عارٌ رياضي
ليست الرياضياتُ مَسيرةً متمهلة في طريقٍ معبَّدة، بل رحلةٌ في بَرِّية غريبة غالبًا ما يضلُّ المستكشفون طريقَهم فيها. يجب أن يكون الحرصُ الشديد إشارةً للمؤرخين بأنَّ الخرائطَ قد وُضِعت، وأنَّ المستكشفين الفعليِّين قد ذهَبوا في مكان آخر.
يسترجع أندرو وايلز ذكرياته، ويتحدث في صوتٍ متردد يَشي بمشاعره تجاهَ المسألة، قائلًا: «لقد صارت مبرهنة فيرما الأخيرة هي شغَفي منذ أن صادَفتُها طفلًا. لقد وجدتُ تلك المسألةَ التي لم يتوصل أحدٌ إلى حلها على مدى ثلاثمائةِ عام. لا أعتقد أنَّ أيًّا من أصدقائي قد أُصيبَ بهوَسِ الرياضيات؛ لذا لم أُناقشها مع مَن هم في سنِّي. غير أنَّ مُعلمًا لي كان قد أجرى بعضَ الأبحاث في الرياضيات وأعطاني كتابًا عن نظرية الأعداد أمَدَّني ببعض الأفكار عن كيفية البدء في معالجتها. في بادئ الأمر، افترضتُ أنَّ فيرما لم يكن يعرف عن الرياضيات أكثرَ مما أعرفُه بكثير. وقد حاولتُ إيجاد حلِّه المفقود باستخدام نوعِ الوسائل الذي يُحتمَل أن يكون قد استخدَمه.»
كان وايلز طفلًا مفعَمًا بالبراءة والطموح، رأى فرصةً للنجاح فيما قد فشِلَت فيه أجيالٌ من علماء الرياضيات. ربما قد بدا ذلك للآخَرين حُلمًا أهوجَ، لكنَّ أندرو الصغيرَ كان مُحقًّا في اعتقاده أنه، هو تلميذ القرن العشرين، يعرف عن الرياضياتِ مقدارَ ما كان يعرفه بيير دو فيرما، عبقريُّ القرنِ السابع عشر. فلربما، بالرغم من سذاجته، توَصَّل إلى برهانٍ قد غفلَت عنه العقولُ الأكثر تعقيدًا.
وبالرغم من حماسه، لم تكن جميعُ حساباته تُسفر إلا عن طريقٍ مسدود. وبعد أن أنهكَ عقله، وغربَلَ كتبه الدراسية، لم يُحقِّق شيئًا. وبعد عامٍ من المحاولات الفاشلة، غيَّر خُطتَه ورأى أنه قد يتعلم شيئًا من أخطاء غيرِه من علماء الرياضيات العِظام. «إنَّ مبرهنة فيرما الأخيرة ترتبط بهذا التاريخ الرومانتيكيِّ المدهش. فالعديد من الأشخاص قد فكَّروا فيها، وكلما زادت محاولاتُ علماء الرياضيات في الماضي في حلِّها وفشَلُهم في ذلك، صارت تحدِّيًا أكبرَ ولغزًا أعظم. لقد حاول العديدُ من علماء الرياضيات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حلَّها بالكثير جدًّا من الطرق المختلفة؛ ولهذا قررتُ حين كنتُ مراهقًا أنَّ عليَّ أن أدرسَ تلك الطرقَ وأحاول أن أفهم ما كانوا يفعلونه.»
درس وايلز الصغيرُ الطرقَ التي انتهجها جميعُ مَن حاول محاولة جادةٍ لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. بدأ بدراسة أعمال أغزرِ علماء الرياضيات إنتاجًا في التاريخ، وأول مَن حقق إنجازًا في المعركة القائمة ضد فيرما.
(١) العملاق الرياضي
إنَّ ابتكارَ الرياضيات تَجرِبة مؤلمة وغامضة. فغالبًا ما يكون هدفُ البرهان واضحًا، لكنَّ الطريق مسجًّى بالضباب، ويتعثر عالم الرياضيات في إحدى العمليَّات الحسابية مرتعبًا من أن كلَّ خطوة يُمكن أن تؤديَ بالحجة المنطقية في الاتجاه الخاطئِ تمامًا. وعلاوةً على ذلك، فثَمة خوفٌ من عدم وجود أيِّ طريق أصلًا. فقد يعتقد عالم الرياضيات أنَّ إحدى العبارات صحيحة، ويقضي السنوات في محاولة إثبات صحتها، بينما هي خاطئة بأكملها في حقيقة الأمر. وحينئذٍ، يكون ما فعَله العالم عمَليًّا هو محاولة إثبات المستحيل.
وعلى مدى تاريخِ ذلك المجال بأكملِه، يبدو أنَّ قلةً من علماء الرياضيات فقط هم الذين تمكَّنوا من تجنُّب الشكِّ الذاتي الذي يخشاه زملاؤهم. ربما يكون المثالُ الأبرز على مثلِ ذلك النوع من علماء الرياضيات هو عبقريُّ القرنِ الثامن عشر، ليونهارت أويلر، وقد كان هو مَن حقَّق أول تقدم كبير في إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. كان أويلر يتمتعُ بقدرة مدهشةٍ على الحَدْس، وذاكرةٍ شاسعة حتى قيل عنه: إنه كان يستطيع تصوُّرَ عمَلية حسابية ضخمة بأكملها في رأسه، دون أن يحتاج إلى كتابة أيِّ شيء. كان يُشار إليه في أوروبا بلقب «التحليل متجسدًا في إنسان»، وقال عنه الأكاديمي الفرَنسي فرانسوا أراجو: «كان أويلر يُجري العمليات الحسابية دون جهدٍ واضح مثلما يتنفَّس البشر، أو مثلما تُحافظ النسور على توازنها في الرياح.»
وُلِد ليونهارت أويلر في مدينة بازل عام ١٧٠٧، ابنًا لقَسٍّ كالفيني يُدعى بول أويلر. وبالرغم من أنَّ أويلر الصغيرَ أبدى موهبةً استثنائية في الرياضيات، أصرَّ والده أن يدرس اللاهوت ويعمل في الكنيسة. وقد أطاعه ليونهارت بإخلاص ودرَس اللاهوت والعبرية في جامعة بازل.
ومن حُسن حظ أويلر أنَّ مدينة بازل كانت وطنًا لعائلة برنولي العظيمة. إنَّ هذه العائلة يحقُّ لها الزعمُ بأنها أكثرُ العائلات موهبةً في الرياضيات؛ إذ أنتجَت ثمانيةً من أبرع العقول في أوروبا خلال ثلاثة أجيال فقط، حتى إنَّ البعض يقولون إنَّ عائلة برنولي تُمثل للرياضيات ما تُمثله عائلة باخ للموسيقى. تجاوزت شهرة هذه العائلةِ مجتمعَ الرياضيات، وثَمة أسطورةٌ محددة تُمثل صورةَ العائلة. وهي أنَّ دانيال برنولي كان في سَفْرة في أوروبا ذاتَ مرة واشترك في محادثة مع غريب. وبعد فترة، قدَّم نفسه بتواضعٍ قائلًا: «أنا دانيال برنولي.» فقال رفيقه ساخرًا: «وأنا إسحاق نيوتن.» وقد استحضر دانيال هذه الحادثةَ بإعزازٍ في مناسبات عديدة، معتبرًا إياها أصدقَ ثناء قد تلقاه على الإطلاق.
كان دانيال ونيكولوس برنولي صديقَين مقرَّبَين من ليونهارت أويلر، وقد أدرَكا أنَّ أبرع علماء الرياضيات في طريقه إلى أن يُصبح أكثرَ علماء اللاهوت اعتيادية. فناشدا بول أويلر وطلَبا منه أن يسمح لليونهارت بالتخلِّي عن الإكليروس لصالح الأعداد. وقد كان أويلر الأبُ قد تعلَّم الرياضياتِ في الماضي على يد برنولي الكبير، جيكوب، وكان يُكِنُّ احترامًا كبيرًا للعائلة. وبشيءٍ من التردد تقبَّل أنَّ ابنَه وُلِد لِيحسبَ لا ليعظ.
سرعان ما غادر ليونهارت سويسرا ليتجهَ إلى برلين وسانت بطرسبرج، حيث قضى الجزءَ الأكبر من سنواته الإبداعية. في عصرِ فيرما، كانت وِجهة النظر السائدة تجاهَ علماء الرياضيات أنهم هُواةٌ من المشعوذين بالأعداد، لكنَّ ذلك قد تغيرَ في القرن الثامن عشر وصاروا يُعَدُّون محترفين يشتغلون بحلِّ المسائل. لقد تغيرَت ثقافة الأعداد بصورة كبيرة، وكان ذلك يعود جزئيًّا إلى السير إسحاق نيوتن، وحساباته العِلمية.
كان نيوتن يرى أنَّ علماء الرياضيات يُهدرون وقتهم في إغاظة بعضهم بعضًا بأَحاجيَّ عديمة الفائدة. أما هو، فقد كان يُطبق الرياضيات على العالم الماديِّ ويقوم بحساب كلِّ شيء، من مَدارات الكواكب إلى مسارات قذائفِ المدافع. وبحلول الوقت الذي تُوفِّي فيه نيوتن عام ١٧٢٧، كانت أوروبا قد مرَّت بثورة عِلمية، وفي العام نفسِه نشَر أويلر أول ورقة بحثية له. وبالرغم من أنَّ الورقة كانت تتضمَّن حساباتٍ رياضيةً أنيقة ومبتكَرة، فقد كان هدفُها الأساسي هو وصفَ حلٍّ لمشكلةٍ تقنية تتعلق بصواري السفن.
لم تكن السلطات الأوروبية تُعنَى باستخدام الرياضيات في استكشاف الأفكار المجردة والباطنيَّة، بل كانت ترغب في الاستفادة من الرياضيات في حلِّ المشكلات العمَلية، وتتنافس على توظيف أفضلِ العقول. بدأ أويلر حياته العمَلية مع القياصرة الروس، قبل أن يَدْعوه فريدريك العظيم ملكُ بروسيا إلى أكاديمية برلين. وقد عاد في النهاية إلى روسيا في عهد كاثرين العظيمة، حيث قضى آخِرَ سنوات حياته. عالج على مدى حياته المهنية الكثيرَ جدًّا من المشكلات التي تنوعَت بين الملاحة والمالية وعلمِ الصوتيات والرَّي. ولم يُضعف العالم العمَليُّ المتمثل في حلِّ المشكلات، قدراتِ أويلر الرياضيَّة. بل إنَّ معالجة كلِّ مهمة جديدة كانت تُلهِمه بابتكار معارِفَ رياضيةٍ مبتكَرة وإبداعية. فقد كان شغَفُه الصادق يدفعه إلى كتابة العديد من الأوراق البحثية في يومٍ واحد، ويُقال أيضًا إنه كان يُحاول بين النداء الأول والثاني للعشاء، أن يكتب بسرعةٍ عمَليةً حسابيةً كاملة تستحقُّ النشر. لم يكن يُهدر لحظةً واحدة؛ فحتى حين كان أويلر يُهدْهِد طفلًا بإحدى يدَيه، فإنه كان يكتب الخطوطَ العريضة لبرهانٍ بيده الأخرى.
