الأزمة والفلسفة والإنسانيات
العلم بمعنى الفهم العقلي للظواهر موجود منذ القدم كفرعٍ من فروع
الرياضيات، ولكن العلم أصبح نوعًا من النشاط النظري المستقل والمتمايز
عن الفلسفة منذ القرن اﻟ «١٧»؛ أي مع ظهور العلم الطبيعي القائم على
التجربة وله منهجُ بحثٍ محدَّد القواعد؛ فمنذ تلك اللحظة أضحت المعرفة
العلمية وبنيتها ومحتواها واحتمالاتها، وسُبل إثباتها بالبرهان العقلي
وعلاقتها بالحياة اليومية ومعنى الفرض العلمي والنظرية والقانون؛ أضحى
كل هذا موضوع دراسةٍ متأنيةٍ من جانب الفلاسفة. وهكذا بات مستحيلًا فهم
فلسفةٍ ما مثل فلسفة كانط أو ديكارت مثلًا، دون أن نضع في الاعتبار
علاقة فلسفة كلٍّ منهما بالعلم في عصره والذي كانت الميكانيكا هي
النموذج الإرشادي أو الإطار الفكري لها. وقد شارك بعض العلماء
المرموقين كذلك بتأمُّلاتهم الإبستمولوجية، وتبايَن حصاد تأمُّلاتهم
بتبايُن تخصُّصاتهم.
والعلم بعد هذا مجالُ نشاطٍ بشريٍّ مُتخصص أيضًا في تحصيل المعارف،
بيد أن أسئلةً مثل: ما هو العلم؟ وما هي سبل إثبات نتائجه، ومعايير
النشاط المعرفي … إلخ؟ بدت آنذاك في نظر الكثيرين من علماء الطبيعة
والمتخصصين أمورًا أقرب إلى التفكير المدرسي «الاسكولائي» وليست أمورًا
حيوية لنجاح النشاط العلمي. لقد كان كل باحثٍ علميٍّ مُطمئنًّا إلى
حصاد جهده، وإلى طبيعة ميدان بحثه، وإلى معايير الحكم على نتائج
دراساته والمناهج المتبعة والنظريات المستخلَصة أو النظريات العامة
التي تحكُم إطار تفكيره مثل نظرية نيوتن أو نظرية داروين … إلخ، ولكن
الموقف تغيَّر تغيرًا حاسمًا وجذريًّا مع نهاية القرن اﻟ «١٩» ومطلع
العشرين، حين برزَت على السطح الطبيعة الإشكالية لأُسس العلم الطبيعي
الكلاسيكي بما في ذلك الرياضيات نفسها.
وجديرٌ بنا أن نلحظ أن التغيُّرات التي حدثَت في طُرز الاستدلال
النظري وطُرق المقارنة بين النظريات العلمية المختلفة عشية الثورة
العلمية في مطلع القرن الحالي غيَّرت موضوعيًّا موقف الباحثين في
العلوم المتخصِّصة من المشكلات الإبستمولوجية. ولم نعُد نجد أي عالمٍ
مبدعٍ لإحدى النظريات الأساسية في القرن العشرين إلا ويبذل جهدًا
ليقدِّم دليلًا إبستمولوجيًّا على صدق تصوُّراته ومفاهيمه العلمية،
ويُثير خلال ذلك مسائلَ عامةً عن طبيعة المعرفة ومعايير المعرفة … إلخ.
حتى إنه قيل إن المشكلة الإبستمولوجية عن العلاقة بين الذات-الموضوع،
والتي كانت اهتمامًا خاصًّا للفلاسفة، أضحت الآن إحدى المشكلات
الأساسية للمعرفة العلمية المتخصِّصة.
