الأزمة
تحدَّدت صورة العالم الميكانيكية التي اصطنعَتْها الفيزياء الكلاسية على يد عددٍ من العلماء؛ ليونارد دافنشي وجاليليو الإيطاليان، وسيمون ستيفنز الإنجليزي وبليز باسكال الفرنسي. وكانت الذروة في عام ١٦٨٧م، وهو عام الميلاد الرسمي للميكانيكا الكلاسية عندما نشر إسحاق نيوتن كتابه «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية»، وتحدَّدَت في ضوئه معالم النظرة الكلاسية إلى العالم، والتي سار على هَدْيها علماء العصر على مدى القرنَين الثامن والتاسع عشر.
وقوام صورة العالم التي حدَّدَتها الفيزياء الكلاسية مفاهيمُ وتصوراتٌ عن المكان والزمان والمادة والحركة، وهي مفاهيمٌ اعتقد العلماء، أو قرَّ في الأذهان، أنها مبادئُ أساسية مطلقة الصدق، راسخةٌ لا تهتز. وأحد أركان الميكانيكا الكلاسية مفهوم المكان المطلق والزمان المطلق، وهو مفهومٌ يرجع إلى المكان الإقليدي المسطَّح والزمان الذي يُمثل بُعدًا واحدًا ممتدًّا في اتساق كأنه فيضٌ متصل.
والمادة في الميكانيكا الكلاسية تعني أولًا الذرَّات، ومفهومها أنها عناصرُ لا تقبل الانقسام. وتعني ثانيًا، الأثير، الذي ظنَّ العلماء أنه وسطٌ ماديٌّ يشغل الفضاء وينتشر عَبْره الضوء. أما مفهوم الحركة فيعني أن الحركة الميكانيكية للذرات، أو حركة المادة الصلبة المؤلفة من هذه الذرات وتخضع حركتها لقوانين الحركة الكلاسية وقوانين الجاذبية الكونية. وهي حركةٌ مطلقةٌ لا تنقطع. وحسب قوانين نيوتن لا حركة في الفضاء، وأن الكون الواسع ساكنٌ، وقد اكتسب الحركة من الخارج ثم استمرت الحركة بموجب قوانينَ معينة أساسية. هذا علاوة على أن صورة العالم المبنية على أساس هذه المفاهيم الكلاسية لم تكن تُفسح مجالًا للتطوُّر والنمو؛ فكل التغيرات هي زياداتٌ كمية أو نقصانٌ كمي، وهو ما يعني أن الطبيعة لا تتحرك في طفرات، وأن حركات المادة ومكوِّناتها حركةٌ مطردة، والكون جزيئاتٌ ماديةٌ لها مواضعُ محددة وسرعاتٌ محددة في أي لحظةٍ من اللحظات. وكان هذا يعني أن ثمَّة مسارًا موضوعيًّا للأحداث في المكان والزمان، وهي أحداثٌ مستقلةٌ عن المشاهدة. ويعني أيضًا أن الزمان والمكان مقولتان مطلقتان لتصنيف جميع الأحداث، وأنهما مستقلان عن بعضهما البعض؛ ومن ثَم يمثِّلان واقعًا موضوعيًّا واحدًا لجميع الناس.
