النماذج والثورة العلمية
لُبُّ نظرية توماس كُون هو فكرة «النموذج الإرشادي الذي يُناظر المخطَّطات عند بياجيه ودورها في نمو المعرفة»؛ ولهذا انصبَّ أكثر الهجوم ضد نظرية توماس كُون على مفهوم النموذج الإرشادي والثورة العلمية.
ومن تفسيرات كُون لمفهوم النموذج الإرشادي أنه نظريةٌ علميةٌ مقترنة بمثال عن تطبيقٍ ناجحٍ ومثير. وأهم النماذج الإرشادية هي تلك التي تنشأ عنها مجالات بحثٍ علمي؛ نموذج نيوتن تولَّدَت عنه ميكانيكا الأجرام السماوية. وينشئ النموذج الإرشادي مجالًا يكون محصَّنًا لدرجةٍ كبيرة ضد التزييف، ولا يُمكِن الإطاحة به إلا عن طريق نموذجٍ إرشاديٍّ بديل. وما إن يكتمل النموذج الإرشادي ويتحدد مجال البحث حتى تبدأ فترة يُسمِّيها كُون «العلم القياسي»، وهي فترة «حل الألغاز».
ويوضِّح كُون ذلك قائلًا: «إن نشوء تخصُّصٍ علميٍّ ناضج يتحدَّد عادةً وبشكلٍ أساسي من خلال مجموعة المفاهيم والقوانين والنظريات والتقنيات الذاتية المتكاملة في وحدة مع بعضها، والتي يكتسبها الباحث من خلال تعليمه المهني التخصُّصي. وإن هذا النسيج الذي ثبت لاختبار الزمن — نسيج المعتقَد والتوقُّعات — يخبر الباحث العلمي بماهية صورة العالم، ويحدِّد له في ذات الوقت المشكلات التي تزال بحاجة إلى اهتمامٍ مهني.
وشيئًا فشيئًا يتجه العلم إلى الشذوذ. وإن أولئك الذين يسعَون إلى تطويعه للقانون سوف يتزايد الخلاف بينهم بشأن معنى المفاهيم والنظريات التي ظلُّوا يؤمنون بها معًا زمنًا طويلًا دون إدراك لما فيها من لبسٍ وغموض. ويبدأ عددٌ قليلٌ منهم في التحليل النقدي لنسيج الاعتقاد الذي وصل بالمجتمع العلمي إلى المأزق الراهن.
وبينما أكَّد توماس كُون وجود نموذجٍ إرشاديٍّ واحدٍ سائد ومهيمن ذهب آخرون إلى القول بالتعدُّدية؛ أي كثرة الحلول والمناهج. من هؤلاء جيمس كلارك ماكسويل؛ إذ رأى أن مشكلة تحديد الميكانيزم اللازم لبيان أنواعٍ معيَّنة من الروابط بين حركات أجزاء نسقٍ ما تُجيز وجود عددٍ لا نهائي من الحلول، وقد يكون بعضها خاطئًا أو أكثر تعقيدًا، ولكن لا بد وأنها جميعها تفي بشروط الميكانيزم بعامة. وبعدَه ذهب هنري بوانكاريه نفس المذهب؛ إذ قال بإمكانية وجود عددٍ لانهائي من الحلول لمشكلة وضع تفسيرٍ دينامي. وأكَّد أيضًا أينشتين أنه لا يُوجد تحوُّلٌ فريد من المعطيات التجريبية إلى التصوُّرات النظرية، إذ يمكن مبدئيًّا وجود مخطَّطاتٍ ذهنيةٍ متباينة في داخل الإطار الذي نفسِّر به أو نَصِف فيه المعطيات موضوع البحث.
وسبق أن أشرنا إلى وجهة نظر كارل بوبر عن التعدُّدية، ووجهة نظر فيرابند، الذي يرى أن كثرة النظريات ليست أبدًا تعبيرًا عن مرحلةِ عدمِ نضجٍ معرفي، بل هي صورةٌ صحية. وسبق أن أكَّد عالم الفيزياء الألماني لودفيج بولتسمان أن تعدُّد النماذج صحيح بالنسبة لمجالات البحث. مثال ذلك الفيزياء حيث تُوجد نظرياتٌ كثيرة ويدور بينها صراعٌ أبدي. ويقول إن المشكلاتِ مثارَ الخلاف قديمةٌ قِدَم العلم ذاته، وسوف تظل كذلك ما بقي العلم.
