البرهان بالتناقض
لا بد لأنماطِ الرياضيِّ أن تكون جميلة، مثلها في ذلك مثل أنماط الرسام أو الشاعر؛ إذ يجب أن تتلاءمَ الأفكارُ معًا في تناغم، مثلما تتناغمُ الألوان أو الكلمات. إنَّ الجمَال هو الاختبارُ الأول؛ فالرياضيَّات القبيحةُ لا تَحْظى بمكان دائمٍ في العالم.
في شهر يناير من العام ١٩٥٤، قام أحد علماء الرياضيات الشباب الموهوبين في جامعة طوكيو بزيارة معتادة إلى المكتبة الموجودة في قِسمه. كان جورو شيمورا يبحث عن نسخةٍ من دورية «ماتيماتيشا أنالين»، العدد ٢٤. لقد كان يبحث تحديدًا عن ورقةٍ بحثية بقلم دويرنج يُناقش فيها نظريتَه الجبرية عن الضربِ المعقَّد؛ إذ كان يحتاج إليها كي تُساعِدَه في عمليةٍ حسابية شديدة الغرابة والغموض.
ومما أثار دهشتَه وقلقَه أنَّ العدد كان مستعارًا بالفعل. وكان المستعيرُ هو يوتاكا تانياما، وهو أحدُ المعارف البعيدين لشيمورا، ويسكن في الجانب المقابلِ من الحرَمِ الجامعي. كتب له شيمورا يشرحُ له أنه في أمَسِّ الحاجة إلى هذا العدد من المجلة لِيُكمِل تلك العمليةَ الحسابية البغيضة، وسأله بأدبٍ عن الموعد الذي سيُعيده فيه.
بعد ذلك ببضعة أيام، كانت ثَمة بطاقةٌ بريدية على مكتب شيمورا. لقد أجابه تانياما مخبرًا إياه أنه يعمل هو أيضًا على حلِّ تلك العملية الحسابية نفسِها، وأنه متوقِّف عند النقطة نفسِها في الحُجَّة المنطقية. واقترح أن يُشاركا أفكارهما معًا، وربما يتعاونان أيضًا في حلِّ المسألة. إنَّ هذا اللقاء الذي حدث بالصدفة بسبب كتابٍ في المكتبة، بدأ شراكةً غيَّرَت مسار التاريخ الرياضي.
وُلِد تانياما في الثاني عشر من نوفمبر عام ١٩٢٧ في بلدةٍ صغيرة تقع على بُعد بضعةِ أميال في الشمال من طوكيو. وكان المقصود من الرمز اليابانيِّ الذي يُمثِّل اسمُه الأول أن يُقرَأ «طويو»، غير أنَّ معظمَ الناس من خارج عائلته أساءُوا فَهمَه وقرَءُوه «يوتاكا»، ومع مرور السنوات، تَقبَّل تانياما هذا الاسمَ وتبنَّاه. كان تعليم تانياما في مرحلةِ الطفولة يتعرَّض للمُقاطَعات باستمرار. فقد عانى من وعكاتٍ صحِّية عديدة، وأُصيبَ بالدَّرَن في سنواتِ مراهقته فاضطُرَّ إلى التخلفِ عامَين عن المدرسة الثانوية. وجاء بعد ذلك اندلاعُ الحرب الذي أدَّى إلى عرقلةِ تعليمه المدرسيِّ بدرجةٍ أكبر.
أما جورو شيمورا، الذي كان يصغر تانياما بعامٍ واحد، فقد توقَّف تعليمُه بالكامل في سنواتِ الحرب. أُغلِقت المدرسة التي كان يدرس بها، وبدلًا من حضور الدُّروس، كان على شيمورا أن يُساعد في الجهود الحربيَّة من خلالِ العمل في مصنعٍ لتجميعِ أجزاء الطائرات. كان يُحاول في كلِّ ليلة أن يُعوِّض ما فاته من التعليم، ووجَد نفسه منجذبًا إلى الرياضيَّات على نحوٍ خاص. «لا شك بأنه يوجد الكثيرُ من المواد التي ينبغي تعلُّمها، لكنَّ الرياضيات كانت هي الأسهلَ؛ فكلُّ ما كان عليَّ فِعلُه هو قراءة المقرَّرات الدراسية للرياضيات. لقد تعلمتُ حسابَ التفاضل والتكامل بقراءةِ الكتب. أما إذا كنتُ قد رغبت في تعلُّم الكيمياء أو الفيزياء، لاحتجتُ إلى مُعِدَّات عِلمية، ولم تكن مثلُ هذه الأشياء متوفرةً لديَّ. إنني لم أُفكر قط بأنني موهوب. كنت أتمتعُ بحبِّ الاستطلاع فحسب.»
بعد بِضْع سنوات من انتهاء الحرب، وجَد شيمورا وتانياما نفسَيهما في الجامعة. وفي الوقتِ الذي تبادلا فيه البطاقاتِ البريديةَ بشأن كتابِ المكتبة، كانت الحياة في طوكيو قد بدأَت في العودة إلى طبيعتها، وتمكَّن الباحثان الشابَّان من الاستمتاع ببضعةٍ من الرَّفاهيات البسيطة. كانا يَقْضيان أوقاتَ العصر في المقاهي، وفي المساءِ يتناولانِ العشاء في مطعمٍ صغير متخصِّص في لحم الحيتان، وفي عطلات نهايةِ الأسبوع يتمشَّيان في الحدائق النباتية أو في منتزَهِ المدينة. وجميعها مواقعُ مثالية لمناقشةِ أحدث أفكارهما الرياضية.
وبالرغم من أنَّ شيمورا كان يتمتَّع بحسِّ الدعابة، إذ لا يزال يحتفظُ حتى اليومِ بحُبِّه لفكاهات الزِّن، فقد كان على درجةٍ من التحفُّظ والتقليدية أكبرَ من تلك التي يتَّسمُ بها شريكُه الفكري. كان شيمورا يستيقظُ ويبدأُ في العمل على الفور، بينما يكون زميله لا يزال مستيقظًا في هذا الوقت، بعد أن يكونَ قد قضى الليلَ في العمل. وكثيرًا ما كان مَن يزورون تانياما في شقته يجدونه مستغرقًا في النوم في وقت العصر.
وبينما كان شيمورا شديدَ التدقيق، كان تانياما مُهمِلًا إلى درجة الكسَل. ومن المدهش أنَّ تلك مِن السمات التي كانت تَحْظى بإعجاب شيمورا: «لقد حُبِيَ تلك القدرةَ المميزة المتمثلة في ارتكابِ الكثير من الأخطاء، وغالبًا ما تكون في الاتجاهِ الصحيح. كنت أَغبِطُه على هذا وحاولتُ عبثًا أن أُقلِّده، لكنني وجدتُ أنَّ ارتكاب الأخطاء الجيدة أمرٌ صعب.»
كان تانياما مثالًا على العبقريِّ الشاردِ الذهن، وانعكس ذلك على مظهره. لم يكن يستطيع أن يربط عُقْدةً جيِّدة؛ ومِن ثَمَّ فقد قرر ألا يربط رِباطَ حذائه على الإطلاق، بدلًا من أن يربطه عشَراتِ المرات في اليوم. وكان دائمًا ما يرتدي بِذْلةً خضراء غريبةً تلمع لمعانًا مَعدِنيًّا غريبًا. وكانت مصنوعةً من نسيجٍ صارخ للغاية حتى إنَّ أفراد عائلته الآخَرين قد رفَضوها.
