مشكلة طفيفة
فورَ انتهاء محاضَرةِ كامبريدج، عَلِمت لجنةُ ولفسكيل ببُرهان وايلز. بالرغم من ذلك، فلم يكن لها أن تمنحَ الجائزةَ على الفور؛ لأنَّ قواعد المسابقة تنصُّ بوضوحٍ على ضرورةِ التحققِ من البرهان على يدِ رياضيِّين آخَرين، ونشرِه بصورةٍ رسمية:
إنَّ «الجمعية الملكية للعلوم» في جوتينجن … لن تنظرَ بعين الاعتبار إلَّا إلى المذكراتِ الرياضية التي ظهرَت على هيئةِ أبحاثٍ في الدوريات، أو تلك التي تُطرَح للبيع في المكتبات … لن تمنحَ الجمعيةُ الجائزةَ إلا بعد عامين من نشرِ المذكرة التي ستفوز. والهدفُ من هذه المدَّة البينيَّة هو السماحُ لعلماء الرياضيَّات الألمان والأجانب بالتعبيرِ عن آرائهم بشأن صحةِ الحلِّ المنشور.
قدَّم وايلز مخطوطتَه إلى دورية «إنفنشَنز ماثيماتيكِه» (ابتكارات رياضيَّة)، بينما بدأ محرِّرُها باري ميزور، عمليةَ اختيارِ المحكِّمين. تضمَّنَت ورقةُ وايلز مجموعةً مختلفة من الأساليب الرياضية تنوَّعَت بين الحديث والقديم؛ مما دفَع ميزور إلى أن يتخذَ قرارًا استثنائيًّا بتعيينِ ستةٍ من المحكِّمين لا اثنَين أو ثلاثة كما هو معتاد. في كلِّ عام، يُنشَر ثلاثون ألفًا من الأوراق البحثية في الدوريَّات بمُختلِف أرجاء العالم، لكنَّ حجم مخطوطةِ وايلز وأهمِّيَّتَها، كانا يَعْنيان أنها ستخضعُ إلى مستوًى فريدٍ من التدقيق. ولتسهيلِ الأمور، قُسِّم البرهانُ الذي أتى في مائتَيْ صفحةٍ إلى ستة أجزاء، وتولَّى كلُّ مُحكِّم مسئوليةَ فصلٍ من هذه الفصول.
كان الفصل الثالث مسئوليةَ نيك كاتس الذي فحَص ذلك الجزءَ من برهانِ وايلز في وقتٍ سابقٍ من العام: «تصادف أنني كنتُ في باريس طَوال الصيفِ للعمل في معهد الدراسات العِلمية المتقدِّمة، وأخذتُ معي البرهانَ الكامل بصفحاته المائتين، وكان الفصلُ الخاصُّ بي من سبعين صفحةً. حين وصلتُ هناك، قرَّرتُ أنني أريدُ مساعدةً فنِّية جادَّة؛ فأصررتُ أن يُصبح لوك إيلوسي الذي كان هو أيضًا في باريس، مُحكِّمًا مشتركًا في هذا الفصل. كنا نلتقي بِضعَ مراتٍ في الأسبوع على مدى ذلك الصيف، وغالبًا ما كان يُلقي أحدُنا المحاضَراتِ على الآخر؛ لنُحاولَ فَهم هذا الفصل. لم نفعل شيئًا في حقيقةِ الأمر سِوى مراجعةِ المخطوطة سطرًا بسطرٍ لنتأكَّد من خُلوِّها من الأخطاء. كانت بعضُ الأمور تلتبسُ علينا أحيانًا؛ فكنتُ أبعث إلى أندرو بالأسئلة عبر البريد الإلكتروني يوميًّا، أو مرتَين في اليوم أحيانًا، وأقولُ شيئًا على غِرار: «لا أفهمُ ما تقوله في هذه الصفحة، أو يبدو أنَّ هناك خطَأً في هذا السطر.» عادةً ما كنتُ أتلقَّى ردًّا يُوضِّح الأمرَ في اليوم التالي أو الذي يَليه، وكنا ننتقلُ إلى المسألةِ التالية.»
كان البرهان حُجةً منطقيةً ضخمة، تتشكَّل على نحوٍ معقَّد من مئات العملياتِ الحسابيَّة الرياضية التي تُلصِقها معًا الآلافُ من الروابط المنطقية. وإذا كان ثَمة عيبٌ في عمليةٍ واحدة منها فحَسْب، أو انفصلَ رابطٌ منطقيٌّ واحدٌ فحَسْب، فمِن المحتمل إذن أن يكون البرهانُ بأكمَلِه عديمَ القيمة. كان وايلز الذي عاد مجددًا إلى برينستون ينتظرُ بقلقٍ أن ينتهيَ المحكِّمون من مهمتِهم. «لا أحبُّ أن أحتفلَ بالكاملِ حتى أنفضَ يدي تمامًا من الورقة التي أعملُ عليها. وفي الوقتِ الراهن، كان لديَّ عملي المتمثِّلُ في الإجابة عن الأسئلة التي كنتُ أتلقَّاها عبر البريد الإلكتروني من المحكِّمين. كنت لا أزال واثقًا في أنَّ أيًّا مِن هذه الأسئلة لن يتسبَّبَ لي في الكثير من المتاعب.» كان وايلز قد راجعَ البرهان بالفعلِ مرةً واثنتَين قبل تقديمِه للمُحكِّمين؛ لذا فلم يكن يتوقَّع سِوى المكافئِ الرياضيِّ لما هو أكثرُ قليلًا من الأخطاء النَّحْوية أو المطبعيَّة، أخطاء تافهة يستطيع إصلاحَها على الفور.
يتذكر كاتس قائلًا: «استمرَّت هذه الأسئلةُ على نحوٍ هادئ نسبيًّا حتى شهرِ أغسطس حين وصلتُ إلى ما بدا أنه مشكلةٌ صغيرة أخرى. ففي الثالث والعشرين من أغسطس تقريبًا، أرسلتُ بريدًا إلكترونيًّا إلى وايلز، لكنَّ الأمرَ كان معقَّدًا بعضَ الشيء، فأجابني بالفاكس. غير أنَّ الفاكس لم يُجِب عن السؤال؛ لذا أرسلتُ إليه بالبريد الإلكتروني مجددًا، وأجابني بالفاكس مجددًا، ولم تكن الإجابةُ مُرضيَةً أيضًا.»