وقبل قرنٍ من الزمان قال العالَم الهولندي هرشل: إن أكثر الأمور أُلفةً في علم الفيزياء وجود نظريتَين أو أكثر تفسِّر نشأة ظاهرةٍ طبيعية. وإلى مثل هذا الرأي ذهب فلوجل في مجال علم النفس؛ إذ مايَز بين أكثر من خمس مدارسَ مُتباينةٍ خلال الفترة من ١٨٦٠–١٩٠٠م. وبات مألوفًا أن تسود في بلدانٍ مختلفةٍ مفاهيمُ مختلفةٌ في وقتٍ واحد. تجد هذا في القرن اﻟ «١٧» حين سارت أفكار ديكارت في فرنسا بينما ساد مذهب نيوتن في إنجلترا. وقال بوانكاريه في هذا الصدد قولًا يشبه ذلك؛ إذ قال: «يدرُس الإنجليز الميكانيكا كعلمٍ تجريبي بينما تدرُسها القارة الأوروبية باعتبارها إلى حدٍّ ما علمًا قياسيًّا وقبليًّا.»
ويذهب توماس كُون إلى أن تطوُّر المعرفة العلمية حركةٌ من خلال الصراع، وهو صراعٌ يجري في الزمان أو التاريخ على شكل طفراتٍ من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر إثْر أزمةٍ يواجهها العلماء، ولكن هل هذا التحوُّل أو تلك الحركة متجانسة المحتوى؟ وهل هو تحولٌ شامل للشكل والمضمون معًا؟ هنا نعود إلى ما قاله بوليكاروف في المرجع ذاته؛ إذ يبدأ بالسؤال التالي: المشكلة ما الذي يحدُث عندما ينشأ تعارُضٌ بين الفرض العلمي أو النظرية وبين معطيات التجربة؟
وهنا يُدلي توماس كُون بدَلْوه؛ إذ يُمايز بين مرحلتَين في تطوُّر العلم، (أ) مرحلة العلم القياسي الذي يتطور داخل إطار مبدأٍ مهيمنٍ أو نموذجٍ إرشادي. (ب) مرحلة الثورة العلمية؛ حيث يتم إبدال النموذج الإرشادي بآخرَ جديد. معنى هذا أن القضيةَ موضوعَ الخلاف التي يأخذ كلٌّ من بوبر ودوويم موقفًا متطرفًا مقابلًا للآخر تصبح كالآتي عند توماس كُون. تنطوي حالة العلم القياسي على تغيرات من ج إلى ج١ (داخل إطار نفس النموذج الإرشادي)، أما التحوُّل من ج١ إلى د، فهو سمة الثورات العلمية؛ لأنه انتقالٌ كاملٌ شامل من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر.
وتصبح بذلك المشكلة متى يمكن القول بدقةٍ إن الفارق بين مفهومَين أو نظريتَين، أو بين مفهومٍ أول، ومفهومٍ معدَّل هو فارقٌ غيرُ ذي دلالةٍ أو غيرُ هامٍّ أو جزئي؟ ومتى يكون فارقًا هامًّا أو كليًّا شاملًا؟ وفي أي حالةٍ نعتبر المفاهيم موضوع الدراسة هي تعديلات (أي من ج إلى ج١) أُدخلَت على ذات المفاهيم، أو أنها مفاهيمُ جديدةٌ تمامًا ومختلفةٌ جذريًّا (أي ج، د).
هنا يستطرد بوليكاروف ليُكمِل ما ذهب إليه توماس كُون ويقول: للإجابة على هذه الأسئلة يتعيَّن توضيح بعض المسائل بالنسبة لبِنية ومحتوى النظريات الفيزيائية؛ أي الشكل والمضمون وسبل التحقُّق التجريبي من النتائج. ويُبيِّن أسس تصنيف النظريات على أساس محتوى المفاهيم (مفاهيم مجردة أم مفاهيم عيانية)، والأداة المنطقية والرياضية المستخدَمة، ثم السياق التاريخي للمفاهيم. ويضيف قائلًا: إن التعديل في إحدى النظريات يحدُث بوسائلَ مختلفة، ويتناول أجزاءً مختلفة، أو يجري على مستوياتٍ مختلفة؛ مستوى المعنى الفيزيائي، أو مستوى الأداة الرياضية، أو مستوى الأساس المنطقي، أو مستوى التفسير الفلسفي، ثم إنه لا بد من النظر في طبيعة التغير الحادث؛ ذلك لأن ما يبدو في إطارٍ ضيقٍ محدود تعديلًا جذريًّا من ج إلى د قد يكون توسُّعًا طبيعيًّا للنظرية القائمة من زاويةٍ أخرى أكثر شمولًا؛ فالميكانيكا الكلاسية تشتمل على أنساقٍ مُتباينة، ثم هناك علاوةً على ذلك ميكانيكا مختلفة المراتب (كلاسية ونسبية وكمية) وهو ما نجد له نظيرًا في الفيزياء.