حين التقى تانياما وشيمورا في العام ١٩٥٤، كانا يبدَآن للتوِّ مسارَهما المِهْني في الرياضيات. وقد كان التقليدُ السائد حينَها، الذي لا يزال سائدًا حتى الآن، أن يتلقَّى الباحثون الشبابُ الرعايةَ من بروفيسور يُرشد عقولَهم الناشئة، لكنَّ تانياما وشيمورا رفَضا ذلك النوعَ من التدريب. ففي سنوات الحرب، توقَّفَت الأبحاث تدريجيًّا، وحتى في الخمسينيَّات من القرن العشرين، لم تكن كُلية الرياضيَّات قد تعافَت بعد. فوفقًا لشيمورا، كان الأساتذةُ «مرهَقين ومُنهَكين ومحبَطين.» وعلى العكسِ من ذلك، كان طلابُ ما بعدَ الحرب متحمِّسين ومتشوقين للتعلُّم، وسرعانَ ما أدركوا أنَّ الطريقةَ الوحيدة للتقدم إلى الأمام هي أن يُعلِّموا أنفسَهم بأنفسهم. نظَّم الطلابُ حلقاتٍ نقاشيةً منتظمة يُديرونها بالتناوب ليُخبروا بعضَهم بعضًا بأحدثِ الأساليب والإنجازات. وبالرغم من التكاسل الذي كان يتَّسمُ به تانياما، فقد كان قوةً محفِّزة شرسة في هذه الحلقات النقاشية. كان يُشجع الطلاب الأكبرَ على استكشافِ المجالات التي لم يتطرَّق إليها أحدٌ من قبل، أما الطلاب الأصغر، فقد كان بمثابة أبٍ لهم.
وبسبب انعزالهم، كانت الحلقات النقاشيةُ تتناول في بعض الأحيان مواضيعَ، تُعَد في أوروبا وأمريكا من قضايا الماضي. وكانت سَذاجة الطلاب تَعني أنهم درَسوا معادلاتٍ لم تَعُد تُدرَس في الغرب. وقد فُتِن كلٌّ من تانياما وشيمورا بأحدِ الموضوعات القديمة على وجه التحديد، وهو دراسة «الأشكال النمطية».
تُعَد الأشكال النمطية من الأشياء الأكثرِ غرابةً وروعةً في الرياضيَّات. فهي من الكِيانات الأكثرِ غموضًا في الرياضيات، غير أنَّ عالِمَ نظرية الأعداد الذي عاش في القرن العشرين، مارتِن آيشلر، قد صنَّفَها ضمن العمليات الخمسِ الأساسية: الجمع والطرح والضرب والقسمة والأشكال النمطية. ومعظم المتخصِّصين في الرياضيات يَعُدون أنفسهم بارِعين في العمليات الأربع الأولى، لكنهم يجدون العملية الخامسةَ مُحيِّرةً بعضَ الشيء.
إنَّ السِّمة الأساسية في الأشكال النمطية هي مستوى التناظُرِ المفرِط الذي توجد عليه. وبالرغم من أنَّ معظمَ الأشخاص يعرفون مفهومَ التناظُرِ المستخدمَ في الحياة اليومية، فإنَّ له في الرياضياتِ معنًى محددًا للغاية؛ وهو أنَّ الجسم يتَّسمُ بالتناظر إذا كان من الممكنِ تغييرُه بطريقةٍ معيَّنة، لكنه يبدو بعد ذلك وكأنه لم يتغيَّر على الإطلاق. ومن أجلِ إدراك ما تتَّسمُ به الأشكالُ النمطية من تناظرٍ هائل، فسيكون من المفيد أن نبدأَ بدراسةِ التناظر في أجسامٍ أكثرَ اعتياديةً مثل مربَّع بسيط.
ومن المثير للفضولِ أنَّ بلاط بنروز كان له انعكاساتٌ في العلوم المادية أيضًا. فدائمًا ما كان علماءُ البِلَّورات يعتقدون أنه لا بدَّ من بناءِ البلورات استنادًا إلى المبادئ الكامنة وراءَ التبليط بالمربعات؛ إذ تتَّسِم بمستوًى عالٍ من التناظر الانتقالي. فمن الناحية النظرية، كان بِناء البلورات يعتمد على تركيبٍ يتمتع بدرجةٍ عالية من الانتظام والتَّكرار. بالرغم من ذلك، ففي العام ١٩٨٤، اكتشف العلماءُ بِلَّورةً معدِنية تتكون من الألومنيوم والمنجنيز قد بُنِيَت وفقًا لمبادئ بنروز. وتصرفَت فُسَيفساء الألومنيوم والمنجنيز على غِرار الطائرات الورقية والأسهم، مُكوِّنةً بذلك بلورة منتظمة تقريبًا، لكنها ليست منتظمة تمامًا. وحديثًا طورت شركة فرنسية إحدى بِلَّورات بنروز إلى طبقةٍ تُغلِّف أوانيَ القلي.
وبالرغم من أنَّ الشيءَ المذهل بشأن أسطح بنروز المغطَّاةِ بالبلاط هو درجةُ التناظر المحدودة التي تتَّسم بها، فإنَّ الخاصيةَ المثيرةَ للاهتمام بشأنِ الأشكال النمطية هو ما تتَّسمُ به من تناظرٍ لا نهائي. إنَّ الأشكال النمَطيَّة التي درَسها تانياما وشيمورا، يمكن نقلُها وتحويلها والتبديلُ بينها وعكسها وتدويرها بعددٍ لا نهائي من الطرُق، غير أنها تظلُّ ثابتةً؛ مما يجعلها الأجسامَ الأكثرَ تناظرًا في الرياضيات. حين درَس العالِمُ الموسوعيُّ الفرَنسي هنري بوانكاريه الأشكالَ النمطية في القرن التاسع عشر، واجهَ صعوبةً كبيرة في تَقبُّلِ ما تتَّسِمُ به من تناظرٍ هائل. فبعد أنْ درَس نوعًا محددًا من الأشكالِ النمطية، وصفَ لزملائه كيف أنه كان يستيقظُ كلَّ صباح على مدى أسبوعَين ليُحاول أن يجدَ خطأً في حِساباته. وفي اليوم الخامس عشر، أدركَ أنَّ الأشكالَ النمطية متناظرةٌ بالفعل على نحوٍ مفرِط، وتقبَّلَ ذلك.
السلسلة M: | |
إنَّ الأشكالَ النمطية هي موضوعٌ مستقلٌّ للغاية في الرياضيات. وكان سيبدو على وجهِ الخصوص أنها لا تتَّصلُ إطلاقًا بالموضوعِ الذي كان وايلز سيَدْرسه في جامعة كامبريدج، وهو المعادلات الإهليلجية. فالأشكالُ النمطية وحوشٌ هائلةُ التعقيد تُدرَس عادةً لتناظُرِها، وهي لم تُكتشَف إلا في القرن التاسع عشر. أما المعادلات الإهليلجية، فيعود تاريخها إلى اليونانيِّين القدماء، وليست لها أيُّ علاقة بالتناظر على الإطلاق. فالأشكال النمطية والمعادلات الإهليلجية ينتميان إلى منطقتَين مختلفتَين تمامًا من الكون الرياضي، ولم يظنَّ أحدٌ قط بوجود أي علاقة بين الموضوعَين ولو مِن بعيد. بالرغم من ذلك، صدَم كلٌّ من تانياما وشيمورا المجتمعَ الرياضيَّ باقتراحِ أنَّ المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية ليسا سوى الشيءِ نفسِه فِعليًّا. فقد كان هذان العالِمَان المنشقَّان يرَيَان أنهما يستطيعان توحيدَ العالَمَين الإهليلجيَّ والنمَطي.