ولا نجد في الفيزياء الكلاسية أيَّ ذكرٍ لكلمة «الاحتمال»، بل الحتمية (أو التحديد المُسبَق) هي القانون الأساسي المطلق، والمعروف باسم مبدأ الحتمية الميكانيكية أو حتمية لابلاس؛ فكل شيءٍ محدَّد مسبقًا ولا مجال للمصادفة أو التحوُّلات الكيفية؛ فإن حركةَ كل جسمٍ تحدِّدها مسبقًا بشكلٍ مضبوطٍ ودقيق القوى المؤثِّرة عليه. وإن وضع الجسم وسرعته في أيِّ لحظةٍ زمنية، سواء بعد ثانيةٍ واحدة أو بعد ملايين السنين يمكن تحديدهما بثقةٍ تامةٍ إذا ما عرفنا هذه القوى، ووضع الجسم في اللحظة التي نبدأ فيها الحساب. وهكذا أضحى التنبؤ بأحداث المستقبل نوعًا من اليقين المطلق الذي لا يأتيه الباطل ولا تكذِّبه احتمالاتٌ أخرى. وبذا يمكن القول إن الفيزياء الكلاسية خلقَت في وسط المجتمع العلمي، بل ومجتمع المتعلمين من خلال الكتب الدراسية والقراءات العادية، مزاجًا فكريًّا خاصًّا مُتمثِّلًا في التنبؤات الصارمة الدقيقة، وهو ما كان له أثَره فيما بعدُ من زيادة عمق الإحساس بالأزمة إزاء الوقائع المكتشفة حديثًا، وأفضى إلى موقفٍ متطرفٍ وهو رفض القانون العلمي. وأضحى المنهج الميكانيكي هو المنهج السائد والإطار العام المحدَّد لنهج التفكير عند العلماء على اختلاف تخصُّصاتهم في تناول الظواهر والأحداث؛ فالتطور تغيُّرٌ كميٌّ تراكمي، والأحداث البيولوجية هي ذات الأحداث الفيزيقية الكيميائية دون اعتبارٍ للفوارق الكيفية بين ظواهر العلوم في سلَّم التطوُّر كأساسٍ للتمايز. وانعكس هذا النهج الميكانيكي في فلسفة العصر على نحوِ ما نجد عند ديكارت الذي يُعرِّف المادة بأنها امتدادٌ كمِّي. وبلغ التعبير الفلسفي ذروته على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي سلَّم بأن الزمان والمكان مقولتان مطلقتان؛ وبناءً عليه فسَّر العقل تفسيرًا إستاتيكيًّا، واعتَبَر هذه المقولات أُسسًا أبديةً ثابتة لا تتغير، وأنها عناصرُ قبليةٌ في بنية العقل الإنساني، وتتحدَّد في ضوئها رؤيتنا إلى العالم ولا فكاكَ منها.
ولكن لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأ العلماء يدركون، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أنْ ليس هناك ما هو أقل ثباتًا من الحقائق الجامدة القاطعة أو «الدوجما». أنها لا تثبت وتتحول إلى عقيدةٍ راسخةٍ إلا حين تنعزل عن نبض الواقع الحي المتغير. هكذا عاشت آراء أرسطو قرونًا طويلةً ولكن في ظل جمود الفكر وانقطاع الصلة بالواقع، ولكن النشاط البشري العلمي الذي بُعثَت فيه الحياة لم ينقطع منذ عصر التنوير؛ ومن ثَم تتابعَت الحقائق الجديدة واتسع نطاق البحث والرؤية وتعدَّدَت الظواهر؛ ومن ثَم كان لا بد وأن تنكشف قوانين جديدة ورؤيا جديدة مُغايرة لما هو سائدٌ ومعروف ويمثل نسيج التقليد. لقد كانت الفيزياء الكلاسية تفي بالغرض تمامًا عندما كانت حدود الفيزياء لا تتعدَّى الميكانيكا فحسب، ولكن ظهرَت حقائقُ جديدة تعذَّر تطويعها وإدخالها قسرًا ضمن الأُطر الفكرية أو المفاهيم التقليدية. وشهد القرن التاسع عشر هجوم الفيزياء العاصف على جبهةٍ عريضةٍ من الظواهر الجديدة؛ دراسة العمليات الحرارية، ودراسة عن الديناميكا الحرارية والظواهر الضوئية وعلم البصريات والظواهر الكهرومغناطيسية والكهروديناميكا. واهتزَّ صرحُ الفيزياء الكلاسية تحت ضرباتِ الحقائق الجديدة، وساعد على ذلك تطوُّر تكنولوجيا أجهزة ومعدَّات المعامل التي زادت دقةً وفتحت آفاقًا جديدةً لدراسة عالمَين جديدَين غير عالم الظواهر التقليدية التي ندركها بأبصارنا وحواسنا المجرَّدة، ونعني بذلك العالم الأصغر (الميكرو كوزم) أو عالم الجُسَيمات المتناهية الصغر والعالم الأكبر (الماكرو كوزم)، أو عالم الأفلاك، واكتشاف نظرياتٍ رياضيةٍ جديدة وهي لغة العلم المعتمدة.