وها هو ذا ألفريد نورث وايتهيد يلمس هذا الجانب بوضوح في كتابه
«العلم والعالم الحديث»، ويقرِّر أن ظهور العلم ونموَّه أدَّى إلى
إعادة تكوين عقليتنا، بحيث إن أنماط الفكر التي كانت في السابق
استثناءً وتلقى العقاب، أضحت هي النهج السائد مما ساعد على سرعة تطوُّر
العلم، وإن العقلية الجديدة أهم كثيرًا ربما من العلم الجديد ذاته، ومن
التكنولوجيا الجديدة. لقد غيَّرَت هذه العقلية الفروضَ الميتافيزيقيةَ
المسبقة، والمحتوى الخيالي لعقولنا، بحيث إن المنبهات القديمة بدأَت
تثير فينا استجاباتٍ من نوعٍ جديد. لقد بلغ التقدم العلمي الآن نقطة
تحوُّل. الأسس الراسخة للفيزياء تهاوت. والأسس القديمة للفكر العلمي
بدَت غير مفهومة. الزمان والمكان والمادة والمادي والأثير والكهرباء
والميكانيزم والكائن الحي والصيغة والبنية والنمط والوظيفة؛ كل هذه
بحاجةٍ إلى تفسيرٍ جديد. ما معنى التحدُّث عن التفسير الميكانيكي ونحن
لا نعرف ماذا تعني كلمة ميكانيكا؟ بدا الوجود شمولًا نسقيًّا مركَّبًا
من أشياء. وأضحت ثنائية القرن اﻟ «١٧» صدعًا يشوبه. وكان العالَم
الموضوعي للعلم محصورًا في المادة المكانية المحددة في زمان ومكانٍ
بسيطَين، والعالَم الذاتي للفلسفة محصورٌ في الأحاسيس يُشكِّل المحتوى
الذاتي لمعارف العقل الفردي.
لقد كانت المهمتان الأساسيتان أمام الفلسفة الحديثة هي أن دراسة
العقل تنقسم إلى علم نفسي أو دراسة الوظائف العقلية كما هي في ذاتها
وفي علاقتها المتبادلة، وإلى نظرية المعرفة؛ أي نظرية معرفة العالم
الموضوعي المشترك. وأثار هذا التقسيم الكثير من المشكلات التي شغلَت
القرنَين اﻟ «١٨» واﻟ «١٩»؛ إذ طالما كان الناس يفكِّرون في ضوء
المفاهيم الفيزيائية التقليدية عن العالم الذاتي؛ فقد كان تحديد
المشكلة بالصورة التي وضعها ديكارت كافيًا. ولكن الميزان انقلب مع ظهور
علم الفسيولوجيا الذي ألقى بثقله في مجال دراسة الظواهر النفسية،
واقتضى تغييرًا جذريًّا في مدلولات المفاهيم السائدة، وفي أسلوب تناول
القضايا المطروحة للبحث.
ويُعبِّر الفيلسوف الألماني هانز ريشنباخ عن أصداء تلك الأزمة فيقول:
«لقد كان لاكتشاف النظرية النسبية آثاره الجذرية على نظرية المعرفة؛ إذ
أرغمنا على أن نُراجع الكثير من المفاهيم التقليدية التي كان لها دورٌ
هامٌّ في تاريخ الفلسفة، وقدَّم حُلولًا لعديد من المسائل الفلسفية
القديمة منذ الإغريق … والأساس المنطقي لنظرية النسبية هو اكتشاف أن
الكثير من القضايا التي كان يُنظر إليها باعتبارها قضايا يمكن البرهنة
على صدقها أو زيفها، إنما هي تعريفاتٌ اصطلاحية … وأن قوانين الهندسة
التي ظلَّ يُنظر إليها على مدى ٢٠٠٠ سنة باعتبارها قوانينَ العقل،
عرفنا أنها قوانينُ خبرية أو «إمبريقية» تُناسب عالمنا الأرضي ولا
علاقة لها بالأبعاد الفلكية. واتضح أن ما ظَننَّاه بداهة ووضوحًا
ذاتيًّا لهذه القوانين إنما هو نتاج العادة نظرًا لملاءمتها لجميع
خبرات الحياة اليومية وظننا أنها يقين مطلقٌ وهو غير صحيح.»
١
وقال هلمهولتز في نفس الاتجاه: «إن البشر الذين يعيشون في عالم
الهندسة غير الإقليدية ستنشأ لديهم قدرة إدراكٍ بصريٍّ تجعلهم يرون
قوانين الهندسة غير الإقليدية ضرورةً وبدهيةً تمامًا مثلما نرى نحن
قوانين الهندسة الإقليدية الآن … وهكذا الحال بالنسبة لمفهوم الزمان
على ضوء النظرية النسبية. إن ما اعتاد الفلاسفة النظر إليه على أنه
قوانينُ العقل أضحى مفاهيمَ مشروطةً بقوانين فيزياء البيئة التي نعيش
فيها، وإننا لو عشنا في بيئةٍ أخرى سوف يتغيَّر الحال.»