ومن أهمِّ إنجازات أويلر، تطويرُ الطريقة الخُوارِزميَّة. وقد كان الهدفُ من خوارزميات أويلر معالجةَ ما يبدو مستحيلًا من المشكلات. ومنها على سبيل المثال، التنبُّؤُ بأطوار القمر حتى وقتٍ بعيد في المستقبل بدقةٍ كبيرة، وتلك من المعلومات التي يُمكن أن تُستخدَم في إعداد جداولِ ملاحة فعالة. كان نيوتن قد أوضحَ بالفعل السهولةَ النسبية للتنبؤ بمدارِ أحد الأجسام حول جسم آخر، لكنَّ الوضع ليس بهذه السهولة في حالة القمر. فالقمر يدورُ حول الأرض، لكنَّ هناك جسمًا ثالثًا، وهو الشمس، يُعقِّد المسألة بدرجة كبيرة. فبينما تجذب الأرضُ والقمر أحدُهما الآخَر، تُقلقل الشمسُ موقعَ الأرض، ويكون لها تأثيرٌ غيرُ مباشر على مدار القمر. يمكن استخدامُ المعادلات لمعرفة تأثير أيٍّ من الجسمين، غير أنَّ علماء الرياضيات في القرن الثامن عشر لم يتمكَّنوا من دمج جسمٍ ثالث في معادلاتهم. وحتى هذا اليوم، لا يُمكن التنبؤ بالحلِّ الدقيق لما يُدعى باسمِ «مشكلة الأجسام الثلاثة».
أدرك أويلر أنَّ الملَّاحين ليسوا بحاجةٍ إلى معرفة طَوْر القمر بدقةٍ تامة، بل بدقةٍ تكفي لتحديد موقعِهم على مسافةِ بضعة أميال بحُرِّية. وبِناءً على هذا، وضَع أويلر وصفةً للتوصل إلى حلٍّ دقيق بالدرجة الكافية وإن لم يكن مثاليًّا. وكانت هذه الوصفة التي تُعرَف باسم الخوارزمية، تبدأ بالحصول على نتيجةٍ تقريبية وجاهزة يُمكن إدخالها في الخوارزمية من جديدٍ للحصول على نتيجة محكَمة. ويمكن إدخالُ هذه النتيجة المحكمة في الخوارزمية من جديد، لتوليدِ نتيجةٍ أكثرَ دقةً وإحكامًا، وهكذا دوالَيك. وبعد ما يقربُ من مائةٍ من التَّكْرارات، صار أويلر قادرًا على تحديد موقعِ القمر بدقةٍ تكفي لأغراض الملاحة. وقد قدَّم خوارزميتَه إلى الأميرالية البريطانية، وكُوفِئَ عليها بجائزةٍ قدرُها ٣٠٠ جنيه إسترليني.
ذاع صِيتُ أويلر بقدرته على حلِّ أي مشكلة تُطرَح أمامه، وبدا أنَّ هذه الموهبةَ تتجاوز مجالَ العلم. ففي المدَّة التي قضاها في بلاط الملكة كاثرين العظيمة، التقى الفيلسوف الفرَنسي العظيم ديني ديدرو. وكان هذا الفيلسوف ملحدًا صارمًا في إلحاده، وكان يَقضي أيامَه في إقناع الروس بالإلحاد. وقد أغضبَ هذا كاثرين، ويُقال إنها طلبَت من أويلر أن يضع حدًّا لجهود هذا الفرنسيِّ الملحد.
فكَّر أويلر في الأمر لبعض الوقت، وزعم أنَّ لدَيه دليلًا جَبريًّا يُثبت وجود الإله. دعَت كاثرين العظيمة أويلر وديدرو إلى قصرِها، وجمعَت بِطانتَها ليَشهدوا هذه المناظرةَ اللاهوتية. وقف أويلر أمامَ الجمهور وقال:
ولما كان ديدرو لا يعرف من الجبر الكثيرَ، فلم يكن يستطيع أن يُجادل به أمام أعظمِ علماء الرياضيات في أوروبا، ولم يُحِر جوابًا. وبعد أن تعرَّض للمهانة، غادرَ سانت بطرسبرج وعاد إلى باريس.
وفي غيابه، استمرَّ أويلر في الاستمتاع بالعودة إلى الدراسة اللاهوتية، ونشر العديدَ من البراهين الهزلية الأخرى بشأن طبيعة الإله والروح البشرية.
ومِن ثمَّ؛ فقد توصَّل أويلر إلى استنتاج عامٍّ وهو عدمُ إمكانية القيام برحلةٍ كاملة عبر أيِّ شبكة من الجسور، مع المرور بكل جسر منها لمرة واحدة فقط إلا في حالة اتصالِ جميع رُقَع الأرض بعددٍ زوجي من الجسور، أو أن تكون رُقعتان منها على وجه التحديد هما اللتَين تتَّصِلان بعدد فردي من الجسور. وفي حالة مدينة كونيسجبرج، نجد أنَّ مجموعَ رُقَع الأرض أربعة، وجميعها متصلٌ بعدد فردي من الجسور: فثلاثٌ من النقاط تتصل بثلاثة جسور، وتتصل نقطة واحدة بخمسةِ جسور. لقد تمكَّن أويلر من شرح السبب في استحالة عبور جميع جسور كونيسجبرج لمرة واحدة فقط، وقد توصَّل عِلاوةً على ذلك إلى قاعدةٍ يُمكن تطبيقها على أيِّ شبكة من الجسور في أيِّ مدينة بالعالم. إنَّ هذه الحُجة المنطقية تتَّسم بالبساطة الجميلة، وقد تكون تلك المسألةُ من نوع المسائل المنطقية التي كان أويلر يكتبها على عجَل قبل العشاء.
إنَّ أُحجية جسور كونيسجبرج من المسائل التي تُعرَف في الرياضيات التطبيقية باسم مسائل الشبكات، لكنها ألهمَت أويلر بالتفكير في شبكاتٍ أكثرَ تجريدًا. لقد واصل التفكيرَ ليكتشفَ حقيقةً جوهرية بشأن جميعِ الشبكات، وتوصَّل إلى ما يُعرَف باسم «صيغة الشبكة»، التي استطاع إثباتَها ببضع خطوات منطقيَّة فحسب. وتُوضِّح صيغةُ الشبكة التي اكتملَت على يد أوجستين لوي كوشي، علاقة أبديَّة بين السِّمات الثلاث التي تصف أي شبكة:
حيث:
يُمكننا أن نتخيَّل اختبارَ هذه الصيغةِ على مجموعةٍ كبيرة من الشبكات، وإذا اتضحَت صحتُها في جميع الحالات، فسوف يكون من المغري أن نفترضَ صحتها في جميع حالات الشبكات، وبالرغم من أنَّ ذلك قد يكون دليلًا كافيًا لنظريةٍ عِلمية، فإنه لا يكفي لإثبات مبرهنة رياضية. فالطريقة الوحيدة لإثبات صحةِ الصيغة في جميع الشبكات الممكِنة هي بناء حُجَّة أكيدة، وهو ما فعَله أويلر بالضبط.
بعد ذلك، فكَّر أويلر فيما سيحدُث إذا أضاف شيئًا إلى هذه الشبكةِ الأبسط على الإطلاق. فأيُّ امتدادٍ للنقطة الواحدة يستلزمُ إضافة خط. ويمكن لهذا الخطِّ أن يربط النقطةَ الموجودة بالفعل بنفسِها، أو يربطها بنقطةٍ جديدة.
وهذا هو كل ما كان أويلر يحتاجُ إليه من أجل بُرهانه. وقد حاجَجَ بأنَّ صيغة الشبكة تنطبق على أبسط الشبكات على الإطلاق. وحاججَ أيضًا بأنَّ جميع الشبكات الأخرى مهما زاد تعقيدُها، يمكن أن تُشكَّل من الشبكة الأبسط من خلالِ إضافة خطوط جديدة، واحدًا تِلو الآخر. وفي كل مرة يُضاف فيها خطٌّ جديد، ستظلُّ صيغة الشبكة صحيحة؛ لأنَّ ذلك سيؤدي إمَّا إلى تشكيل نقطةٍ جديدة أو منطقة جديدة؛ مما سيكونُ له تأثيرٌ تعويضي. صمَّم أويلر استراتيجيةً بسيطة وفعالة في الوقت نفسه. وأثبتَ أنَّ الصيغة تنطبق على أبسطِ شبكة على الإطلاق، وهي النقطة واحدة، ثم أثبتَ أنَّ أي عمليةٍ تُعقِّد الشبكة، لن تُخِلَّ بصلاحية الصيغة. ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ الصيغة تنطبق على ذلك العددِ اللانهائي من أشكالِ الشبكات الممكِنة.
لا بد أنَّ أويلر قد تمنَّى حين صادف مبرهنةَ فيرما الأخيرة للمرة الأولى، أن يتمكَّنَ من حلِّها باستخدام استراتيجيةٍ مماثلة. إنَّ المبرهنة الأخيرة وصيغةَ الشبكة، تنتميان إلى مجالَين مختلفَين للغاية من مجالات الرياضيَّات، لكنَّ ثَمة شيئًا مشتركًا بينهما، وهو أنَّ كِلتيهما تزعمان شيئًا عن مجموعةٍ لا نهائية من الأشياء. فتزعم صيغةُ الشبكة أنه في العدد اللانهائي من الشبكات، سنجدُ أنَّ عددَ النقاط مع عددِ المناطق مطروحًا منه عددُ الخطوط يُساوي ١ على الدوام. أما مبرهنة فيرما الأخيرة، فهي تزعم عدمَ وجودِ حلٍّ بأعدادٍ صحيحة لعددٍ لا نهائي من المعادَلات. ونستذكرُ هنا أنَّ مبرهنة فيرما الأخيرةَ قد زعمت أنه لا توجد حلولٌ بأعدادٍ صحيحة للمعادلة التالية:
وتُمثِّل هذه المعادلةُ مجموعةً لا نهائية من المعادلات:
تساءل أويلر عمَّا إذا كان بإمكانه إثباتُ عدمِ وجودِ حلٍّ لإحدى المعادلات، ثم استقراءُ النتيجة على جميع المعادَلات المتبقِّية، بالطريقة نفسِها التي أثبتَ بها صحةَ صيغتِه في جميع حالات الشبكات من خلال تعميمِها بدءًا من الحالة الأبسط، أي النقطة المفرَدة.
إنَّ تاريخ الأعداد يبدأ بأعدادِ العدِّ البسيطة (١، ٢، ٣، …) التي تُعرَف أيضًا بالأعداد الطبيعية. وهذه الأعدادُ ملائمة تمامًا لجمع الكمِّيات الصحيحة البسيطة معًا، مثل الأغنام أو العُملات الذهبيَّة، من أجل الوصول إلى عددٍ إجمالي يُمثل هو أيضًا كميةً صحيحة. وإضافةً إلى الجمع، يُمكن إجراء العملية البسيطة الأخرى المتمثِّلة في الضرب على الأعداد الصحيحة، للتوصُّل إلى أعدادٍ صحيحة أخرى. أما عملية القِسمة، فهي تطرح مشكلةً غريبة. فبالرغم من أنَّ ٨ مقسومًا على ٢ يُساوي ٤، نجد أنَّ ٢ مقسومًا على ٨ يُساوي ١ / ٤. وناتجُ عمَلية القسمة الأخيرة ليس عددًا صحيحًا، بل كَسْرًا.