(١) التفكير القائم على التمني
في سبتمبر من العام ١٩٥٥، عُقِدَت في طوكيو ندوةٌ دوليَّة. وكانت تلك فرصةً فريدة للباحثِين اليابانيِّين الشباب الكثيرين؛ كي يُظهِروا لبقية العالَم ما قد تعلَّموه. وزَّعوا على الحاضرين مجموعةً تتألَّف من ستٍّ وثلاثين مسألةً تتعلَّق بأعمالهم، وأرفَقوها بمقدمةٍ متواضعة: بعض المسائل التي لا حلَّ لها في الرياضيات: لم نُجْرِ إعداداتٍ مدروسةً؛ لذا فقد يوجد فيما بينَها مسائلُ تافهة أو مسائلُ قد جرى حلُّها بالفعل. يُطلَب من المشاركين التعليقُ على أيٍّ من هذه المسائل.
إنَّ العلاقات بين الموضوعات التي تبدو مختلفةً مهمةٌ من الناحية الإبداعية في الرياضيات، بقدرِ أهميَّتِها في أيِّ مجالٍ آخر. ذلك أنَّ العلاقةَ تُشير إلى حقيقةٍ دفينة تُثري كِلا الموضوعين. فعلى سبيل المثال، كان العلماء في البداية يدرسون الكهربيةَ والمغناطيسية على أنهما ظاهرتان مختلفتان تمامًا. وبعد ذلك في القرن العشرين، أدرك العلماءُ النظَريُّون والتجريبيون أنَّ القوتَين الكهربيةَ والمغناطيسيةَ ترتبطان ارتباطًا وثيقًا. وقد أدى ذلك إلى تعميقِ فَهْمِ كِلْتا الظاهرتَين. فالتيارات الكهربية تُنتج حقولًا مِغناطيسيَّة، ويمكن للمَغانِط أن تُولِّد طاقةً كهربية في الأسلاك التي تمرُّ بالقرب منها. وأدَّى هذا إلى اختراع المولِّدات الكهربية والمحركات الكهربية، ثم أدَّى في النهاية إلى اكتشافِ أنَّ الضوء نفسَه هو نتيجةُ حقولٍ مغناطيسية وحقول كهربية تتذبذب في تناغم.
لقد كانت الفكرة القائلةُ بارتباط كلِّ معادلة إهليلجية بأحد الأشكال النمطية استثنائيةً للغاية، حتى إنَّ مَن ألقَوُا النظر على أسئلة تانياما رأَوا أنها لا تَزيد عن كونها ملاحظةً مثيرة للفضول. وقد أثبتَ تانياما بالطبع إمكانيةَ ربطِ بضعةٍ من المعادلات الإهليلجية بأشكالٍ نمطية محدَّدة، لكنهم زعَموا أنَّ ذلك ليس سوى مُصادَفة. فوَفْقًا للمتشككين، بدا ادِّعاء تانياما بوجود علاقةٍ أكثرَ عموميَّةً وشمولية، ادِّعاءً لا أساسَ له. كانت الفرضيةُ مبنيَّةً على الحَدْس دون أيِّ دليل فِعلي.
كان حليفُ تانياما الوحيدُ هو شيمورا الذي كان مقتنعًا بقوةِ فكرة صديقه وعُمقها. وبعد الندوة، عمل مع تانياما في محاولةٍ لتطوير الفرضية إلى المستوى الذي يدفع بقيةَ العالم إلى عدم تجاهُلِ عمَلِهما مرةً أخرى. أراد شيمورا إيجادَ المزيد من الأدلة التي تدعم العلاقة بين العالم النمطي والعالم الإهليلجي. وتوقَّف هذا التعاونُ مؤقتًا حين دُعيَ شيمورا في العام ١٩٥٧ للعمل في معهد الدراسات المتقدِّمة في برينستون. وبعد مرور عامين عَمِل فيهما أستاذًا زائرًا في أمريكا، اعتزم شيمورا مواصلةَ العمل مع تانياما، لكنَّ ذلك لم يحدث أبدًا. ففي السابع عشر من نوفمبر عام ١٩٥٨، انتحر يوتاكا تانياما.
(٢) موت عبقري
لا يزال شيمورا يحتفظُ بالبطاقة البريديَّة التي أرسلها له تانياما حين تَراسلا لأولِ مرةٍ بشأن كتاب المكتبة. وهو يحتفظ أيضًا بآخرِ رسالة كتبها تانياما إليه بينما كان بعيدًا في برينستون، لكنها لا تتضمَّن أيَّ إشارة ولو طفيفة عما كان سيحدثُ بعد ذلك بشهرَين. وحتى هذا اليوم، لا يفهم شيمورا شيئًا عما دفَع تانياما إلى الانتحار. «كنت متحيرًا للغاية. ربما تكون الحيرةُ هي الوصفَ الأنسب. كنتُ حزينًا بالطبع، لكنَّ الأمر كان مُباغتًا للغاية. لقد وصلَتْني رسالتُه في سبتمبر، ومات هو في بداية نوفمبر، ولم أستطِعْ أن أفهمَ هذا على الإطلاق. سمعتُ أشياءَ عديدةً بعد ذلك بالطبع، وحاولتُ أن أتصالح مع موته. قال بعض الأشخاص إنه فقَد الثقةَ في نفسه، لكنَّ ذلك لم يكن من الناحية الرياضية.»
وما كان شديدَ الإرباك لأصدقاءِ تانياما، هو أنه كان قد وقَع للتوِّ في غرام ميساكو سوزوكي، وخطَّط للزواج بها في وقتٍ لاحِق من العام. في إشادةٍ شخصية نُشِرت في نشرة الجمعية الرياضية في لندن «بوليتِن أوف ذا لندن ماثيماتيكال سوسايتي»، يسرد جورو شيمورا ذِكريات خِطْبة تانياما إلى ميساكو، والأسابيع التي انتهت بانتحاره:
حين عَلِمتُ بخِطْبتهما كنت مندهشًا بعضَ الشيء؛ إذ إنني كنتُ أشعر على نحوٍ غامض بأنها ليست من النوع المفضَّل له، لكن لم تُراوِدْني أيُّ هواجس. وعلمتُ بعد ذلك أنَّهما قد وقعَّا على عقدٍ لاستئجار شقةٍ أفضلَ فيما يبدو، لتكون منزلَهما الجديد، واشترَيَا بعضَ أواني المطبخ معًا، وكانا يُعِدَّان لزفافهما. كان كلُّ شيء يبدو مبشِّرًا لهما ولأصدقائهما. وبعد ذلك، حلَّت الكارثة.
في صباح يوم الإثنين الموافق للسابع عشر من نوفمبر عام ١٩٥٨، وجده حارسُ شقته في غرفتِه ميتًا، ووجد رسالةً متروكةً على مكتبه. كانت الرسالة مكتوبةً على ثلاثِ صفحات من ورقِ مُفكِّرة من النوع الذي كان يستخدمُه في عمله الدراسي، ووردَ في الفِقرة الأولى منها ما يلي:
حتى أمسِ، لم تكن لديَّ نيةٌ محدَّدة في قتلِ نفسي. غيرَ أنَّ البعض لاحظ ولا بد أنني قد أصبحتُ مؤخرًا مرهَقًا من الناحيتَين البدَنية والذِّهنية. أما عن سبب انتحاري، فأنا نفسي لا أفهمه على وجه التحديد، لكنه ليس نتيجةً لحادثة معيَّنة أو أمرٍ محدد. لا يُمكنني سوى القول إنني أشعر بفقدان الثقة في مستقبلي. ثَمَّة شخصٌ ما قد يشعر بأنَّ انتحاري مزعجٌ له أو صادم إلى حدٍّ ما. وأنا أتمنى بصدقٍ ألا تتركَ هذه الحادثة ظِلًّا أسودَ على مستقبل ذلك الشخص. إنني لا أستطيع أن أُنكر على أي حال أنَّ ذلك نوعٌ من الخيانة، لكنني أرجو أن تعذروني فيها باعتبارِها آخِرَ فعلٍ أقوم به في طريقي الخاص، مثلما أنني سِرتُ في طريقي الخاصِّ طوال حياتي.
