عَودٌ على بَدْء
أثار كتاب كُون العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية الهامة التي لا تزال بحاجةٍ إلى تضافُر جهودٍ لإثباتها. هذا فضلًا عن أن كتابه نتاج جهدٍ علميٍّ متعدد الجوانب، وثمرة رؤيةٍ واسعةٍ ناقدة، وبحثٍ جامعٍ أفاد بإنجازات علومٍ كثيرةٍ معنية بالظاهرة موضوع الدراسة، وبذا يمثِّل كتابه تطبيقًا عمليًّا لمنهج دراسيٍّ متميزٍ ونموذجًا أحق بأن يُحتذى عند الدراسة أو اتخاذ قرار.
إن توماس كُون حين حدَّثَنا عن سيادة النموذج الإرشادي أشار إلى نقطةٍ أساسية وهي عملية التنشئة العلمية منذ بداية المدرسة وتعلُّم اللغة العلمية الجارية التي تصوغ إطارًا للتفكير ينظر الناس من خلاله إلى الطبيعة، وأشار إلى أن التعليم العلمي على هذا النحو يعطي نتائج ولا يثير مشكلاتٍ تنشِّط الفكر وقد تستلزم حلًّا مغايرًا، وأن التغيير الاجتماعي يتمُّ من خلال تغيير إطار التفكير الذي ترسمه وتصوغه التنشئة حينًا من الزمن، مثل نظام تغذية وتلقيم الكومبيوتر أو نظام البرمجة. إن الإنسان لا يدخُل إلى الحياة فعَّالًا منذ البداية بل متلقيًا، وتتم صياغة الإطار الفكري الذي يدور فكره في فلكه ونطاق جاذبيته، وينظر إلى الواقع من خلاله ويتحدد سلوكه على هَديه، ثم حسب المشكلات المثارة وظروف التربية التي تسمح بالتمرُّد تكون إمكانية تجاوُز الإطار، ومن ثم الثورة عليه وتغييره تلبيةً لمشكلاتٍ أخرى ملحَّة. هذا أو تكون تربيةً أيديولوجيةً نمطية أو تقليدية تخلِّف جمودًا لا يثمر ولا يفيد جديدًا.
وأثار كتاب كُون قضيةً ثانيةً خاصة بدراسة حالات اختلاف التكوين العقلي وإخضاعها للتحليل التجريبي. إن فكرة الفوارق الراديكالية في «النظرة إلى العالم»، وأن هذه الفوارق تنتمي إلى «أحقاب» وعصور على مدى تاريخ العلم مثلما تنتمي إلى عصور التاريخ في إجماله، احتلَّت هذه الفكرة مكان الصدارة منذ صدور كتاب كوون. ويُعَد كتابه بحق عرضًا دراسيًّا لمشكلة العقلانية عَبْر دراسات لمظاهرها الخاصة المميزة في إطار العلم. وقد تيسَّر ذلك نظرًا لأن العلم مؤسسةٌ اجتماعية يسهُل دراستُها؛ لأن العلم يجري في ظروفٍ محكومة، داخل المعامل وفي المؤتمرات والصحف والكتب والجامعات … إلخ. ويُفيد كتاب كُون أن الدراسة الاجتماعية للعلم تُيسِّر لنا سُبلًا جديدةً للنظر إلى المشكلات القديمة عن عدم الاتصال الثقافي؛ أي دراسة مظاهر الانقطاع أو عدم الاتصال الاجتماعي المعرفي.
ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أي أنْ تُجرى دراسةُ تطوُّر الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس كُون تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب كُون آراءٌ تؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تتوافر إلا بفضل استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.