إنَّ القسمة عمَلية بسيطة تُجرى على الأعداد الطبيعية، وتستلزمُ البحثَ فيما ما وراء الأعداد الطبيعية من أجل التوصلِ إلى الإجابة. فمن غيرِ الوارد لعلماءِ الرياضيات ألَّا يكونوا قادِرين، ولو نظريًّا على الأقل، على الإجابة عن أيِّ سؤال، وتُعرَف هذه الضرورة التي تقتضي البحثَ باسم «الاكتمال». فثَمَّة أسئلةٌ تتعلق بالأعداد الطبيعية لا يُمكن الإجابة عنها دونَ اللجوء إلى الكُسور. ويُعبِّر علماءُ الرياضيات عن ذلك بقولهم إنَّ الكُسور ضروريةٌ للاكتمال.
إنَّ هذه الحاجة إلى الاكتمال هي التي دفعَت الهندوسَ إلى اكتشاف الأعداد السالبة. ذلك أنهم قد لاحَظوا أنَّ طرْحَ ٣ من ٥ يُساوي ٢، أما طرح ٥ من ٣، فهو ليس بهذه السهولة. لقد كانت الإجابةُ تتجاوز أعدادَ العد الطبيعية، ولا يُمكن التوصلُ إليها إلا بتقديمِ مفهوم الأعداد السالبة. لم يقبل بعضُ علماء الرياضيات هذا التوسُّعَ في التجريد، وكانوا يُسمُّون الأعداد السالبة بالأعداد «غير المنطقية» أو «الزائفة». فالمحاسِبُ يستطيع الإمساكَ بعُملة ذهبيةٍ واحدة، أو حتى نِصْف عُملة ذهبيَّة، لكنه من المحال أن يُمسك بعُملة سالبة.
أوحى خطُّ الأعداد بأنَّ الاكتمالَ قد تحقَّق على ما يبدو. فقد بدا أنَّ جميعَ الأعداد صارت في أماكنِها على استعدادٍ للإجابة عن جميعِ الأسئلة الرياضية، ولم يَعُد هناك من مكانٍ إضافي على خطِّ الأعداد يستوعبُ أعدادًا جديدة على أي حال. غير أنَّ القرن السادس عشر شهد أصداءً متجدِّدةً من القلق. كان الرياضيُّ الإيطالي رفايلو بومبيلي يَدرُس الجذورَ التربيعية لمختلِف الأعداد حين صادفَ سؤالًا لا إجابة له.
وقد تمكَّن علماء الرياضيات البحتة أيضًا من الاستفادة من الأعداد التخيلية؛ إذ استخدموها في إيجادِ إجاباتٍ لمسائلَ لم يكن من الممكن حَلُّها قبل ذلك. إنَّ الأعداد التخيُّلية تُضيف بُعدًا جديدًا للرياضيات بالفعل، وقد كان أويلر يأمُل في استخدام تلك الدرجة الإضافية من الحرية في مهاجمة مبرهنة فيرما الأخيرة.
لقد كان ذلك إنجازًا هائلًا، لكنه لم يستطع تَكْرارَه مع الحالات الأخرى في مُبرهنة فيرما الأخيرة. من سوءِ الحظِّ أنَّ محاولات أويلر لتعديل الحُجَّة المنطقية كي تتَماشى مع جميع الحالات إلى ما لا نهاية، قد انتهَت بالفشل. إنَّ الرجل الذي ابتكَر من الرياضيَّات أكثرَ مما ابتكره أيُّ شخص في التاريخ، قد خفَضَ الرأس أمام تحدِّي فيرما. وكان عزاؤه الوحيد أنه أولُ مَن أحرَز تقدمًا في حلِّ أصعب مسألةٍ في العالم.
لم يُثبِّط هذا الفشلُ أويلر واستمرَّ في ابتكارِ مَعارِفَ رياضيةٍ بديعة إلى اليومِ الذي مات فيه، وهو إنجازٌ يَصير أكثرَ روعةً وإدهاشًا حين نعرف أنه فقَدَ بصره تمامًا في السنوات الأخيرة من حياته العمَلية. لقد بدأ فقدُه للبصر في العام ١٧٥٣، حين عرَضَت أكاديمية باريس جائزةً لِمَن يُقدِّم حلًّا لمعضِلةٍ فلَكية. وقد كانت المعضلة غريبةً للغاية، وطلب المجتمعُ الرياضي من الأكاديمية مُهلةً لعدةِ أشهر كي يتمكَّنوا من التوصُّل إلى الإجابة، لكنَّ ذلك لم يكن ضروريًّا لأويلر. لقد صار مهووسًا بالمهمَّة، وظل يعمل بصورةٍ متواصلة على مدى ثلاثة أيام، وفاز بالجائزة عن جدارة. غير أنَّ ظروفَ العمل السيئة، مجتمِعةً مع الإجهاد الشديد، قد كلَّفَت أويلر الذي كان لا يزال آنذاك في العشرينيَّات من عمره، حاسةَ البصر في إحدى عينَيه. ويبدو هذا واضحًا في العديد من صور أويلر، ومنها الصورةُ التي تظهر في مقدمة هذا الفصل.
بِناءً على نصيحة جون لو رون دالمبير، أُقيل أويلر بصفته عالِمَ رياضياتِ بلاط فريدريك العظيم وحلَّ محلَّه عالِمُ الرياضيات جوزيف لوي لاجرانج، وهي النصيحة التي علَّق عليها فريدريك بعد ذلك بقوله: «كم أنا مَدينٌ لعنايتك وتوصيتك بأن أستبدل بعالم رياضياتٍ أعمى، آخَرَ بعينَين، وهو ما سيَسُر أعضاءَ التشريح في أكاديميتي سرورًا عظيمًا.» عاد أويلر إلى روسيا حيث رحَّبَت كاثرين العظيمة مجددًا ﺑ «عملاقها في الرياضيات».
لم يكن فقدُ حاسة البصر في عينٍ واحدة سوى إعاقةٍ طفيفة، بل إنَّ أويلر قد زعم أنَّ «مصادر التَّشتيت صارت الآن أقلَّ.» وبعد ذلك بأربعينَ عامًا حين صار في سنِّ الستين، تدهورَت حالته بشدة؛ إذ أُصيبَت عينُه السليمة بعتامة العين مما كان يَعْني إصابتَه بالعمى في النهاية. كان قد عزَم على عدم الاستسلام، وبدأ في التدريب على الكِتابة مُغمِضًا عينَه الواهنة كي يُتقِنَ أسلوبَه قبل حلول الظلام. وفي غضون أسابيع، كان قد صار أعمى تمامًا. أتى التدريبُ بثماره لبعض الوقت، لكن خطَّ أويلر لم يَعُد مقروءًا بعد بضعة شهور؛ فأصبح ابنه ألبرت ناسخًا له.
استمرَّ أويلر في إنتاج الرياضيَّات على مدى سبعةَ عشرَ عامًا بعدها، ولم يتأثر إنتاجُه إطلاقًا، بل كان أغزرَ من ذي قبل. لقد مكَّنَته قُدراته الفكرية الهائلة من معالجةِ الأفكار دون الحاجةِ إلى تسجيلِها على الورق، ومكَّنَته ذاكرتُه الاستثنائية من استخدام عقلِه وكأنه مكتبةٌ ذهنيَّة. كان زملاؤه يعتقدون أنَّ العمى قد وسَّعَ مِن آفاق مخيلته. فمِن الجدير بالذكر أنَّ حسابات أويلر لمواقع القمر قد اكتملَت في فترة عماه. وقد كان ذلك أثمنَ الإنجازات الرياضية لأباطرة أوروبا؛ فهي معضلة حيَّرَت أعظمَ علماء الرياضيات في أوروبا، ومنهم نيوتن نفسُه.
في العام ١٧٧٦، خضع أويلر لعملية جراحية للتخلُّص من عتامة العين، وبدا أنَّ بصَرَه قد بدأ يعود إليه على مدى بضعة أيام.
غير أنَّ العدوى قد ظهرَت بعد ذلك، ودُفِع أويلر إلى الظلام من جديد. وبإقدامٍ، واصلَ أويلر العمل حتى ١٨ من سبتمبر عام ١٧٨٣، حين أصيب بجلطة فتكَت به. وبتعبيرِ عالم الرياضيات والفيلسوف، ماركيز دو كوندورسيه، «توقف أويلر عن الحياة وإجراءِ الحسابات.»
(٢) وتيرة بطيئة
بعد قرنٍ من وفاة فيرما، لم يكن يوجد من البراهينِ سوى ما يُثبت حالتَين محدَّدتين من حالات المبرهنة الأخيرة. لقد أعطى فيرما الرياضيِّين بدايةً واعدة بتقديم البرهان على عدم وجود حلٍّ للمعادلة:
وقد عدَّل أويلر البرهانَ ليُثبت عدمَ وجودِ حلولٍ للمعادلة:
وحتى بعد التقدُّم الذي أحرزه أويلر، كان لا يزال من الضروري إثباتُ عدمِ وجود حلولٍ بأعداد صحيحة لعددٍ لا نهائي من المعادلات:
فكيف يُمكن لشيء أصغرَ دون شكٍّ من كمية لا نهائية، أن يكون لا نهائيًّا هو أيضًا؟ لقد قال عالم الرياضيات الألماني، ديفيد هيلبرت ذات مرة: «اللانهائية! ما من سؤال آخَر قد حرَّك روحَ الإنسان بهذا العمق، وما من فكرةٍ أخرى قد حفَّزَت عقلَه على هذا النحو المثمِر، بالرغم من ذلك، فما من مفهومٍ آخرَ لا يزال يحتاج إلى قدرٍ كبير من التوضيح من مفهوم اللانهائية.» إنَّ حل مفارقة اللانهائية يستلزم تعريفَ ما نَعنيه باللانهائية. وقد عرَّفها جورج كانتور الذي كان يعمل مع هيلبرت على أنها حجمُ القائمة التي لا تنتهي من أعداد العد (١، ٢، ٣، ٤، …). ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ أي شيء يُماثلها في الحجم سيكون لا نهائيًّا أيضًا.
ووَفقًا لهذا التعريف، فإنَّ عدد الأعداد الزوجية، الذي يبدو أصغرَ على نحوٍ بديهي، هو أيضًا لا نهائي. من السهل إثباتُ أنَّ كمية أعداد العدِّ، وكمية الأعداد الزوجية متماثلتان؛ إذ إننا نستطيع إيجاد مقابل زوجي لأي عدد:
… | 7 | 6 | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 |
… | |||||||
… | 14 | 12 | 10 | 8 | 6 | 4 | 2 |
إذا كان من الممكن مطابقةُ كلِّ عنصر من عناصر قائمة أعداد العدِّ، بعنصرٍ من قائمة الأعداد الزوجية، فلا بد أنَّ القائمتين بالحجم نفسِه. وهذه الطريقة في المقارنة تقودنا إلى بعض الاستنتاجات المفاجئة، ومنها حقيقة وجود عدد لا نهائي من الأعداد الأولية. وبالرغم من أنَّ كانتور كان أولَ مَن تناول اللانهائية بطريقةٍ منهجيَّة؛ فقد تعرَّض في البداية لانتقاداتٍ شديدة من المجتمع الرياضي بسببِ تعريفه الجَذْري. وفي نهاية حياته المهنية، صارت الهجمات شخصيةً على نحوٍ متزايد، وقد عانى كانتور بسببها من المرض العقلي والاكتئابِ الحاد. وفي نهاية المطاف بعد وفاته، صارت أفكارُه تَحظى بقَبولٍ واسعٍ بصفتها التعريفَ الوحيد المتسِقَ الدقيق والفعال للَّانهائية. وتكريمًا لكانتور، قال هيلبرت: «لن يُبعِدَنا أحدٌ عن الفردوس الذي خلَقه لنا كانتور.»
