبل الميلاد، بعد أن غَزا الإسكندرُ الأكبر اليونانَ وآسيا الصغرى ومِصر، قرَّر أن يبنيَ عاصمةً تكون هي الأروعَ في العالم. وقد كانت الإسكندريةُ عاصمةً رائعة دون شك، لكنها لم تُصبح مركزًا للتعلُّم على الفور. ذلك أنَّها لم تُصبح وطنًا لأولِ جامعة في العالم على الإطلاق إلا بعد أن تُوفِّي الإسكندر الأكبر، وتولى أحدُ قادته، وهو بطليموس الأول، عرش مصر. توافدَ عُلماء الرياضيات وغيرهم من المفكِّرين على مدينة بطليموس للثقافة. وبالرغم من أنَّ سُمعة الجامعة قد جذَبَتهم دون شك، فقد كان عاملُ الجذب الأساسي هو مكتبةَ الإسكندرية.
كانت المكتبة فكرة ديميتريوس الفالرومي، وهو خطيبٌ مغمور كان قد اضطُرَّ إلى الهرب من أثينا، ووجَد في الإسكندرية مَلاذًا في النهاية. لقد أقنع بطليموسَ بجمعِ جميع الكتب العظيمة معًا، مؤكِّدًا له أنَّ العقولَ العظيمة سوف تتبعها. وفورَ إحضار مجلدات مصر واليونان، راح الوكلاءُ يجوبون أوروبا وآسيا الصغرى بحثًا عن المزيد من الكتب المعرفيَّة. حتى السائحون إلى الإسكندرية لم يَسْلموا من نهَم المكتبة؛ إذ كانت كتبُهم تُصادَرُ عند دخول المدينة وتُؤخَذ إلى النُّساخ. كانت الكتبُ تُنسَخ كي يُهدى الكتاب الأصليُّ إلى المكتبة، بينما تُعطى النسخة على سبيل الكرم إلى المالكِ الأصلي. وهذه الدقَّة الكبيرة في خِدمة النُّسخ التي كانت تُقدَّم إلى المسافرين القُدامى، تمنح مؤرِّخي اليومِ أمَلًا في أنَّ نسخةً من كتابٍ عظيم مفقود سوف تظهر ذاتَ يومٍ في سندرة في مكانٍ ما بالعالم. ففي عام ١٩٠٦، عثر جيه إل هايبرج في القسطنطينيَّة على مخطوطةٍ من هذا النوع بعنوان «ذا ميثود»، وقد تضمَّنَت بعضًا من كتابات أرشميدس الأصلية.
استمرَّ حُلم بطليموس ببناءِ خزينةٍ للمعرفة حتى بعد وفاته، وبعد أن ارتقى بِضعةٌ من البطالمة إلى العرش، كانت المكتبة تضمُّ أكثرَ من ٦٠٠٠٠٠ كتاب. كان علماءُ الرياضيات يستطيعون تعلُّمَ كلِّ شيء في العالم المكتشَفِ من خلال الدراسة في الإسكندرية حيث كان يدرِّس لهم فيها أشهرُ العلماء. فلم يكن أولُ مَن ترأَّس قسم الرياضيات سوى إقليدس.
وُلِد إقليدس عام ٣٣٠ قبل الميلاد تقريبًا. ومِثلُه في ذلك مِثلُ فيثاغورس، كان إقليدس يُؤمِن بالبحث عن الحقيقة الرياضيَّة من أجل ذاتِها فحسبُ ولم يكن يبحث عن تطبيقات لعمَلِه. وتحكي لنا إحدى القصص عن تلميذٍ له قد سأله عن فائدةِ الرياضيات التي كان يتعلَّمها. وفورَ الانتهاء من الدرس، التفتَ إقليدس إلى عبدِه وقال له: «أعطِ الغلامَ بِنسًا؛ إذ إنه يرغب في الاستفادة من كلِّ ما يتعلمه.» وطُرِد الطالب بعد ذلك.
كرَّس إقليدس الجزءَ الأكبر من حياته لكتابه «الأصول»، أنجح المراجع في التاريخ. فحتى هذا القرن، جاء هذا الكتاب في المركز الثاني لأفضلِ الكتب مَبيعًا في العالم بعد الإنجيل. ويتألَّف المرجع من ثلاثةَ عشَر كتابًا، بعضها مخصص لأعمال إقليدس، والجزء المتبقِّي منها تجميعٌ للمعارف الرياضية في العصر، ومنها جزءان مخصَّصان بالكامل لأعمال الأخوية الفيثاغورسية. في القرون التالية لفيثاغورس، كان علماءُ الرياضيات قد اخترَعوا العديد من الأساليب المنطقية التي يمكن استخدامها في ظروفٍ مختلفة، وقد وظَّفها إقليدس جميعَها ببراعة في كتابه «العناصر». وقد استخدم إقليدس على وجه التحديد سلاحًا منطقيًّا يُعرَف باسم «ريدُكتو أد أبسوردُم» أو البُرهان بالتناقض. وتستندُ هذه الطريقةُ على الفكرة المعاكِسة المتمثلة في محاولة إثبات صحة مبرهنة ما عن طريق افتراض خطئِها أولًا. يستكشف عالم الرياضيات النتائجَ المنطقيَّة في حالة أن تكون المبرهنةُ خاطئة. وفي مرحلةٍ ما في التسلسُلِ المنطقي، يظهر تناقضٌ ما (٢ + ٢ = ٥ على سبيل المثال). إنَّ الرياضيات تبغض التناقض؛ ومِن ثَمَّ فلا يمكن أن تكونَ المبرهنة الأصليةُ خاطئةً، أي إنها لا بد أن تكون صحيحةً.
لقد جسَّد عالِمُ الرياضيات الإنجليزيُّ جي إتش هاردي روحَ البرهان بالتناقض في كتابه «اعتذار عالم رياضيات» فقال: «إنَّ البرهانَ بالتناقض الذي أحبَّه إقليدس للغاية هو أحد أرقى أسلحةِ عالم الرياضيات. إنه مُناورة أرقى من أيِّ مباراة شِطْرنج؛ فلاعبُ الشِّطْرنج قد يَعرِضُ التضحيةَ ببَيْدقٍ أو حتى قطعة، لكنَّ عالم الرياضيات يَعرِض التضحيةَ بالمباراة.»