افترَض وايلز أنَّ هذا الخطأَ سطحيٌّ مثل بقية الأخطاء الأخرى، لكنَّ إلحاحَ كاتس أجبَرَه على أن يأخذَه بجِدِّية: «لم أتمكَّنْ من حلِّ هذا السؤال الذي يبدو بريئًا للغاية على الفور. فلِوَهلةٍ قد بدا أنه من فئةِ الأسئلة الأخرى نفسِها، لكنني بدأتُ أُدرك بعد ذلك في سبتمبر أنَّه لا يُمثِّل مشكلةً هامشية، بل خطأً جوهريًّا. لقد كان خطأً في جزءٍ أساسي من الحُجَّة المنطقية يتعلَّق بطريقة كوليفاجين-فلاخ، لكنه كان خفيًّا للغاية، حتى إنني غفلتُ عنه حتى تلك النقطة. إنَّ الخطأ على درجةٍ كبيرة من التجريد، حتى إنه لا يُمكن وصفُه بعباراتٍ بسيطة، وحتى شرحه إلى أحد علماء الرياضيَّات سيتطلبُ من هذا الرياضيِّ أن يقضيَ شهرين أو ثلاثةً في دراسة المخطوطة بتفصيلٍ شديد.»
جوهرُ المشكلة أنه لم يكن ثَمَّة ما يضمنُ أنَّ طريقة كوليفاجين-فلاخ تعملُ مثلما أرادَ لها وايلز. كان المفترضُ بها أن تُوسِّع نطاقَ البرهانِ من العنصر الأول في جميعِ المعادلات الإهليلجية والأشكالِ النمطية؛ ليشملَ جميعَ العناصر؛ موفِّرًا بذلك آليَّةَ إيقاعِ قطعة الدومينو للقطعةِ التي تَليها. لم تكن طريقة كوليفاجين-فلاخ تعمل في الأصلِ إلا تحت ظروفٍ محدَّدة للغاية، لكنَّ وايلز كان يعتقدُ أنه قد كيَّفَها وعزَّزَها بالدرجة الكافية لتلبيةِ جميعِ احتياجاته. أما كاتس، فلم يكن يرى أنَّ ذلك صحيحٌ بالضرورة، وكانت النتائجُ مؤثِّرةً ومدمِّرة.
(١) فني تركيب السجاد
حين أدرك كاتس جَسامة الخطأ الذي وجَده، بدأ يسألُ نفسه كيف غفل عنه في الربيع حين ألقى وايلز عليه المحاضراتِ لهدفٍ وحيد هو تحديدُ أيِّ أخطاء. «أعتقد أنه حين يستمعُ المرء إلى محاضَرة، يوجد توتُّر حقيقيٌّ بين فَهْم كلِّ شيء، والسماحِ للمحاضِر بالمُضيِّ قُدمًا. ذلك أنك إذا قاطعتَ في كلِّ ثانيةٍ بالقول إنك لا تفهمُ هذا أو ذاك، فلن يتمكَّنَ المحاضِرُ من شرحِ شيء، ولن تفهمَ أنت شيئًا. ومن ناحيةٍ أخرى، إذا لم تُقاطِعْ على الإطلاق، فإنك لا تنتبهُ جيدًا وتومئ برأسِك بأدبٍ فحَسْب، لكنك لا تُراجع شيئًا في حقيقة الأمر. دائمًا ما يوجد هذا التوتُّر بين طرحِ الكثيرِ جدًّا من الأسئلة وطرحِ القليل جدًّا منها، ومن الواضح أنَّني في نهاية تلك المحاضراتِ، وهي المرحلة التي غفلتُ فيها عن هذا الخطأ، نزَعتُ إلى طرح القليل جدًّا من الأسئلة.»
قبل ذلك ببضعةِ أسابيعَ فحسب، كانت الصحفُ في جميع أنحاء العالم قد نعَتَت وايلز بأنه أبرعُ رياضيٍّ في العالم، وبعد ٣٥٠ عامًا من الإحباط، ظنَّ علماءُ نظرية الأعداد أنهم نالوا أخيرًا من بيير دو فيرما. والآن، كان وايلز يُواجِهُ مهانةَ الاعتراف بأنه قد ارتكبَ خطأً. وقبل أن يعترفَ بالخطأ، قرَّر أن يُحاول ويبذلَ جهدًا مكثَّفًا لسدِّ الثغرة. «لم أستطِع الاستسلامَ. كنتُ مهووسًا بهذه المسألة، وكنتُ لا أزالُ أعتقد أنَّ طريقةَ كوليفاجين-فلاخ تحتاجُ إلى القليل من الإصلاح فحَسْب. كنتُ أحتاج إلى تعديلِها في جزءٍ صغير فحسب، وسوف تنجحُ تمامًا بعد ذلك. قررتُ العودة إلى نمَطي القديم، وعزْلَ نفسي عن العالَم الخارجي تمامًا. كان عليَّ أن أُركِّز مجددًا، لكنْ تحت ظروفٍ أصعبَ كثيرًا هذه المرةَ. اعتقدتُ مدَّةً طويلة أنَّ التعديلَ قريبٌ للغاية، وأنني غافلٌ عن شيء بسيطٍ فحسب، وسيصيرُ كل شيء ملائمًا تمامًا في اليوم التالي. وكان يُمكن أن يحدث الأمر بتلك الطريقة بالطبع، لكنْ بدا بمرور الوقت أنَّ المشكلةَ قد أصبحَت أكثرَ تعنتًا.»
كان يأمُل في أن يتمكَّنَ من إصلاحِ الخطأ قبل أن يَعِيَ المجتمعُ الرياضيُّ وجودَه أصلًا. كان على زوجة وايلز التي شَهِدَت بالفعل مجهودَ السنوات السبعِ الذي بُذِل في سبيل البرهان الأصلي، أن تُشاهد آنذاك صِراعَ زوجها المؤلم مع خطأ يُمكن أن يُدمِّر كلَّ شيء. ويتذكَّر وايلز تفاؤُلَها قائلًا: «أخبرَتْني نادا في سبتمبر أنَّ الشيء الوحيد الذي تُريده في عيد ميلادها، هو برهانٌ صحيح. يأتي عيدُ ميلادها في السادس من أكتوبر. كان لديَّ أسبوعان فحسبُ لتقديم البرهان، وقد فشلتُ في ذلك.»
كان ذلك وقتًا عصيبًا على كاتس أيضًا: «كان الأشخاص الذين يعرفون بالخطأ بحلول أكتوبر هم أنا نفسي وإيلوسي والمحكِّمين الآخَرين للفصولِ الأخرى وأندرو، كان هؤلاء فحَسْب هم مَن يَعلمون مبدئيًّا. وكنتُ أرى أنَّ عليَّ مراعاةَ السرِّية بصفتي أحدَ المحكِّمين. شعرتُ بالطبعِ بأنه لا يحقُّ لي مناقشةُ الأمر مع أيِّ شخصٍ سوى أندرو؛ فلم أقُل كلمةً واحدة بشأنه. أعتقد أنه قد بدا طبيعيًّا من الخارج، لكنه بحلولِ هذه المرحلة كان يُخفي سِرًّا عن العالَم، وأعتقد أنه كان مستاءً جدًّا لذلك. تصرَّف أندرو على أساس أنه سيحلُّ المشكلةَ في غضون يومٍ آخَر، لكن مع تقدُّمِ الخريف وعدمِ وجود مخطوطة، بدأَت الشائعاتُ تنتشر بشأن وجود مشكلة.»