٢
وواجه الإنسان منذ ذلك الحين دائمًا وأبدًا «مواقف إشكالية» بالغة
الحدَّة أثارتها، ولا تزال، أزمةُ العلم الذي يصوغ نظرتنا إلى الطبيعة
والنفس والمجتمع. واقتضت هذه المواقف بالضرورة تقديمَ مفاهيم ونظرياتٍ
أساسية جديدة تمامًا بُغية تعديل وتعميق صورة العالم التي يعرضها علينا
العلم الطبيعي. وكانت هذه المواقف قوةً حافزةً لمزيد من التقدُّم في
العلوم الطبيعية.
ويجد صدى هذه الأزمة، أزمة انهيار المفاهيم وانهيار صورة العالم
التقليدية والمنهج الميكانيكي، أقول نجد صدى هذه الأزمة عند كثيرين من
الفلاسفة. منهم من استسلم وكأنه يقول: «باطل الأباطيل. الكل باطل، وقبض
الريح.» ونشأَت مدارسُ وحلقاتٌ مثل حلقة فيِنَّا التي كان ركيزتها
وبطلها أرنست ماخ الذي أسلفنا الإشارة إليه، ويُعتبر الأب الروحي
لمدرسة الوضعية المنطقية. وعمد أصحاب هذا الاتجاه إلى نفي موضوعية
الظواهر، وقالوا إن القانون العلمي اصطلاحٌ تواضعنا عليه ولا علاقة له
بواقع سَيْر الظواهر والأحداث الطبيعية. وغلَّبَت هذه المدارس دور
الذات العارفة في المشاهدة على دَور الموضوع، وانساقت مع سقوط الحتمية
الميكانيكية إلى نفي انتظام الظواهر الطبيعية وقالت بالفوضى. وقد ذكرنا
طرفًا في فكر أرنست ماخ نبي الوضعية المنطقية، وهناك غيره من أمثال
الفيلسوف الأمريكي شارلس بيرس الذي قدَّم نظريته عن المصادفة، والتي
أطلق عليها اسم تايخيزم Tychism نسبةً
إلى إلهة المصادفة عند الإغريق، وأعلن رفضه للضرورة وإن كان هو في واقع
الأمر يوجِّه سهام نقده إلى الضرورة الميكانيكية والمفاهيم المطلقة
للعلم الكلاسيكي وقصور المنهج الميكانيكي عن بحث الظواهر الفيزيائية
الإنسانية الجديدة. وجاء من بعده وليم جيمس الذي هيَّأ المسرح بأن أخلى
خشبته من كل قديمٍ أو غيَّر الأضواء وزوايا سقوطها لتبدو القضايا
المطروحة في صورةٍ جديدةٍ حين قال: إن كلمة الوعي لا تعبِّر عن كيانٍ
مستقلٍّ وإنما تُعبِّر عن وظيفة. وإن الوعي تيار وفيضٌ دافق من
الأحاسيس تُمسِك الإرادة بما تختاره منها لتضمَّه في إطارٍ تريده هي،
وبدون تلك الإرادة نعيش في عماءٍ زاخر بالطنين. وإذا كان وايتهيد يرى
أن الميزان انقلب مع ظهور اكتشافات وحقائقَ فسيولوجيةٍ جديدة، فإنه لم
يكن غريبًا أن تكون الفسيولوجيا كما جاءت على يد هلمهولتز، هي مدخل
وليم جيمس إلى علم النفس والفلسفة. ولا تزال التيارات الفلسفية
الأمريكية التالية له تعيش في ظله بدرجةٍ أو بأخرى.
ونشأَت معارفُ علمية خاصة تُلقي أضواء على جوانبَ أخرى من مشكلة
العلاقة بين الذات وموضوع النشاط المعرفي، وأضواء على مفاهيمَ أخرى
أسبغَت عليها مضمونًا جديدًا مثل مفهوم الوعي. ونشير هنا إلى التطور
السريع لعلومٍ خاصة تدرُس أشكالَ وميكانيزمات العملية المعرفية والتي
تُعرف باسم علوم الإنسانيات، وتشمل علوم النفس والمجتمع
والأنثروبولوجيا وعلوم اللغة، وغيرها، مع الإشارة إلى التقدُّم في
فسيولوجيا الجهاز العصبي.