أحدُ أشهر البراهين بالتناقُض التي استخدمَها إقليدس قد أسَّس وجودَ ما يُعرَف باسم «الأعداد غير النِّسبية». وثَمة احتمالٌ قائم بأنَّ الأعداد غيرَ النسبية قد اكتُشِفت في الأصل على يدِ الأخوية الفيثاغورسية قبلَ ذلك بقرون، غير أنَّ فيثاغورس قد وجَد المفهوم بغيضًا للغاية حتى إنه قد أنكَر وجودها.
حين زعم فيثاغورس أنَّ الأعداد تحكمُ الكونَ بأكمله، كان يعني بذلك الأعدادَ الصحيحة ونِسَب الأعداد الصحيحة (الكُسور)، وجميعُها تُكوِّن الأعداد النِّسبية. أما العددُ غيرُ النسبي، فهو ليس بالعددِ الصحيح ولا بالكسر؛ وهذا هو ما جعَله بغيضًا للغاية لدى فيثاغورس. والحقُّ أنَّ الأعدادَ غيرَ النسبية غريبةٌ للغاية حتى إنه لا يُمكن كتابتها على هيئةِ أعدادٍ عشرية، ولا حتى على هيئة أعداد عشريةٍ متكرِّرة. فالعدد العشريُّ المتكرر مثل ٠,١١١١١١ … هو عددٌ مباشر إلى درجةٍ كبيرة في حقيقة الأمر، وهو يُساوي الكسر ١ / ٩. فحقيقةُ تَكرُّر العدد «١» إلى ما لا نهاية تعني أنَّ نمطَ العدد العشريِّ بسيطٌ للغاية ومنتظِم. وبالرغم من التَّكرار إلى ما لا نهاية، فإنَّ هذا الانتظامَ يُشير إلى إمكانية كتابة العدد في صورةِ كسر. أما حين تُحاول التعبيرَ عن أحدِ الأعداد غيرِ النسبية في صورةِ كسر، فإنك تنتهي بعددٍ يستمر إلى ما لا نهاية ودون نمط ثابتٍ أو منتظم.
لقد كان مفهومُ العدد غيرِ النسبيِّ إنجازًا ضخمًا. راح علماءُ الرياضيات ينظرون إلى ما وراء الأعداد الصحيحة والكسور المرتبطة بها ويكتشفون أعدادًا جديدة، أو ربما يخترعونها. فقال عالِمُ الرياضيات ليوبولد كرونكر، الذي عاش في القرن التاسع عشر: «خلَق الربُّ الأعدادَ الصحيحة، أما كلُّ الأعداد الباقية، فهي من صُنعِ الإنسان.»
قيمة π إلى ١٥٠٠ منزلة عشرية
لقد لجأ مؤسِّسُ المنطق والمنهجية الرياضية إلى القوة بدلًا من أن يعترفَ بخطئه. إنَّ إنكار فيثاغورس للأعداد غيرِ النسبية هو أشنعُ أفعاله، وقد يكون أعظمَ مآسي الرياضيات اليونانية؛ إذ لم يُمكِن بعثُ الأعداد غير النسبية بأمانٍ إلا بعد وفاته.
وبالرغم من أنَّ اهتمام إقليدس بنظرية الأعداد كان واضحًا؛ فلم تكن تلك أعظمَ إسهاماتِه في مجال الرياضيات. لقد كانت الهندسة هي شغَفَ إقليدس الحقيقيَّ، ومن بين الأجزاء الثلاثة عشر التي يتألَّف منها كتابه «العناصر»، تُركِّز الأجزاء من الأولِ إلى الرابع على الهندسة المستويةِ (ثُنائية الأبعاد)، بينما تُناقش الأجزاءُ من الحادي عشر إلى الثالث عشر هندسةَ المجسَّمات (ثلاثية الأبعاد). إنَّ هذا الكتاب يُمثِّل مرجعًا مكتمِلًا للمعرفة حتى إنَّ محتوياتِه قد شكَّلَت منهجَ الهندسة في المدارس على مدى ألفَيْ عامٍ تاليَين من الزمان.
أما عالم الرياضيات الذي جمَّع نصًّا مكافئًا لنظرية الأعداد، فهو ديوفانتوس الإسكندري، آخر أبطال التقليدِ الرياضيِّ اليوناني. وبالرغم من أن إنجازاتِ ديوفانتوس في نظرية الأعداد قد وُثِّقت جيدًا في كتبه، فلَسْنا نعرف أيَّ شيءٍ آخرَ عن ذلك العالمِ العظيم. فمَسقطُ رأسه مجهول، ووصولُه إلى الإسكندرية قد يكون في أيِّ وقتٍ على مدى مدَّة زمنية تمتدُّ إلى خمسة قرون. يقتبس ديوفانتوس في كتاباته من هيبسكلس؛ إذن فلا بد أنه قد عاش بعد العام ١٥٠ قبل الميلاد؛ ومن ناحية أخرى، نرى ثيون الإسكندريَّ يقتبس من أعماله؛ إذن فلا بد أنه قد عاش قبل العام ٣٦٤ بعد الميلاد. والتقدير المنطقيُّ المقبول لتاريخِ ميلاده هو حول العام ٢٥٠ ميلاديًّا. ومثلما يليقُ بشخصٍ من محترفي حلِّ المعضلات، فإنَّ المعلومة الوحيدة التي انتقلت إلينا عن حياة ديوفانتوس، قد بقيت في شكلِ أُحجية يُقال إنها قد نُقِشت على قبره:
منَحه الربُّ صباه على مدى السُّدس من عمره، وبإضافة ١ / ١٢ لذلك، غطَّى خدَّيه بالزغب؛ ومنحه نور الزواج بعد السُّبع، وبعد خمس سنوات من زواجه منَحه ابنًا. ويحي! طفل بائس قد وُلِد لعجوز؛ وبعد أن بلغ عمرُه نصفَ عمر أبيه كلِّه، أخذه القدَرُ القاسي. بعد أن واسى الربُّ حزنه بعلمِ الأعداد على مدى أربع سنوات، أنهى حياته.
واللغزُ هو حساب الفترة الزمنية التي عاشها ديوفانتوس. ترِدُ الإجابة في الملحق ٣.