واصلَ بعد ذلك ليشرحَ بطريقةٍ منهجية للغاية، رغبتَه بشأن كيفيةِ التخلُّص من مُمتلَكاتِه، مع تحديدِ أي الكتب والتسجيلات كان قد استعارَها من المكتبة أو من أصدقائه، إلى آخرِ ذلك. وقد قال تحديدًا: «إنني أرغبُ في تركِ التسجيلات والمشغِّل لميساكو سوزوكي إذا لم يكن تَرْكي إياها لها سيُزعجها.» وأوضح أيضًا ما وصلَ إليه في المناهجِ الدِّراسية الجامعيَّة التي كان يُدرِّسها في التفاضل والتكامل والجبر الخطِّي، واختتمَ بالاعتذار إلى زملائه عما قد يُسبِّبه هذا الفعلُ من مضايَقات لهم.
وعلى هذا النحو أنهى أحدُ أكثر العقول براعةً وابتكارًا حياتَه بإرادته. وكان قد بلغ من العمر الواحدة والثلاثين قبل ذلك بخمسةِ أيام فقط.
وبعد حادثةِ الانتحار ببضعةِ أسابيع، حلَّت المأساةُ مرةً أخرى. فقد أنهت خطيبتُه ميساكو سوزوكي حياتَها. ويُقال إنها ترَكَت رسالةً جاء فيها: «لقد وعَدَ أحدُنا الآخرَ بأننا لن نفترقَ أبدًا أينما ذهَبْنا. والآن وقد رحَل، فلا بد أن أذهب أيضًا كي أكونَ معه.»
(٣) فلسفة الخيريَّة
على مدى حياته المِهْنية القصيرة، أسهمَ تانياما في الرياضيَّات بالعديد من الأفكار الجذريَّة. تضمَّنَت الأسئلةُ التي وزَّعَها في الندوة أعظمَ رُؤاه، لكنها كانت تسبقُ عصرَها بالكثير حتى إنه لم يَعِش ليرى تأثيرَها الضخم على نظرية الأعداد. لقد فُقِد إبداعُه الفكري على نحوٍ محزن، وكذلك دوره الإرشادي في مجتمَع العلماء اليابانيِّين الشباب. ويتذكَّر شيمورا تأثيرَ تانياما على نحوٍ واضح فيقول: «لقد كان عَطوفًا للغاية مع زُملائه، لا سيَّما مع الأصغرِ سنًّا منهم، وكان يهتمُّ بسعادتهم اهتمامًا صادقًا. كان مصدرَ دعمٍ معنويٍّ للعديد ممَّن تواصَلوا معه بشأن الرياضيات، وأنا منهم بالطبع. والأرجح أنه لم يكن مُدرِكًا لهذا الدورِ الذي كان يؤدِّيه قط. غير أنني أشعر الآن بكرَمِه النبيل في هذا الجانب، بدرجةٍ أقوى مما كنت أشعرُ به في حياته. بالرغم من ذلك، لم يستطع أحدٌ أن يُمِدَّه بالدعم حين كان في أمَسِّ الحاجة إليه. وحين أُفكر في هذا، يغمرني شعورٌ شديد بالأسى.»
بعد موت تانياما، ركَّز شيمورا جميعَ مجهوداته على فَهْم العلاقة الدقيقة بين المعادلات الإهليلجية والأشكالِ النمطية. ومع مرورِ السنوات، كان يُناضل لجمعِ المزيد من الأدلة مع بعضِ الحجج المنطقيَّة لدعمِ النظرية. وكان اقتناعه يَزيد تدريجيًّا بأنَّ كلَّ معادلة إهليلجية لا بد أن تكون مرتبطةً بشكلٍ نمطي ما. أما علماءُ الرياضيات الآخَرون فقد كانوا لا يزالون مُتشكِّكين، ويذكر شيمورا محادثةً له مع زميلٍ بارز. وسأله هذا البروفيسور: «سمعتُ أنك تقترح إمكانيةَ الربط بين بعض المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية.»
وقد جاءت إجابة شيمورا على النحوِ التالي: «كلا، أنت لا تفهم. ليس «بعض» المعادلات الإهليلجية فحَسْب، بل «جميع» المعادلات الإهليلجية!»
لم يستطع شيمورا إثباتَ صحةِ ذلك، غير أنَّه كان كلما اختبَر فرضيتَه، بدا أنها صحيحة، ثم إنها كانت تتلاءمُ مع فلسفته العامة في الرياضيات على أي حال. «إنني أعتنقُ فلسفةَ الخيريَّة. ينبغي أن توجد الخيريةُ في الرياضيات. ولهذا؛ ففي حالةِ المعادلة الإهليلجية، يمكن للمرء أن يَصِف المعادلةَ بالخيرية إذا كان من الممكنِ التعبيرُ عنها بالحدود من خلالِ شكلٍ نمَطي. وأنا أتوقَّع أن تكون المعادلاتُ الإهليلجية جميعُها خيِّرةً. صحيحٌ أنها فلسفة أولية، لكن يمكن للمرء دومًا أن يتخِذَها كنقطةِ انطلاق. كان علَيَّ بعد ذلك بالطبع تطويرُ عدة أسباب تقنية للحَدْسية. يُمكنني القول إنَّ الحدسيَّةَ قد نبعَت من فلسفةِ الخيرية تلك. إنَّ معظم علماء الرياضيات يُمارسون الرياضياتِ انطلاقًا من وجهةِ نظرٍ جَمالية، وفلسفةُ الخيرية تلك تنبعُ من وجهة نظري الجمالية.»
وفي نهاية المطاف، كان تَراكُم أدلةِ شيمورا يعني أنَّ نظريته عن المعادلات الإهليلجية والأشكالِ النمطية قد حَظيَت بالقَبول على نطاقٍ أوسع. لم يستطعْ أن يُثبِت صحتَها لبقية العالم، لكنها كانت قد أصبحَت الآن أكثرَ من محضِ تفكيرٍ نابع من التمنِّي على الأقل. صار هناك من الأدلة ما يَكْفي ليجعلَها جديرةً بلقَبِ الحدسية. وقد سُمِّيَت في بادئِ الأمر بحَدْسية تانياما-شيمورا، تقديرًا للرجل الذي استلهَمَها وزميلِه الذي واصل العملَ لتطويرها على نحوٍ كامل.
وفي الوقت المناسب، كان أندريه ويل، وهو أحدُ الآباء الروحيِّين لنظرية الأعداد في القرن العشرين، سيتبنَّى الحَدْسية ويُروِّج لها في الغرب. درَس ويل فكرة شيمورا وتانياما، ووجدَ المزيد من الأدلة القوية التي تُؤيِّدها. ونتيجةً لهذا؛ فكثيرًا ما كان يُشار إلى الفرضية باسمِ حَدْسية تانياما- شيمورا-ويل، وباسم حَدْسية تانياما-ويل في بعض الأحيان، وباسم حدسية ويل من وقتٍ إلى آخَر. والحقُّ أنَّ الاسم الرسميَّ للحدسية قد شهد الكثيرَ من الجدال والخلاف. ربما يعلم المهتمُّون بالرياضيات التوافُقية أنَّه يوجد ١٥ من التوافيق الممكِنة في ظل وجود الأسماء الثلاثة المحدَّدة، ومن المحتمل أن يكون كلٌّ من هذه التوافيق قد ظهَر في المنشورات على مدى السنين. بالرغم من ذلك، فسوف أشيرُ إلى الحدسية باسمها الأصلي، وهو حدسية تانياما-شيمورا.
