العلم نشاطٌ بشري وثقافةٌ اجتماعية
ظل الإنسان أحقابًا طويلة يظن أن مهمته هي فك رموز أو شفرة العالم. وقضى قرونًا يحُل الرموز أو الشفرة عن طريق الإحالة؛ أي خارج الذات العاقلة، وهو أسلوبٌ لا عقلاني، ولكن تراكم لديه ومن خلال نشاطه مع الحياة رصيدٌ واسع من المعارف المتفرِّقة التي لم يضعها في نسقٍ أو أنساقٍ متكاملة. ولقد تراكمَت الأساسيات الأولى للعلم في الشرق؛ مصر وما بين النهرَين والهند والصين، ثم تلقَّفها الإغريق بفعل التلاقُح الثقافي، وصاغوا هذا التراث في نسقٍ نظريٍّ متجانس. وكانت البداية أولًا في محاولة استخدام الرياضيات أداةً أو لغةً للتعبير، وثانيًا في تحديد قواعد حركة الفكر وتجريد المفاهيم، وبيان معيار الصواب والخطأ عند الحكم على الحقيقة المنشودة.
وليس العلم مجرَّد نسقٍ معرفي، وإلا انفصل عن الواقع وتحوَّل إلى أيديولوجيا وفقد ديناميته، وإنما العلم نشاطٌ معرفي إبداعي يُنتج معرفةً جديدة دائمًا وأبدًا. والنشاط المعرفي وإمكاناته ونجاحه وطابعه وتوجُّهاته يعتمد اعتمادًا كبيرًا على ظروف نشأة المعرفة، بما في ذلك ثقافة المجتمع المعني التي تحدِّد الإدراك الحسي العام للواقع المميِّز لعصرٍ تاريخي بذاته.
فالعلم لا يمكن أن يظهر إلا في مجتمعٍ أنجز مستوًى معينًا من التطور الاجتماعي الاقتصادي تتولَّد عنه بحكم هذا التطوُّر حاجةٌ متجددة إلى المعرفة العلمية، وينشأ في كنف ثقافةٍ من نوعٍ محدَّد، ثقافة يكون الفكر العلمي والنهج العلمي في معالجة الواقع ربيبًا لها؛ أي تلده وتنمِّيه، ثقافة تهيِّئ الظروف للنشاط المعرفي. أو لنقُل بعبارةٍ أخرى إن الجذور الاجتماعية للمعرفة العلمية يمكن تتبُّعها في الممارسة المادية للإنسان الاجتماعي؛ إذ ليست أي ثقافةٍ اجتماعيةٍ يمكنها أن تُنتِج علمًا؛ فكم من ثقافاتٍ في التاريخ البشري عاشت بغير علم بالمعنى النسقي، والناس هنا يسترشدون بمعارفَ خبرية ووعيٍ يومي، ويكونون كما يقول جاستون باشلار «مستهلكي تقنيات»؛ لهذا فإن المعرفة العلمية يخلقها ويبدعها شعبٌ له ثقافةٌ متميزة، وتنشأ هذه المعرفة وتنمو وتزدهر على قاعدةٍ ثقافية مناظرة.
العقلية العلمية هي العقلية الناقدة للمعرفة لا المؤمنة بالمعرفة إيمانَ تسليم، بمعنى أنها عقليةٌ باحثة عن الأسباب، ملتزمة بقواعد التفكير، ساعية إلى التفسير، تعتمد على العقل دون النقل، تُبدع قبل أن تتلقَّى؛ ولذلك فإن العقلية العلمية تخلق إشكاليتها مع لحظة وجودها؛ إذ مع بداية ممارسة العقلية العلمية لنشاطها تبدأ مشكلةُ محاولة المرء أن يفهم ما هي المعرفة، والعلاقة المعرفية بين الذات والموضوع، وما هي خصائص ذلك النتاج المتميز للنشاط البشري الذي نُسمِّيه معرفة، وما هي حركته واستمراريته ونصيبه من الصدق والخطأ وَفْق أحكام العقل، أو بمعنى آخر كيف يُورِد الإنسانُ البرهانَ العقلي على صدق الفكر وتفسير الواقع المُدرَك. وتظهر هذه الأسئلة بالضرورة مع أول محاولةٍ لتقديم تفسيرٍ نظريٍّ للواقع والحقيقة ومكان الإنسان في العالم. ولقد كان الاستدلال العقلي هو الركيزة الأولى للنشاط المعرفي العلمي ثم التجربة بعد ذلك في العصر الحديث.