إنَّ هذه الأحجيةَ مثالٌ على نوعِ المسائل الذي كان ديوفانتوس يستمتعُ بحَلِّه. لقد تخصَّص في معالجة المسائل التي كانت تستلزم إجاباتٍ بأعداد صحيحة، وتُعرَف هذه المسائل اليومَ باسم المسائل الديوفانتية. قضى ديوفانتوس حياتَه المِهْنية في الإسكندرية، وظل يجمعُ خلالها المسائلَ المفهومة جيدًا، ويخترعُ مسائلَ جديدة، ثم جمعَها كلَّها في مجلدٍ واحد يُعرَف باسم «أريثميتيكا» (علم الحساب). ومن بين الأجزاء الثلاثة عشر التي تُؤلِّف «أريثميتيكا»، لم ينجُ منها بعدَ أهوال العصور المظلمة سوى ستة فقط، وقد ألهمت علماءَ الرياضيات في عصر النهضة، ومنهم بيير دو فيرما. أما الأجزاء السبعة المتبقية، فقد فُقِدت خلالَ سلسلةٍ من الأحزان المأساوية التي أعادَت الرياضيات إلى عصر البابليين.
خلال القرون التي تفصل بين إقليدس وديوفانتوس، ظلَّت الإسكندرية هي العاصمةَ الفِكرية للعالم المتحضِّر، غير أنها كانت تتعرَّض على مدى هذه المدَّة باستمرارٍ لتهديدات من الجيوش الأجنبية. وقد وقعَت أولى الهجمات الكبرى عام ٤٧ قبل الميلاد، حين حاول يوليوس قيصر الإطاحةَ بكليوباترا من خلال تدمير أسطول الإسكندرية. كانت المكتبة تقعُ بالقرب من الميناء، فاحترقَت هي أيضًا. بالرغم من ذلك، فمِن حُسن حظِّ الرياضيات أنَّ كليوباترا كانت تُدرك أهمية المعرفة، وأصرَّت على إعادة المكتبة إلى مجدِها السابق. وقد أدركَ مارك أنطوني أنَّ السبيلَ إلى قلب مثقَّفة يكون من خلالِ مكتبتها؛ فسار إلى مدينة بيرجامون. كانت هذه المدينةُ قد أنشأت مكتبةً بالفعل وكانت ترجو أن تُمِدها بأفضلِ الكتب في العالم، غير أنَّ مارك أنطوني قد نقل المخزون كلَّه إلى مصر؛ فأعاد إلى الإسكندرية تفوُّقَها.
على مدى القرون الأربعة التالية، ظلَّت المكتبة تجمعُ الكتب حتى العام ٣٨٩ ميلاديًّا حين تلقَّت أولى الضربتَين القاضيتين، وقد كانت كِلتاهما نتيجةً للرجعيَّة الدينية. ذلك أنَّ الإمبراطور المسيحي ثيودوسيوس قد أمرَ ثيوفيلوس، أسقف الإسكندرية بتدميرِ جميع التماثيل الوثَنية. ومن سوء الحظِّ أنَّ كليوباترا حين أعادت بناء المكتبة وتزويدها بالكتب من جديد، كانت قد قرَّرَت إقامتها في معبد الإله سيرابيس؛ فتضرَّرت المكتبةُ في خِضَمِّ تدمير الأيقونات والمذابح. حاول العلماء «الوثنيون» إنقاذَ مقدار ستة قرون من المعرفة، غير أنَّ الدَّهْماء المسيحيين قد ذبَحوهم قبل أن يتمكَّنوا من فعل أي شيء. كان التردِّي إلى العصور المظلمة قد بدأ.
نجَت بضعُ نسخٍ ثمينة من الكتب الأهم من السطو المسيحي، واستمر العلماءُ في زيارة الإسكندرية بحثًا عن المعرفة. وبعد ذلك في العام ٦٤٢، نجحت هجمةٌ إسلامية فيما عجزت عنه الهجمةُ المسيحية. ذلك أنَّ الخليفة المنتصر عمر حين سُئل عما ينبغي فعله بتلك الكتب، أمر بإتلاف الكتب المخالفة للقرآن، ثم أضاف أنَّ الكتب التي تتفق معه هي فائضة لا حاجة إليها؛ وأمَر بإتلافها هي أيضًا. استُخدِمت المخطوطات في إذكاء الأفران التي كانت تسخِّن الحمامات العامة، وتلاشت الرياضياتُ اليونانية في الدخان. ليس من المفاجئ إذن أنَّ القَدر الأكبر من أعمال ديوفانتوس قد تعرَّض للدمار، بل الحق أنَّ نجاةَ ستةِ أجزاء من كتاب «أريثميتيكا» من مأساة الإسكندرية، معجزة.
على مدى الألف العام التالية، كسَدَت الرياضياتُ في الغرب، ولم يُبقِ هذا العلمَ حيًّا سوى بضعةٍ من أعلام الهند وبلادِ العرب. لقد نسَخوا القوانين التي وجَدوها في المخطوطات اليونانية الناجية، ثم بدَءوا بأنفسِهم في إعادة اختراع العديد من المبرهنات التي فُقِدت. وعلاوةً على ذلك، قد أضافوا عناصرَ جديدة إلى الرياضيات، ومنها العدد صفر.
في الرياضيات الحديثة، يؤدي الصفرُ وظيفتَين. أُولاهما هو أنه يُمكِّننا من التمييز بين عددَين مثل ٥٢ و٥٠٢. ففي نظامٍ عددي يدل موقعُ العدد فيه على قيمتِه، ينبغي الاستعانةُ برمز لتأكيدِ الموقع الفارغ. فالعدد ٥٢ على سبيل المثال، يُمثل ٥ مضروبًا في ١٠ زائد ٢ مضروبًا في واحد، أما العدد ٥٠٢، فهو يمثل ٥ مضروبًا في مائة زائد ٠ مضروبًا في عشَرة زائد اثنين مضروبًا في واحد، ووجود الصفر ضروريٌّ للغاية لإزالة أيِّ لبس. فحتى البابليين في الألفية الثالثة قبل الميلاد، قد أدرَكوا أهميةَ استخدام الصفر لتفادي اللبس، وقد تبَنَّى اليونانيون فكرتهم واستخدموا رمزًا دائريًّا يُشبه ذلك الذي نستخدمه اليوم. غير أنَّ للصفر دلالةً أعمقَ وأكثر غموضًا لم يُدرِكها على نحوٍ كامل سوى علماءِ الرياضيات في الهند بعد قرون عديدة. فقد أدرك الهندوس أنَّ للصفر وجودًا مستقلًّا يتجاوز الدَّورَ الذي يؤدِّيه في الفصل بين الأعداد الأخرى؛ أي إنَّ الصفر عددٌ قائم بذاته. لقد أدركوا أنه يُمثل كميةً من اللاشيء. وللمرة الأولى، اتخذت فكرة اللاشيء المجردة تمثيلًا رمزيًّا.