وجديرٌ بالذكر أن إحدى السمات المُميزة لعلم النفس الحديث أو المعاصر
محاولة الإفادة بمناهج العلوم الخاصة لبحث العملية المعرفية. وحقَّقَت
فروعٌ منه مثل سيكولوجيا الإدراك وسيكولوجيا الذكاء نتائجَ هامَّة في
العقود الأخيرة. وظهرَت أخيرًا سيكولوجيا المعرفة التي تحاول اتباع
نهجٍ جديدٍ لدراسة العمليات المعرفية من خلال دراسة تكاملها في أبنيةٍ
مركَّبة تتم صياغتها في إطار مهمةٍ معرفيةٍ محدَّدة. وأبرز من أسهَم في
هذا المجال دون منازعٍ عالِم النفس السويسري جان بياجيه الذي يعتمد
توماس كُون في كتابه على نتائج أبحاثه. لقد عُني بياجيه بدراسة مفهوم
الضوء التطوُّري لميكانيزمات النشاط المعرفي. وعمد إلى دراسة الأبنية
المختلفة التي يكون فيها الذات والموضوع عنصرَين من مكوِّنات النشاط
المعرفي، وحلَّل الروابط بين النشاط الذهني والنشاط العملي في ارتباطٍ
بالموضوع.
حقًّا إن فكرة نمو التفكير لم تدخل علم النفس على يد جان بياجيه؛ فقد
سبقه إليها، مع اختلاف في المنهج، هربرت سبنسر الإنجليزي، وفيلهم فونت
الألماني، ولكن كان النمو هنا أشبه بتطوُّر مُسطَّح، وانتقالٍ تدريجيٍّ
من الإحساس إلى التفكير، ومن المفرد إلى العام، ومن العِياني إلى
المجرد، ومن التعبير البصري إلى المفهوم اللفظي المجرد من العلاقات؛
ولهذا كان تطوُّر الفكر هنا يغلب عليه طابع المنهج الميكانيكي أي إنه
تطورٌ كميٌّ وخطيٌّ خالص يحدُث نتيجة تنقُّلات متصلة، دون قفزاتٍ كيفية
وفي خطٍّ واحد.
ولكن بياجيه بحث المعرفة كنشاطٍ متبادل؛ إذ عاب على النهج القديم أنه
نظر إلى عملية المعرفة باعتبارها عمليةً أُحادية الجانب؛ بمعنى أنه درس
أثَر الموضوع على الذات دون أثَر الذات على الموضوع. ويتميز منهج
بياجيه بالخواص التالية:
- أولًا: يُسلِّم بدَور الذات النشِط على جميع مستويات
العملية المعرفية، ابتداءً من الإدراك وانتهاءً
بالأبنية العقلية المركَّبة. ويتمثل هذا النشاط في
تحوُّل الموضوع؛ حيث إن الموضوع لا يؤثِّر في الذات
إلا من خلال نشاط الذات، الذي يختلف طابعه باختلاف
المستويات الفكرية.
- ثانيًا: يفسِّر العلاقة المعرفية في إطار المنهج البنيوي
للنسق، فالتكوينات المعرفية المختلفة ينظر إليها
باعتبارها أبنيةً متكاملة، وعلاقة الذات-الموضوع نفسها
هي نمطٌ خاص لنسقٍ يكون فيه الموضوع والذات
«متوازيَين» تبادليًّا.
- ثالثًا: إن تطوَّر النمو المعرفي ليس خطيًّا مُسطَّحًا، بل
يشتمل على تحوُّلاتٍ أو طفراتٍ كيفية.
وتتمثَّل ميكانيزمات النمو المعرفي عند بياجيه فيما يلي (وهو ما أرجو
أن يتنبَّه القارئ إلى التشابه هنا بين رأي بياجيه وبين رأي توماس كُون
عن النماذج الإرشادية وتحولَّاتها): الميكانيزم الأول الاستيعاب assimilation وهي عملية إضافةٍ كمية
للمنبِّهات تزداد معها مفردات المعرفة.
الميكانيزم الثاني المواءمة accomodation فقد يتعذَّر على الطفل استيعاب منبِّهٍ
جديدٍ ولا يجد له مكانًا ضمن المخطَّطات
Schema القائمة التي هي أبنيةٌ
فكريةٌ تنظِّم وترتِّب الأحداث كما يدركها الكائن الحي في مجاميعَ ذات
خصائصَ مشتركة. وحين يستقبل الطفل منبِّهًا جديدًا لا يجد له مكانًا في
أحد المخطَّطات القائمة أو في الأبنية الفكرية وتتعارض خصائص المنبِّه
مع الخصائص المحدَّدة في المخططات القائمة فإن الطفل يفعل أحد أمرَين؛
إما أن يخلق مخطَّطًا جديدًا يُدرج فيه المنبه الجديد، وإما أن يوائم
مخطَّطًا موجودًا بطريقةٍ تسمح للمنبه أن يتناسق معه. وينجُم عن
العمليتَين تغيُّر أو تطوُّرٌ كيفي للأبنية المعرفية أو المخطَّطات؛
ومن ثَم يكون مُهيَّأً للاستيعاب الجديد. ويُحاول الطفل في البداية أن
يفرض البنية القائمة أو المتاحة على المنبِّهات الواردة التي يستقبلها؛
بمعنى أنه لا يتطوَّع سريعًا بوضع بنيةٍ جديدة، بل يسعى إلى إدراجها
وملاءمتها مع عناصر البنية المتاحة، ولكن في عملية المواءمة حيث
تتعذَّر عملية إيجاد مكانٍ ضمن البنية الجديدة فإن الطفل يُضطَر إلى
تغيير مخطَّطاته لتُلائِم المثيرات أو المنبِّهات الجديدة. وهكذا
تتطوَّر الأبنية. استيعابٌ كمي، وجديدٌ وارد يُفضي إلى مواءمة أو إلى
تغيُّرٍ كيفيٍّ وأبنيةٍ جديدة.