كان البروفيسور جون كوتس، الذي أرشدَ أندرو وايلز حين كان طالبًا، هو نفسُه طالبًا حين صارت حَدْسية تانياما-شيمورا موضعَ الحديث في الغرب. «لقد بدأت البحث عام ١٩٦٦ حين كانت حدسيةُ تانياما-شيمورا تجتاحُ العالم. كان الجميع مندهِشين وبدَءُوا يَدْرُسون بجدِّية إمكانيةَ أن تكون المعادلات الإهليلجية جميعُها نمَطية. كان ذلك وقتًا مثيرًا للغاية، لكنَّ المشكلة الوحيدة بالطبع هي أنَّ إحراز تقدمٍ قد بدا صعبًا للغاية. أعتقد أنه من الإنصاف القولُ إنه بالرغم من جمال هذه الفكرة، فقد كان إثباتُها فِعليًّا أمرًا صعبًا للغاية، وهذا هو ما نهتمُّ به نحن — المتخصصين في الرياضيات — بصفةٍ أساسية.»
شهد باري ميزور، البروفيسور بجامعة هارفارد، بزوغَ حَدْسية تانياما-شيمورا. «لقد كانت حدسيةً رائعة، ذلك التخمينُ القائل بأنَّ كلَّ معادلة إهليلجية ترتبط بشكلٍ نمطي ما، لكنَّ علماء الرياضيات تجاهَلوها في البداية؛ لأنها كانت سابقةً لعصرها كثيرًا. وهي لم تُقبَل حين اقتُرِحت لأول مرة؛ لأنَّها كانت مذهلةً للغاية. فمن ناحيةٍ ما، لديك العالَمُ الإهليلجي، وعلى الناحية الأخرى لديك العالَم النمَطي. إنَّ كُلًّا من هذين الفرعَين من فروع الرياضيات، قد دُرِسا بصورة مكثَّفة لكن على نحوٍ منفصل. فعلماء الرياضيات الذين يدرُسون المعادلات الإهليلجية قد لا يكونون ضَليعِين في الأشكال النمطية، والعكس أيضًا صحيح. ثم تأتي من بعد ذلك حدسيةُ تانياما-شيمورا، وهي ذلك التخمين العظيم بوجودِ جسرٍ بين هذين العالمَين المختلفَين تمامَ الاختلاف. وعلماء الرياضيات يُحبُّون بناء الجسور.»
للجسور الرياضية قيمةٌ ضخمة للغاية. ذلك أنها تُمكِّن، مجتمعاتِ علماء الرياضيات الذين كانوا يعيشون على جُزرٍ منفصلة من تبادل الأفكار واستكشافِ بعضهم ابتكارات بعض. فالرياضيات تتألَّف من جُزرٍ من المعرفة في بحرٍ من الجهل. فعلى سبيلِ المثال، هناك الجزيرةُ التي يسكنُها علماءُ الهندسة الذين يَدرُسون الأشكالَ والأجسامَ، وهناك جزيرةُ الاحتمالات حيث يُناقش علماء الرياضيات المخاطرَ والفرص. توجد العشَراتُ من مثلِ هذه الجزُر، ولكلٍّ منها لُغتُها الفريدة التي لا يفهمها سكَّان الجزرِ الأخرى. فلغة الهندسة تختلفُ كثيرًا عن لغة الاحتمالات، واللغةُ العامية للتفاضلِ والتكامل لا تعني أيَّ شيء لمَن لا يتحدثون سِوى لغةِ الإحصائيات.
وقد كانت الإمكانيةُ العظيمة التي تَحملها حَدْسيةُ تانياما-شيمورا هي الربْطَ بين جزيرتَين، والسماحَ لهما بأن تتحدَّث إحداهما إلى الأخرى للمرة الأولى. يرى باري ميزور أنَّ حَدْسية تانياما-شيمورا بمثابةِ أداةٍ للترجمة مثل حجَر رشيد، الذي تضمَّن اللغة المِصْرية الديموطيقية واللغة اليونانية القديمة واللغة الهيروغليفيَّة. ولأنَّ اللغتين الديموطيقيةَ واليونانية كانتا مفهومتَين بالفعل، فقد تمكَّن علماءُ الآثار من فكِّ شفرة الرموزِ الهيروغليفية للمرةِ الأولى. ويقول ميزور: «إنَّ الأمر يُشبه كما لو أنَّك تعرف لغةً واحدة، وسيمنحك حجرُ رشيد هذا فَهْمًا عميقًا للُّغة الأخرى. غير أنَّ حدسية تانياما-شيمورا هي حجرُ رشيدٍ يتمتَّع بقوة سحرية محدَّدة. ذلك أنَّ الحدسية تتَّسِم بتلك الخاصية الرائعة المتمثِّلة في أنَّ الأمور الحدسية البسيطة في العالم النمطي، تُترجَم إلى حقائقَ عميقةٍ في العالم الإهليلجي. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ المسائلَ شديدةَ العمق في العالم الإهليلجي، يُمكن حلُّها في بعض الأحيان من خلال ترجمتِها باستخدامِ حجر رشيد هذا إلى العالم النمَطي، واكتشاف أننا نمتلكُ في العالم النمطيِّ الأفكارَ والأدواتِ اللازمةَ لمعالجة المسألة المترجَمة. أما في العالم الإهليلجي، فقد كنا سنُصبح في حيرةٍ من أمرنا.»
إذا اتضح أنَّ حدسية تانياما-شيمورا صحيحة، فإنها ستُمكِّن علماءَ الرياضيات من معالجة المعادلات الإهليلجية التي ظلَّت دون حلٍّ على مدى قرونٍ طويلة، وذلك من خلال دراستها عن طريق العالم النمطي. لقد ألهمَت الحدسيةُ علماء الرياضيات بالأمل في توحيدِ مجالَي المعادلات الإهليلجية والأشكالِ النمطية معًا. وألهَمَتهم أيضًا بالأمل في إمكانية وجودِ روابطَ بين العديد من الموضوعات الرياضية الأخرى.
في ستينيَّات القرن العشرين، أدرك روبرت لانجلاندز من معهد برينستون للدراسات المتقدمة، فَعاليَّةَ حدسيةِ تانياما-شيمورا. فبالرغم من أنَّ الحدسية لم تكن قد أُثبِتَت بعد، كان لانجلاندز يعتقد أنَّها عنصرٌ واحد في مخطَّط أكبرَ كثيرًا للتوحيد. لقد كان واثقًا من وجود روابطَ بين جميع الموضوعات الأساسية في الرياضيات، وبدأ في البحث عن روابطِ التوحيد تلك. وفي غضون بضع سنوات، بدأ عددٌ من الروابط في الظهور. وصحيحٌ أنَّ جميع حَدْسيات التوحيد الأخرى كانت أضعفَ كثيرًا من حدسية تانياما-شيمورا وتخمينيةً بدرجة أكبر، فإنها كوَّنَت شبَكةً متشابكةً من الصِّلات الافتراضية تَربِطُ بين العديد من مجالات الرياضيات. كان لانجلاندز يحلم برؤيةِ هذه الحدسيات وقد أُثبِتت واحدةً تِلْو الأخرى؛ مما يُؤدي إلى توحيد مجال الرياضيات الكبير.