قد تبدو هذه الفكرةُ خطوةً تافهة للقارئ المعاصر، لكنَّ جميعَ فلاسفة اليونان القدامى، ومنهم أرسطو، قد غفَلوا عن المعنى العميق لرمزِ الصِّفر. لقد كان أرسطو يُحاجِج بوجوب إبطال الصفر لأنَّه كان يُخِلُّ باتساق الأعداد؛ فقِسمةُ أيِّ عددٍ عادي على الصِّفر كان يُؤدِّي إلى نتيجةٍ غيرِ مفهومة. وبحلول القرن السادس الميلادي، لم يَعُد علماء الرياضيات الهنود يتجاهلون هذه المشكلةَ، وقد كان العالم براهماجوبتا الذي عاش في القرن السابع محنَّكًا بما يكفي لاستخدامِ القسمة على الصفر تعريفًا للانهائية.
في القرن العاشر الميلادي، تعلَّم جيربير الأورياكي هذا النظامَ العدَديَّ الجديدَ من الأندلسيين، وتمكَّن من خلال المناصب التعليميَّة التي شغَلَها في الكنائس والجامعات من تقديمِ هذا النظام العدديِّ إلى الغرب. في العام ٩٩٩ ميلاديًّا، انتُخِب لمنصبِ البابا وسُمِّي بسِلفستَر الثاني، وقد أتاح له منصبُه التشجيعَ على استخدامِ الأعداد الهندية العربية بدرجةٍ أكبر. وبالرغم من أنَّ كفاءةَ النظام، قد أحدَثَت ثورةً في المحاسبة واستخدمه التجَّار سريعًا، فهي لم تُسهِم إلا بالقليلِ في إحياء الرياضيات الأوروبية.
أما أهمُّ نقاطِ التحول في الرياضيات الغربية، فقد حدَثَت في عام ١٤٥٣ حين سلَب الأتراكُ القُسطنطينيَّة. وفي أثناء السنوات التي تفصل بين هذا الحدث وبين انتهاك الإسكندريَّة، كانت المخطوطاتُ التي نجَت من ذلك الانتهاك قد تجمَّعَت في القُسْطنطينية، لكنها كانت تتعرَّض مرةً أخرى للتهديد بالإتلاف. فرَّ العلماءُ البيزنطيون غربًا بما استطاعوا حِفظَه من النصوص. وبعد أن نجَت من هجوم قيصر والأسقف ثيوفيلوس والخليفة عمر ثم الأتراكِ آنذاك، تمكنَت بضعةُ أجزاء ثمينة من كتاب «أريثميتيكا» من شقِّ طريق العودة إلى أوروبا. وقُدِّر لأعمالِ ديوفانتوس أن تقبعَ على مكتب بيير دو فيرما.
(٢) ميلاد أحجية
كانت المسئوليات القضائية التي يتولَّاها فيرما تَشغَل جزءًا كبيرًا من وقتِه، لكنه كرَّس ما لديه من وقتِ فراغ زهيدٍ للرياضيات. وقد كان السبب في ذلك يعود جزئيًّا إلى أنَّ قُضاة القرن السابع عشر في فرنسا، كانوا يُثبَّطون عن التفاعلات الاجتماعية؛ بحُجَّة أنَّ الأصدقاء والمعارف قد يُدْعَون ذاتَ يوم للمثول أمام المحكمة. فالمخالطة مع سكانِ الإقليم، لن تُؤدِّيَ إلا إلى المحاباة. وبالانعزال عن بقية المجتمع الراقي في تولوز، استطاع فيرما التركيزَ على هوايته.
ما من روايةٍ تُشير إلى تأثر فيرما بأيِّ مُعلِّمٍ للرياضيات، بل كانت نسخة «أريثميتيكا» هي مُرشِدَه. كان الهدفُ من «أريثميتيكا» هو وصْفَ نظريةِ الأعداد، مثلما كانت عليه في عصر ديوفانتوس، عبر مجموعةٍ من المسائل والحلول. لقد كان ديوفانتوس في حقيقة الأمر، يُقدِّم إلى فيرما مقدارَ ألف عامٍ من الفَهْم الرِّياضي. استطاع فيرما أن يجد في كتابٍ واحد جميعَ معارفِ الأعداد مثلَما وضعها أمثالُ فيثاغورس وإقليدس. لقد توقَّفَت نظريةُ الأعداد في مكانها منذ الحريقِ الهمجي في الإسكندرية، لكنَّ فيرما قد صار الآنَ جاهزًا لاستكمال دراسة الفرع الأكثر جوهريةً في الرياضيات.
كانت نسخة «أريثميتيكا» التي ألهمَت فيرما هي ترجمةً لاتينية بقلم كلود جاسبر باشي دو ميزيرياك، الذي يُذاع عنه أنه كان أكثرَ الرجال عِلمًا في فرَنسا بأكملِها. وإضافةً إلى كونه عالِمَ لغةٍ بارعًا وشاعرًا وباحثًا كلاسيكيًّا، كان باشي يهوى الألغازَ الرياضية. لقد كان أولُ كتابٍ نشَرَه هو تجميعًا للألغاز تحت عنوان «مسائل ممتعة وطريفة يُمكن تشكيلُها بالأعداد»، وتضمَّنَ مسائلَ تتعلق بعبور الأنهار ومسألةً تتعلق بسَكْب السوائل، والعديدَ من خدع التفكيرِ في عدد. ومن الأسئلة التي طرحها مسألةٌ تتعلق بالأوزان:
ما هو أقلُّ عددٍ من الأوزان يمكن استخدامه على الميزان لوزنِ أيِّ عددٍ صحيح من الكيلوجرامات من ١ إلى ٤٠؟
كان لدى باشي حلٌّ بارع يُثبت إمكانيةَ إنجاز هذه المهمة بأربعةِ أوزان فقط. ويَرِد حلُّه في الملحق ٤.