واصل هيلبرت العملَ وابتكر مثالًا على اللانهائية، يُعرَف باسم «فندق هيلبرت»، الذي يُصوِّر سِماتِها الغريبةَ بوضوح. يتَّسم هذا الفندق الافتراضي بمَيزةِ امتلاكه لعدد لا نهائيٍّ من الغرف. وفي أحد الأيام يصلُ نزيلٌ إلى الفندق ويَخيب أملُه حين يعرف أنَّ جميع الغرف مشغولة، بالرغم من حجم الفندق اللانهائي. يفكر هيلبرت، موظَّفُ الفندق، بُرهةً، ثم يؤكد للقادم الجديد أنه سيجدُ له غرفة فارغة. يطلب من جميع نزلائه الحاليِّين الانتقالَ إلى الغرفة التالية؛ فينتقل النزيل المقيم بالغرفة ١ إلى الغرفة ٢، وينتقل النزيلُ المقيم في الغرفة ٢ إلى الغرفة ٣، وهكذا. يظل جميع مَن في الفندق يحظى بغرفةٍ له؛ مما يُتيح للقادمِ الجديد الإقامةَ في الغرفة الشاغرة ١. وهذا يُثبت أنَّ ما لا نهاية زائد واحد يُساوي ما لا نهاية.
في الليلة التالية، يُضطرُّ هيلبرت إلى التعامل مع مشكلةٍ أكبرَ كثيرًا. فالفندق لا يزال ممتلئًا، بينما تصل حافلةٌ كبيرة إلى حدٍّ لا نهائي، وبها عددٌ لا نهائي من النزلاء الجدد. يظل هيلبرت رابطَ الجأش مسرورًا بالتفكير في المزيد من فواتير الفندق اللانهائية. فيطلب من جميع نزلائه الحاليِّين الانتقالَ إلى الغرفة التي يكون رقمُها ضِعفَ رقم غرفتِهم الحاليَّة. ومِن ثَمَّ؛ ينتقل النزيل المقيم في الغرفة ١ إلى الغرفة ٢، وينتقل النزيل المقيم في الغرفة ٢ إلى الغرفة ٤، وهكذا. يظل جميعُ مَن كان في لفندق يحظَوْن بغرفة، ويصيرُ عددٌ لا نهائيٌّ من الغرف، جميع الغرف الفردية، شاغرًا ليتسعَ للقادمين الجدد. وهذا يوضح أنَّ ضِعفَ ما لا نهاية يُساوي ما لا نهاية.
يبدو أنَّ فندق هيلبرت يقترح أنَّ جميع الكميات اللانهائية كبيرةٌ بالحجم نفسِه؛ إذ يبدو أنَّ مختلِفَ الكميات اللانهائية يمكن أن تُقيمَ في الفندق اللانهائيِّ نفسِه، فالكمية اللانهائية المتمثلةُ في الأعداد الفردية يُمكن أن تتطابقَ مع الكمية اللانهائية المتمثلة في أعدادِ العدِّ بأكمَلِها. غير أنَّ بعض الكميات اللانهائية أكبرُ من بعضها الآخَرِ بالتأكيد. ذلك أنَّ أي محاولة لمزاوَجةِ جميعِ الأعداد النسبية بجميع الأعداد غيرِ النسبية تنتهي بالفشل، ويُمكن في حقيقة الأمر إثباتُ أنَّ مجموعة الأعداد غيرِ النسبية اللانهائية أكبرُ من مجموعة الأعداد النِّسبيةِ اللانهائية. لقد اضطُرَّ علماء الرياضيات إلى وضعِ نظام كامل من المصطلحات؛ للتعاملِ مع المستويات المختلفةِ من اللانهائية، وقد صار الاهتمامُ بهذه المفاهيم من أكثرِ الموضوعات المثيرة في الوقت الحالي.
وبالرغم من أنَّ لا نهائيةَ الأعدادِ الأولية قد حطَّمَت الآمالَ في وجود برهان مبكِّر لمبرهنة فيرما الأخيرة، فإنَّ وجود إمدادٍ لا نهائي من الأعداد الأولية يوفر نتائجَ أكثرَ إيجابيةً في مجالات أخرى مثل الجاسوسية وتطور الحشرات. وقبل العودة إلى موضوع البحث عن إثباتٍ لمبرهنة فيرما الأخيرة، يجدر بنا الإشارة سريعًا إلى حالات استخدام الأعداد الأولية وحالات إساءة استخدامها.
إنَّ نظرية الأعداد الأولية من مجالات الرياضيات البحتة القليلة التي وجَدَت تطبيقًا مباشرًا لها في العالم الواقعي، وهو مجال التشفير. ينطوي التشفير على تأليف رسائل سرية لا يستطيع فكَّ شفرتها سوى المُرسَلِ إليه وحده دونَ أيِّ شخصٍ آخرَ قد يستقبلُها. وتستلزم عمليةُ تأليف الرسائل السرية استخدامَ مِفتاحٍ سري، وعادةً ما تستلزم عمليةُ فكِّ التشفير تطبيقَ المتلقِّي للمفتاح السري في الاتجاه المعاكس. وفي هذه العملية، يكون المِفتاحُ هو الحَلْقةَ الأضعف في سلسلة الأمان. فأولًا، يجب أن يتفق المرسِلُ والمرسَلُ إليه على تفاصيل المِفتاح، وتبادلُ هذه المعلومة عمليةٌ خَطِرة. ذلك أنَّ العدوَّ إذا تمكن من الوصول إلى المفتاح المتبادَل؛ فسوف يتمكنُ من فكِّ شفرة جميع الرسائل التالية. ثم إنَّه يجب تغييرُ هذه المفاتيح بانتظامٍ لضمان الأمان، وثَمة مُخاطرةٌ بأن يتلقَّى العدو المفتاح الجديد في كل مرة يتغيَّر فيها.
تتمحورُ مشكلة المفتاح حول الحقيقة المتمثلة في أنَّ استخدامَه بطريقة معينة يُشفِّر الرسالة، واستخدامه بالطريقة المعاكسة يفكُّ شفرتها، وتكون عملية فكِّ الشفرة على القدر نفسِه من السهولة التي تكون عليها عمليةُ التشفير. بالرغم من ذلك، فالتجرِبة تُخبرنا أنَّ عملية فكِّ الشفرة تكون أصعبَ كثيرًا من عملية التشفير في العديد من المواقف الحياتية؛ فمن السهل نِسبيًّا أن نَخفِق بيضةً، أما إلغاء هذا الخفق وإعادتُها إلى هيئتها، فهو أمر أصعب كثيرًا.
في سبعينيَّات القرن العشرين، توصل وايتفيلد ديفي ومارتِن هيلمان إلى فكرة البحث عن عمَليةٍ رياضية يسهل إجراؤها في أحدِ الاتجاهَين، ويكون صعبًا للغاية في الاتجاه المعاكس. وستكون مثلُ هذه العملية هي المِفتاحَ المثالي. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكونَ لديَّ مِفتاحي الخاصُّ المؤلَّفُ من نِصفَين، وأنشُرَ نِصف التشفير في دليلٍ عمومي. وعندها، سيتمكَّن أيُّ شخص من أن يرسل لي رسائلَ مشفَّرة، لكنَّ أحدًا لا يعرف النصفَ الخاصَّ بفك الشفرة سِواي. وبالرغم من أنَّ الجميعَ يعرفون نِصفَ المفتاحِ الخاص بالتشفير، فإنه لا يَمُتُّ بأيِّ صِلةٍ إلى نصفه الخاصِّ بفك الشفرة.
في عام ١٩٧٧، أدرك رونالد ريفست وعدي شامير وليونارد أدِلمان، وهم فريقٌ من علماء الرياضيات وعلماءِ الكمبيوتر في معهد ماساتشوستس للتِّقنية، أنَّ الأعداد الأوليَّة هي الأساس المثاليُّ لعملية تشفيرٍ سهل وفكِّ تشفيرٍ صعب. فلكي أصنعَ مفتاحي الخاص، سأختارُ اثنين من الأعداد الأولية الضخمة، على ألا يقلَّ الواحد منهما عن ٨٠ رقمًا، ثم أضرِبُهما معًا لكي أتوصَّلَ إلى عدد أكبرَ غيرِ أولي. وكل ما يستلزمه تشفير الرسائل هو معرفة العدد غيرِ الأولي الضخم، أما عملية فك التشفير فتستلزم معرفةَ العددين الأوليَّين الأصليَّين اللذَين ضُرِبا معًا، وهما يُعرَفان باسم العاملَين الأوليَّين. يمكنني الآن أن أنشر العدد غيرَ الأولي الضخم: النصف الخاص بالتشفير، وأحتفظ لنفسي بالعاملين الأوليَّين: النصف الخاص بفك التشفير. فالمهم أنه بالرغم من معرفة الجميع للعدد غيرِ الأولي الضخم، أنهم سيُواجِهون صعوبةً هائلة لمعرفة العاملَين الأوليين.
ولنتناوَلْ مثالًا أسهل، يُمكنني أن أختار العدد غيرَ الأوليِّ ٥٨٩، الذي سيُمكِّن الجميعَ من تشفير الرسائل إليَّ. وسأحتفظُ بالعاملَين الأوليين للعدد ٥٨٩ سرًّا؛ كي لا يتمكنَ أحدٌ من فك تشفير الرسائل سواي. وإذا تمكن آخَرون من التوصل إلى العاملين الأوليَّين، فسيتمكَّنون هم أيضًا من فك شفرة رسائلي، لكنَّ العاملين الأوليَّين غيرُ واضحَين حتى في هذا العدد الصغير. وفي هذه الحالة، لن يستغرق الأمر سوى بضعِ دقائق على الكمبيوتر لمعرفةِ أنَّ العاملين الأوليين هما ٣١ و١٩ (٣١ × ١٩ = ٥٨٩)، ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ مفتاحي لن يظَل آمنًا لمدَّة طويلة.