اعتَبر نيوتن أن الكون واحد، وذهب ثانيًا إلى أن القوانين التي تحكُم ظواهر الحياة، سواء في العالم المألوف للإنسان أو في عالم النجوم والكواكب، هي قوانينُ واحدة. والنقطة الأولى صحيحة، ولكن النقطة الثانية تُغفِل الفارق الكيفي ومن ثَم خصوصية الظواهر. إن تماثُل المظاهر الخارجية بين أحداث أو ظواهر ما لا يعني تماثُل العوامل الداخلية المؤدية إلى حدوث هذه الظواهر. إن الببَّغاء يُردِّد الأصوات التي ينطقها الإنسان، وليس معنى هذا أنه يفكِّر في الكلام قبل ترديده؛ ومن ثَم تبيَّن أن جوهر المشكلة يتمثَّل في أن لكلِّ عالمٍ قوانينه الخاصة به التي لا يمكن تطبيقها على سواه. وهذه هي أحد أسباب شعور العلماء بالصدمة وخيبة الأمل حين عمدوا، كلٌّ في مجاله، إلى تطبيق قوانين العالم التقليدي على ظواهر عالم الجُسَيمات المتناهية الصغر أو ظواهر العالم الأكبر عالم الأفلاك والنجوم. كما يفسِّر كذلك صدمة العلماء وخيبة أملهم حين عمدوا إلى تطبيق قوانين الكيمياء والأحداث الفيزيائية على ظواهر البيولوجيا أو على المجتمع الإنساني؛ أي إغفال خصوصية قوانين كل مجموعةٍ من الظواهر المتمايزة كيفيًّا وتمثِّل مجال بحثٍ خاص؛ ولهذا لم يكن غريبًا أن نرى من العلماء من استبدَّت به الحَيْرة واليأس على أثَر هذه الصدمة، وتحدَّث عمَّا سمَّاه الفوضى وانعدام القوانين في الطبيعة. وقال بعضهم إذا لم تتفق الوقائع مع النظرية فهذا من سوءِ حظِّ الوقائع؛ لأن الطبيعة غير قابلةٍ للفهم. وقال آخرون بل هذا من سوء حظ النظرية التي يلزم إعادة النظر في أسسها. واحتدم الجدال الذي كان إيذانًا بدفع الوقائع الجديدة باتجاه الفيزياء وجهةً جديدة من الناحية المنهجية.
نعم إن الفيزياء التقليدية أو الكلاسية كان لها مجال صدقها العلمي الذي حقَّقَت فيه نتائجَ إيجابية أسهمَت في الوصول إلى المزيد من الحقائق والمعارف العلمية، ولكنها صادقةٌ في مجالها، ومطالبتها بأكثر من ذلك افتئاتٌ عليها وعلى الحق، وكأننا بدلًا من أن نلوم أنفسنا، كما يقول المثل الذي ردَّدَه توماس كُون، نلوم العدة أو الجهاز الذي نعمل به، وهو من ذلك براء. لقد كانت محدودةً بظواهر وعلاقاتٍ معينة، ولكن في منتصف القرن التاسع عشر بدأ الصدام بين الفيزياء الكلاسية وبين ظواهرَ وعلاقاتٍ في التجربة لا تتفق وصدقها النظري، وبهذا بدأَت الأزمة الجديدة والتي تعني تحديدًا عجز منهجها المحدود وقوانينها وصياغاتها عن استيعاب ظواهر وعلاقاتٍ فيزيائيةٍ جديدة في عالم التجربة. وفاقم من هذه الأزمة أن الفلسفة العلمية السائدة هي ربيبة النظرية العلمية الكلاسية المتصدِّعة.
وتكاد تكون النظرية الحركية للغازات هي أول تطبيق جدِّي لحساب الاحتمالات في الفيزياء. ففي أواسط القرن ١٩ بدأ علم الفيزياء بدراسة الحركة الداخلية في الغازات، وتبيَّن على الفور أنه لا يجوز مطلقًا استخدام معادلات نيوتن بصورةٍ مباشرةٍ في دراسة حركة جزيئات الغازات، وبدا لبعض الباحثين أن المَخرج الوحيد هو الشذوذ عن الحتمية التقليدية الميكانيكية، أعني أنهم رأَوا في نظرية الاحتمالات عاملًا مساعدًا على حل المشكلة.