وبالرغم من أنَّ باشي لم يكن سوى هاوٍ للرياضيات، فقد كان اهتمامه بالألغاز كافيًا لأن يُدرِك أنَّ قائمة المسائل التي أوردَها ديوفانتوس أكثرُ رُقيًّا وجديرةٌ بالدراسة المتعمقة. أخذ على عاتقِه مهمةَ ترجمةِ كتاب ديوفانتوس ونشرِه من أجل إحياء الأساليب اليونانية من جديد. ومن المهمِّ أن نُدرك أنَّ ذلك الحجمَ الشاسع من المعرفة الرياضية القديمة كان قد نُسي تمامًا. فلم تكن الرياضياتُ الأرقى تُدرَّس حتى في أعظم الجامعات الأوروبية، ولم يكن من الممكن استعادةُ هذا القدر الكبير من المعرفة بسرعةٍ كبيرة إلا بجهود علماء مثل باشي. في العام ١٦٢١، حين نشر باشي النسخةَ اللاتينية من كتاب «أريثميتيكا»، كان يُسهِم بذلك في العصر الذهبيِّ الثاني للرياضيات.
يتضمَّنُ كتاب «أريثميتيكا» ما يَزيد على مائةِ مسألة، ويُقدِّم ديوفانتوس لكلٍّ منها حلًّا مفصَّلًا. إنَّ هذا المستوى من الاجتهاد لم يكن من العادات التي تبنَّاها فيرما قط. ذلك أنَّه لم يهتمَّ بكتابة نصٍّ مرجعي للأجيال المستقبليَّة؛ إذ لم يكن يرغبُ إلا في إشباعِ ذاته فحَسبُ بأنه قد حلَّ مسألةً ما. وقد ألهمَته دراسةُ مسائلِ ديوفانتوس وحلولُها بالتفكير في بعض الأسئلة الأخرى المتعلِّقة بها والأكثرِ غُموضًا. كان فيرما يكتب ما يكفي فقط لإقناعِه بأنه يستطيعُ معرفةَ الحل، ولا يَعْبَأ حينَها بكتابةِ باقي البرهان. وكثيرًا أيضًا ما كان يُلقي ملاحظاتِه السريعةَ التي استلهَمها في سلة المهملات، وينتقل بعد ذلك إلى المسألة التالية. من حُسن حظِّنا أنَّ نسخة باشي من كتاب «أريثميتيكا» كانت تتضمن مساحةً واسعة للهوامش في كل صفحة، وكان فيرما يكتب فيها أحيانًا بعضَ الحجج المنطقية والتعليقات. وقد أصبحَت هذه الملاحظاتُ الهامشية سِجلًّا ثَمينًا بالرغم من ضَآلة حجمِه، لأبرعِ حسابات فيرما.
كان أحدُ اكتشافات فيرما يتعلَّق بما يُسمَّى «الأعداد الصديقة» أو «الأعداد المتحابَّة»، وهي وثيقةُ الصِّلة بالأعداد المثاليَّة التي فتَنت فيثاغورس قبلَ ألفَيْ عام. والأعداد الصديقة هي كلُّ زوجَين من الأعداد التي يكون كلُّ عدد فيهما مساويًا لمجموع قَواسمِ العددِ الآخَر. لقد توصَّل الفيثاغورسيون إلى الاكتشاف المذهل المتمثِّل في أنَّ ٢٢٠ و٢٨٤ يُمثِّلان زوجَيْن من الأعداد الصديقة. فقواسمُ العدد ٢٢٠ هي ١ و٢ و٤ و٥ و١٠ و١١ و٢٠ و٢٢ و٤٤ و٥٥ و١١٠، ومجموعُ كلِّ هذه الأعداد هو ٢٨٤. وعلى الجانب الآخر، نجد أنَّ قواسمَ العدد ٢٨٤ هي ١ و٢ و٤ و٧١ و١٤٢ ومجموع هذه الأعداد هو ٢٢٠.
يُقال إنَّ الزوجَين العدديَّين ٢٢٠ و٢٨٤ كانا رمزَينِ للصداقة. ففي كتابه، «عرضٌ سِحري رياضي»، يحكي مارتِن جاردنر عن تعاويذَ كانت تُباع في العصور الوُسطى وقد نُقِشت عليها هذه الأعدادُ على أساسِ أنَّ ارتداءها سيُعزِّز الحب. ويُوثِّق أحدُ المنجِّمين العدديِّين العربِ ممارسةً تتمثل في نقش العدد ٢٢٠ على ثمرة فاكهة ونقش العدد ٢٨٤ على ثمرةٍ أخرى، ثم أكْلِ الثمرة الأولى وإهداءِ الأخرى إلى الحبيب كنوعٍ من مُثيرات الشبَق الرياضية. وقد أشار علماء اللاهوت الأوائلُ إلى أنَّ يعقوب قد أعطى عيسو، مثلَما وردَ في سِفْر التكوين، ٢٢٠ ماعزًا. وكانوا يعتقدون أنَّ عدد المعز، الذي هو نصفُ زوجين من الأعدادِ الصديقة تعبيرٌ عن حبِّ يعقوب لعيسو.
لم تُعرَف أيٌّ من أزواج الأعداد الصديقة الأخرى حتى العام ١٦٣٦ حين اكتشف فيرما الزوجينِ ١٧٢٩٦ و١٨٤١٦. وبالرغم من أنَّ هذا الاكتشاف ليس عميقًا، فهو يُوضِّح أُلفةَ فيرما مع الأعداد وحُبَّه للَّهوِ بها. لقد بدأ فيرما صيحةً لاكتشاف الأعداد الصديقة؛ فاكتشف ديكارت زوجَين ثالِثَين (٩٣٦٣٥٨٤ و ٩٤٣٧٠٥٦) وتابع ليونهارت أويلر ليذكر اثنين وستِّين زوجًا من الأزواج المتحابَّة. ومن الغريب أنَّ جميعهم قد أغفَلوا زوَجَين أصغرَ كثيرًا من أزواج الأعداد الصديقة. وفي العام ١٨٦٦، اكتشف الإيطاليُّ نيكولو باجانيني الذي كان يبلغ من العمر حينها ستةَ عشر عامًا، هذين الزوجَين، وهما ١١٨٤ و١٢١٠.
