اللاقياسية ومشكلة الاتصال
استطاع كُون أن يلفت الأنظار في نظريته إلى سلسلةٍ كاملةٍ من المشكلات التي كانت في الظل ولكنها واقعيةٌ وجوهرية لفهم بِنية وظائف المعرفة العلمية، ولفهم العملية التاريخية لتطوُّر العلم. ومن القضايا التي أثارت جدالًا حادًّا مع اتهامه بالذاتية والنسبية مشكلة الانتقال من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر؛ أي الثورة العلمية، والذي قرَّر أنها تعني الانتقال إلى عالمٍ مُغايرٍ إدراكيًّا ومفاهيميًّا غير العالم الذي يعمل فيه الباحث. ويُقرِّر كُون أن ما يشاهده الباحث العلمي في تجربته إنما يُحدِّده محتوى النموذج الإرشادي النظري. وحيث إن النماذج الإرشادية هي كلياتٌ متكاملةٌ مثلها مثل المدركات الجشطلتية (أي التحول الكلي والكامل لمجال الإدراك الحسي دفعةً واحدة)؛ لذا فإنها تختلف عن بعضها ولا تُوجد نقلاتٌ بين بعضها والبعض؛ ولذلك يتعذَّر الاتصال والتفاهُم بين أشياع كل فريقٍ من أنصار هذا النموذج أو ذاك؛ لأن كل فريقٍ يتحدَّث لغةً مختلفةً ويرى عالمًا مغايرًا. حقًّا إن النموذج الإرشادي الجديد قد يستخدم نفس مصطلحات النموذج الإرشادي القديم، ويشتمل على غالبية القوانين الرمزية القديمة … إلخ، ولكن كل هذا يأخذ معنًى كيفيًّا جديدًا في إطار الكل الجديد ذي الدلالة المغايرة.
واضحٌ تمامًا تأثُّرهما هنا بفكر وليم جيمس عن أن الوعي فيضٌ من الإحساسات نختار بإرادتنا منها ما يتفق مع غاياتنا. وواضحٌ كذلك حسب فرض النسبية اللغوية أن الصور اللغوية المختلفة عن العالم يمكن أن تصنع أبنيةً فئويةً مختلفة؛ ومن ثَم تؤثِّر على معايير التفكير، كما تؤثِّر بالواسطة على معايير سلوك مجتمعٍ معيَّن وليكن المجتمع العلمي مثلًا، ولكن هل معنى هذا أن مجتمعات العلماء التي تُناصر نماذجَ إرشاديةً مختلفة تعيش في عوالمَ مختلفةٍ ولا يمكنها أن تتواصل معًا بصورةٍ كافية؟
وكل هذا يسمح بالمقارنة الفعلية وتقييم النماذج المختلفة.
إن ظهور نموذجٍ إرشاديٍّ جديد يغيِّر يقينًا التفسير السيمانطيقي لعدد من المفاهيم العلمية. بيد أنه لا سبيل إلى أن نفهم هذا التغيُّر كإبدالٍ كاملٍ للمعنى القديم. إننا لو سلَّمنا بوجود أفكارٍ أساسيةٍ مشتركة في تاريخ المعرفة فإن هذا النوع من الإبدال يكون مستحيلًا؛ ولهذا كان طبيعيًّا أن يفهم كُون التقدُّم بمعنًى آخر ليس فيه اتصال. علاوةً على هذا فإن التغيُّرات لا تشمل جميع المفاهيم، وبوجهٍ عامٍّ فإن ظهور مفهومٍ معينٍ في سياقٍ جديد ليس هو الذي يستلزم إبدال معنًى بآخر، وإلا تعذَّر علينا الاتصال وفهم بعضنا بعضًا؛ حيث إن اللغة تتضمَّن مِن بين ما تتضمَّن توليد كلمات لم تكن موجودة قبلًا؛ فإن تفسير الكتلة في النظرية النسبية يختلف من نواحٍ هامةٍ كثيرة عن تفسير الميكانيكا الكلاسية لها، ولكن لا يلزم عن هذا أن نموذجَين إرشاديَّين يستخدمان نفس الكلمة سوف يعملان بمفاهيمَ مختلفةٍ كما يؤكِّد لنا كوون؛ فإن أنساق الموضوعات التي يُشير إليها هذان النموذجان تكون أحيانًا مشتركةً بين النموذجَين. ويجب ألا ننسى أن النموذج الجديد لا يتم إقراره بعد كل شيءٍ إلا إذا فسَّر لنا لماذا النموذج القديم الذي استُبدل استطاع أن يعمل بنجاح حتى لحظةٍ معيَّنة في نطاقٍ مشترك بين الاثنَين.