ويجري النشاط المعرفي العلمي ضمن أُطرٍ لها دور المحدِّدات الطبيعة ومدى هذا النشاط نذكر منها إطار أو سياق النظرة إلى العالم. فالمعرفة العلمية تُقسِّم الواقع المحيط بالإنسان. وتُفسِّر جوانب هذا الواقع. والشروط الأساسية للمعرفة العلمية تتغير، وأقسام الواقع التي يفرضها العلم أو يقتبسها من مكانٍ آخر تتغيَّر أيضًا، وتُعطي معالم وحدودًا جديدة لما يعتزم تفسيره. وفي كل حالةٍ على حدة تكون لهذه الوحدة أو تلك من وحدات المعرفة العلمية أهميةٌ ودلالةٌ بالنسبة للنظرة إلى العالم. وتخضع الرابطة المشتركة بين المعرفة العلمية وبين النظرة إلى العالم للمعايير الثقافية الاجتماعية.
والسمة المميِّزة اللافتة للنظر اليوم بالنسبة للعلم أو النشاط المعرفي العلمي أنه أصبح منظمًا اجتماعيًّا، لم يعُد ثمرة جهد أفرادٍ أو مجموعاتٍ منفصلة، بل أضحى قطاعًا هامًّا وحاسمًا في النشاط الاجتماعي، منظمًا كمؤسسةٍ اجتماعية، وبالتالي مخططًا إلى درجةٍ عالية. إن الخيال والصدفة والإبداع الفردي، وهي صفاتٌ كانت جميعها خصائصَ هامة في المراحل الأولى لتطوُّر العلم، ويقبلها الإطار الاجتماعي قديمًا، أضحت هامشيةً الآن؛ إذ أصبح النشاط البحثي حرفةً تجري ممارستها داخل مؤسسات عامةٍ أو خاصة، ويجري البحث وَفْق مشروعاتٍ محددة تدفع إليها دوافعُ ليست بالضرورة علميةً خالصة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ولهذا أضحى للمؤسسات العلمية دورها وثقلها بالتالي على النشاط الاجتماعي.
- (١)
نشأة العلم وتطوره في ارتباط بالتطور التاريخي للمجتمع.
- (٢)
الطبيعة المنظمة اجتماعيًّا للبحث العلمي، أو كما يُوصف الآن بالمؤسسة العلمية أو مؤسسات البحث العلمي.
- (٣)
وجود فرقٍ اجتماعيةٍ خاصة وأنماطٍ خاصة من الأفراد عملها النشاط العلمي والتفاعل مع بعضها ومع الفرق الاجتماعية الأخرى.
- (٤)
تفرُّد الأهداف والوظائف الاجتماعية والنتائج المفاهيمية العامة ومناهج النشاط العلمي، والربط بين هذا كله وبين النظم السيميوطيقية؛ أي النظم الإشارية للغة الاصطلاحية.
ولهذا أصبح هَمُّ الباحث العلمي الارتفاع بالمعرفة إلى مستوى التنظير. وهذا التأكيد على النظرية يعني أن الرياضيات أو المنطق الرياضي يُشكِّل جزءًا واحدًا ومتكاملًا مع الوصف الفعلي للظاهرة أو لموضوع المعرفة؛ ومن ثَم أضحى الوصف وصف نماذج للموضوع الذي يتناوله الباحث أكثر منه وصفًا لوقائع. وهدف النظرية هنا ليس فقط الصمود أمام محكَّات التفنيد، بل أيضًا تحقيق الاتساق مع النظريات الأخرى، وتقديم نظرةٍ شاملةٍ إلى الطبيعة تكون نبراسًا وهاديًا للإنسان في حياته. ولا سبيل إلى الحديث عن الاتساق ما لم تكن اللغة الرياضية هي اللغة الفعلية التي نبني بها النظرية وليست مجرد أداة ترجمةٍ وسيطة.
يُضاف إلى هذا أن العلم أصبح الآن قوةً إنتاجيه مباشرة وعاملًا فعَّالًا في تغيير العالم والطبيعة والإنسان والمجتمع. وهو ما يعني أن العلم بات يعتمد بالإضافة إلى التكنولوجيا على الإنسان ذاته من حيث تطوير قدراته الذهنية والإبداعية وتنميتها بغير حدودٍ، وزيادة فعالية فكره وخلق الظروف المادية والروحية لتطوُّره المتكامل والشامل.