وفي القرن العشرين، توسع علماءُ الرياضيات في الفكرة إلى أكثرَ من ذلك، وراحوا يبحثون عمَّا يُسمَّى بالأعداد «الأنيسة»، وهي ثلاثةُ أعداد أو أكثرُ تُشكِّل حَلْقة مُغلقة. فعلى سبيل المثال، في الحلقة المغلَقة التي تتكون من ٥ أعداد هي: (١٢٤٩٦ و١٤٢٨٨ و١٥٤٧٢ و١٤٥٣٦ و١٤٢٦٤)، نجد أنَّ مجموع قواسم العدد الأول يُساوي العدد الثاني، ومجموع قواسمِ العدد الثاني يُساوي العدد الثالث، ومجموع قواسم العدد الثالث يُساوي العددَ الرابع، ومجموع قواسم العدد الرابع يساوي العدد الخامس، ومجموع قواسم العدد الخامس يساوي العدد الأول.
أعلن فيرما هذه الخاصية الفريدة التي يتسمُ بها العدد ٢٦ للمجتمع الرياضي، ثم تحدَّاهم أن يُثبِتوا صحةَ هذه الخاصية. وقد أعلَن بنفسه أنه قد توصَّل إلى برهان، غير أنَّ السؤال قد كان عما إذا كان الآخرون يتمتَّعون بما يكفي من البراعة لتقديم برهانٍ مُطابق أم لا. وبالرغم من بساطة الادِّعاء، فإنَّ البرهانَ معقَّد للغاية، وقد كان فيرما يستلذُّ على نحوٍ خاص بالسخرية من عالمي الرياضيات الإنجليزيين: واليس وديجبي، اللذين اضطُرا في نهاية المطاف إلى الاعتراف بالهزيمة. وفي النهاية، صار أعظم حق لفيرما في الشهرة، تحديًا آخر لبقية العالم. بالرغم من ذلك، فقد كان هذا اللغزُ عرَضيًّا ولم تكن المناقشة العَلنيةُ هي الهدفَ منه على الإطلاق.
(٣) الملاحظة الهامشية
كان فيرما مذهولًا من تنوُّع الثلاثيات الفيثاغورسية وعددها الهائل. وكان يعي أنَّ إقليدس قد ذكَر قبل قرونٍ عديدة برهانًا (يرد البرهان في الملحق ٥) يثبت وجودَ عدد لا نهائي من الثلاثيَّات الفيثاغورسية. لا بد أنَّ فيرما قد حدَّق في العرض التفصيلي الذي أورده ديوفانتوس لثلاثيات فيثاغورس وتساءل عما يُمكن إضافتُه إلى الموضوع. ومع تحديقِه إلى الصفحة، راح يلهو بمعادلةِ فيثاغورس، في محاولةٍ منه لاستكشاف شيء قد أغفلَه اليونانيون. وفجأةً في لحظةِ نبوغ قد خلَّدَت أمير الهواة، ابتكر معادلةً بالرغم من شبهها الشديد بمعادلة فيثاغورس، فلا يوجد حلٌّ لها على الإطلاق. كانت تلك هي المعادلة التي قرَأ عنها أندرو وايلز ذو العشر السنوات في مكتبة ميلتون رود.
فبدلًا من التفكير في المعادلة:
كان فيرما يتأمَّل في شكلٍ مختلف من معادلة فيثاغورس:
مِثلَما ذكَرنا في الفصل السابق، لم يفعل فيرما سوى أنْ غيَّر العدد ٢ إلى ٣، أي التربيع إلى تكعيب، غيرَ أنه قد بدا أنَّ معادلته الجديدة لا يُمكن حلُّها بأعدادٍ صحيحة على الإطلاق. فسرعان ما تُوضح المحاولةُ والخطأ صعوبةَ وجود عددَين مكعَّبين يكون حاصلُ جمعِهما مساويًا لعدد مكعبٍ آخَر. أيُمكن حقًّا أن يُحوِّل هذا التغييرُ الطفيفُ معادلةَ فيثاغورس التي يوجد لها عددٌ لا نهائي من الحلول، إلى معادلةٍ لا حلول لها على الإطلاق؟
أجرى فيرما المزيدَ من التعديلات في المعادلة بتغييرِ الأسِّ إلى أعدادٍ أكبرَ من ٣، واكتشف أنَّ إيجادَ حلٍّ لكلٍّ من هذه المعادلات لا يقلُّ صعوبة. ووفقًا لفيرما، بدا الأمرُ أنه لا يوجد ثلاثة أعدادٍ يُمكن أن تتلاءم تمامًا مع المعادلة:
وفي هامشِ نُسخته من كتاب «أريثميتيكا»، وبجوار المسألة ٨، كتبَ فيرما هذه الملاحظة:
من المستحيل أن يكون حاصلُ جمعِ عدَدَين مكعَّبين عددًا مكعَّبًا، أو أن يكون حاصلُ جمعِ عددَين مرفوعَين لأسِّ أربعةٍ، عددًا مرفوعًا لأسِّ أربعة، أو يُمكننا القولُ بصفة عامة: إنه من المستحيل أن يكون حاصلُ جمعِ أيِّ عددين مرفوعين لغيرِ الأسِّ اثنين، عددًا مرفوعًا لذلك الأُسِّ نفسِه.
من بين جميع الأعداد الممكِنة، لم يبدُ أنه ثَمَّة سببٌ لعدم إمكانية وجودِ مجموعة حلٍّ واحدة على الأقل، لكنَّ فيرما قد صرَّح بأنه لا توجد أيُّ «ثلاثية فيرماوية» في ذلك الكون اللانهائيِّ من الأعداد. لقد كان ذلك ادِّعاءً استثنائيًّا، لكنَّ فيرما كان يرى أنه يستطيعُ إثباتَه. بعد الملاحظة الهامشية الأولى التي كانت تضع إطارًا للنظريَّة، كتب العبقريُّ المشاكس تعليقًا آخرَ ظل يُؤرِّق أجيالًا من علماء الرياضيات:
لديَّ إثباتٌ بديع بحقٍّ لهذا الادِّعاء، لكن هذا الهامش لا يتسع له.
هكذا كان فيرما في أشدِّ لحظاته إثارةً للسخط. إنَّ كلماته تُوحي بأنه كان مسرورًا للغاية بهذا البرهان «البديع بحق»، لكنه لم يَنْتوِ أبدًا أن يتجشَّم عَناء كتابةِ تفاصيل حُجَّته، ناهيك عن نشرِها. لم يخبر فيرما أي شخص عن برهانه، وبالرغم من تكاسُلِه وتواضعه، أصبحَت مبرهنة فيرما الأخيرةُ، مثلما ستُسمَّى بعد ذلك، مشهورةً في جميع أرجاء العالم على مدى قرون.