ناقش لانجلاندز خُطتَه للمستقبل، وحاول أن يُقنع غيرَه من علماء الرياضيات بالاشتراك فيما أصبح معروفًا باسم برنامج لانجلاندز، وهو مجهودٌ منسَّق لإثبات حدسياته الكثيرة. لم يبدُ أنَّ ثمةَ طريقًا واضحًا لإثبات تلك الروابط التخمينية، لكن إذا تحول الحلم إلى حقيقة، فستكون الجائزةُ ضخمة. فأي مسألة لا يُمكن حلُّها في أحد مجالات الرياضيات، سيُمكن تحويلُها إلى مسألةٍ مُناظِرة في مجالٍ آخرَ حيث توجد ترسانةٌ جديدة بأكملها من التقنيات التي يُمكن استخدامها في معالجة المسألة. وإذا كان أحد الحلول لا يزال صعبَ المنال، فيمكن تحويل المسألة ونقلُها إلى مجالٍ آخر من مجالات الرياضيات، وهكذا دواليك إلى أن يُمكِنَ حلُّها. ووفقًا لبرنامج لانجلاندز، سيتَمكَّن علماءُ الرياضيات ذات يوم من حلِّ أكثر المسائل غموضًا وأصعَبِها في الحل من خلال تحريكها بين أرجاء المشهد الرياضي.
كان البرنامج ينطوي أيضًا على نتائجَ مهمةٍ في مجالات العلوم التطبيقية والهندسة. فسواءٌ أكان الأمر يتعلَّق بتصميم نماذجِ التفاعلات بين الكواركات المتصادمة أمِ اكتشافِ الطريقة الأكثرِ كفاءةً لتنظيم شبكة اتصالات، فغالبًا ما يتمثَّل الحلُّ في إجراء عمليةٍ حسابية رياضيَّة. وفي بعضِ مجالات العلوم والتكنولوجيا، يصل تعقيدُ العمليات الحسابية إلى درجةٍ هائلة، حتى إنه يُعيق من تقدُّم المجال كثيرًا. فلو أنَّ علماءَ الرياضيات قد تَمكَّنوا من إثباتِ حَدْسيات الربط التي يتضمَّنُها برنامجُ لانجلاندز، لأصبحَ لديهم طرقٌ مختصَرة لحلِّ المسائل العمَلية والمجرَّدة.
وبحلول السبعينيَّات من القرن العشرين، كان برنامج لانجلاندز قد أصبح مخطِّطًا لمستقبل الرياضيات، لكنَّ هذا الطريق إلى فِرْدوس حلِّ المسائل كان مغلقًا بسبب الحقيقة البسيطة المتمثلة في أنَّ أحدًا لم يكن يمتلكُ أدنى فكرةٍ عن كيفية إثبات أيٍّ من حَدْسيات لانجلاندز. لقد ظلَّت الحدسيةُ الأقوى في البرنامج هي حدسيةَ تانياما-شيمورا، لكن حتى هذه الحدسية بدَتْ بعيدةَ المنال. كان برهان حدسية تانياما-شيمورا سيُصبح هو الخطوةَ الأولى في برنامج لانجلاندز، ومِن ثَمَّ فقد أصبح أحدَ أكبرِ الجوائز في نظرية الأعداد الحديثة.
وبالرغم من وضعِ حَدْسية تانياما-شيمورا بوصفِها حَدْسية غيرَ مثبَتة، فقد استمرَّ ذِكرُها في المئات من الأوراقِ البحثيَّة الرياضية التي تتضمَّن تخميناتٍ بشأنِ ما سيحدثُ إذا أمكنَ إثباتُها. كانت الأوراق تبدأ بذِكْر التحذير بكلِّ وضوح «بافتراض صحَّة حدسية تانياما-شيمورا، …» ثم تُواصل في إيضاح حلٍّ لإحدى المسائل التي لا حلَّ لها. وقد تكون هذه النتائجُ نفسُها محْضَ افتراضاتٍ بالطبع؛ إذ اعتمدَت على صحةِ حدسية تانياما-شيمورا. وهذه النتائج الافتراضية الجديدة دُمِجت بدَورِها في نتائجَ أخرى إلى أن صار لدينا وَفرةٌ من المعارف الرياضية التي قامت على أساسِ صحة حدسية-تانياما شيمورا. إنَّ هذه الحدسيةَ الواحدة قد أصبحَت أساسًا لبناءٍ جديد كاملٍ من الرياضيات، غير أنَّ هذا المبنى بأكملِه يظلُّ هشًّا إلى أن تثبت الحدسية.
في ذلك الوقت، كان أندرو وايلز باحثًا شابًّا في جامعة كامبريدج، وهو يذكر القلقَ الذي أصاب مجتمعَ الرياضيَّات في سبعينيَّات القرن العشرين قائلًا: «لقد بنَينا الكثير والكثير من الحدسيات التي امتدَّت إلى ما هو أبعدُ وأبعدُ في المستقبل، غير أنها ستكون جميعًا بلا قيمة إذا لم تكن حدسيةُ تانياما-شيمورا صحيحة. ولهذا؛ كان علينا أن نُثبت حَدْسية تانياما-شيمورا لنُوضِّح أنَّ هذا التصميمَ الكامل الذي نأمُل أن نكون قد خطَّطْناه للمستقبل صحيح.»
بَنى علماءُ الرياضيات بيتًا ضعيفًا من الورَق. وقد كانوا يحلمون بأن يتمكَّن أحدٌ ذاتَ يوم من أن يمنح بِناءهم الأساسَ المتين الذي كان في حاجةٍ إليه. وكان عليهم أيضًا أن يتَعايشوا مع الكابوس المتمثِّل في أنَّ أحدَهم قد يُثبت ذاتَ يوم أنَّ حَدْسية تانياما-شيمورا خاطئةٌ في حقيقة الأمر؛ فيؤدِّي بذلك إلى إهدارِ مقدارِ عقدَين من البحثِ هَباءً.
(٤) الرابط المفقود
في خريف العام ١٩٨٤، اجتمعَت مجموعةٌ مختارة من علماءِ نظريَّة الأعداد لندوةٍ في أوبرفولفاخ، وهي بلدةٌ صغيرة تقعُ في قلبِ الغابة السوداء في ألمانيا. وقد اجتمَعوا معًا لمناقشة العديد من الإنجازات في مجال دراسةِ المعادلات الإهليلجية، ولا شكَّ أنَّ بعض المتحدِّثين كانوا سيتطرَّقون أحيانًا لذِكْر أيِّ تقدمٍ أحرَزوه في إثباتِ حَدْسية تانياما-شيمورا، وإن كان طفيفًا. كان جيرارد فراي أحدَ المتحدِّثين، وهو رياضيٌّ من ساربروكن، ولم يُقدِّم أيَّ فكرةٍ جديدة بشأن كيفية التصدِّي للحدسية، لكنه قدَّم زعمًا بارزًا، مَفادُه أنَّه إذا تمكَّن أحدُهم من إثبات حَدْسية تانياما-شيمورا، فسوف يتمكَّن على الفور من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة.
حين نهضَ فراي للحديث، بدأ بكتابة معادلة فيرما:
واصل فراي بعد ذلك ليقومَ ﺑ «إعادة ترتيب» المعادلة. وهو إجراءٌ رياضي دقيق يتمثَّل في تغيير مظهرِ المعادلة دون أن يُغيِّر من صحتها. ومن خلال سلسلةٍ حاذقة من المناورات المعقَّدة، حوَّل فراي معادلةَ فيرما الأصلية وحلها الافتراضي، إلى الصورة:
وبالرغم من أنَّ هذا الترتيب يَبْدو مختلِفًا للغاية عن المعادلة الأصلية، فهو نتيجةٌ مباشرة للحلِّ الافتراضي. أي إننا نفترض — ويجب التأكيد هنا على كلمة «نفترض» — أنه يوجد حلٌّ لمعادلة فيرما، وأنَّ مبرهنةَ فيرما الأخيرة خاطئةٌ، ومِن ثَمَّ فلا بد أيضًا من وجودِ هذه المعادلة المُعادِ ترتيبها. في بادئ الأمر، لم يكن جمهورُ فراي منبهرًا بطريقةِ ترتيبه الجديدةِ للمعادلة، لكنه أوضحَ بعد ذاك أنَّ هذه المعادلةَ الجديدة هي معادلةٌ إهليلجية في حقيقة الأمر، وإن كانت معقَّدة وغريبة بعض الشيء. فالمعادلات الإهليلجية تتخذ الصورة:
وإذا افترضنا أنَّ:
فسوف يَسهُل علينا إدراكُ الطبيعة الإهليلجية لمعادلة فراي.