بدأ كين ريبِت على وجه التحديد، وهو أحدُ المحكِّمين الآخرين، يشعرُ بضغطِ حِفظ السِّر: «لسببٍ عارِض تمامًا، أصبحتُ معروفًا بأنني «خدمة المعلومات عن فيرما». ففي أحدِ المقالات الأولى في جريدة «ذا نيويورك تايمز» طلب أندرو مني أن أتحدثَ إلى المراسِل نيابةً عنه، وقد ورَد في المقال: «ريبِت الذي يُمثِّل المتحدثَ الرسميَّ لأندرو وايلز …» أو شيءٌ من هذا القبيل. وبعد ذلك، صِرتُ أجذب اهتمامَ كلِّ من يهتمُّون بمبرهنة فيرما الأخيرة، سواءٌ من داخل المجتمع الرياضي أو خارجه. كان الناس يتَّصلون بي من الصِّحافة في جميع أنحاء العالم بالفعل، وقد ألقيتُ أيضًا عددًا كبيرًا للغاية من المحاضرات على مدى شهرَين أو ثلاثة. وفي هذه المحاضرات، أكَّدتُ على روعةِ هذا الإنجاز وقدَّمتُ البرهانَ بصورةٍ موجزة مع التركيز على الأجزاء التي أُتقِنُها، لكنَّ صبرَ الناس بدأ ينفَدُ بعد مدَّة وبدَءُوا يطرحون أسئلةً غريبة.»
«قام وايلز بهذا الإعلانِ العلَنيِّ للغاية مثلَما تعرف، لكنَّ أحدًا لم يرَ نسخةً من المخطوطة من خارجِ مجموعة المحكِّمين شديدةِ الصغر. ومِن ثَمَّ فقد كان علماءُ الرياضيات ينتظرون هذه المخطوطةَ التي وعَد أندرو بها بعدَ الإعلان الأوَّليِّ في يونيو ببضعةِ أسابيع. قال الناس: «حسنًا، لقد أُعلِنَت هذه المبرهنة، ونحن نرغب في معرفة ما يجري. ماذا يفعل؟ لِمَ لا نسمعُ أيَّ شيء؟» كانوا مستائين قليلًا لأنهم ظلُّوا في دائرة الجهل، وكل ما أرادوه هو معرفةُ ما يَجري فحسب. ازدادت الأمورُ سوءًا بعد ذلك؛ إذ تجمَّعَت هذه الغيمةُ ببطءٍ فوق البرهان، وظل الناس يُخبرونني بهذه الشائعات التي زعمَت وجودَ ثغرةٍ في الفصل الثالث. كانوا يسألونني عما أعرفُه عن ذلك، ولم أكن أعرف ما يُمكنني قوله.»
مع استمرار وايلز والمحكِّمين في إنكارِ معرفتهم بوجود ثغرةٍ في الفصل الثالث، أو رفضِهم التعليقَ على أقلِّ تقدير، بدأَت التخميناتُ تنتشر بجنون. وبدأ علماءُ الرياضيات يُرسلون بعضهم إلى بعض بالرسائل الإلكترونية في يأسٍ، على أمَلِ أن يعرفوا حقيقةَ هذا اللغز.
الموضوع: ثغرة في برهان وايلز
التاريخ: ١٨ نوفمبر ١٩٩٣، ٤٩ : ٠٤ : ٢١، توقيت جرينيتش
يدور الكثيرُ من الشائعات بشأنِ وجود ثغرة أو اثنتَين في برهان وايلز. أهذه الثغرةُ تَعني شقًّا أم صَدْعًا أم أخدودًا أم هوَّةً أم هاويةً سحيقة؟ أيعرفُ أحدكم معلوماتٍ أكيدةً؟
كانت الشائعاتُ المتعلِّقة ببرهان وايلز تتصاعدُ كلَّ يوم في جميع غرف الاجتماعات بجميع أقسام الرياضيات. واستجابةً للشائعات، ولرسائلِ البريد الإلكتروني التخمينيَّة، حاول بعضُ علماء الرياضيات أن يُعيدوا شعورَ السكينة للمجتمع.
الموضوع: رد: ثغرة في برهان وايلز
التاريخ: ١٩ نوفمبر ١٩٩٣، ٢٠ : ٤٢ : ١٥، توقيت
جرينيتش
ليست لديَّ أيُّ معلومات مباشرة، ولا أشعر بأنَّ من حقي أن أُناقش معلوماتٍ غيرَ مباشرة. أعتقد أنَّ النصيحة الأفضل للجميعِ هي الحفاظُ على هدوئهم وإتاحةُ الفرصة للمحكِّمين الذين يتمتَّعون بدرجةٍ عالية من الكفاءة، ويفحَصون ورقةَ وايلز بعناية أن يَقوموا بعمَلهم. وهم سيُفصِحون عمَّا توصَّلوا إليه حين يكون لديهم شيءٌ مؤكَّد يقولونه. كلُّ مَن كتب ورقةً بحثية أو حكَّم في ورقةٍ يعرف الحقيقةَ المتمثلة في أنَّ الأسئلةَ كثيرًا ما تطرأُ في عمليةِ مراجعة البراهين. كان لِيُصبحَ الأمرُ رائعًا لو أنَّ ذلك لم يحدث في مثلِ تلك النتيجة المهمَّة، المقترنةِ ببرهانٍ طويل وصعب.
بالرغم من دعاوى الهدوء، استمرَّت رسائلُ البريد الإلكتروني دون توقف. وإضافةً إلى مناقَشةِ الخطأ المزعوم، صار علماءُ الرياضيَّات يتناقشون آنَذاك في أخلاقياتِ استباقِ إعلان المحكِّمين.
الموضوع: المزيد من الثرثرة بشأن فيرما
التاريخ ٢٤ نوفمبر ١٩٩٣، ٣٤ : ٠٠ : ١٢، توقيت
جرينيتش
الموضوع: رد: ثقب فيرما
التاريخ: الإثنين، ٢٢ نوفمبر ١٩٩٣، ١٦ : ٢٠، توقيت
جرينيتش
مع ازدياد الضجة بشأن برهانِه المربِك، بذل وايلز قُصارى جهده ليتجاهلَ الجدال والتخمين. «لقد عزَلتُ نفسي بحقٍّ لأنني لم أرغَبْ في معرفة ما يقوله الناسُ عني. التجأتُ إلى العُزلة، لكنَّ زميلي بيتر سارناك كان يقول لي بين الحين والآخَر: «أنت تعرف أنَّ ثمةَ ضجةً كبيرة.» كنت أستمع، لكنني كنتُ أرغب فعلًا في عزل نفسي تمامًا كي أُركِّز على المشكلة بصورةٍ كلية.»