بالرغم من ذلك، فالعدد غيرُ الأوَّلي الذي يُمكن أن أنشُرَه في الواقع، لن يقلَّ عن مائةِ رقم، مما يجعل من مهمَّةِ اكتشاف عامِلَيه الأوليَّين أمرًا مستحيلًا بالفعل. والسبب في ذلك أنه حتى مع استخدام أقوى أجهزة الكمبيوتر لقسمةِ هذا العدد غيرِ الأوَّلي الضخم (مفتاح التشفير) إلى عامِلَيه الأوليَّين (مفتاح فك التشفير)، فإنَّ الأمر سيستغرق سنواتٍ عدةً للتوصُّل إلى الإجابة. ومِن ثَمَّ؛ فكلُّ ما سيكون عليَّ فِعلُه لإحباط محاولاتِ الجواسيس الأجانب هو تغييرُ مِفتاحي بصفةٍ سنوية. في كل عام، أعلن العدد غيرَ الأولي العملاق الذي اخترتُه، وسيكون على كلِّ مَن يرغب في محاولةِ فك تشفير رسائلي أن يبدأ من جديدٍ في محاولة حساب العامِلَين الأوليَّين.
تقترح إحدى النظرياتِ أنَّ لِحشرات الزيز طفيليًّا يتَّسمُ هو أيضًا بدورة حياته الطويلة، وتُحاول حشرات الزيز تجنُّبَه. إذا افترضنا مثلًا أنَّ دورة حياة الطفيلي تبلغ سنتَين، فسوف ترغب حشرات الزيز في تجنُّبِ أن يكون طولُ دورة حياتها يقبل القسمة على ٢، وإلا فسوف يتزامَنُ وجودُ الزيزيات والطفيلي معًا بانتظام. وأيضًا إذا كانت دورة حياة الطفيليِّ تبلغ ٣ سنوات، فسوف ترغب الزيزيات في تجنُّبِ أن يكون طول دورة حياتها يقبل القِسمة على ٣، وإلا فسوف يتزامن وجودُ الطفيلي والزيزيات معًا بانتظام. وفي نهاية المطاف، لكي تتجنَّب الزيزيات اللقاءَ بطفيليِّها، فإنَّ أنسبَ استراتيجية لها هي أن يبلغ طولُ دورة حياتها عددًا أوليًّا من السنوات. فنظرًا إلى أنَّ العدد ١٧ لا يقبل القسمة على شيء؛ فنادرًا ما تلتقي «ماجيسيكادا سبتنديسيم» بطُفَيليِّها. إذا كانت دورةُ حياة الطفيلي تبلغ سنتَين، فلن يلتقيا إلا كلَّ ٣٤ عامًا، وإذا كانت أطولَ من ذلك، ١٦ عامًا على سبيل المثال، فلن يلتقيا إلا كلَّ ٢٧٢ عامًا (١٦ × ١٧).
ولكي يتمكنَ الطفيليُّ من المقاومة، لن يكون لديه سوى دورتَين سيَزيدان من تواتُرِ التزامُن: الدورة السَّنوية، والدورة التي تبلغ ١٧ عامًا مثل الزيزيات. غير أنَّ الطفيليَّ لن يتمكن على الأرجح من البقاء حيًّا مع الظهور على مدى ١٧ عامًا متوالية؛ فأول ١٦ مرةً من مرات الظهور لن تتزامن مع وجود الزيزيات. ومن الناحية الأخرى، فلكي تبلغَ دورةُ حياة الطفيلي ١٧ عامًا، سينبغي أولًا أن تتطور أجيالُ الطفيلي على مدى دورة الحياة التي تبلغ ١٦ عامًا. ومعنى هذا أنَّه في مرحلةٍ ما من التطور، لن يتزامن وجودُ الطفيلي مع الزيزيات لمدة ٢٧٢ عامًا! وفي أيٍّ من الحالتَين، فإنَّ دورة حياة الزيزيات التي تمتدُّ على مدى عددٍ أولي من السنوات، تحميها.
وقد يكون هذا هو السببَ في أنَّ هذا الطفيليَّ المزعوم لم يُكتشَف قط! ففي سباقه للَّحاق بالزيزيات، ظل الطفيليُّ على الأرجح يُطيل من دورة حياته إلى أن وصلت إلى حاجز الستةَ عشر عامًا. وقد عجز بعد ذلك عن التزامن معها على مدى ٢٧٢ عامًا، وبحلول ذلك الوقت كان عدمُ التزامن مع الزيزيات قد أدى إلى انقراضه. والنتيجة هي أنَّ دورة حياة الزيزيات قد بلغَت ١٧ عامًا؛ وهو ما لم تَعُد في حاجة إليه إذ انقرضَ الطفيلي.
(٣) السيد لو بلو
بحلول بداية القرن التاسع عشر، كانت مبرهنة فيرما الأخيرة قد رسَّخَت بالفعل وسْمَها بأنها المعضلةُ الأسوأُ سُمعةً في نظرية الأعداد. فمنذ التقدُّمِ الذي أحرزَه أويلر لم يحدث أيُّ تقدمٍ آخر، غير أنَّ إعلانًا مثيرًا لسيدة فرَنسية قد أحيا مجال البحث عن برهانِ فيرما المفقودِ من جديد. كانت صوفي جيرمان تعيش في عصر من النَّعْرة والتعصُّب، ولكي تتمكنَ من إجراء أبحاثها، اضطُرَّت إلى انتحال شخصيةٍ مزيفة والدراسة في ظروف سيئة والعمل في عُزلة فكرية.
لقد ظلَّت النساء يُثنيَن عن دراسة الرياضيات على مدى قرون، غير أنَّ هذا التمييزَ لم يمنع العديدَ من عالمات الرياضيَّات من الكفاح ضدَّ المنظومة، وغيَّرن أسماءهنَّ في سِجلَّات الرياضيات على نحوٍ دائم. وأول سيدة قد عُرِفت بتركِ بصمتها في الرياضيات هي ثيانو التي عاشت في القرن السادس قبل الميلاد، والتي كانت واحدةً من طلاب فيثاغورس في البداية، قبل أن تصبح واحدةً من حَواريِّيه البارزين، وزوجةً له في نهاية المطاف. ويُعرَف فيثاغورس بلقب «الفيلسوف النسوي»؛ لأنه كان يُشجع الباحثاتِ من النساء؛ فلم تكن ثيانو سوى واحدةٍ من بين ثمانٍ وعشرين أختًا أُخرَيات من أعضاء الأخوية الفيثاغورسية.
في القرون التالية، استمر أمثالُ سقراط وأفلاطون في تشجيع النساء على الالتحاق بمدارسهم، لكنَّ أيًّا منهنَّ لم تُؤسِّس مدرسةً مؤثِّرة في الرياضيات، ولم يحدث ذلك حتى القرن الرابع الميلادي. فحينَها عُرِفت هيباتيا، ابنة أحد أساتذة الرياضيات في جامعة الإسكندرية، بإلقاء أشهر المحاضرات في العالم المعروف، وبكونها الأعظمَ في حلِّ المعضلات. كان علماء الرياضيات إذا استعصَت عليهم إحدى المعضلات يُرسلون إليها طالبين الحلَّ، ونادرًا ما خيَّبَت هيباتيا معجَبيها. لقد كانت شديدةَ الشغَف بالرياضيات وبعملية البرهان المنطقي، وحين سُئلت عن السبب في عدم زواجها، أجابت بأنها قد تزوجَت الحقيقة. وفي نهاية المطاف، تسبَّب إخلاصُها إلى قضية العقلانية في هلاكها، وذلك حين بدأ كيرلس الأول بَطْرِيَرك الإسكندرية في قمع الفلاسفة والعلماء وعلماء الرياضيات، الذين كان يَدْعوهم بالهراطقة. وقد ذكَر المؤرخ إدوارد جيبون وصفًا مفصلًا لما حدث بعد أن تآمرَ كيرلس الأول على هيباتيا وحرَّض العامةَ عليها.
في يومٍ مشئوم، في موسم الصوم الكبير المقدَّس، نُزِعت هيباتيا من عرَبتِها، وجُرِّدت من ملابسها، وجُرَّت إلى الكنيسة حيث ذُبِحت بوحشيةٍ على يد «بيتر القارئ» وحشدٍ من المتعصبين الهمَجيِّين عديمي الرحمة، الذين كشطوا لحمها عن عِظامها بأصداف المحار، وألقَوْا بأطرافها المرتجفةِ في النيران.
وبالرغم من أنَّ علماء الرياضيَّات في جميع أنحاء أوروبا كانوا يعترفون بقدراتِ أنيزي، فقد رفضت العديدُ من المؤسسات الأكاديمية، لا سيما الأكاديمية الفرنسية، أن تمنحَها منصبًا بحثيًّا. استمرَّ التمييز المؤسسيُّ ضد النساء حتى القرن العشرين، حين حُرِمت إيمي نويثر، التي وصَفها أينشتاين بأنها «أكثرُ شخص عبقريٍّ ومبدع في الرياضيات قد ظهر منذ أن بدأت النساءُ في تلقِّي التعليم العالي»، منصبَ محاضرٍ في جامعة جوتينجِن. وقد حاجَجَت غالبيةَ أعضاء الكلية بما يلي: «كيف يمكن السماحُ لامرأة بأن تُصبح محاضِرةً؟ وإذا أصبحَت محاضِرة، فسوف يمكن أن تحظى بمنصبِ بروفيسور أو تُصبح عضوًا في المجلس الأعلى للجامعة … ماذا سيكون رأي جنودنا حين يعودون إلى الجامعة ويجدون أنهم يتعلَّمون تحت قدمَي امرأة؟» وقد أجاب صديقها ومرشدها، ديفيد هيلبرت: «أيها السادة، لستُ أرى أنَّ جنس إحدى المرشَّحات حُجة تُساق ضدَّ قَبولها في منصب محاضِر. فالمجلس ليس بالحمَّام بالرغم من كل شيء.»
وقد سُئل زميلها، إدموند لاندو، بعد ذلك عما إذا كانت من عالماتِ الرياضيات العظيمات، وهو ما أجاب عنه بقوله: «يمكنني أن أشهدَ بأنها عالمةُ رياضيات عظيمة، أما عن كونها امرأةً، فهذا ما لا أستطيع الجزمَ به.»
وإضافةً إلى ما عانَتْه من التمييز، فقد كانت نويثر تشتركُ في الكثير مع غيرها من عالمات الرياضيات على مدى القرون، ومن ذلك أنها هي أيضًا كانت ابنةً لأستاذٍ في الرياضيات. إنَّ العديد من علماء الرياضيات، من كِلا النوعَين، ينحدرون من عائلاتٍ تهتمُّ بالرياضيات؛ مما يُفْضي إلى الشائعات المازحة بشأن وجودِ جينٍ رياضي، غير أنَّ النسبة في النساء أعلى كثيرًا. والتفسير المحتملُ لذلك هو أنَّ معظم النساء اللائي كُن يتمتَّعنَ بتلك الملَكةِ، لم يتعرَّضن للمجال قط أو يُشجَّعنَ على دراسته، أما أولئك اللائي وُلِدن لآباءٍ من أساتذة الرياضيات، فلم يكن من الممكن أن يتجنَّبنَ الانغماسَ في عالم الأعداد. علاوةً على ذلك، فإنَّ نويثر تشتركُ مع هيباتيا وأنيزي ومعظم عالمات الرياضيات الأخرَيات في أنهن لم يتزوَّجن قط، ويعود السبب في ذلك بصفةٍ كبيرة إلى أنَّ عملَ النساء في مثلِ هذه المهن لم يكن بالأمر الذي يقبله المجتمع، وقليلٌ من الرجال هم الذين كانوا على استعدادٍ لأن يتزوَّجوا من نساءٍ ينتمينَ إلى مثلِ تلك الخلفيات المثيرة للجدل. أما عالمة الرياضيات الروسية العظيمة، سونيا كوفاليفسكي، فهي استثناءٌ لهذه القاعدة؛ إذ إنها رتَّبت زواجًا صوريًّا مع فلاديمير كوفاليفسكي، الذي وافقَ على العلاقة الأفلاطونية. لقد أتاح هذا الزواجُ للطرفين الهروبَ من عائلتَيهما، والتركيزَ على أبحاثهما، ثم إنَّ سفر سونيا في أوروبا وحدها قد صار أسهلَ كثيرًا فورَ أن أصبحَت سيدةً متزوجة مبجَّلة.