ومن خلالِ تحويلِ معادلة فيرما إلى معادلة إهليلجية، ربطَ فراي بين مبرهنة فيرما الأخيرة وبين حدسية تانياما-شيمورا. بعد ذلك، أوضح فراي لجمهورِه أنَّ معادلتَه الإهليلجية التي ابتدَعها من حلِّ معادلة فيرما، شاذةٌ للغاية. وقد زعم فراي بالفعل أن مُعادلتَه الإهليلجية شديدةُ الغرابة حتى إنَّ تداعيات وجودها ستكون مدمِّرة لحدسية تانياما-شيمورا.
يجب أن نتذكَّر أنَّ معادلةَ فراي الإهليلجية ليست سِوى معادلةٍ وهمية. فوجودُها مشروطٌ بحقيقةِ أن تكون مبرهنةُ فيرما الأخيرة خاطئةً. بالرغم من ذلك، إذا كانت معادلة فراي الإهليلجية موجودة بالفعل، فهي إذن شاذةٌ للغاية حتى إنه لَيْبدو من المحال أن تكونَ مرتبطةً بشكلٍ نمطي. غير أنَّ حدسية تانياما-شيمورا تقترحُ أنَّ «كل» معادلة إهليلجية لا بد أن ترتبطَ بشكلٍ نمطي. ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ وجود معادلة فراي الإهليلجية يُعارض حَدْسية تانياما-شيمورا.
بعبارةٍ أخرى، تتمثَّل الحُجة المنطقية التي يسوقها فراي فيما يلي:
-
(١)
إذا كانت مبرهنةُ فيرما الأخيرة خاطئةً، (ففي هذه الحالة فحَسْب) ستكون معادلةُ فراي الإهليلجية موجودةً بالفعل.
-
(٢)
معادلة فراي الإهليلجية شاذةٌ للغاية بدرجةٍ لا يُمكن معها أبدًا أن تكونَ نمَطية.
-
(٣)
تزعم حَدْسية تانياما-شيمورا أنَّ جميعَ المعادلات الإهليلجية لا بد أن تكون نمطية.
-
(٤)
إذن؛ فلا بد أن تكون حدسيةُ تانياما-شيمورا خاطئة!
ثمَّة بديلٌ آخَرُ أهمُّ، وهو أنَّ فراي يُمكن أن يسوقَ حُجَّته عكسيًّا على النحو التالي:
-
(١)
إذا أمكنَ إثباتُ صحة حدسيةِ تانياما-شيمورا، فلا بد أن تكون المعادلاتُ الإهليلجية جميعُها أشكالًا نمطية.
-
(٢)
وإذا كانت المعادلات الإهليلجية جميعُها أشكالًا نمَطية، فلا يمكن أن تكونَ معادلة فراي الإهليلجية موجودة.
-
(٣)
إذا كانت معادلة فراي الإهليلجية غيرَ موجودة، فلا يمكن أن يكون ثَمة حلٌّ لمعادلة فيرما.
-
(٤)
ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ مبرهنة فيرما الأخيرة صحيحة!
لقد توصَّل جيرارد فراي إلى الاستنتاج المثير بأنَّ صحةَ مبرهنة فيرما الأخيرة ستكون نتيجةً مباشِرة لإثبات حدسيةِ تانياما-شيمورا. زعم فراي أنه إذا تمكَّن علماءُ الرياضيات من إثباتِ حدسيةِ تانياما-شيمورا، فسوف يُثبتون مبرهنة فيرما الأخيرةَ تلقائيًّا. للمرة الأولى على مدى مائةِ عام، بدَت المسألةُ الرياضيةُ الأصعبُ في العالم بأكملِه هشَّة. فوفقًا لفراي، صار إثباتُ حدسية تانياما-شيمورا هو العقَبةَ الوحيدة أمام إثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة.
وبالرغم من انبهارِ الجمهور بفكرةِ فراي اللامعة، فقد أدرَكوا أيضًا وجودَ خطأ أوَّلي في حُجتِه المنطقيَّة. لقد اكتشفَه جميعُ مَن في القاعة فيما عدا فراي نفسَه. وبالرغم من أنَّ الخطأَ لم يبدُ خطيرًا، فقد ظل عملُ فراي غيرَ مكتملٍ في وجوده. وكان أول مَن يتمكَّن من تصحيحِ هذا الخطأ، سيُنسَب إليه الفضل في الربطِ بين فيرما وتانياما-شيمورا.
أسرع جمهورُ فراي بمغادرةِ قاعة المحاضرة وتوجَّهوا إلى غرفة التصوير. وغالبًا ما يُمكن قياسُ أهميَّةِ إحدى المحاضَرات عن طريقِ طول الصفِّ الذي ينتظر لطباعة نُسَخ من المحاضرة. وفورَ أن حصَلوا على صورةٍ كاملة لأفكارِ فراي، عاد كلٌّ منهم إلى المؤسَّسةِ التي يعمل بها، وبدَءُوا في محاولةِ سدِّ الثُّغرات.
كانت حُجة فراي تستندُ إلى حقيقةِ أنَّ معادلتَه الإهليلجية المشتقَّة من معادلة فيرما شاذَّة جدًّا لدرجة أنها لا ترتبط بشكلٍ نمطي. وقد كان عمله غيرَ مكتمل؛ لأنه لم يُثبِت أنَّ معادلتَه الإهليلجية شاذةٌ بالدرجة الكافية. وفقط في حالة أن يتمكنَ أحدٌ من إثبات الشذوذِ «المطلق» الذي تتَّسمُ به معادلةُ فراي الإهليلجية، يمكن أن ينطويَ إثباتُ حدسية تانياما-شيمورا على إثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة.
اعتقد علماءُ الرياضيَّات في بادئ الأمر أنَّ إثباتَ شذوذِ معادلة فراي الإهليلجية سيكون عمليةً اعتياديَّة بدرجة كبيرة. فللوهلةِ الأولى، بدا خطأُ فراي أوَّليًّا وافترض جميعُ مَن حضَروا ندوة أوبرفولفاخ أنه سيكونُ ثَمة سِباقٌ لرؤية مَن يستطيع تعديلَ الجبر بأكبرِ سرعة. فقد كانت التوقُّعات أنَّ أحدَهم سيُرسل بريدًا إلكترونيًّا في غضون بضعة أيام يشرح فيه الطريقةَ التي تمكَّن بها من إثباتِ غَرابة معادلة فراي الإهليلجية.
انقضى أسبوعٌ دون ظهورِ مثلِ ذلك البريد الإلكتروني. انقضَت الشهورُ أيضًا وما كان من المفترض به أن يكون سباقًا جنونيًّا رياضيًّا، صار يتحوَّل إلى ماراثون. وبدا كما لو أنَّ فيرما لا يزال يَغيظ أحفادَه ويُعذِّبهم. لقد قدَّم فراي استراتيجيةً جذابة لإثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنَّ الخطوة الأولى في حدِّ ذاتها، وهي إثباتُ أنَّ معادلةَ فراي الافتراضيةَ الإهليلجية ليست نمطيَّة، كانت تُحير علماء الرياضيات في جميع أرجاء العالم.