وأسهم علماء اللغات العامة، واللغات العرقية وعلماء الثقافات
الأنثروبولوجية بنصيبٍ وافرٍ في سبيل حل مشكلة العلاقة بين المعرفة
واللغة والسياق الثقافي الاجتماعي. ولا يزال يدور جدالٌ واسع بين هؤلاء
حول الفروض التي قدَّمها عالِم اللغة والأنثروبولوجيا الأمريكي سابير
بشأن النسبية اللغوية كخُلاصة لدراساته عن اللغة كأداة اتصالٍ وسيطة،
ودراساته عن الشخصية وعلاقتها بالثقافة الاجتماعية المحيطة بها
وتُشكِّل بيئة لها، فضلًا عن تأكيده على العلاقة بين الثقافة والنفس.
وقد أوضح توماس كُون مدى تأثُّره بنتائج هذه الدراسات التي حقَّقَت
رواجًا واسعًا منذ العقد الرابع. وقد أشار توماس كُون إلى الفرض
المعروف باسم فرض سابير-وورف supir-whorf. ومحور هذا الفرض أننا لا نعي الواقع
وعيًا كاملًا ومباشرًا بدون اللغة، وأن اللغة ليست فقط وسيلةً ثانوية
لحل بعض المشكلات الخاصة بالاتصال والتفكير، بل إنها أيضًا أسلوب
لتصوُّر أو لبناء تصوُّرٍ عن العالم.
ولقد اتسع وتبايَن نطاق الدراسات نتيجة زيادة تعقُّد علاقة المعرفة
العلمية بنسق الموضوعات المناظرة. وهي جميعها دراساتٌ أثارتها الأزمة
وإشكالية المعرفة وغذَّتها الاكتشافات الجديدة والتطوُّر التكنولوجي.
وجوهر الأمر هنا أن أي معرفةٍ علميةٍ تفترض استخدام وسائطَ معيَّنة بين
الذات العارفة وبين موضوع المعرفة؛ الأدوات والأجهزة وجميع الموضوعات
التي ابتدعَها الإنسان من أجل الإنسان، وتتجسد فيها قيمٌ ثقافيةٌ
اجتماعية (أو ما اصطُلح على تسميتها الطبيعة الثانية التي صنعها
الإنسان) ثم الأنساق الإشارية الرمزية (وأولها اللغة الطبيعية)
والتكوينات المفاهيمية التي تعبِّر عنها هذه الأنساق. يُضاف إلى هذا في
مجال العلم نظام الأجهزة وأدوات القياس علاوةً على جماع النظريات وما
بينها من علاقاتٍ خاصة، والتي تعبِّر عنها لغاتٌ خاصة بالعلم غير اللغة
العادية. لقد سقطَت أسطورة العقل الذي يبدأ النشاط وهو صفحةٌ بيضاء
tabula Raza، أو خاليًا من أوثان
السوق والمسرح وإرث الماضي وقيم التراث، وإن كان هذا لا ينفي ضرورة
النظر نظرةً نقدية إلى هذا التراث في ضوء إنجازات العلوم. ولم يعُد
موضوع تفسير المعرفة العلمية وإثبات معناها الموضوعي أمرًا خاصًّا
بالتأمل والفضول الفلسفيَّين، بل عنصرًا جوهريًّا من عناصر النشاط
العلمي، وشرطًا للإنجاز الناجح لبرنامج بحثٍ محدَّد، بل لم يعُد
مقبولًا أن يقول قائل إنه يفكِّر تفكيرًا علميًّا لمجرد أن هذه عبارةٌ
تروقه وتُسبِغ عليه مكانةً زائفة.