انضمَّ بيتر سارناك إلى قسم الرياضيات في جامعة برينستون في الوقت الذي انضمَّ فيه وايلز، وصارا صديقَين مقرَّبَين بمرورِ السنوات. وخلال هذه المرحلة العَصيبة من الاهتياج، كان سارناك أحدَ القلائلِ الذين يُسِرُّ لهم وايلز بمكنونِ نفسِه. «حسنًا، لم أعرف التفاصيلَ الدقيقة، لكن كان من الواضح أنه يُحاول التغلُّبَ على هذه المشكلة الخطيرة. غير أنه كان كلَّما أصلحَ هذا الجزء من العملية الحسابية، تسبَّب ذلك في مشكلةٍ في جزءٍ آخَر من البرهان. كان الأمر كما لو أنه كان يُحاول وضعَ سجادةٍ في غرفةٍ أصغرَ من السجادة. لذا؛ كان أندرو يُحاول تثبيتَ السجادة في أحد الأركان، فيجدُ أنها ستخرج من ركنٍ آخَر. ولم يكن بوُسعِه أن يُحدِّد ما إذا كان سيتمكَّنُ من تثبيتِ السجادة أو لا. والحقُّ أنه حتى مع هذا الخطأ، كان أندرو قد حقَّق خطوةً هائلة. فقبْلَه لم يكن أحدٌ يعرف طريقًا لإثباتِ حدسية تانياما-شيمورا، أما الآن، فقد تحمَّسَ الجميع للغاية؛ لأنه قد أرانا الكثيرَ من الأفكار الجديدة. لقد كانت أفكارًا جوهريَّة لم يُفكِّر بها أحدٌ قبل ذلك على الإطلاق. ولهذا؛ كان ما حقَّقه تقدمًا عظيمًا حتى وإن لم يكن قد تمكَّن من إصلاح الخطأ، لكنَّ مبرهنةَ فيرما كانت ستظلُّ دون حلٍّ بالطبع.»
أدرك وايلز في النهايةِ أنَّه لا يستطيعُ أن يلوذَ بالصمت إلى الأبد. لم يكن حلُّ الخطأ قابَ قوسَين، وكان الوقتُ قد حان لوضعِ نهايةٍ للتخمينات. وبعد خريفٍ من الفشَل المحزِن، أرسل البريدَ الإلكتروني التاليَ إلى لوحة النشرات الرياضية.
الموضوع: حالة فيرما
التاريخ: ٤ ديسمبر ١٩٩٣، ٥٠ : ٣٦ : ٠١، توقيت
جرينيتش
قِلَّة فقط هم مَن اقتنَعوا بتفاؤلِ وايلز. مرَّت ستةُ أشهر تقريبًا ولم يُصوَّبِ الخطأ، ولم يكن يوجد سببٌ يدعو إلى الاعتقادِ بأنَّ أيَّ شيءٍ سيتغيَّر في الأشهر الستة القادمة. وعلى أيِّ حال، إذا كان بوُسعِه بالفعل أن «ينتهي من هذا في المستقبلِ القريب»، فلماذا يتكبَّد عناءَ إصدارِ البريد الإلكتروني؟ لماذا لا يَلوذُ بالصمتِ لبضعةِ أسابيع أخرى، ويُصدر المخطوطة المنتهية؟ لم تُقدِّم دورة محاضرات فبراير التي ذكَرها في بريده الإلكتروني أيًّا من التفاصيلِ التي وعَد بها، وارتاب المجتمعُ الرياضيُّ في أنَّ وايلز يكسبُ لنفسه بعضَ الوقت فحسب.
انكبَّت الصحفُ على القصة مرةً أخرى، وتذكر علماءُ الرياضيات برهانَ مياوكا الفاشلَ في ١٩٨٨. كان التاريخ يُعيد نفسَه. كان علماء نظرية الأعداد آنذاك في انتظارِ البريد الإلكتروني التالي الذي يشرحُ السبب في أنَّ البرهان مَعيبٌ على نحوٍ لا يُمكن علاجُه. كان بعضُ علماء الرياضيات قد عبَّروا عن شُكوكهم في البرهان قبلَ ذلك في الصيف، والآن بدا تشاؤمُهم مبرَّرًا. تزعم إحدى القصصِ أنَّ البروفيسور آلان بيكَر من جامعة كامبريدج عرَض أن يُراهن بمائةِ زجاجةٍ من النبيذ مقابل زجاجة واحدة على أنَّ عدم صلاحية البرهان ستَثبُت في غضونِ عام. يُنكر بيكَر هذه القصةَ لكنه يعترفُ بفخرٍ بأنه عبَّر عن «تشكُّك صحِّي».
بعد مرورِ أقلَّ من ستةِ أشهر على محاضرتِه في معهد نيوتن، صار برهانُ وايلز مُهترِئًا. إنَّ ما دفعه إلى الاستمرار على مدى سنواتِ الحسابات السرِّية كان هو السرورَ والشغفَ والأمل، وقد حلَّ محلَّ هذه المشاعرِ الحرجُ واليأس. يتذكَّر وايلز كيف أنَّ حُلم طفولتِه قد صار كابوسًا: «لقد استمتعتُ في السنوات السبع الأولى التي عَمِلتُ فيها على هذه المشكلةِ بالمعركة الخاصة. فمَهْما بلغَت صعوبتُها، ومهما بدَت الأمورُ تعجيزيَّة، كنتُ منهمكًا في مسألتي المفضَّلة. لقد كانت شغفَ طفولتي، لم أستطع أن أُخمِدَه، ولم أستطع أن أتركَه ولو للحظةٍ واحدة. بعد ذلك تحدَّثتُ عنه علنًا، وقد كان في الحديث عنه جانبٌ من الخَسارة بالفعل. كانت مَشاعري تجاه ذلك مختلطةً للغاية. فقد كان من الرائع رؤيةُ الناس يتَفاعلون مع البرهان، ويرَون كيف أنَّ الحُجَج المنطقيةَ يُمكن أن تُغيِّر اتجاهَ الرياضيات بالكامل تمامًا، لكنني في الوقت نفسِه قد فقدتُ المسعى الشخصيَّ. لقد صار البرهانُ آنذاك مُعلَنًا أمام العالم، ولم أعُدْ أحظى بذلك الحلمِ الخاص الذي أُحقِّقه. وبعد أن اتضحَ وجودُ مشكلةٍ فيه، كان العشَراتُ من الناس يُريدون إلهائي، بل المئات والآلاف. إنَّ ممارسةَ الرياضيات على هذا النحو المفرِط في العلَنيَّة ليس بالأسلوب الذي أتَّبِعُه، وأنا لم أستمتع بتلك الطريقةِ العلنية في ممارسة الرياضيَّات على الإطلاق.»
