التقدُّم والاستمرارية
يتساءل توماس كُون في الفصل الأخير من كتابه لماذا يُعتبر التقدُّم ميزةً إضافية يستأثر بها النشاط الموسوم بالعلم دون سواه؟ ويُقرِّر أن أكثر الإجابات شيوعًا على هذا السؤال أنكرتها سطور رسالته.
وواقع الأمر أن كُون يرى أن فرض صفة التقدم على النشاط العلمي هو امتدادٌ لإرثٍ ميتافيزيقيٍّ قديم يُحاول أن يُقحِم على الطبيعة أو الوجود بعامةٍ السعي صوب هدفٍ وغاية، ويرى أن معيار التقدُّم هو الحركة إلى هذا الهدف، حتى ولو قلنا إنه الحقيقة المطلقة أو الثابتة أو ما شابه ذلك التزامًا بخطةٍ مرسومةٍ مسبقًا وهدف حدَّدَته الطبيعة مُقدَّمًا.
ولعل المشكلة كما يقرِّر كُون نفسه، هي في جانب من جوانبها مشكلةٌ سيمانطيقية؛ أي تتعلق بدلالات اللغة ومعانيها؛ ولذلك نراه إذ ينفي صفة التقدُّم يقرِّر أن العلم يتطور. هناك حركةٌ تطوُّريةٌ مطردة. وثمَّة فرقٌ بين التقدم والتطور والتغير. التقدم نوعٌ من التطور الميتافيزيقي الذي يحدث في العالم الاجتماعي وله محتوًى أخلاقي. والدليل الحقيقي على التقدم لا يمكن أن نستمدَّه من العالم الطبيعي الخارجي، وإنما نستمدُّه من الواقع الداخلي للوجود الفردي والاجتماعي للإنسان. والتقدُّم غير التغيُّر؛ إذ إن التغيُّر لفظٌ عامٌّ جدًّا يدل على تعديل الحالة الراهنة دون تحديد اتجاهٍ للتغيير، وبهذا يمكن القول إن التغير خلوٌ من المحتوى الأخلاقي شأن التطوُّر والتقدُّم، لا يقترن إلا بذلك الجانب من التغيُّر الذي يحمل معنًى إيجابيًّا ومقبولًا بالنسبة للإنسان والمجتمع. وتجريد مفهوم التقدم من محتواه القيمي ضربٌ من التناقض.
ولهذا نرى توماس كُون يُؤثِر استخدام كلمة تطوُّر، ويُناظِر بين حركة المعرفة العلمية من خلال الصراع بين النماذج الإرشادية وبين الانتخاب الطبيعي في عالَم تطوُّر الكائنات الحية الذي يصل بالكائنات الحية إلى مزيدٍ من الدقة والتخصُّص في الأداء الوظيفي العضوي، دون أن يأتي ذلك التزامًا بهدفٍ حدَّدَته الطبيعية مقدَّمًا.
واضحٌ أن ما يرفضه كُون تحديدًا هو الإرث الميتافيزيقي الذي يزعُم أن الوجود يتحرك صوب هدفٍ مرسومٍ له من خارج؛ فقولنا إن العلم يتقدَّم بهذا المعنى أشبه بقول القائل إن الجسم يسقط إلى أسفل لأنه يشتاق إلى العودة إلى الأصل. ويرفض كُون علاوةً على هذا مفهوم التقدُّم الذي روَّج له فلاسفة حركة التنوير في القرن اﻟ «١٨»، ثم الفيلسوف الألماني كانط من بعدهم؛ إذ قدَّم فلاسفةُ التنوير تعريفًا عقليًّا للتقدُّم يتناسب مع أهداف حركتهم في عصرهم. وجاء كانط وانتقل بمفهوم التقدُّم من دائرة النسبية إلى العالمية. وتَحمِل المفاهيم الرئيسية في فلسفته الطابع الأخلاقي للعمل الغائي ومبدأ العالمية والشمول. والتقدُّم عند كانط يتم في إطار عملية التقدم التاريخي التطوري، ويتمثل في القضاء التدريجي على كافة القوى السلبية التي تقف في سبيل الوصول إلى الغاية النهائية للتطوُّر التاريخي. وهذه الغاية أخلاقية في جوهرها لأنها عبارةٌ عن مثلٍ أعلى شامل يتضمن الكمال الأخلاقي.