من بين جميعِ البلدان الأوروبية، كانت فرنسا هي الأكثرُ تعصبًا تجاهَ النساء المتعلِّمات؛ إذ أعلنَت أنَّ الرياضياتِ لا تُناسب النساءَ وتفوق قدراتهنَّ الذهنية. وبالرغم من أنَّ صالونات باريس قد سادت عالمَ الرياضيَّات في جُلِّ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلم تتمكَّن سوى امرأةٍ واحدة من الإفلات من قيود المجتمع الفرنسي، وأن تُصبح من العالمات العظيمات في نظرية الأعداد. لقد أحدثت صوفي جيرمان ثورةً في مجال دراسة مبرهنة فيرما الأخيرة، وأسهمت فيها بقدرٍ أكبر مما أسهمَه أيٌّ من الرجال الذين حاوَلوا قبلها.
وُلِدت صوفي جيرمان في الأول من أبريل عام ١٧٧٦، لتاجرٍ فرَنسي يُدعى أمبرواز فرانسوا جيرمان. وخارج نطاقِ عمَلِها، تحكَّمَت في حياتها أهوالُ الثورة الفرنسية؛ فقد سقط سجنُ الباستيل في العامِ الذي اكتشفت فيه حبَّها للأعداد، وكانت دراستُها للتفاضل والتكامل في ظلال «عهد الذُّعر». وبالرغم من أنَّ أباها كان ثريًّا، فلم تكن عائلة صوفي من الطبقة الأرستقراطيَّة.
وبالرغم من أنَّ النساءَ اللائي ينتمينَ إلى الخلفية الاجتماعية التي كانت جيرمان تنتمي إليها، لم يَكُنَّ يُشجَّعن على دراسة الرياضيات، فقد كان ينبغي عليهنَّ أن يتمتعنَ بقدرٍ كافٍ من المعرفة بها كي يتمكَّنَّ من مناقشة الأمر إن طُرِح في محادثة مهذَّبة. ومن أجل هذا الغرض، كُتِبت مجموعةٌ من الكتب الدراسيَّة كي تُساعد الشاباتِ على الإلمام بآخرِ التطوُّرات في الرياضيات والعلوم. فألَّف فرانشيسكو ألجروتي كتاب «شرح فلسفة السير إسحاق نيوتن للنساء». ولأنَّ ألجروتي كان يرى أنَّ النساءَ لا يُثير اهتمامَهنَّ سوى الحبِّ؛ فقد حاول شرحَ اكتشافات نيوتن عن طريق حديث الغزَل بين ماركيزة ومُحاورِها. فعلى سبيل المثال، يصفُ المحاور قانونَ التربيع العكسيِّ لقوة الجاذبية، وعندئذٍ تُعطي الماركيزة تأويلَها لهذا القانون الجوهريِّ في الفيزياء: «لا يسَعُني سِوى أن أفكر … أنَّ هذا التناسُبَ في تربيع مسافات الأماكن، يُرى حتى في الحب. ومِن ثَمَّ؛ فبعدَ ثمانية أيام من الغياب، يُصبح الحبُّ أقلَّ بمقدارِ أربعٍ وستين مما كان عليه في اليوم الأول.»
ولا عجب أنَّ هذا النوع الغزَليَّ من الكتب، لم يكن مسئولًا عن إشعال اهتمامِ صوفي جيرمان بالرياضيات. أما الحدَث الذي غيَّر حياتَها، فقد وقع ذاتَ يوم حين كانت تستعرضُ الكتب في مكتبةِ أبيها وصادفَت كتاب جان إيتيان مونتوكلا الذي يُدعى «تاريخ الرياضيَّات». وكان الفصل الذي أسَرَ خيالها هو مقال مونتوكلا عن حياة أرشميدس. لقد كانت روايته لاكتشافات أرشميدس شيقةً بالتأكيد، لكنَّ ما أثار افتتانَها بالتحديد، هو القصة التي تدور عن وفاته. لقد قضى أرشميدس حياتَه في سرقوسة يدرُس الرياضياتِ في هدوءٍ نِسْبي، غيرَ أنَّ هذا السلامَ قد تهشَّم وهو في آخرِ السبعينيَّات من عمره مع غزوِ الجيش الروماني. تقول الأسطورة إنَّه في أثناء الغزو، كان أرشميدس منهمكًا للغاية في دراسة شكلٍ هندسي على الرمال حتى إنه لم يُجِب على جندي روماني كان يسأله. ونتيجةً لهذا، فقد طُعِن ومات.
وقد استنتجت جيرمان من هذه القصة أنه إذا انهمَك أحدُهم في مسألة هندسيَّة بالقدر الذي يُمكن أن يؤدِّيَ إلى وفاته؛ فلا بد أنَّ الرياضيات هي أكثرُ موضوع أخَّاذٍ في العالم. بدأت على الفور في تعليم نفسِها مبادئَ نظرية الأعداد وحساب التفاضل والتكامل، وسرعان ما صارت تسهرُ الليل تدرس أعمال أويلر ونيوتن. وقد كان هذا الاهتمامُ المفاجئ بمِثْل ذلك الموضوع غيرِ الأنثوي سببًا في قلق والِدَيها. لقد ذكَر أحدُ أصدقاء عائلتها، وهو الكونت جوليالمو ليبري كاروتشي دالا سومايا، كيف أنَّ والدَ صوفي قد صادرَ شموعها وملابسَها وأزال أيَّ مصدر للتدفئةِ كي يُثْنِيَها عن الدراسة. وبعد ذلك ببضع سنوات فقط في بريطانيا، ستُصادر أيضًا شموعَ عالمة الرياضيَّات الشابَّة، ماري سمرفيل، على يدِ والدها الذي كان يرى أنه «لا بد من وضعِ حدٍّ لهذا الأمر، وإلا فسوف نجد ماري في مصحَّة عقليَّة ذاتَ يوم.»
استجابت جيرمان بأنْ خبَّأَت مخزونًا سريًّا من الشموع وكانت تلتحفُ بأغطيةِ السرير. لقد كتب ليبري-كاروتشي أنَّ لياليَ الشتاء كانت باردةً للغاية حتى إنَّ الحبر كان يتجمَّد في الدواة، لكنَّ صوفي قد استمرَّت بالرغم من ذلك. وصفَها بعضُ الأشخاص بأنها كانت خَجولة لا تتمتَّع باللباقة، لكنها كانت شديدةَ الإصرار، وقد لانَ والداها في نهاية المطاف ومنَحا صوفي موافقتَهما ومُبارَكتَهما. لم تتزوَّج جيرمان قط، وكان والدها هو الذي يُموِّل أبحاثها على مدى حياتها العمَلية. وظلت جيرمان تدرس بمفردها على مدى سنوات طويلة؛ إذ لم يكن في عائلتها علماءُ رياضيات يستطيعون أن يُعرِّفوها أحدث الأفكار، وقد رفَض المعلمون الخصوصيُّون أن يأخذوها على محمل الجِد.
بعد ذلك، في العام ١٧٩٤، افتُتِحت المدرسة متعددةُ التِّقنيات في باريس. وكانت قد أُسِّست بغرضِ أن تُصبح أكاديميةً ممتازة لتدريب الرياضيِّين والعلماء من أجل الوطن. كانت هذه المؤسسةُ لتُصبح مكانًا مثاليًّا لجيرمان تستطيع أن تُطور فيه مهاراتها الرياضية، لولا أنها كانت تقتصر على الرجال. وقد منعَتها طبيعتها الخجولة من مواجهة هيئة إدارة الأكاديمية؛ فلجأت إلى الدراسة فيها على نحو سرِّي من خلال انتحال هُوية طالبٍ سابق في الأكاديمية، السيد أنطوان-أوجست لو بلو. لم تكن إدارة الأكاديمية على علمٍ بأنَّ السيد لو بلو الحقيقيَّ قد غادر باريس، واستمرَّت في طباعة المسائل وملاحظات المحاضرات له. تمكنَت جيرمان من الحصول على ما كان مُخصصًا للسيد لو بلو، وكانت تُقدِّم إجابات المسائل أسبوعيًّا باسمها المنتحَل الجديد. كان كل شيء يسير وفقًا للخُطة حتى بضعة شهور حين لم يسَعِ المشرفَ على الدورة الدراسية، جوزيف-لوي لاجرانج، أن يتجاهل براعة الإجابات التي يُقدِّمها السيد لو بلو. ولم يكن الأمر يقتصر على البراعة المدهشة التي تَشي بها إجاباتُ السيد لو بلو، بل إنها كانت تُوضِّح أيضًا تحولًا كبيرًا لطالبٍ كان يشتهر من قبلُ بحساباته الشنيعة. طلب لاجرانج، الذي كان أحدَ أبرع علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر، اللقاءَ بالطالب الذي انصلح حاله، واضطُرَّت جيرمان إلى الكشف عن هُويتها الحقيقية. كان لاجرانج مذهولًا ومسرورًا بلقاء الفتاة الشابة وأصبح معلمًا لها وصديقًا. وأخيرًا، حظيَت جيرمان بمُعلِّم يُلهمها، ويُمكنها أن تكون صادقةً معه بشأن مهاراتها وطموحها.
تطورت جيرمان سرًّا، وانتقلت من حلِّ المسائل في دورتها الدراسية إلى دراسة مجالاتٍ غير مكتشَفة في الرياضيات. والأهم من ذلك، أنها صارت مهتمةً بنظرية الأعداد، وسمعَت بالطبع عن مبرهنة فيرما الأخيرة. ظلَّت تعمل على المعضلة لسنواتٍ عدة، إلى أن بلغَت في النهاية مرحلةً اعتقدَت عندها أنها قد أحرَزَت تقدمًا مُهمًّا. كانت تحتاج إلى مناقشة أفكارها مع زميلٍ متخصص في نظرية الأعداد، وقررَت أن تختار الأفضلَ وتستشيرَ أعظمَ متخصِّصي نظرية الأعداد في العالم، عالم الرياضيات الألمانيَّ كارل فريدريش جاوس.