تعاطفَ علماءُ نظرية الأعداد في جميع أنحاء العالم مع موقف وايلز. لقد مرَّ كين ريبِت بهذا الكابوس نفسِه قبل ثماني سنوات حين حاولَ الربط بين حَدْسية تانياما-شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة. «كنتُ ألقي محاضرةً عن البرهان في معهد أبحاثِ العلوم الرياضية في بيريكلي، قال واحدٌ من الجمهور: «مهلًا! كيف تعرفُ أنَّ هذا وذاك صحيح؟» أجبتُه على الفور موضِّحًا سببي؛ فقال: «حسنًا، ذلك لا ينطبقُ في هذه الحالة.» شعرتُ بالرعب فورًا. رحتُ أتصبَّب عرقًا وكنتُ مستاءً للغاية بشأن ذلك. أدركتُ بعد ذلك أنه لا توجد سِوى احتماليةٍ واحدة لتبريرِ هذا، وهي العودة إلى العمل الأصلي والتعرُّف على طريقة تطبيقِه في حالةٍ مشابهة، وفي غضونِ يومٍ أو اثنَين، كنتُ قد أصلحت الأمرَ برُمَّته. في المحاضرة التالية، تمكنتُ من تقديم التبرير، لكنَّ المرءَ يعيشُ دومًا في رعب أنه إذا أعلنَ شيئًا مُهمًّا، فسيُكتشَفُ خطأٌ جوهريٌّ فيه.
حين تجدُ خَطأً في مخطوطة، يُمكن أن يسيرَ الأمر في طريقَين. في بعض الأحيان تكون الثقةُ فوريةً ويُمكن إحياءُ البرهان من جديد بقدرٍ قليل من الصعوبة. وأحيانًا أخرى يحدث العكس. الأمر مزعجٌ للغاية. فثَمَّة شعورٌ قابض ينتابُ المرءَ حين يُدرك أنه قد ارتكبَ خطأً جوهريًّا وما من طريقٍ لإصلاحه. فمن الممكن أن تَنهارَ المبرهنة تمامًا عند ظهورِ فجوةٍ فيها؛ ذلك أنك كلَّما حاولتَ سدَّ الفجوة، واجهتَ مشاكلَ أكبر. بالرغم من ذلك، ففي حالةِ وايلز، يُمثِّل كلُّ فصلٍ من فصول البرهان مقالًا رائعًا في حدِّ ذاته. كانت المخطوطة تجسيدًا لسبعِ سنواتٍ من العمل، وكانت في جوهرها عَددًا من الأوراق البحثيَّة المهمة التي وُضِعت معًا، ويُثير كلٌّ منها قدرًا كبيرًا من الاهتمام. وقع الخطأُ في واحدة من هذه الأوراقِ في الفصل الثالث، لكنَّك حتى إذا اقتطعتَ الفصلَ الثالث، فإنَّ ما يتبقَّى رائعٌ للغاية.»
غير أنه بدونِ الفصل الثالث، لا يوجد برهانٌ لحدسية تانياما-شيمورا، ومِن ثَمَّ فلا برهانَ لمبرهنة فيرما الأخيرة. خيَّم على المجتمع الرياضيِّ شعورٌ بالإحباط؛ إذ كان البرهانُ الذي يُثبت مسألتَين عظيمتَين عُرضةً للخطر. إضافةً إلى ذلك، فبعدَ ستةِ أشهرٍ من الانتظار، لم يَطَّلِع أحدٌ على المخطوطة سوى وايلز والمحكِّمين. ازداد حجمُ المطالبة بالمزيد من الصراحة كي يرى الجميعُ بأنفسِهم تفاصيلَ الخطأ. كان ثَمة أملٌ بأن يتمكَّن شخصٌ ما في مكان ما من رؤية شيءٍ قد أغفلَه وايلز، ويتوصَّلَ إلى عمليةٍ حسابية تُصِلح ثغرةَ البرهان. زعم بعض علماء الرياضيات أنَّ البرهان أثمنُ من أن يُترَك بين يدَي رجلٍ واحد. صار متخصِّصو نظرية الأعداد أضحوكةَ علماء الرياضياتِ الآخَرين الذين راحوا يتساءلون بسخريةٍ عما إذا كانوا يفهمون مفهومَ البرهان أو لا. ما كان يُفترَض به أن يُصبح اللحظةَ الأكثر مَدْعاةً للفخر في تاريخ الرياضيات، كان يتحوَّل إلى أضحوكة.
بالرغم من الضغوط، رفَض وايلز إصدارَ المخطوطة. فبعد سبعِ سنواتٍ من الجهد المكرَّس، لم يكن مستعِدًّا لأن يتراجعَ ويُشاهد شخصًا آخرَ يُكمل البرهانَ ويسرق المجدَ. فمَن يُثبت مبرهنة فيرما ليس بالشخص الذي ينتهي من القَدْرِ الأكبر من العمل، بل مَن يُقدِّم البرهان النهائيَّ المكتمِل. كان وايلز يعرف أنه فورَ أن تُنشَر المخطوطة على حالتها المعيبة، سوف تغمرُه الأسئلة والمطالبات بالتوضيح مِمَّن سيُصبحون مُصلِحي الثغرة، وهذه الإلهاءات ستَقْضي على أمَلِه في إصلاح البرهان بينما يُقدِّم للآخَرين تلميحاتٍ مهمة.
حاول وايلز أن يعودَ إلى الحالة نفسِها من العزلة التي أتاحت له ابتكارَ البرهان الأساسي، وآبَ إلى عادتِه في الدراسة المكثَّفة في علِّيته. كان يتجوَّل بين الحين والآخَر بجوارِ بُحيرة برينستون مثلما كان يفعلُ في الماضي. العدَّاءون والدرَّاجون والمجدِّفون الذين كانوا يمرُّون به قبلَ ذلك بعد تلويحةٍ موجزة، صاروا يتوقَّفون ليسألوه عما إذا كان قد حقَّق أي تقدُّم في أمرِ الفجوة. لقد ظهرت صورة وايلز في الصفحات الأولى، وظهر في مجلة «بيبول»، كما أنه قد أجرى مقابلةً تليفزيونية على قناة «سي إن إن». لقد أصبح وايلز في الصيف الماضي أولَ شخصية رياضية مشهورة، ولم يلبَثْ أن شُوِّهت صورتُه.