ولكن مع التسليم بهذا، هل يمكن أن نفصل بين الحركة التطوُّرية للعلم وبين أحكام القيمة بحيث نقول إن العلم يتقدم أيضًا؟ لقد أصبحَت أحكام القيمة أحد الحيثيات الأساسية للحكم على المعرفة بعد أن أضحت قيمةً إنسانيةً واجتماعية باعتبارها عاملًا فعَّالًا في تغيير العالم. لم يعُد نتاج المعرفة مجرد قضايا خبريةٍ خالصة تُعرِّفنا بما هو قائمٌ أو تعكسه لنا، بل تشير إلى اتجاه حركة، إلى الأفضل، إلى قيمةٍ إنسانيةٍ جديدة؛ ولهذا أصبح «الواجب» جزءًا من البِنية المعرفية للعلم والتزامًا اجتماعيًّا؛ إذ بدون ذلك يصبح النشاط العلمي قاصرًا على الملاحظة السلبية لتكوين العالم؛ ومن ثَم تكون دينامية حركة العلم في اتجاه الواجب والقيم المنشودة صورة من صور التقدُّم؛ إذ لا ننظر إلى العلم على أنه نشاطٌ تسجيليٌّ سلبي فحسب، بل نشاطٌ فاعل في إطار مجتمعٍ إنسانيٍّ يحقِّق أهدافًا ذات قيمةٍ تكشف عنها رؤيتنا للماضي والحاضر والمستقبل والتغيير اللازم.
معنى هذا أن ننظر إلى تقدُّم العلم باعتباره مفهومًا متعدِّد الأبعاد، تقدُّم مطَّرد للمعرفة ذاتها ومحتوى المعرفة، وتقدُّم متمثِّل في القيمة أو الواجب من أجل التغيير، وتقدُّم في وسائل البحث ومناهجه، وتقدُّم في الظروف الأساسية اللازمة للبحث العلمي سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي ومؤسسات العلم وأجهزة البحث … إلخ، وتقدُّم في اتساع نطاق الرؤية وزيادة الإمكانيات الفكرية والتجريبية، وتقدُّم في اتجاه حركة لا تقبل الانتكاس أو العكس؛ بمعنى أننا لا نكتشف أن الماضي أحقُّ وأصدقُ من الحاضر من حيث مستوى المعرفة شكلًا ومضمونًا؛ ومن ثَم يكون تأكيدًا لاطِّراد الحركة العلمية؛ فالتعاقب التاريخي للنظريات العلمية عمليةٌ مطَّردةٌ لا تقبل الانتكاس، كما يتيح لنا الحكم على الماضي والحاضر وَفْق معاييرَ مستقاةٍ من مضمون المعرفة وأدواتها.
ويناقش ستيفان أمستردمسكي آراء كُون عن تطوُّر العلم، فيتساءل قائلًا: عندما نسأل ما هو الشيء الذي يصفه كُون بالتطور تُواجهُنا مشكلةٌ محيِّرة؛ فهو إذ يتحدث عن ضرورة اتباع منهجٍ فلسفيٍّ في العلم إنما يعني العلم بصفةٍ عامة، وأن فلسفة العلم إنما تُعنى بتطور المعرفة العلمية بعامة، بيد أن كُون عندما يتحدث عن الثورات العلمية فإنه يتكلم عادةً عمَّا يحدُث في مجالات البحث المتخصصة. كذلك فإن مفهوم العلم القياسي ومفهوم النموذج الإرشادي يتصلان عنده بتطور العلوم الخاصة وليس بتطور المعرفة عامة.