ثم كانت تجربة مايكلسون ومورلي الشهيرة عام ١٨٨٧م. وقد أُجريت في ضوء الاعتقاد الشائع بأن الضوء حركةٌ موجيةٌ تسري عَبْر وسطٍ ماديٍّ يملأ الفضاء هو الأثير. ويقضي هذا المفهوم بأن حركة الضوء غير ثابتةٍ بمعنى أنه إذا كان ثمَّة مصدر للضوء يتحرك عَبْر الأثير فإن سرعة الضوء الصادرة في اتجاهاتٍ مختلفةٍ لا تكون سرعةً واحدةً، ولكن تجربة مايكلسون ومورلي بجهازهما الجديد جاءت بعكس ما هو متوقَّع وينقض كل الفروض السابقة. لقد أكَّدَت التجربة أن سرعة الضوء واحدةٌ وثابتة في جميع الاتجاهات، وأن سلوك الضوء يختلف اختلافًا جذريًّا عمَّا تُلقِّنه الكتب المدرسية أو تُقرِّره المفاهيم العلمية الشائعة. وبذلوا محاولاتٍ يائسةً للتوفيق بين ما انتهت إليه هذه التجربة وبين فيزياء القرن ١٩، غير أن محاولاتهم باءت جميعها بالفشل حتى جاء أينشتين ليؤكد صواب نتيجة تجربة مايكلسون ومورلي وذلك في عام ١٩٠٥م.
وفي مجالٍ آخر رفضَت الإلكترونات أن تدخل في الإطار الذي رسمَته قوانين الفيزياء الكلاسية وقال بعض العلماء إن الإلكترون «حر الإرادة» في التصرُّف، فوضويٌّ لا يخضع لأي قانون. وإذا كان الأمر كذلك فما حاجتنا إلى العلم الذي يبحث عن قوانينَ لا وجود لها؟ واندفع البعض إلى مثاليةٍ غيبية، وقال آخرون إن للعالم جسيماتٍ متناهية الصغر قوانينها الخاصة الجديدة هي قوانين ميكانيكا الكمِّ وهي قوانينُ احتمالية. إن قوانين الفيزياء الكلاسية صحيحةٌ في عالم الأحداث اليومية الكبيرة. ومن أين لها أن تصف قوانين ظواهرَ أخرى لم تكن في محيط إدراكها؛ إذ كلما انتقلنا إلى ظواهرَ جديدة علينا أن نبحث عن قوانينَ جديدة. ومظنَّة الخطأ أن يذهب العلماء، والناس معهم، مذهبًا شططًا، ويتصوَّرون أن العلم بالغ منتهاه عند لحظةٍ معينة، ويقول كلمة الختام أو القول الفصل الذي لا جديد بعده، وهو ما يتنافى مع الحياة المتجدِّدة والمتغيِّرة.
وشهدَت هذه الحقبةُ أيضًا اكتشافاتِ عالم الطبيعة والرياضيات الألماني هرمان فون هلمهولتز (١٨٢١–١٨٩٦م)، وقد كانت اكتشافاته وتحليلاته نقطة تحوُّل؛ فقد وضع مناهجَ جديدة فيزيقية-كيميائية لدراسة الأجسام الحية، دحض على أساسها المذهبَ الحيويَّ، ووضع أساس نظرةٍ جديدة وطفرةٍ جديدة في البيولوجيا. هذا فضلًا عن اكتشافاته الهامة في مجال علم وظائف الأعضاء، عن أعضاء الحس وقوانين إدراك المكان وغيرها مما كان لها أثَرها على الجانب الفلسفي لنظرية المعرفة؛ إذ ذهب إلى أن الإحساسات ليست صورًا ذاتية لخصائصَ موضوعية لأشياءَ واقعية بل هي رموز أو لغةٌ هيروغليفية لا تحمل أي شَبه بينها وبين هذه الخصائص. وقدَّم هلمهولتز إسهاماتٍ عظيمة القيمة في مجال الرياضيات ساعدَت على تقدُّم الفيزياء، وأعمالًا أخرى في مجال الهندسة غير الإقليدية مهَّدَت السبيل لنظرية أينشتين عن النسبية.