لذلك فإننا حين نبحث عمَّا إذا كانت التغيُّرات التي طرأَت على مفهومٍ ما هي تغيُّراتٌ داخل المفهوم ذاته أم أنها تؤدي إلى رفضه كليَّة، هنا يتعين أن نتبيَّن بادئ ذي بدءٍ ما إذا كان المفهوم المشار إليه قد صيغ صياغةً عامةً غير محددةٍ بدقة ويسمح بإمكانات متعددةٍ وتباينات في إطاره، أم أنه صيغ بحيث إن أي انحرافٍ عنه يعني إسقاطه تمامًا ونفيًا له. مثال ذلك أن التخلي عن البدهية الخامسة في الهندسة الإقليدية يعني الانتقال إلى هندسةٍ غير إقليدية، هذا بينما إبدال المدارات الدائرية بمداراتٍ إهليليجيةٍ في مذهب كوبرنيكوس عقب أبحاث كيبلر لم يكن له من معنًى سوى تقدُّم وتحسُّن نظام مركزية الشمس. وواقع الأمر أن المفاهيم العلمية يمكن أن تشتمل على عناصرَ ومكوِّناتٍ قد يكون تغييرها يعني تحوُّلًا تامًّا عنها وبعضها غير كذلك.
ولهذا فإن الانتقال إلى مستوًى أعمقَ يقضي بأن ندرُس الاختلاف بين مفهومَين ونعتبره اختلافًا جوهريًّا إذا انصبَّ على الفكرة الرئيسية والمبدأ الأساسي أو المسلَّمة والنسق المفاهيمي والمشكلات والمناهج؛ أي عندما نُعيد النظر في الأسس الفيزيقية والمنطقية والفلسفية لمفهومٍ ما، ويفضي بنا ذلك كله إلى تغييرٍ في أداة الاستقراء مع نتائج أو تفسيراتٍ جديدة، ومن ثَم إلى نظريةٍ مغايرة.
ولهذا يرفض كولنز وبينش ما ذهب إليه كُون حين شابه بين الثورة العلمية والثورة السياسية وإن سلَّما معه بمدلول الأثَر النهائي؛ إذ أوضحا أنه في السياسة يمكن التنبُّؤ أو التحدُّث عن عملٍ ثوريٍّ محتملٍ ولكن في العلم لا يمكن؛ ذلك لأن الثورة العلمية لا يتمُّ التخطيط لها مسبقًا عن وعيٍ بل هي نتيجة أبحاثٍ تجري اطرادًا. إن الثورات العلمية نعرفها بعد وقوعها، ولكن في السياسة يمكن التحدُّث مقدَّمًا بمعنًى من المعاني عن أعمالٍ ثوريةٍ يحاول البعض اتخاذها قد تفشل أو تنجح. ويتحدَّد ذلك في ضوء خُطط ونوايا أصحابها، وهو ما لا يمكن أن تجد له مثيلًا في الحياة العلمية. كذلك لا يمكن أن نقول إن هناك علماء يُعدُّون لثورةٍ وآخرون يتنكَّبونها عامدين. هذا على الرغم من أن هذا الرأي ينطوي على قدْرٍ من التجريد؛ لأن العلم كما أشرنا له خططُه ومراميه ذات الأبعاد الاجتماعية والمدلول الثوري.
وإذا كان توماس كُون يُماثل بين الثورتَين العلمية والسياسية إلَّا أنه يفكِّر في إطار نموذجٍ تقدميٍّ حتمي؛ حيث في السياسة الثورة اختيار واختيارٌ حتمي، ويمكن التنبُّؤ مسبقًا بمضمون الثورة السياسية المزعومة، ولكن الثورة العلمية لا يمكن التنبُّؤ بها شكلًا ومضمونًا؛ لذلك فإن أفضل طريقةٍ للحكم على الثورة العلمية أن يأتي الحكم بعد وقوعها؛ أي التاريخ.
- أولًا: أن تكون أفكار هذا الفريق في صراعٍ ضد أفكار العلم التقليدي.
- ثانيًا: أن يكون الفريق «الثوري» مُشتغلًا بالعلم التقليدي وأفكار أعضائه «علمية»؛ ذلك لأن الثورة تكون من داخل البِنية ذاتها لا من خارج، وأن تكون أفكار العلماء منتميةً بدايةً لهذا الإطار الذي تعتزم أفكارهم الجديدة الثورة عليه، ثم إن هذا لا ينفي، بل يوجب، البحث في التغيُّرات المعرفية الاجتماعية المقترنة بالتغيُّر في إطار المعنى.