ولإثبات أنَّ إحْدى المعادلاتِ الإهليلجية غيرُ نمطية، راح علماءُ الرياضيَّات يبحَثون عن ثوابتَ كتلك المذكورةِ في الفصلِ الرابع. فقد برهنَ ثابتُ العُقدة على أنه لا يُمكن تحويلُ عقدةٍ ما إلى عقدةٍ أخرى، وبرهنَ ثابتُ لويد على أنه لا يُمكن وضعُ أحجيته ١٤-١٥ في الترتيب الصحيح. إذا تمكَّن علماءُ نظرية الأعدادِ من اكتشافٍ ثابت مُلائم لوصفِ معادلة فراي الإهليلجية، لتَمكَّنوا من إثباتِ أنه لا يُمكِن أبدًا تحويلُها إلى شكل نمطي، أيًّا ما كان التغييرُ الذي يطرأ عليها.
كان أحدُ هؤلاء الذي يكدون لإثبات الرابط بين حدسية تانياما-شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة وإكماله، كين ريبِت، البروفيسور بجامعة كاليفورنيا الموجودة في مدينة بيركلي. فمنذ محاضَرةِ أوبرفولفاخ، أصبح ريبِت مهووسًا بمحاولةِ إثبات أنَّ معادلة فراي الإهليلجية شديدةُ الغرابة بدرجةٍ لا يُمكن معها أن تكون نمَطية. وبعد ثمانيةَ عشر شهرًا من الجهود، لم يكن هو ولا غيرُه قد حقَّقوا أيَّ شيء على الإطلاق. وبعد ذلك في صيف عام ١٩٨٦، كان أحدُ زملاء ريبِت، وهو البروفيسور باري ميزور، في زيارة إلى بيركلي لحضورِ المؤتمر الدوليِّ لعلماء الرياضيات. التقى الصديقان لتناوُلِ مشروب القهوة بالحليب في مقهى «كافيه سترادا»، وبدَآ يتشاركان قصصَ الحظ السيِّئ والتذمُّر بشأنِ حالة الرياضيات.
وفي نهاية المطاف، بدَآ يتناقشانِ بشأن أحدَثِ أخبار المحاولات العديدة لإثباتِ شذوذ معادلة فراي الإهليلجية، وبدأ ريبِت في شرح استراتيجية تجريبيَّة كان يستكشفُها. بدا النَّهج مُبشِّرًا على نحو غامض، لكنه لم يستطِعْ إثباتَ سِوى جزءٍ صغيرٍ للغاية منه. «جلستُ مع باري وأخبرتُه بما كنتُ أعمل عليه. ذكَرتُ أنني قد أثبتُّ حالةً خاصة للغاية، لكنني لم أعرِفْ ما أفعلُه بعد ذلك لتعميمِها لكي يحظى البرهانُ بالقوة الكاملة.»
«كانت هذه الخطوة هي المُكوِّن الضروريَّ الذي لم أكُن أمتلكُه، وقد كان أمامي مباشَرة. تجوَّلتُ في طريق العودة إلى شقَّتي هائمًا، وأنا أُفكر: ربَّاه، أهذا صحيحٌ حقًّا؟ كنتُ مسلوبَ اللُّبِّ تمامًا، وجلستُ أكتب بسرعةٍ على دفترٍ من الورق. بعد ساعة أو اثنتَين، كنتُ قد كتبت كلَّ شيء وتحقَّقتُ من أنني أعرفُ الخطواتِ الأساسيةَ، وأنها تتلاءمُ جميعًا معًا. راجعتُ حُجتي المنطقية وقلت: «أجل، سيُفلح هذا حتمًا.» كان آلاف علماء الرياضيات بالطبع قد حضَروا المؤتمر الدولي لعلماء الرياضيات، وقد ذكرت عرَضًا لعددٍ قليل من الأشخاص أنني برهنتُ على أنَّ حَدْسية تانياما-شيمورا تنطوي على مبرهنةِ فيرما الأخيرة. انتشَر الخبرُ كالنارِ في الهشيم، وسرعان ما عرَف الكثيرون، وكانوا يُهرَعون إليَّ يسألونني: «أصحيحٌ حقًّا أنك أثبتَّ أنَّ معادلةَ فراي الإهليلجية ليست نمطيَّة؟» كان عليَّ أن أُفكِّر لبرهة، ثم قلتُ فجأةً: «أجل، قد فعلت».»
الآن قد صارت مبرهنة فيرما الأخيرةُ مرتبطةً بحَدْسية تانياما-شيمورا، ارتباطًا لا ينفصم. إذا استطاع أحدُهم أن يُثبت أنَّ المعادلاتِ الإهليلجية جميعها نمطية، فسوف يعني هذا أنه لا يوجد أيُّ حلٍّ لمعادلة فيرما، وتَثبُت مبرهنة فيرما الأخيرةُ تلقائيًّا.
على مدى ثلاثةِ قرونٍ ونصفِ القرن، ظلَّت مبرهنة فيرما الأخيرةُ مسألةً منعزلة، لغزًا مثيرًا للفضول يستحيل حلُّه يقبَعُ على حافةِ الرياضيَّات. والآن، قد أحضره كين ريبِت الذي استلهمَ فِكرتَه من جيرارد فراي، إلى قلب المسرح. اقترنَت المسألةُ الأهمُّ في القرن السابع عشر، بالمسألة الأبرزِ في القرن العشرين. ارتبطَت مسألة ذات أهمية تاريخيَّة وعاطفية مَهُولة، بحَدْسيةٍ يُمكن أن تُحدِثَ ثورةً في الرياضيَّات الحديثة. وبالفعل، كان علماءُ الرياضيات يستطيعون في ذلك الوقتِ مهاجمةَ مبرهنة فيرما الأخيرة باستخدام استراتيجيةِ البرهان بالتناقُض. فلكي يتمكَّنَ علماءُ الرياضيات من إثبات صحة المبرهنة الأخيرة، سيبدَءُون بافتراضِ أنها خاطئة. وسوف ينطوي خطأُ المبرهنة الأخيرة، على خطأ حَدْسية تانياما-شيمورا. بالرغم من ذلك، إذا أمكنَ إثباتُ صحةِ حدسية تانياما-شيمورا، فلن يتوافقَ هذا مع خطأ مبرهنةِ فيرما الأخيرة، ومِن ثَمَّ؛ فلا بد أن تكون هي أيضًا صحيحة.
كان فراي قد حدَّد المهمةَ التالية بوضوح. سيتمكَّنُ علماء الرياضيات من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة تلقائيًّا، إذا تَمكَّنوا أولًا من إثباتِ حدسية تانياما-شيمورا.
انتشر بصيصٌ جديد من الأملِ في بادئ الأمر، ثم بدأَت حقيقةُ الموقف تسطَعُ. لقد ظلَّ علماءُ الرياضيات يُحاولون إثباتَ حَدْسية تانياما-شيمورا منذ ثلاثينَ عامًا وعَجزوا عن ذلك. فلماذا قد يُحرِزون أيَّ تقدُّم الآن؟ رأى المتشكِّكون أنَّ ما كان يوجد من أملٍ ضئيل في إثباتِ حَدْسية تانياما-شيمورا قد تلاشى الآن. وكان منطقُهم في هذا أنَّ أيَّ شيءٍ قد يؤدِّي إلى حلِّ مبرهنة فيرما الأخيرة، لا بد أن يكون مُحالًا في جوهره.
حتى كين ريبِت الذي حقَّق الإنجازَ الضروري، كان مُتشائمًا: «كنتُ واحدًا من الغالبيَّة العُظمى التي كانت ترى أنَّ حَدْسية تانياما-شيمورا منيعةٌ تمامًا. لم أعبأ بمحاولة إثباتها. إنني لم أُفكِّر حتى بمحاولة إثباتِها. لقد كان أندرو وايلز على الأرجح واحدًا من بِضْعة أفرادٍ فقط هم الذين كانت لديهم الجَسارةُ على الحُلم بإمكانيةِ إثبات هذه الحدسية بالفعل.»