في هذه الأثناء، استمرَّت الثرثرةُ في أقسام الرياضيَّات. يتذكَّر عالِمُ رياضيات برينستون، البروفيسور جون إتش كونواي الأجواءَ في قاعة الاجتماعات بالقسم، قائلًا: «كنا نجتمعُ لتناول الشاي في الثالثة، ونُسرع للحصول على البسكويت. كنا نُناقش المسائل الرياضية أحيانًا، أو محاكمةَ أو جيه سيمسون، وفي أحيانٍ أخرى نُناقش تقدُّمَ أندرو. ولأنَّ أحدًا منَّا لم يكن يُحبُّ في حقيقة الأمر أن يسأله مباشرة عن تقدُّمِه في البرهان، كنا نتصرَّف كمُحلِّلي السياسة الروسية بعضَ الشيء. فيقول أحدهم مثلًا: «لقد رأيتُ أندرو هذا الصباحَ» فيسأل آخر: «هل ابتسم؟» فيُجيب مَن رآه: «نعم، لكنه لم يبدُ سعيدًا جدًّا.» لم يكن بوُسعِنا تخمينُ مشاعرِه إلا من وجهه.»
(٢) الرسالة الكابوسية
مع توغُّلِ الشتاء، خفَتَت الآمالُ بتحقيق تقدُّم، وحاججَ المزيدُ من علماء الرياضياتِ بأنَّه من واجبِ وايلز أن يُصدِر المخطوطة. استمرَّت الشائعات، وزعمَت إحدى المقالات الصحفيةِ أنَّ وايلز تخلَّى عن ذلك البرهان الذي انهار دون رَجْعة. بالرغم من أنَّ هذا الزعمَ كان مُبالَغًا فيه، فقد كان صحيحًا بالفعل أنَّ وايلز قد استنفدَ عشَراتِ الطرق التي كان يمكن أن تتغلَّب على الخطأ، ولم يَعُد يرى أيَّ طريق محتملٍ للحل.
اعترف وايلز إلى بيتر سارناك بأنَّ الوضع صار ميئوسًا منه تقريبًا، وأنه على وشك قَبولِ الهزيمة. اقترح سارناك أنَّ جزءًا من المشكلة يكمُن في أنَّ وايلز لا يحظى بشخصٍ يثقُ فيه ويتعامل معه بصفة يومية، ليس لديه شخصٌ يطرح عليه أفكارَه، شخص يُشجِّعه على استكشاف طرقٍ فرعية. فاقترح أن يأتمنَ وايلز أحدَ الأشخاص، ويحاوِلَ مرةً أخرى أن يسدَّ الثغرة. كان وايلز يحتاج إلى خبيرٍ في التعامل مع طريقة كوليفاجين-فلاخ، على أن يستطيعَ الحفاظ على تفاصيل المسألة سِرًّا. وبعد التفكير في الأمر مطوَّلًا، قرر أن يدعوَ ريتشارد تايلور المحاضِرَ بجامعة كامبريدج، إلى العمل معه في برينستون.
كان ريتشارد أحدَ المحكِّمين المسئولين عن مراجعة البرهان، وتلميذًا سابقًا لوايلز. ومِن ثَمَّ، فثَمَّة سببان للوُثوق به. في العام السابق، جلس ريتشارد تايلور بين الحضور في معهد إسحاق نيوتن يُشاهد مُشرفه السابقَ يُقدم برهانَ القرن. والآن، صارت مهمتُه هي إنقاذَ البرهان المعيب.
بحلول يناير، كان وايلز يعمل مرةً أخرى دون كللٍ بمساعَدة ريتشارد تايلور، لاستكشافِ طريقة كوليفاجِين-فلاخ، في محاولةٍ للعثور على طريقةٍ للخروج من المشكلة. في بعضِ الأحيان، كانا يدخُلان منطقةً جديدة بعد أيام من المجهود، لكنهما كانا يجدان نفسَيْهما في النهاية وقد عادا إلى حيث بدَآ. ولمَّا توسَّعا في الاستكشاف كما لم يسبِقْ من قبل، وفَشِلا بالرغم من ذلك مرةً تِلوَ الأخرى، فقد أدرك كِلاهما أنهما في قلبِ متاهةٍ شاسعة على نحوٍ لا يمكنُ تخيُّلُه. وكان خوفُهما الأعمقُ أن تكون المتاهة لا نهائيةً ولا مخرجَ منها، وأنه سيكون عليهما أن يتجوَّلا فيها إلى الأبدِ دون هدف.
وفي ربيع العام ١٩٩٤ بعد ذلك، حين بدا أنَّ الأمورَ لا يُمكن أن تسوءَ أكثرَ من ذلك، ظهرَت رسالةُ البريد الإلكتروني التاليةُ على شاشات الكمبيوتر في جميع أرجاء العالم:
التاريخ: ٣ أبريل ١٩٩٤
الموضوع: فيرما مجددًا!
كان نعوم إلكيز هو بروفيسور هارفارد الذي اكتشفَ قبل ذلك عام ١٩٨٨ مثالًا مضادًّا لحدسية أويلر؛ مثبِتًا بذلك خطأَها:
ويبدو الآن أنه اكتشف مثالًا مُضادًّا لمبرهنة فيرما الأخيرة، مُثبِتًا بذلك خطأَها أيضًا. كانت تلك ضربةً قاضية لوايلز؛ فالسببُ في عدم تمكُّنِه من إصلاحِ البرهان هو أنَّ الخطأَ المزعوم نتيجةٌ مباشرة لخطأ المبرهنة. كانت هذه الضربةُ أشدَّ وطأةً على المجتمع الرياضيِّ بصفة عامة؛ لأنه إذا كانت مبرهنةُ فيرما الأخيرةُ خاطئةً، فقد أثبتَ فراي بالفعل أنَّ هذا سيُؤدِّي إلى معادلة إهليلجية «غير» نمَطية، وهو ما يتَعارضُ مباشرةً مع حَدْسية تانياما-شيمورا. لم يجد إلكيز مثالًا مُضادًّا لمبرهنةِ فيرما الأخيرة فحَسْب، بل وجد أيضًا بطريقةٍ غيرِ مباشرة، مثالًا مضادًّا لحدسية تانياما-شيمورا.