ويتعيَّن أن نذكُر مع هلمهولتز عالمًا وفيلسوفًا ألمانيًّا آخر هو أرنست ماخ (١٨٣٨–١٩٠٦م) الذي أحسَّ بعمق الأزمة العلمية والفلسفية، ولكن دفعَته الصدمة إلى اتجاهٍ آخر متطرف؛ إذ رأى أن مهمته تخليص العلم من شوائب الميتافيزيقا، ولكنه قال إن كل ما لا يدخل في نطاق الخبرة هو ميتافيزيقا. وقال إن الزمان المطلق والمكان المطلق اللذَين قالت بهما فيزياء نيوتن مفهومان ميتافيزيقيَّان لا معنى لهما؛ إذ لا يكون لهما معنًى إلا عند الإشارة إلى علاقاتٍ يمكن مشاهدتُها بين الأشياء. وهكذا كانت التحليلات التي قدَّمها هلمهولتز وآخرون عن طبيعة الهندسة، ودراسات أرنست ماخ عن مفاهيم ميكانيكا نيوتن مقدِّماتٍ لثورة أينشتين.
تفاقمت حدة الأزمة إزاء كثرة وتعدُّد الحقائق الجديدة المكتشفة بفضل اتصال الجهد العلمي وفعالية النشاط الإبداعي الإنساني سعيًا إلى المزيد من المعارف في مجالات البحث المختلفة. وتساقطَت تباعًا مفاهيمُ أساسية للفيزياء الكلاسية، أو وقفت صمَّاءَ عاجزةً أمام العوالم الجديدة إلى أن كان عام ١٩٠٥م، وكان حدًّا فاصلًا بين عهدَين في حركة التطوُّر العلمي؛ فقد شهد هذا العام أروع إبداعٍ للعبقرية البشرية الذي حسم الخلاف، وأقام الدليل على صدقِ حقائقَ كثيرة وحدَّد للفيزياء الكلاسية مكانها في مجال البحث ومكانتها في التاريخ. ونعني بذلك اكتشاف النظرية النسبية الخاصة ثم العامة على يد عالمٍ شابٍّ لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر في عام ١٩٠٥م، وهو ألبرت أينشتين؛ فقد استطاع أينشتين بفضل بضع صفحات من المنطق الرياضي في أكثر صُوَره دقةً وصرامة أن يقدِّم نتائجَ غريبةً سحقَت المفاهيم والتصورات الذهنية القائمة، وقوَّضَت أسس علم الفيزياء التقليدي لينتقل هذا العلم إلى مرحلةٍ أرقى كيفيًّا أو ثورةٍ جديدة.
أكَّدَت نظريَّتا أينشتين، النسبية الخاصة ثم النسبية العامة، أنْ ليس ثمَّة شيءٌ اسمه الحركة المُطْلقة، وأن كل حركةٍ نسبية. وأكَّدَت أيضًا أن سرعة الضوء واحدةٌ لكل المشاهدين على اختلاف حركتهم، وهي الحقيقة التي اكتشفها مايكلسون ومورلي وأثارت حَيْرة العلماء. وأكَّدَت وحدة الزمان والمكان، وأن الزمن بُعد رابع وليس مفهومًا مُطلقًا، وإنما يعتمد على حركة المشاهد، وأن الحدَث ذاته يقع بسرعاتٍ متفاوتةٍ إذا ما شُوهد من مواقعَ مختلفة. وترجع أهمية نظرية النسبية الخاصة والعامة إلى أنها تتجاوز معناها كقانونٍ جديد للطبيعة. لقد أحدثَت تغيرًا تدريجيًّا في سيكولوجيا الباحثين العاملين في مجال العلوم الطبيعية وأصبح علماء الطبيعة شديدي الحذَر من نتائج الفهم العامة، وتعلَّموا ضرورة بحث كل قضيةٍ من جميع جوانبها من القضايا التي تزعُم أنها تعبِّر عن حقيقةٍ موضوعيةٍ أو حقيقةٍ مطلقةٍ مهما بدَت راسخةً في الأذهان على مدى الأزمان. وأصبح العلماء كذلك شديدي الحذر إزاء الألفاظ والكلمات الفارغة من المعنى التي لا تحمل مدلولًا أو ليس لها ماصدق كما يقول المناطقة. وأحسُّوا بحاجة مُلحَّةٍ إلى محو كل الآثار، مهما كانت ضئيلة، المتبقية من العلوم الأرسطية أو الفكر القديم دون نقدٍ وتنقية.