يُعرَف جاوس بكونه أحدَ أبرعِ علماء الرياضيات الذين عاشوا على الإطلاق. فبينما أشار إي تي بيل إلى فيرما باسم «أمير الهواة»، أشار إلى جاوس باسم «أمير علماءِ الرياضيات». كانت جيرمان قد عرَفَته للمرة الأولى من خلال دراسةِ رائعةِ أعماله «استفسارات حسابية»، أهمِّ الكتب واسعةِ النِّطاق منذ كتاب «العناصر» الذي ألفه إقليدس. كان لعملِ جاوس تأثيرٌ في جميع مجالات الرياضيات، لكنَّ الغريب أنه لم ينشر أيَّ شيء قط عن مبرهنةِ فيرما الأخيرة. والأكثر من ذلك أنه قد عبَّر في إحدى رسائله عن ازدرائِه للمسألة. كان صديقه عالِمُ الفلَكِ الألمانيُّ هاينريش أولبرز قد كتب لجاوس يُشجعه للمنافسة على جائزةٍ عرَضَتها أكاديمية باريس لمن يُقدِّم حلًّا لتحدِّي فيرما: «إنني أرى يا عزيزي جاوس، أنَّه يجدرُ بك أن تهتمَّ بهذا الأمر.» وبعد أسبوعين، أجابه جاوس: «إنني في غاية الامتنانِ لما سُقتَه إليَّ من أخبارٍ بشأن جائزة باريس. غير أنني أعترف بأنَّ مبرهنة فيرما الأخيرة بصفتها افتراضًا منفصلًا، لا تكاد تَعْنيني على الإطلاق؛ إذ إنني أستطيعُ وضع الكثيرِ جدًّا من الافتراضات، التي لا يستطيع المرءُ أن يُثبِتَها ولا أن ينفيَ صحتَها.» لجاوس الحقُّ في إبداء رأيه بالطبع، لكنَّ فيرما قد أعلن عن وجودِ برهان، وحتى المحاولات المتتالية التي باءت بالفشل في التوصُّل إلى برهان أنتجَت أساليبَ مبتكَرة، مثل البرهان بطريقة «التناقص اللانهائي» واستخدامِ الأعداد التخيُّلية. ربما كان جاوس قد حاولَ في الماضي وفَشِل في ترك أيِّ بصمة على المعضِلة، ولم يكن ردُّه على أولبرز سوى تعبيرٍ عما يشعر به من المرارة الفكرية. غير أنه حين تلقَّى رسائلَ جيرمان، أبهره التقدمُ الذي أحرزَته بالقدر الكافي؛ حتى إنه قد نسي مؤقتًا، مشاعرَه المتناقضة بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة.
كان عملُ جيرمان في مبرهنة فيرما الأخيرة ليُصبح أعظمَ إنجازاتها في الرياضيات، غير أنَّ الفضلَ لم يُنسَب إليها على هذا الإنجاز في البداية. فحين كتبَت جيرمان إلى جاوس، كانت لا تزال في العشرينيَّات من عمرها، وبالرغم من أنها كانت قد اشتهرت في باريس، فقد خشيَت ألا يأخذَها الرجلُ العظيم على محمل الجِد بسبب نوعها الاجتماعي. ومن أجل أن تحميَ نفسها، لجأت جيرمان إلى اسمها المستعار مجددًا، ووقَّعَت رسائلها باسم السيد لو بلو.
تتضح خشيتُها من جاوس واحترامُها له في إحدى رسائلِها إليه؛ إذ تقول فيها: «يؤسفني أنَّ عُمق قدراتي الذهنية لا يُعادل نهمَ شهيَّتي، وأنا أشعرُ ببعضِ المجازفة في إزعاجِ رجلٍ بهذه البراعة دون أن يكون لي أيُّ حقٍّ في استرعاء انتباهِه سوى الإعجابِ الذي يُكنُّه له جميعُ قرائه بالتأكيد.» ولما كان جاوس غافلًا عن هُوية مراسله الحقيقية، فقد حاول أن يُهوِّن على جيرمان فأجاب: «إنني سعيدٌ بأنَّ عِلم الحساب قد وجد فيك صديقًا على هذا القدر من البراعة.»
كان من الممكن أن يظلَّ إسهامُ جيرمان منسوبًا إلى الأبد عن طريق الخطأ إلى السيد الغامضِ لو بلو، لولا الإمبراطور نابليون. في العام ١٨٠٦، غزا نابليون بروسيا، وكان الجيش الفرَنسي يجتاحُ مدينةً ألمانية تِلو الأخرى. وقد خشيَت جيرمان أن يُصيب القدرُ الذي وقع بأرشميدس، بطلَها العظيم الآخَر جاوس ويأخذ حياته؛ فبعثَت برسالة إلى صديقها الجنرال جوزيف-ماري بيرنيتي، الذي كان مسئولًا عن القوات المتقدِّمة. وطلبت منه أن يضمنَ سلامة جاوس؛ فأولى الجنرال عالمُ الرياضيات الألماني عنايةً خاصة، وشرح له أنه يَدين بحياته للآنسة جيرمان. كان جاوس ممتنًّا ومندهشًا في الوقت نفسِه؛ إذ إنه لم يسمع قط بصوفي جيرمان.
انكشفَت الخدعة. وفي الرسالة التالية، أعلنت جيرمان لجاوس عن هُويتها الحقيقية ببعض التردُّد. لم يكن جاوس غاضبًا من الخداع على الإطلاق، بل أجاب رسالتها بكل سرور:
وكيف أصفُ لكِ إعجابي ودهشتي برؤية مُراسلي المحترم، السيد لو بلو، يتحوَّل إلى هذه الشخصية العظيمة التي تُعَد مثالًا رائعًا لما كنتُ أجد أنه أمر يصعب تصديقُه. إنَّ الاهتمام بالعلوم المجردة في العموم، ولا سيَّما ألغاز الأعداد، هو أمرٌ نادر للغاية، وليس ذلك مما يدهش المرء؛ فالمفاتن الساحرة لهذا العلمِ الجليل لا تتجلَّى إلا لِمَن يملكون الشجاعةَ على الخوض فيها بعمق. وحين تنجح سيدة، وهي تُلاقي بسبب جنسها، وفقًا لأعرافِنا وتحيُّزاتنا، صعوباتٍ أكثرَ مما يجده الرجالُ بكثير في سبيلِ تعليم نفسِها هذه الأبحاثَ الشائكة، في تخطِّي هذه العقَبات وسَبْرِ أغوارِ الأجزاء الأكثر غموضًا منها، فلا بد أنها تتحلى بأنبلِ سِمات الشجاعة وبمواهبَ استثنائيةٍ وعبقرية فائقة. ما من شيء يُمكن أن يُثبت لي بطريقةٍ أجملَ ولا أوضح أنَّ مفاتنَ هذا العلم، التي أثْرَت حياتي بالكثيرِ من مواطن السرور، ليست وَهْمية، وليس كذلك الولَع الذي شرَّفْتِه به.
ألهمَت المراسَلاتُ التي دارت بين صوفي جيرمان وكارل جاوس، الكثيرَ من أعمالها، غير أنَّ هذه العلاقةَ انتهت فجأة في العام ١٨٠٨. كان جاوس قد عُيِّن في منصب بروفيسور للفلَكِ في جامعة جوتينجن، وتحوَّل اهتمامُه من نظرية الأعداد إلى مجالات الرياضيات التطبيقية، ولم يَعُد يعبأُ بالرد على خطابات جيرمان. وبدون مُعلِّمها، بدأت ثقتُها تضعف، وتخلَّت عن دراسة الرياضيات البحتة في غضون عام.
وبالرغم من أنها لم تَقُم بإسهاماتٍ أخرى في إثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة، فقد بدأت حياة مِهْنية حافلةً بالأحداث في مجال الفيزياء الذي ستتفوَّق فيه هو أيضًا، إلى أن تُواجِهَها تحيُّزاتُ المؤسَّسة. كان أهمُّ إسهاماتها في المجال هو ورقةً بحثية بعُنوان «مذكرة عن اهتزازات الصفائح المرنة»، وهو بحثٌ يتَّسم بالرؤية الثاقبة على نحوٍ بارع، وقد أرسى أسسَ نظريةِ المرونة الحديثة. ونتيجةً لهذا البحث، إضافةً إلى عملها على مبرهنة فيرما الأخيرة، حصَلَت صوفي على قِلادة من معهد فرنسا، وأصبحت أولَ امرأة تحضر محاضراتِ أكاديمية العلوم دون أن تكون زوجةً لأحد الأعضاء. وبعد ذلك قَرابة نهاية حياتها، استعادت علاقتها مع كارل جاوس الذي أقنع جامعةَ جوتينجن أن تمنحَها درجةً شرَفية. ومن المأساويِّ أنَّ صوفي جيرمان قد ماتت بسرطان الثدي قبل أن تمنحها الجامعة هذا الشرف.
(٤) الأظرف المغلقة
بعد التقدُّم الذي أحرزته صوفي جيرمان، عرَضَت الأكاديمية الفرنسية للعلوم مجموعةً من الجوائز تتضمَّن قِلادةً ذهبية و٣٠٠٠ فرانك لعالم الرياضيات الذي يتمكَّن أخيرًا من وضع نهايةٍ للُغز مبرهنة فيرما الأخيرة. فعلاوةً على المكانة التي سيحظى بها من يتمكَّن من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، صارت توجد الآن جائزةٌ قيِّمة للغاية مرتبطة بالتحدي. امتلأت صالونات باريس بالشائعات عمن يتبنَّى أيَّ استراتيجية، ومدى اقترابِه من إعلان نتيجة. وبعد ذلك، في الأول من مارس عام ١٨٤٧، عقدَت الأكاديمية أكثرَ اجتماعاتها إثارةً على الإطلاق.
كان الجمهور بأكملِه مذهولًا، وفورَ أن غادر لاميه المنصة، طلب أوجستان لوي كوشي، وهو أيضًا من أبرع علماء الرياضيات في باريس، الإذنَ بالحديث. أعلن كوشي للأكاديمية أنه كان يعملُ على خُطًى مشابهة لخُطى لاميه، وأنه قد صار أيضًا على وشك نشر برهانٍ كامل.
أدرك كوشي ولاميه كِلاهما أنَّ الوقت مهمٌّ للغاية. فمَن يسبق بتقديمِ برهانٍ مكتمِل، سيحظى بأثمنِ جائزة في الرياضيات، وأرفعِها مكانةً. وبالرغم من أنَّ أيًّا منهما لم يكن قد توصَّل إلى برهانٍ مكتمل، فقد كان المتنافسان حريصَين على التأكيد على حقهما بطريقةٍ ما؛ ومِن ثَمَّ فبعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلانَيهما، قدَّما أظرُفَهما المغلقةَ إلى الأكاديمية. وقد كانت تلك عادةً شائعة في ذلك الوقت تُمكِّن علماء الرياضيات من توثيق أعمالهم دون الإفصاحِ عن تفاصيلها الدقيقة. وإذا نشأ خلافٌ فيما بعدُ بشأنِ أصالة الأفكار، فإنَّ أحدَ الأظرف المغلَقة تُفتح عندها لتوفير الدليل اللازم لتحديد الأسبقية.
تزايدَ الترقُّبُ على مدى أبريل إذ نشر كوشي ولاميه في وقائع الأكاديمية، تفاصيلَ مشوِّقة وغامضةً من بُرهانهما. وبالرغم من أنَّ المجتمع الرياضيَّ بأكملِه كان متلهِّفًا للغاية لرؤية البرهان مكتملًا، فقد كان العديدُ منهم يأمُلون سرًّا في أن يكون لاميه هو الفائزَ بالسباق وليس كوشي. لقد كان كوشي متعاليًا ومتديِّنًا متعنتًا، وغيرَ محبوب على الإطلاق بين زملائه. لقد كان زملاؤه في الأكاديمية يحتملونه من أجلِ براعته فحسب.