كان موتُ حدسية تانياما-شيمورا ليُخلِّف تداعياتٍ مدمِّرةً في مجال نظرية الأعداد برُمَّتِه؛ إذ افترض علماءُ الرياضيات صحَّتَها ضِمنيًّا على مدى عقدَين من الزمان. وقد ورَد في الفصل الخامس أنَّ علماء الرياضيَّات كتَبوا عشَرات البراهين التي بدأَت بجملة «بافتراض صحة حدسيةِ تانياما-شيمورا» لكنَّ إلكيز أثبتَ الآن خطأَ هذا الافتراض، وانهارت هذه البراهينُ كلُّها في وقتٍ واحد. بدأ علماء الرياضيات على الفور في المطالبةِ بالمزيدِ من المعلومات، وانهالوا على إلكيز بالأسئلة، لكنَّهم لم يتلقَّوْا أيَّ إجابة ولا تفسيرٍ يوضح السببَ في بقائه متكتِّمًا. لم يتمكَّن أحدٌ حتى مِن الحصول على التفاصيل الدقيقة للمثال المضاد.
بعد يومٍ أو اثنين من الاهتياج، ألقى بعضُ علماء الرياضيات نظرةً ثانية على رسالة البريد الإلكتروني وبدَءُوا يُدركون أنه بالرغم من أنَّ الرسالةَ مؤرَّخةٌ في معظم الحالات بتاريخ ٢ أبريل أو ٣ أبريل، فقد كان ذلك نتيجةً لتلقِّيها من طرَفٍ ثانٍ أو ثالث. وكانت الرسالة الأصليةُ بتاريخ ١ أبريل. لم تكن الرسالة سوى خدعةٍ خبيثة من تنفيذِ عالِم نظرية الأعداد الكنَدي هنري دارمون. كانت الرسالةُ الخادعة درسًا مُلائمًا لمروِّجي الشائعات عن فيرما، ولوهلةٍ من الزمن، تُرِكت المبرهنةُ الأخيرة، وتُرِك وايلز وتايلور والبرهانُ المحطَّم في سلام.
لم يُحرِز وايلز وتايلور تقدُّمًا في ذلك الصيف. وبعد ثماني سنواتٍ من الجهد المتواصِل، وبعد أن كانت المبرهنةُ هوَسَه على مدى حياتِه بأكملها، كان وايلز مستعدًّا للاعتراف بالهزيمة. أخبر تايلور أنه لا يرى أيَّ سبب للاستمرار في محاولاتهما لإصلاح البرهان. وكان تايلور قد خطَّط بالفعل لقضاء سبتمبر في برينستون قبل العودة إلى كامبريدج؛ لذا فقد اقترحَ بالرغم من قُنوط وايلز، أن يستمرَّا لشهرٍ آخَر. وإذا لم يكن ثَمَّة ما يدلُّ على إصلاح البرهان بنهاية سبتمبر، فسوف يكفَّان عن المحاوَلة، ويُقرِّان بفشَلِهما عَلنًا، وينشران البرهانَ المعيب كي يُتيحا للآخَرين الفرصةَ لدراسته.
(٣) هدية عيد الميلاد
بالرغم من أنَّ الفشلَ قد بدا مصيرَ معركةِ وايلز مع أصعبِ مسألةٍ رياضية في العالم، كان باستطاعة وايلز أن ينظر إلى السنوات السبع الماضية من عمره ويشعرَ بالاطمئنان لمعرفته بأنَّ الجزءَ الأكبر من عمله لا يزال صالحًا. فأوَّلًا، كان استخدامُ وايلز لمجموعاتِ جالوا قد منَح الجميعَ نظرةً ثاقبة جديدة للمسألة. لقد أثبتَ أنَّ العنصر الأول في جميعِ المعادلات الإهليلجية، يُمكن أن يقترنَ بالعنصر الأول في أحدِ الأشكال النمَطية. إذن كان التحدِّي هو إثباتَ أنه إذا كان أحدُ عناصر المعادلة الإهليلجية نمطيًّا، فلا بد أن يكون العنصرُ الذي يَليه نمَطيًّا أيضًا، ومِن ثَمَّ تكون جميعُ العناصر نمطية.
في السنوات الوُسْطى، صارع وايلز مع مفهومِ توسيع نطاقِ البرهان. كان يُحاول إكمالَ نهجٍ استقرائيٍّ، وصارع مع نظرية إيواساوا على أملِ أن يُثبت أنه إذا وقعت قطعةُ دومينو واحدة، فستقعُ القطع جميعُها. في بادئ الأمر، بدا أنَّ نظرية إيواساوا فعالةٌ بالدرجة الكافية لإحداث تأثير الدومينو المطلوب، لكنها لم تَفِ بالتوقُّعات في النهاية. لقد كرَّس عامَين من حياته لطريق رياضيٍّ مسدود.
في صيف العام ١٩٩١، بعد عامٍ من الاكتئاب، صادف وايلز طريقةَ كوليفاجين-فلاخ، وتخلَّى عن نظرية إيواساوا لصالح هذا الأسلوبِ الجديد. وفي العام الذي يليه، أُعلِن البرهانُ في كامبريدج وأُعلِن هو بطلًا. وفي غضون شهرَين، اتضحَ أنَّ طريقة كوليفاجين-فلاخ مَعيبة، ومنذ ذلك الوقتِ والوضعُ يتحوَّل من سيِّئ إلى أسوأ. كلُّ محاولات إصلاح كوليفاجين-فلاخ قد انتهَت بالفشل.
كان عملُ وايلز بأكملِه فيما عدا المرحلة الأخيرة التي تتضمَّن طريقة كوليفاجين-فلاخ، لا يزال جديرًا بما بُذِل فيه. ربما لم يُثبِت حدسية تانياما-شيمورا أو مبرهنةَ فيرما الأخيرة، لكنه قدَّم للرياضيِّين على أي حالٍ مجموعةً جديدة بأكملها من الأساليب والاستراتيجيات التي يُمكِنُهم استخدامُها لإثبات مبرهنات أخرى. لم يكن فشلُ وايلز مُخزيًا، وكان قد بدأ يتقبَّلُ احتمالَ الهزيمة.
وعلى سبيل التعزية، كان يرغبُ على الأقل في معرفة سببِ فشله. بينما ظلَّ تايلور يُعيد استكشاف الطرقِ البديلة ويُعيد دراستها، قرر وايلز أن يقضيَ سبتمبر في إلقاء نظرةٍ أخيرة على هيكل طريقة كوليفاجين-فلاخ؛ ليُحاول معرفةَ السبب في عدم نجاحها بالتحديد. يتذكر وايلز هذه الأيامَ الأخيرة المصيرية بوضوحٍ شديد: «جلستُ إلى مكتبي صباح يوم الإثنين الموافق التاسع عشر من سبتمبر؛ لأفحصَ طريقة كوليفاجين-فلاخ. وليس ذلك لأنني كنت أعتقدُ أنَّ بوسعي تطبيقَها على النحو الصحيح، لكنني رأيت أنني أستطيعُ تفسير السبب في عدم نجاحها على الأقل. ظننتُ أنني أتمسَّك بقشة، لكنني أردتُ أن أُطمئِنَ نفسي. وفجأةً، وعلى نحوٍ غيرِ متوقَّع تمامًا، خطرَ لي ذلك التجلِّي المذهل. لقد أدركتُ أنه بالرغم من أنَّ طريقةَ كوليفاجين-فلاخ لا تعمل على نحوٍ كامل، فقد كانت هي كلَّ ما أحتاجُ إليه لإنجاح نظرية إيواساوا الأصلية. أدركتُ أنَّ لديَّ من طريقة كوليفاجين-فلاخ ما يكفي لإنجاحِ طريقتي الأصلية؛ لمعالجة المسألةِ التي توصلتُ إليها منذ ثلاثِ سنوات. وبهذا، فمِن رمادِ كوليفاجين-فلاخ، ظهرَت الإجابةُ الحقيقية للمشكلة.»