وما أحوجَنا هنا إلى أن نُعيد دراسة التراث على هَدْي مثل هذا المنهج بدلًا من الكلام المُرسَل يردِّده من شاءت لهم ظروفهم أو حظوظهم أن يشغلوا مكان الخاصة، ويحكُم عليه العامة، وغايته إشباع وجدانٍ موروث لا عقلٍ فعالٍ مبدع؛ ومن ثَم لا غرابة إذ لا نجد فيما يُقال جديدًا على مدى القرون! ما أحوجنا إلى أن ننحُوَ هذا النحو ونلتزم هذا النهج، ونستفتي العلوم المتخصصة التي تعدَّدَت وتباينَت وزخرَت بها الحياة العلمية على مدى القرن الأخير فأثارت، كما رأينا، راكد الفكر وفجَّرَت طاقات عقليةً، وأفرزَت نظرياتٍ وتياراتٍ أكَّدَت أنها السبيل إلى إغناء حياة الإنسان المادية والروحية على السواء! أقول ما أحوجنا إلى أن نستفتي العلوم حين نعرض لمناقشة قضية مثل قضايا التراث فنسأل علوم النفس واللغة والتاريخ والأنثروبولوجيا والديانات والاجتماع … إلخ، من العلوم المتخصصة كلٌّ فيما يعنيه فتضيء لنا جوانبَ قضيةٍ اعتدنا ترديد اسمها في حماسة بينما نجهل بِنيتها وعناصرها وتاريخ حياتها وتناقضاتها.
إننا نسمع ضجيجًا ولا نرى طحينًا. أصواتٌ عالية تشقُّ السحاب تلعن الغرب والتغريب أو علوم الغرب على وجه التحديد، وتدعو إلى علوم العرب أو إلى علومٍ عربية. ونحن مع الدعوة إلى الاجتهاد والمشاركة في مجال البحث العلمي ليكون من بيننا علماءُ قادرون على الإسهام والإضافة إلى تراث الإنسانية، ويأخذ عنَّا الغرب بدلًا من أن نكون عالةً على الغير، فنَقنَع باستيرادِ ما هو مستهلَكٌ من نتاج الإبداع العقلي دون أن نحظى بشرف الإسهام الإيجابي الإبداعي.
ولكن هذه الدعوة تُغفِل ألف باء العلم وأبسط أوَّليَّاته، وأن القاعدة الأولى والأساسية هي أن العلم منهجٌ لا نظرية. النظرية رهن بطبيعة الظاهرة موضوع الدراسة، إذا كانت تتناول ظواهر فيزيائية فإن من حقنا أن ندعو إلى فيزياءَ عربية إذا كان للعرب ظواهرُ فيزيائية خاصةٌ بهم، أو أن نُصحِّح شكل الدعوة لتكون دعوةً من أجل أن يُسهِم العرب في مجال البحث العلمي وتطبيق المنهج والاندماج في تيار المعرفة العلمية. وليس من العلم في شيءٍ الزعمُ بأن منهج البحث ثابتٌ أبديٌّ على مرِّ الزمان وعام لكلِّ العلوم؛ ففي مثل هذا القول تناقُضٌ ذاتيٌّ قياسًا إلى قواعد المنهج العلمي ذاته، مثل هذا القول نفي للعلم الذي يؤمن بالتغير والنقد العقلاني، قولٌ يليق بمن يعيش في إسار أيديولوجيا؛ ومن ثَم فلتكُن الدعوة أن نعمل جاهدين لكي نستوعب ونتمثَّل منهج البحث العلمي على هَدْي دراسةٍ عقلانيةٍ نافذة، وأن نُضيف إليه جديدًا وصولًا إلى مرحلةٍ أرقى وأكثر اكتمالًا إذا استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ ومن ثَم يشهد الغرب والعالم أجمع بمجهودنا. ويبقى بعد ذلك أن تكون الدعوةُ أكثر سدادًا إذا قلنا ما بالُنا لا نهيِّئ الظروف والشروط اللازمة لتنشئةٍ اجتماعيةٍ عقلانية للأجيال القادمة، تنشئة تحيي جينة أو بذرة العقلانية، ثم ما بالُنا لا نُطبِّق منهج البحث العلمي على ظواهر حياتنا العربية لغةً واجتماعًا ونفسًا وتاريخًا وثقافة وتراثًا وأمراضًا اجتماعية أو أمراضًا متوطنة … إلخ. وبهذا نُنشِئ حقًّا علومًا عربية، بيدنا لا بيد غيرنا، وبهذا نضع أقدامنا على بداية طريقٍ افتقدناها قرونًا، طريق العقلية الحرة النافذة؛ أي العلم.