ولكن لماذا لا نقول إن المشكلة هنا هي الخلفية التاريخية واللغوية لفهم معنى الاستمرارية؟ إننا نفهم الاستمرار بمعنى الاتصال التراكمي الهادف، ونحن عاجزون عن تصوُّر الاستمرار مع القطيعة ثم الوثبة دون هدفٍ مرسومٍ حدَّدَته الطبيعة ابتداء. واللغة عاجزةٌ عن تصوير ذلك؛ ومن هنا فإننا نقول بعد حدوث الوثبة إن الجديد مقطوع الصلة بالقديم. ألا يشبه هذا قولنا إن هذا الشيخ غيرُ ذلك الشاب الذي عرفناه، وكذا غير الطفل الذي شهدنا ميلاده؟ قفزاتٌ ثلاث تجعلنا لا ندرك الصلة، وحيث إننا لا ندرك الصلة فإننا ننكر الاتصال، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن الجسم الحي استهدف النمو على هذا النحو، ولكن هذا لا ينفي ضرورة فهم نُمو المعرفة وتطوُّرها في العلم العام، وكذا في مجالات البحوث الخاصة. ولا ريب في أن هذا يطرح أيضًا قضية العلاقة بينهما وهل هي علاقةٌ إيجابية أم سلبية، بمعنى أن تعاقُب الثورات في مجالات البحث الخاصة شرطٌ إيجابيٌّ لحدوث ثورةٍ علميةٍ شاملة أم لا؟ وفي أي اتجاه وبأي شروط؟ أي لماذا لا تكون دراستنا للثورات العلمية على صعيدَين أو مرحلتَين متكاملتَين؟ إذ إن الثورات العيانية لن نجدها إلا في مجالات البحوث الخاصة لانعدام وجود بحوثٍ عامة، وهذه شرطٌ لتلك.
إن التغيُّرات المتوالية في منطق العلم ومناهجه وتكوينه هي التي تُحدث الثورة العلمية. ومثل هذه الثورات هي التي تخلُق التاريخ المطَّرد للعلم ونتائج هذه الثورات مطَّردة. والثورات العلمية هي سدَى ولُحمة التطوُّر، بل ونقول التقدُّم الوجداني أيضًا المطَّرد. ولا ريب في أن تغيير منطق العلم ومناهجه وتكوينه مظهرٌ جوهري من مظاهر الثورة العلمية. والمأمول في أن تشمل نظرية الثورة العلمية، فيما تشمله من معايير، التغيير الثوري في العلم، لا الفروق التي تميِّز بين الأفكار الأساسية، ولا إبدال «النماذج الإرشادية» فحسب، بل أن تشمل أيضًا ثبات هذا التطور مشتملًا على تغييرٍ مطَّردٍ في الشكل والمضمون معًا بما له من قيمةٍ اجتماعية؛ لذلك حين يسأل كُون عن تقدُّم العلم نقول: «العلم الإنسان بمدلوله الاجتماعي معًا.» ومن ثَم يكون التقدُّم في العلم منعكسًا على الإنسان في وجوده؛ فنحن لا نعرف لمجرَّد أن نعرف، بل إن المعرفة العلمية أداة جهدٍ اجتماعيٍّ هادفٍ له علاقةٌ بالمستقبل ومردودٌ اجتماعي.
وإن الاستمرارية التاريخية للعلم متأصِّلة الجذور في طموح العلم المستمر إلى أن يُدخل في عالم المعرفة الإنسانية نظامًا من شأنه أن يؤدِّي في ظل التجربة الإنسانية إلى تحقيق وحدة الأفعال البشرية، ويمكِّن الإنسان من إدراك حقيقة العالم وحقيقة ذاته، وأن يملك مقدَّرات حياته على الأرض، ويغدو العلم وعيًا ذاتيًّا. وإن كل نظامٍ يؤدِّي هذه الوظيفة الأساسية للعلم هو نظامٌ عقلاني. ومن هذا الوجه يمكن القول إن تاريخ العلم هو تاريخ المحاولات والتجارب المتوالية نحو التنظيم العقلاني للإجابة على: لماذا؟ وكيف؟ وإن المعايير المنهجية التي يقوم عليها العلم في كل عصرٍ خاضعةٌ للفهم المعاصر لهذه العقلانية، والتي تزداد مع الزمن، كما يقول توماس كُون بحق، دقةً وإحكامًا وتخصُّصًا ورحابة.