بعد ذلك في الرابع والعشرين من مايو، صدر إعلانٌ قد وضعَ نهايةً للتخمين. لم يكن مَن تحدثَ أمام الأكاديمية كوشي ولا لاميه، بل جوزيف ليوفيل. صدم ليوفيل الجمهورَ بأكمله بقراءةِ محتويات خِطابٍ من عالم الرياضيات الألماني، إرنست كومر.
كان كومر عالِمًا في نظرية الأعداد من الطِّراز الرفيع، غير أنَّ حِسَّه الوطنيَّ العنيف الذي أشعَلَته كراهيةُ نابليون قد أزاغه عن شغَفِه الحقيقي على مدى الجزء الأكبر من حياته المِهْنية. فحين كان كومر طفلًا، غزا الجيش الفرنسيَّ مسقط رأسه مدينة سورو، وجلب معه وباءَ التيفوس. كان والد كومر هو طبيبَ المدينة، وتُوفي بالمرض في غضون أسابيع. ولمَّا فُجِع كومر بهذه التجرِبة، فقد أقسمَ على أن يبذل قصارى جهده للدفاعِ عن بلده من أي هجمات أخرى، وفورَ أن تخرَّج في الجامعة، سخَّرَ قدراته الذهنية لمشكلةِ تخطيط مسارات قذائفِ المدافع. وقد انتهى به الحالُ إلى تدريسِ قوانينِ علم حركة المقذوفات في كلية بِرلين الحربية.
وبالتوازي مع حياته المِهْنية العسكرية، كان كومر يسعى بنشاطٍ في مجالِ أبحاث الرياضيات البحتة، وصار مدركًا تمامَ الإدراك للقصة الدائرة في الأكاديمية الفَرنسية. كان قد قرأ الوقائعَ وحلَّل التفاصيلَ القليلة التي جَرُؤ كلٌّ من كوشي ولاميه على إعلانها. كان كومر يرى بوضوحٍ أنَّ كِلا الفرنسيَّين متجهان نحو النهاية المسدودة المنطقية نفسِها، وقد أوضح أسبابَه في الخطاب الذي أرسله إلى ليوفيل.
كان كومر يرى أنَّ المشكلةَ الجوهرية في برهانَي كوشي ولاميه، هي أنهما كانا يعتمدان على استخدامِ خاصية من خصائص الأعداد تُعرَف باسم التحليل الفريد. تتمثَّل خاصية التحليل الفريد في وجودِ توليفة ممكنةٍ واحدة من الأعداد الأولية يمكن ضربُها معًا لإنتاج أيِّ عددٍ محدَّد. فمجموعة الأعداد الأولية الوحيدة التي تُنتج العدد ١٨ على سبيل المثال هي:
وبالطريقة نفسِها، فإنَّ التحليل الفريد للأعداد التالية يكون بالطرق التالية:
لقد اكتُشِف التحليل إلى العوامل في القرن الرابع قبل الميلاد على يد إقليدس الذي أثبت أنه ينطبقُ على جميع أعداد العدِّ، وأوضح البرهانَ في الجزء التاسع من كتابه «العناصر». وحقيقةُ أنَّ التحليل الفريد ينطبقُ على جميع أعداد العد، هي عنصرٌ مهم في العديد من البراهينِ الأخرى، وهي تُعرَف اليوم باسم «المبرهنة الأساسية في الحساب».
للوهلة الأولى، يبدو أنه ما من سببٍ ينبغي أن يمنعَ كوشي ولاميه من الاعتماد على التحليل الفريد مثلَما فعَل المئاتُ من علماء الرياضيات من قبلِهما. غير أنَّ بُرهانَيهما كانا يتضمَّنان الأعداد التخيليةَ للأسف. وبالرغم من أنَّ التحليل الفريد ينطبق على جميع الأعداد الحقيقية، فقد أوضح كومر أنه لا ينطبق بالضرورة مع وجود الأعداد التخيُّلية. وقد كان ذلك عيبًا فادحًا في رأيه.
ذلك أننا إذا اقتصَرْنا على استخدامِ الأعداد الحقيقية، فإنَّ العدد ١٢ لا يُمكن تحليلُه إلا إلى ٢ × ٢ × ٣. أما عند استخدام الأعداد التخيلية في البرهان، فسوف يمكن تحليلُ العدد ١٢ على النحو التالي أيضًا:
أوضح كومر أنَّه ما من عالمِ رياضياتٍ معروفٍ يُمكنه أن يُعالج هذه الأعدادَ الأولية غيرَ المنتظمة مرةً واحدة. بالرغم من ذلك، فقد كان يرى أنه يُمكن التعاملُ مع جميع الأعداد الأولية غيرِ المنتظمة كلٍّ على حِدَة، من خلال التصميم الدقيق لتقنياتٍ تتناسب مع كلٍّ منها. والحق أنَّ تصميمَ هذه التقنيات المخصصَّة عمليةٌ بطيئة وشاقَّة، والأسوأ أنَّ عددَ الأعدادِ الأولية غيرِ المنتظمة لا نهائي. ومِن ثَمَّ؛ فسيكون التخلصُ منها واحدًا تِلو الآخَر مهمةً تَشغل المجتمعَ الرياضي بأكمله حتى نهاية الزمان.
كان لخطابِ كومر تأثيرٌ مدمِّر للغاية على لاميه. وبالنظر إلى الوراء، اتضح أنَّ افتراضَ التحليل الفريد كان مُفرِطَ التفاؤلِ على أفضلِ تقدير، ومندفعًا في أسوأ تقدير. أدركَ لاميه أنه كان من الممكن أن يكتشف خطَأه في وقتٍ أبكَر، لو أنه كان أكثرَ انفتاحًا بشأنِ عمله، وبعث لزميله ديركليه في برلين يقول: «لو أنك كنتَ في باريس، أو كنتُ أنا في برلين، لمَا حدَث كل هذا.»
شعر لاميه بالإهانة، أما كوشي فقد رفض أن يقبلَ الهزيمة. لقد شعر بأنَّ بُرهانه كان أقلَّ اعتمادًا على التحليل الفريد مقارنةً ببرهان لاميه، وقد كان ثَمة احتمالٌ بأن يكون تحليلُ كومر مَعيبًا إلى أن يخضعَ للمراجعة بالكامل. ظل لعدة أسابيعَ ينشر مقالاتٍ عن الموضوع، لكنه أيضًا قد توقَّف بحلول الصيف.
لقد أوضح كومر أنَّ وجودَ برهانٍ مكتمِل لمبرهنة فيرما الأخيرة، هو أمرٌ يتجاوز النُّهُج الرياضية الحاليَّة. كان مقطوعةً رائعة من المنطق الرياضي، لكنه ضربةٌ هائلة لجيلٍ بأكملِه من علماء الرياضيات كانوا يأمُلون في أن يتَمكَّنوا من حلِّ أصعبِ مسألةٍ رياضية في العالم بأكملِه.
ولخَّص كوشي هذا الموقف عام ١٨٥٧ حين كتب تقريرَ الأكاديمية الختاميَّ بشأن جائزتِها لمبرهنة فيرما الأخيرة:
تقرير عن المنافسة على الجائزة الكبيرة في علوم الرياضيَّات. حُدِّدت في المنافسة لعام ١٨٥٣، وأُرجئت إلى عام ١٨٥٦.
إحدى عشْرةَ مذكرةً قد قُدِّمت إلى الأمانة العامة. غير أنَّ أيًّا منها لم يُقدِّم حلًّا للسؤال المطروح. ومِن ثَمَّ؛ فبعدَ مراتٍ عديدة قد عُرِضت فيها الجوائزُ للإجابة عن السؤال، فإنه يظلُّ حيث ترَكه السيد كومر. بالرغم من ذلك، يجدر بالعلوم الرياضية أن تُهنِّئ نفسَها على الأعمال التي قام بها علماءُ الهندسة رغبةً منهم في حلِّ السؤال، ولا سيما أعمال السيد كومر، ويعتقد المفوَّضون أنه سيكون قرارًا مشرِّفًا ومفيدًا أن تستبعدَ الأكاديمية السؤالَ من المنافسة، وتمنحَ القلادة للسيد كومر تقديرًا لأبحاثه الرائعة بشأن الأعداد المركَّبة التي تتألفُ من جذور الوحدة والأعداد الصحيحة.
على مدى ما يَزيد على قرنَين من الزمان، انتهَت جميعُ المحاولات لإعادةِ اكتشاف برهان مبرهنة فيرما الأخيرة بالفشل. وفي سنواتِ مراهقته، درَس أندرو وايلز أعمالَ أويلر وجيرمان وكوشي ولاميه، وأخيرًا كومر. كان يأمُل في أن يتعلمَ من أخطائهم، لكنه حين صار طالبًا في جامعة أوكسفورد، واجهَ الحائط نفسَه الذي واجهَه كومر.
كان بعضُ مُعاصري وايلز بدَءُوا يشكُّون في أنَّ المسألة قد تكون مستحيلة. فربما خدَع فيرما نفسَه، ومِن ثَمَّ فالسبب في أنَّ أحدًا لم يتمكَّنْ من إعادة اكتشافِ برهان فيرما هو أنَّ ذلك البرهانَ غيرُ موجود. وبالرغم من هذا التشكُّك، استمرَّ وايلز في البحثِ عن برهان. لقد ألهَمَته معرفتُه بأنَّ ثَمة حالاتٍ عديدةً في ماضي البراهينِ التي لم تُكتشَفْ أخيرًا إلا بعد قرونٍ من المحاولة. وفي بعضِ تلك الحالات، لم يَكُن وميضُ البصيرة الذي أدَّى إلى حلِّ المشكلة يستندُ إلى المعارف الرياضيَّةِ الحديثة، بل هو برهان كان من الممكن التوصلُ إليه قبلَ مدَّة طويلة.
حاولَت أجيالٌ من علماء الرياضيات إيجادَ برهانٍ لحدسية النقاط التي تبدو حَدْسية مباشرة، لكن جميع هذه المحاولات قد باءت بالفشل. وما جعل حدْسيةَ النقاط أكثرَ إثارةً للسخط هو أنه حينَ اكتُشِف أحدُ البراهين أخيرًا، لم يكن ينطوي إلا على قدرٍ ضئيل للغاية من المعرفة الرياضيات، مع قدرٍ أكبرَ قليلًا من التحايل. يرد هذا البرهانُ في الملحق ٦.
كان ثَمَّة احتمالٌ بأن تكونَ جميعُ التقنيات اللازمةِ لإثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة، موجودةً بالفعل، وأنَّ العنصر الوحيد المفقودَ هو البراعة. لم يكن وايلز مستعدًّا للاستسلام؛ فقد تحوَّل إيجادُ برهانٍ لمبرهنة فيرما الأخيرة من ولَعِ الطفولة إلى هوَسٍ ناضج. وبعد أن تعلَّم وايلز كلَّ ما يُمكن تعلُّمُه من رياضيات القرن التاسع عشر، قرَّر أن يتسلَّح بمعرفة تقنيات القرن العشرين.