كانت نظرية إيواساوا وحدها غيرَ كافية. وكانت طريقةُ كوليفاجين-فلاخ وحدها غيرَ كافية أيضًا. غير أنهما معًا تُكمِل إحداهما الأخرى على نحوٍ مثالي. لقد كانت لحظةَ إلهامٍ لن ينساها وايلز أبدًا. وحين سرَد هذه الذكرياتِ كانت الذِّكرى مؤثرةً للغاية، حتى إنَّ عينَيه قد ابتلَّتا بالدموع: «لقد كان جميلًا بدرجةٍ لا توصف، كان بسيطًا جدًّا وأنيقًا جدًّا. لم أستطع أن أفهمَ كيف أنني غفلتُ عنه وظللتُ أُحدِّق فيه في غيرِ تصديق على مدى عشرينَ دقيقة. رُحت أتجوَّل في أرجاء القسم على مدى اليوم بعد ذلك، ثم أعودُ إلى مكتبي لأنظرَ ما إذا كان لا يزال موجودًا، أو لا. كان لا يزال موجودًا. لم أستطع تمالُكَ نفسي؛ كنت في غاية الحماس. لقد كانت تلك هي اللحظةَ الأهمَّ في حياتي العمَلية. ما من شيء سأقوم به بعد ذلك سيَعْني لي بمثلِ هذا القَدْر.»
لم يكن هذا تحقيقًا لحُلم الطفولة وثمرة ثماني سنواتٍ من المجهود الجادِّ فحَسْب، لكن بعدَ أن دُفِع وايلز إلى حافة الاستسلام، كان عليه أن يُقاوِمَ ليُثبِتَ براعتَه للعالم مرةً أخرى. كانت الشهورُ الأربعة عشر الأخيرة هي الأكثرَ إيلامًا ومهانةً وإحباطًا في حياته العمَلية في الرياضيات. والآن أنهت فكرةٌ بارعةٌ معاناتَه.
«في الليلة الأولى، عُدتُ إلى المنزل وأجَّلتُ القرار بشأنه إلى الغد. راجعتُه مرةً أخرى في الصباح، وبحلول الحادية عشرة، كنتُ قد اكتفيتُ ونزلت إلى الطابَقِ السفلي وقلتُ لزوجتي: «لقد وجَدتُه! أعتقد أنني قد وجدته.» كان ذلك غيرَ متوقَّعٍ على الإطلاق، حتى إنها ظنَّت أنني أتحدثُ عن إحدى دُمى الأطفال أو شيءٍ من هذا القبيل؛ فقالت: «ماذا وجدتَ؟» قلت: «لقد أصلحتُ البرهان. لقد وجَدتُه».»
في الشهر التالي، تمكَّن وايلز من الوفاء بالوعد الذي لم يتمكَّن من الوفاء به في العام السابق. «كان عيدُ ميلاد نادا يقترب من جديد، وتذكَّرتُ أنني لم أتمكَّنْ في المرة السابقة من تقديم الهدية التي أرادَتْها. أما في هذه المرة، فبعدَ أن تأخرتُ نصفَ دقيقةٍ على عَشائنا في ليلةِ عيد ميلادها، تمكَّنتُ من إعطائها المخطوطةَ كاملة. أعتقد أنها أحبَّت تلك الهدية أكثرَ مما أحبت أيَّ هديةٍ أخرى قدَّمتُها إليها.»
الموضوع: تحديث عن مبرهنة فيرما الأخيرة
التاريخ: ٢٥ أكتوبر ١٩٩٤، ١١ : ٠٤ : ١١
الخواصُّ النظرية الحَلْقية لأجزاء محدَّدة من جبر هيكه.
تُعلن المخطوطةُ الأولى (الطويلة)، بُرهانًا لمبرهنة فيرما الأخيرة، إضافةً إلى بعضِ القضايا الأخرى، وذلك بالاستنادِ إلى المخطوطة الثانية (القصيرة) في خطوةٍ واحدة أساسية.
ومِثلَما يعرف معظمُكم، اتضح أنَّ الحُجةَ المنطقية التي وصَفَها وايلز في محاضراته بكامبريدج تتضمَّن ثغرةً خطيرة، وهي تركيبُ أحدِ أنظمة أويلر. وبعد أن حاولَ وايلز إصلاحَ ذلك التركيبِ دون أن ينجحَ في ذلك، اتجه إلى نهجٍ مختلِف كان قد جرَّبَه قبل ذلك ثم تخلَّى عنه لصالحِ فكرة نظام أويلر. لقد تمكَّن من إكمال برهانِه بِناءً على الفرضيةِ القائلة بأنَّ بعضَ الأجزاء المحدَّدة من جبر هيكه هي تقاطُعات مَحليَّة مكتمِلة. تردُ هذه الفكرةُ مع الأفكار الأخرى التي وصفَها وايلز في محاضراته بكامبريدج في المخطوطةِ الأولى. ويُثبت وايلز وتايلور معًا في المخطوطة الثانية، الخاصيةَ الضرورية لجبر هيكه.
تأتي الحُجة المنطقية في هيكلٍ عامٍّ مشابِهٍ لذلك الذي وصفَه وايلز في كامبريدج. ويبدو أنَّ النهجَ الجديد أبسطُ من النهجِ الأول كثيرًا، وأقصرُ منه؛ بسبب حذف نظام أويلر. (والواقع أنَّه بعد الاطِّلاع على المخطوطتَين، أتى فولتينجز بنسخةٍ أكثرَ وأكثر تبسيطًا لذلك الجزءِ من الحُجَّة المنطقية.)
وُزِّعَت نُسَخٌ من هاتين المخطوطتين على عددٍ قليل من الأشخاص لبضعةِ أسابيع (في بعض الحالات). وبالرغم من أنَّ الحِكْمة تدعو إلى تَوخِّي الحذر مدَّةً أطولَ؛ فثمة ما يدعو إلى التفاؤل بكلِّ تأكيد.