(٤) المبرهنة الأخيرة تُنشر أخيرًا
لقد حدث اكتشافُ فيرما سيئ السمعة في مرحلةٍ مبكرة من حياته المهنية في الرياضيات قرابةَ العام ١٦٣٧. وبعد ذلك بثلاثين عامًا تقريبًا، بينما كان يؤدِّي مهامَّه القضائية في مدينة كاستر، مرض فيرما بشدة. وفي التاسع من يناير عام ١٦٦٥، وقَّع على آخرِ أمرٍ بالاعتقال، وتُوفِّي بعد ذلك بثلاثة أيام. ولمَّا كان فيرما منعزلًا عن مدرسة الرياضيَّات الباريسية، ولما لم يكن من المؤكد أنَّ مُراسليه المحبَطين يتذكَّرونه باعتزاز، فقد كانت اكتشافاتُ فيرما عُرْضة لأن تُفقَد إلى الأبد. ومن حُسن الحظ أنَّ أكبرَ أبناء فيرما، كليمو-سامويل، الذي كان يُدرك أهميةَ هواية أبيه، قد عزَم على ألَّا يفقد العالَمُ اكتشافاتِه. وبفضل جهوده، فإننا نعرف ما نعرفه عن اكتشافات فيرما المذهِلة في مجال نظرية الأعداد، ولولا كليمو-سامويل، لكانت المعضلةُ المسمَّاة بمبرهنة فيرما الأخيرة، قد ماتت مع مُبتكِرها.
وفورَ أن وصلَت ملاحظات فيرما إلى المجتمع الأكبر، صار واضحًا أنَّ الرسائل التي كان قد أرسلَها إلى زملائه لم تكن سِوى فُتاتٍ من كَنْز ثمين من الاكتشافات. لقد كانت مذكراته الشخصيةُ تتضمن مجموعةً كبيرة من المبرهنات. ومن سوء الحظ إما أنها لم تكن مصحوبةً بأيِّ تفسير على الإطلاق، أو لا تتضمن سوى إشارةٍ طفيفة عن البرهان الضِّمْني. لقد كانت تلك المذكراتُ لمحاتٍ مغرِيَةً من المنطق لا تكفي لشيء إلا لتركِ علماء الرياضيات في شك من أنَّ فيرما قد توصَّل إلى البراهين، غير أنَّ إكمال التفاصيل قد ظلَّ تحديًا لهم ليتصدَّوْا له بأنفسِهم.
لقد تنوَّعَت مجموعة مبرهنات فيرما بين ما هو جوهريٌّ وما هو ممتِع فحسب. ذلك أنَّ علماء الرياضيات يُرتِّبون أهمية المبرهنات وفقًا لتأثيرها في بقية الرياضيات. فأولًا، تُوصَف المبرهنة بالأهمية إذا كانت تُعبِّر عن حقيقة شاملة، أي إنها تنطبق على مجموعةٍ بأكملها من الأعداد. وفي حالة الأعداد الأولية، فإنَّ هذه المبرهنة لا تنطبق على بعض الأعداد الأولية فحسب، بل تنطبق عليها كلِّها. وثانيًا، ينبغي أن تكشف المبرهنة عن حقيقةٍ ضِمنية عن العلاقات بين الأعداد. ويمكن أن تكون إحدى المبرهنات نقطةَ انطلاقٍ لتوليد مجموعة كاملة من المبرهنات الأخرى، أو تكون مصدرَ إلهامٍ لتطوير فروع جديدة للرياضيات. وأخيرًا، توصف المبرهنة بالأهمية إذا كانت بعضُ المجالات البحثية ستتعطَّل بأكملها بسبب غياب رابطٍ منطقيٍّ واحد. إنَّ العديد من علماء الرياضيات قد شعروا بالاستياء الشديد؛ إذ كانوا يُدركون أنهم قد يتمكَّنون من تحقيق نتيجةٍ هامة، إذا استطاعوا فقط أن يُقيموا رابطًا واحدًا مفقودًا في تسلسلهم المنطقي.
نظرًا إلى أنَّ علماء الرياضيات يستخدمون المبرهنات بصفتها سبيلًا للتقدم نحوَ نتائجَ أخرى، كان من الضروريِّ إثباتُ جميع مبرهنات فيرما. فلم يكن من الممكن القَبولُ بصحةِ مبرهنة لمجرد أنَّ فيرما قد زعم أنه توصَّل إلى إثباتٍ لها. بل كان ينبغي إثباتُ كلِّ مبرهنة بدقة شديدة قبل استخدامها، وإلا فلربما كانت العواقبُ وخيمة. تخيَّل مثلًا أنَّ علماء الرياضيات قبلوا إحدى مبرهنات فيرما. كانت ستُدمَج بعد ذلك بصفتها عنصرًا واحدًا في سلسلةٍ كاملة من براهينَ أخرى أكبرَ منها. وفي الوقت المناسب، ستُدمَج هذه البراهين الأكبر في براهين أكبرَ منها، وهكذا. وفي نهاية المطاف، قد نجد أنَّ المئاتِ من المبرهنات تستند إلى الحقيقة التي تنطوي عليها المبرهنة الأصلية التي لم يتحقَّق العلماءُ منها. فماذا لو أنَّ فيرما قد ارتكب خطأً ما، وكانت هذه المبرهنة التي لم يتحقَّق العلماء منها مَعيبةً في واقع الأمر؟ ستكون جميعُ تلك المبرهنات الأخرى التي استُخدِمت فيها، مَعيبةً هي أيضًا، وستنهار جوانبُ شاسعةٌ من الرياضيات. إنَّ المبرهنات هي الأساساتُ التي تُبنى عليها الرياضيات؛ ففور إرساءِ حقيقتها، يُمكن بعد ذلك أن تُبنى فوقها بأمانٍ مبرهناتٌ أخرى. أما الأفكار غير المثبَتة، فهي أقلُّ قيمةً من المبرهنات بدرجة كبيرة، وتُسمَّى بالحَدْسيات. وكل حجَّة منطقية تستند إلى حدسية، هي نفسها محضُ حدسية.
لقد قال فيرما إنَّ لديه إثباتًا على كلِّ ملاحظة من ملاحظاته؛ ومِن ثَمَّ فقد كانت مبرهناتٍ بالنسبة إليه. بالرغم من ذلك، فإلى أن يتوصَّل المجتمعُ بصفةٍ عامة إلى إعادةِ اكتشاف البراهين، ستظلُّ هذه الملاحظات محضَ حدسيات. والحق أنَّ مبرهنة فيرما الأخيرةَ كان ينبغي أن تُسمَّى على مدى آخرِ ثلاثمائةٍ وخمسين عامًا، بحدسيةِ فيرما الأخيرة تحرِّيًا للدقة.