هذا التفسير لا يكون ميسورًا إلا إذا وُجد تفسيرٌ هادفٌ له معنًى يُفسِّر النموذج القديم. وهو ما يكفُلُه واقعُ أن بعض الوحدات ذات المعنى، وبعض النواحي المنفصلة في النموذج الإرشادي القديم مغمورة تمامًا، أو تشكِّل جانبًا من بِنية المحتوى الجديد المعبِّر عن النموذج الجديد. إن غلطة كُون فيما يرى ليكتورسكي نابعةٌ من فشله في التمييز بين النموذج الإرشادي كبِنيةٍ واحدةٍ متكاملة وبين الأنساق السيمانطيقية المنفصلة التي تُشكِّل جزءًا منه؛ إذ ليس لكل نموذجٍ إرشاديٍّ نسقًا سيمانطيقيًّا منفصلًا ومستقلًّا؛ ففي رأي كُون أن الإطاحة بنموذجٍ إرشاديٍّ قديم هي محاولةٌ لنبذ جميع أنساق المعاني القديمة نبذًا تامًّا. وواقع الأمر أن اندماج الأنساق السيمانطيقية لأحد النماذج الإرشادية اندماجًا شاملًا في البِنية المتكاملة التي يؤلِّفها النموذج الإرشادي الجديد هو الذي يجعل التفاهم المتبادَل والاتصال الحقيقي أمرًا ممكنًا بين ممثِّلي النموذجَين على مستوًى ما بين النماذج. إن وجود خلفيةٍ ثابتةٍ ومشتركة من المعرفة تسمح لنا بالمقارنة بين النماذج المختلفة، كما تسمح لنا بالاختيار بينها.
لهذا السبب فإن العالم الذي يدرُس تاريخ الفيزياء لا يمكنه فقط أن يفهم النموذج الإرشادي النيوتوني بل والأرسطي كذلك. والبعض غير صحيحٍ؛ إذ لو تخيَّلنا عالمًا في عصر أرسطو، أو عالمًا يحمل إرث هذا العصر دون سواه، فإنه يتعذَّر عليه فهم نماذج ونظريات المحدَثين ما لم يدرُسها ويعايشها. وهذه صورةٌ تمثِّل تقدُّم إطار الرؤية والباحث العلمي، ولكن يبدو أن كُون غلَب عليه النهجُ النفسي الذي أخذَه عن بياجيه ونظرة الجشطلت عن التحوُّل الكلي لمجال الإدراك، وهي نظرةٌ موضع جدالٍ وشك، دون أن يدرك الفارق التطوُّري الكيفي بين الطفل في مراحل تكوينه ونموه وبين البالغ الذي اكتمل نموه. ويمكن القول إنه في ضوء النظريات العلمية الحديثة يمكن للمؤرِّخ أن يرى ذلك المحتوى في النماذج الإرشادية القديمة الذي لم يُدرِكه أصحابه قديمًا. وقياسًا على ذلك نقول إن عالم النفس الذي يدرُس مراحل تكوين الأبنية الإدراكية للطفل لا يمكنه أن يرى العالم على نحوِ ما يراه الطفل.
- الأولى: هل النظرية الجديدة تفسِّر كل الظواهر التي فسَّرتها النظرية السابقة؟ أو بعبارةٍ أخرى هل تتراكم المعرفة تراكمًا آليًّا؟ أم أن النظرية الجديدة تُثبت زيف القديمة في تفسيرها للظواهر، بينما تعطينا النظرية الجديدة تفسيرًا مغايرًا تمامًا لذات الظواهر؟ وهل النظرية الجديدة قاصرةٌ على ذات الظواهر أم هناك إضافة؟ ومن ثَم حركة؟
- الثانية: هل ثمَّة وجهٌ للتوافق بين النظرية القديمة والنظرية الجديدة؟
- (أ)
أن النظرية القديمة تُمثِّل من حيث الشكل (بعيدًا عن المعنى التجريبي) حالةً خاصةً من حالات النظرية الجديدة.
- (ب)
أن يكون المعنى هو أن قضايا النظرية القديمة لا تكون صحيحةً في النظرية الجديدة فحسب، بل تحتفظ أيضًا بمعناها التجريبي (توافُق من حيث المعنى).
ويؤكِّد أمستردمسكي أن شواهد التاريخ تُثبت أن التوافق الشكلي بين النظريات قد تحقِّق في التغيرات التي تُسمَّى «ثورات»؛ ولذلك فإن مناط الأمر هو معنى «التوافُق» عند كل مفكر. والفرق بين معنى كلا السؤالَين عن (التراكُم والتوافُق) ناتجٌ عن الرأي القائل إن الحقائق العلمية ليست مجرد حقائقَ تجريبية، بل هي تفسيرات وتأويلات للظواهر الطبيعية في ضوء المعلومات والاعتقادات المسلَّم بها من قبلُ. فالظاهرة الطبيعية الواحدة يمكن أن تصبح حقيقةً علميةً أخرى في إطار مفهومٍ آخر، ويمكن إذا سلَّمنا بأن بعض التغييرات في مضمون المعرفة هي ثوراتٌ (بمعنى أنه لا يُوجد توافُق من حيث المعنى بين النظريات المتعاقبة) أفلا نكون مضطَّرين إلى التسليم بأن الانتقال من الرأي القديم إلى الجديد يتم بطريقةٍ لا عقلانيةٍ ولذلك لا يمكن تفسيره تفسيرًا عقلانيًّا.
أيًّا كان الأمر فإن مشكلة الاتصال والتغايُر في معاني المفاهيم على مدى مسار تطوُّر العلم لم تحظَ بعدُ بالدراسة الواجبة. وغنيٌّ عن البيان أن فهم الجانب الهام من المعرفة النظرية العلمية يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على حل هذه المشكلة. ويرجع الفضل في هذا إلى توماس كُون الذي ألقى أضواءً على العديد من المشكلات الأساسية وأثار بشأنها حماسة وجدالًا بالغَين.