ومع مرور القرون، أُثبِتَت جميعُ ملاحظاته واحدةً تِلْو الأخرى، لكنَّ مبرهنة فيرما الأخيرة قد أصرَّت بكلِّ عناد على رفض الاستسلام بسهولة. والواقع أنها تُسمَّى بالمبرهنة «الأخيرة» لأنها آخِرُ ما تبقَّى إثباتُه من الملاحظات. مرت ثلاثةُ قرون من الجهود دون إيجادِ برهانٍ لها، مما أدى إلى اشتهارها بالسُّمعة السيئة؛ بوصفها اللغزَ الأكثرَ تطلبًا في الرياضيات. غير أنَّ هذه الصعوبةَ المعترَف بها لا تَعني بالضرورة أنَّ مبرهنة فيرما الأخيرة تتسمُ بالأهمية على النحوِ الذي ذكَرْناه آنفًا. وإنما بدا حتى وقتٍ قريب على الأقل، أنَّ المبرهنة الأخيرة لا تفي بالعديدِ من المعايير؛ فبدا أنَّ إثباتَها لن يُؤدِّيَ إلى أيِّ اكتشافٍ عميق أو فكرةٍ محددة عميقة بشأن الأعداد، ولن تُساعد في إثبات أيِّ حَدْسيات أخرى.
إنَّ شهرة مبرهنة فيرما الأخيرة لا تنبع إلا من الصعوبة الشديدة في إثباتها. ومن الأسباب الإضافية لهذه الشهرة أنَّ أمير الهواة قد قال إنه يستطيع إثباتَ هذه المبرهنة التي حيرَت أجيالًا من علماء الرياضيات المحترفين منذ ذلك الوقت. لقد بدَت تعليقاتُ فيرما الارتجاليةُ في هوامش «أريثميتيكا» تحدِّيًا للعالم. لقد أثبتَ فيرما مبرهنتَه الأخيرة، وكان السؤال هو: أيستطيعُ أيُّ رياضيٍّ آخرَ مجاراةَ براعته؟
كان جي إتش هاردي يتمتعُ بحِسِّ فُكاهة غريبٍ، وابتكر ما كان يُمكن أن يصبح إرثًا مثيرًا للاستياء بالقدرِ ذاته. وجاء تحدي هاردي في هيئة بوليصة تأمين لتُساعده في التأقلُمِ على خوفه من السفر بالسفن. إذا كان قد حدَث واضطُرَّ إلى السفر بحرًا، لَأرسلَ برقية إلى زميل له يقول فيها:
حلَلتُ فرضيةَ ريمان، توقَّف!
سأعطي التفاصيل عند العودة، توقف!
إنَّ فرضية ريمان هي مسألةٌ ظلَّت تُزعج علماء الرياضيات منذ القرنِ التاسع عشر. وقد كان منطق هاردي يستند إلى أنَّ الرب لن يسمحَ بغرقه؛ لأنَّ ذلك سيترك شبحًا ثانيًا فظيعًا يُؤرِّق علماء الرياضيات.
بالرغم من الصعوبة الشديدة التي تتَّسمُ بها مبرهنة فيرما الأخيرة، فإنه يمكن ذِكرُها على نحوٍ يفهمُه تلاميذُ المدارس. ما من مسألة في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء يمكن ذِكرُها بهذه السهولة وهذا الوضوح، وظلت دون حلٍّ لمثل هذه المدَّة الطويلة. ففي كتابه «المسألة الأخيرة»، كتب إي تي بيل أنَّ الحضارة ستنتهي على الأرجح قبل حلِّ مبرهنة فيرما الأخيرة. لقد صار إثباتُ مبرهنة فيرما الأخيرة هو الجائزةَ الأثمن على الإطلاق في مجال نظرية الأعداد، ولا عجب إذن أنها قد أنتجَت بعض الأوقات الأكثرِ إثارةً في تاريخ الرياضيات. لقد اشترك في البحث عن إثباتٍ لمبرهنة فيرما الأخيرة أعظمُ العقول على الكوكب، والجوائزُ الضخمة، واليأسُ القانطُ والنزاعات المريرة.
تجاوزَت الأحجيةُ عالم الرياضيات المغلَق. حتى إنها قد ظهرت في قصة فاوستية في العام ١٩٥٨. وذلك في مجموعةٍ أدبيَّة بعنوان «صفقات مع الشيطان» تتضمَّن قصةً بقلم آرثر بورجِس. ففي قصة «الشيطان وسايمون فلاج»، يطلب الشيطانُ من سايمون فلاج أن يطرح عليه سؤالًا. وإذا نجح الشيطانُ في الإجابة عنه في غضون أربعة وعشرين ساعةً، فإنه يَحْظى بروحِ سايمون، وإذا عجز عن ذلك فإنه يمنح سايمون ١٠٠٠٠٠ دولار. يطرح سايمون السؤال: «هل مُبرهنة فيرما الأخيرة صحيحة؟» يختفي الشيطان ويطنُّ حول العالم ليستوعبَ كلَّ ما ابتُكِر من المعارف الرياضية على الإطلاق. وفي اليوم التالي، يأتي ويُقِر بالهزيمة:
قال بصوت هامس وهو ينظر إليه باحترامٍ صادق: «لقد فُزتَ يا سايمون. حتى أنا لا أستطيعُ أن أتعلَّم ما يكفي من الرياضيات لحلِّ مثلِ هذه المسألة الصعبة في هذه المدَّة القصيرة. ذلك أنني كلما تعمَّقتُ فيها، زادت صعوبتُها. التحليل غيرُ الفريد إلى عواملَ، والأعداد المثالية، أُف!» أسرَّ له الشيطانُ قائلًا: «أوَتدري؟ حتى أفضلُ علماء الرياضيات في الكواكب الأخرى، وجميعُها أكثرُ تقدمًا من كوكبِك بكثير، لم يتَمكَّنوا من حلِّها. ويحي! ثَمة رجلٌ على زحل، يُشبه فِطر عيش الغراب مرتكزٍ على دعامات، يحلُّ المعادلاتِ التفاضليةَ الجزئية ذهنيًّا، وحتى هو قد يئس من المحاولة.»